( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمهما الله تعالى أملاء اعلم بأن النكاح في اللغة عبارة عن الوطء تقول العرب : تناكحت العرا أي تناتجت ويقول أنكحنا العرى فسنرى لأمر يجتمعون عليه وينظرون ماذا يتولد منه وحقيقة المعنى فيه هو الضم ومنه يقال أنكح الظئر ولدها أي ألزمه ويقال إنكح الصبر أي الزمه وقال القائل : .
إن القبور تنكح الأيامى ... والنسوة الأرامل اليتامى .
أي تضمهن إلى نفسها واحد الواطئين ينضم إلى صاحبه في تلك الحالة فسمي فعلهما نكاحا قال القائل : ( كبكر تحب لذيذ النكاح ) أي الجماع وقال القائل : .
التاركين على ظهر نساءهم ... والناكحين بشطى دجلة البقرا .
أي الواطئين ثم يستعار للعقد مجازا إما لأنه سبب شرعي يتوصل به إلى الوطء أو لأن في العقد معنى الضم فإن أحدهما ينضم به إلى الآخر ويكونان كشخص واحد في القيام بمصالح المعيشة .
وزعم الشافعي - C تعالى - أن اسم النكاح في الشريعة يتناول العقد فقط .
وليس كذلك فقد قال الله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } ( النساء : 6 ) يعني الاحتلام فإن المحتلم يرى في منامه صورة الوطء وقال الله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية } ( النور : 3 ) والمراد الوطء وفي الموضع الذي حمل على العقد فذلك لدليل اقترن به من ذكر العقد أو خطاب الأولياء في قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } أو اشتراط إذن الأهل في قوله تعالى : { فأنكحوهن بإذن أهلن } ( النور : 32 ) ثم يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية من ذلك حفظ النساء والقيام عليهن والإنفاق ومن ذلك صيانة النفس عن الزنا ومن ذلك تكثير عباد الله تعالى وأمة الرسول - A - وتحقيق مباهاة الرسول - A - بهم كما قال : ( تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ) وسببه تعلق البقاء المقدور به إلى وقته فإن الله تعالى حكم ببقاء العالم إلى قيام الساعة وبالتناسل يكون هذا البقاء وهذا التناسل عادة لا يكون إلا بين الذكور والإناث ولا يحصل ذلك بينهما إلا بالوطء فجعل الشرع طريق ذلك الوطء النكاح لأن في التغالب فسادا وفي الإقدام بغير ملك اشتباه الأنساب .
وهو سبب لضياع النسل لما بالإناث من بني آدم من العجز عن التكسب والإنفاق على الأولاد فتعين الملك طريقا له حتى يعرف من يكون منه الولد فيوجب عليه نفقته لئلا يضيع وهذا الملك على ما عليه أصل حال الآدمي من الحرية لا يثبت إلا بطريق النكاح فهذا معنى قولنا إنه تعلق به البقاء المقدور به إلى وقته ثم هذا العقد مسنون مستحب في قول جمهور العلماء رحمهم الله تعالى وعند أصحاب الظواهر واجب لظاهر الأمر به في الكتاب والسنة ولما روي ( أن النبي - A - قال لعكاف بن خالد : ألك امرأة فقال لا فقال A ( تزوج فإنك من إخوان الشياطين ) وفي رواية ( إن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم وإن كنت منا فتزوج فإن المهاجر من أمتي من مات وله زوجة أو زوجتان أو ثلاث زوجات ) ولأن التحرز من الزنا فرض ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح وما لا يتوصل إلى الفرض إلا به يكون فرضا وحجتنا أن النبي - A - ذكر أركان الدين من الفرائض وبين الواجبات ولم يذكر من جملتها النكاح وقد كان في الصحابة Bهم من لم يتزوج ولم ينكر عليه رسول الله - A - ذلك والصحابة Bهم فتحوا البلاد ونقلوا ما جل ودق من الفرائض ولم يذكروا من جملتها النكاح وكما يتوصل بالنكاح إلى التحرز عن الزنا يتوصل بالصوم إليه .
قال A : ( يا معشر الشبان عليكم بالنكاح فمن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ) وتأويل ما روي في حق من تتوق نفسه إلى النساء على وجه لا يصبر عنهن وبه نقول إذا كان بهذه الصفة لا يسعه ترك النكاح فأما إذا لم يكن بهذه الصفة فالنكاح سنة له قال - A - ( ثلاث من سنن المرسلين : النكاح والتعطر وحسن الخلق ) وقال A : ( النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني ) أي ليس على طريقتي .
ولهذا قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى - النكاح أفضل من التخلي لعبادة الله في النوافل .
وقال الشافعي - C تعالى - التخلي لعبادة الله تعالى أفضل إلا أن تتوق نفسه إلى النساء ولا يجد الصبر على التخلي لعبادة الله واستدل بقوله تعالى : { وسيدا وحصورا } فقد مدح يحيى A بأنه كان حصورا والحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على الإتيان فدل أن ذلك أفضل ولأن النكاح من جنس المعاملات حتى يصح من المسلم والكافر والمقصود به قضاء الشهوة وذلك مما يميل إليه الطبع فيكون بمباشرته عاملا لنفسه وفي الاشتغال بالعبادة هو عامل لله تعالى بمخالفة هوى النفس وفيه اشتغال بما خلقه الله تعالى لأجله قال الله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ( الذاريات : 56 ) فكان هذا أفضل إلا أن تكون نفسه تواقة إلى النساء فحينئذ في النكاح معنيي تحصين الدين والنفس عن الزنا كما قال عمر Bه أيما شاب تزوج فقد حصن ثلثي دينه فليتق الله في الثلث الباقي فلهذا كان النكاح أفضل في حقه .
وحجتنا قوله A ( من كان على ديني ودين داود وسليمان عليهما السلام فليتزوج ) وقد اشتغل رسول الله - A - بالتزويج حتى انتهى العدد المشروع المباح له ولا يجوز أن يقال إنما فعل ذلك لأن نفسه كانت تواقة إلى النساء فإن هذا المعنى يرتفع بالمرأة الواحدة ولما لم يكتف بالواحدة دل أن النكاح أفضل والاستدلال بحال الرسول - A - أولى من الاستدلال بحال يحيى عليه السلام مع أنه كان في تشريعتهم العزلة أفضل من العشرة وفي شريعتنا العشرة أفضل من العزلة كما قال A ( لا رهبانية في الإسلام ) وقد بينا أن النكاح مشتمل على مصالح جمة فالاشتغال به أولى من الاشتغال بنفل العبادة على ما اختاره الخلفاء الراشدون Bهم وليس المقصود بهذا العقد قضاء الشهوة وإنما المقصود ما بيناه من أسباب المصلحة ولكن الله تعالى علق به قضاء الشهوة أيضا ليرغب فيه المطيع والعاصي المطيع للمعاني الدينية والعاصي لقضاء الشهوة بمنزلة الإمارة ففيها قضاء شهوة الجاه والنفوس ترغب فيه لهذا المعنى أكثر من الرغبة في النكاح حتى تطلب ببذل النفوس وجر العساكر لكن ليس المقصود بها قضاء شهوة الجاه بل المقصود إظهار الحق والعدل ولكن الله تعالى قرن به معنى شهوة الجاه ليرغب فيه المطيع والعاصي فيكون الكل تحت طاعته والانقياد لأمره مع أن منفعة العبادة على العابد مقصورة ومنفعة النكاح لا تقتصر على الناكح بل تتعدى إلى غيره وما يكون أكثر نفعا فهو أفضل قال A ( خير الناس من ينفع الناس ) إذا عرفنا هذا فنقول بدأ الكتاب فقال بلغنا عن رسول الله - A - أنه قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفي ما في صحفتها فإن الله تعالى هو رازقها وهذا الحديث يرويه رجلان من الصحابة Bهم ابن عباس وجابر - Bهما - وهو مشهور بلغة العلماء بالمقبول والعمل به ومثله حجة يجوز به الزيادة على كتاب الله تعالى عندنا وفيه دليل على حرمة نكاح المرأة على عمتها وخالتها لأن هذا النهي بصيغة الخبر وهذا أبلغ ما يكون من النهي كما أن الأمر قد يكون بصيغة الخبر قال الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن } ( البقرة : 228 ) الآية وقال الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن } ( البقرة : 233 ) والنهي يقتضي التحريم ثم ذكر هذا النهي من الجانبين إما للمبالغة في بيان التحريم أو لإزالة الإشكال .
فربما يظن ظان أن نكاح بنت الأخ على العمة لا يجوز ونكاح العمة على بنت الأخ يجوز لتفضيل العمة كما لا يجوز نكاح الأمة على الحرة ويجوز نكاح الحرة على الأمة فبين رسول الله - A - ثبوت هذه الحرمة من الجانبين وقوله : لا تسأل المرأة طلاق أختها نهي بصيغة الخبر وله تأويلان .
إما أن يكون المراد به الأخت دينا بأن تكون امرأتان تحت رجل وهو يحسن إليهما فتجيء إلى الزوج إحداهما وتقول : طلق صاحبتي ليتحول نصيبها إلي وهذا منهي عنه لأنه سبب للتحاسد والتنافر وقال - A - ( لا تحاسدوا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ) .
أو يكون المراد به الأخت نسبا بأن تأتي المرأة إلى زوج أختها وتقول فارقها وتزوجني فإني أوفق لك وهذا منهي عنه لأنه سبب لقطيعة الرحم بينهما وقطيعة الرحم من الملاعن وإليه أشار A في بعض الروايات فقال : ( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن ) ومعنى قوله : ( لتكفئ ما في صحيفتها ) أي لتحول نصيبها إلى نفسها وروي ( لتكفئ ) وكلاهما لغة يقول كفأت القدر وأكفأتها إذا أملتها وأرقت ما فيها وفي بعض الروايات لتكف ما في صحفتها ومعناه لتقنع بما آتاها الله فإن الله تعالى هو رازقها والصحفة عبارة عن الحظ والنصيب وقد اشتمل الحديث على : الحتم والوعظ والندب فإن قوله : ( فإن الله هو رازقها ) وعظ وقوله : ( لا تسأل ندب ) لأنها لو فعلت ذلك جاز ولكن لا ينبغي لها أن تفعله وقوله : ( لا تنكح المرأة على عمتها ) حتم حتى إذا فعل ذلك لم يجز النكاح عندنا وقال عثمان البتي - C تعالى - يجوز في غير الأختين لأن المحرم بالنص الجمع بين الأختين وهذا ناسخ لما يتلى في قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ونسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز ولكنا نقول الحديث صحيح مقبول والعمل به واجب فلكونه مشهورا نقول يجوز نسخ الكتاب به عندنا أو نقول هذا مبين لما ذكر في الكتاب وليس بناسخ لأن الحل في الكتاب مقيد بشرط مبهم وهو قوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } ( النساء : 24 ) وهذا الشرط مبهم فالحديث ورد لبيان ما هو مبهم في الكتاب ورسول الله - A - بعث مبينا قال الله تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم } أو نقول هذا الحديث مقرر للحرمة المذكورة في الكتاب فإن الله تعالى ذكر في المحرمات الجمع بين الأختين لأن بينهما رحما يفترض وصلها ويحرم قطعها وفي الجمع قطيعة لرحم على ما يكون بين الضرائر من التنافر فبين رسول الله - A - أن كل قرابة يفترض وصلها فهي في معنى الأختية في تحريم الجمع والتي بين العمة وبنت الأخ قرابة يفترض وصلها حتى لو كان أحدهما ذكرا والأخرى أنثى لم يجز للذكر أن يتزوج الأنثى صيانة للرحم وإذا ملكه عتق عليه تحرزا عن قطيعة الرحم فكان الحديث مقررا للحرمة المذكورة في القرآن لا أن يكون ناسخا .
( قال ) ( وبلغنا عن عمر - Bه - أنه قال : لأمنعن النساء فروجهن إلا من الأكفاء ) وفي هذا دليل على أن للسلطان يدا في الأنكحة فقد أضاف المنع إلى نفسه وذلك يكون بولاية السلطنة وفيه دليل أن الكفاءة في النكاح معتبرة وأن المرأة غير ممنوعة من أن تزوج نفسها ممن يكافئها وأن النكاح ينعقد بعبارتها ( قال ) ( وبلغنا عن النبي - A - أنه قال ( البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها والثيب تشاور ) ) ومعنى قوله تستأمر في نفسها أي في أمر نفسها في النكاح فهو دليل على أنه ليس لأحد من الأولياء أن يزوجها من غير استئمارها أبا كان أو غيره وقيل معناه تستأمر خالية لا في ملأ من الناس لكيلا يمنعها الحياء من الرد إذا كانت كارهة ولا تذهب حشمة الولي عنه بردها قوله وإذنها صماتها وفي بعض الروايات سكوتها رضاها وذلك دليل على أن رضاها شرط وأن السكوت منها دليل على الرضا فيكتفي به شرعا لما روي أن عائشة - Bها - قالت : يا رسول الله إنها تستحي فتسكت فقال A : ( سكوتها رضاها ) ومعنى هذا أنها تستحيي من إظهار الرغبة في الرجال وإذا استؤمرت فلها جوابان : نعم أو لا وسكوتها دليل على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك الجواب وهو الرضا دون الإباء إذ ليس في الإباء إظهار الرغبة في الرجال .
وقد يكون السكوت دليل الرضا كسكوت الشفيع بعد العلم بالبيع وسكوت المولى عند رؤيته تصرف العبد عن الحجر عليه .
وقوله : ( والثيب تشاور ) دليل على أنه لا يكتفي بسكوت الثيب فإن المشاورة على ميزان المفاعلة ولا يحصل ذلك إلا بالنطق من الجانبين وبظاهره يستدل الشافعي على أن الثيب الصغيرة لا يزوجها أحد حتى تبلغ فتشاور ولكنا نقول هذا اللفظ يتناول ثيبا تكون من أهل المشاورة والصغيرة ليست بأهل المشاورة فلا يتناولها الحديث .
( قال ) ( وبلغنا عن إبراهيم C تعالى قال البكر تستأمر في نفسها فلعل بها داء لا يعلمه غيرها ) قيل معنى هذا لعلها رتقاء أو قرناء وذلك في باطنها لا يعلمه غيرها فإذا زوجت من غير استئمارها لا يحصل المقصود بالنكاح وينهتك سترها وقيل معناه لا تشتهي صحبة الرجال لمعنى في باطنها من غلبة الرطوبة أو نحو ذلك فإذا زوجت بغير استئمارها لا تحسن العشرة مع زوجها أو لعل قلبها مع غير هذا الذي تزوج منه فإذا زوجت بغير استئمارها لم تحسن صحبة هذا الزوج ووقعت في الفتنة لكون قلبها مع غيره وأى داء أدوى من العشق .
( قال ) ( وبلغنا عن رسول الله A أنه قال ( لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة ) وفيه دليل على أن نكاح الأمة على الحرة لا يجوز وأن هذه الحرمة ثابتة شرعا رضيت الحرة أو لم ترض وهو مذهبنا .
وقال مالك - C تعالى - إذا رضيت الحرة جاز قال : لأن المنع لحق الحرة لا للجمع بدليل أنه إذا تقدم نكاح الأمة بقي نكاحها بعد الحرة والجمع موجود فدل أن المنع لحق الحرة وهو أنه يغصها إدخال ناقصة الحال في فراشها وذلك ينعدم برضاها ولكنا نقول المنع ليس لحقها بل لأنها ليست من المحللات مضمومة إلى الحرة وهي من المحللات منفردة عن الحرة فإن الحل برقها يتنصف كما ينتصف برق الرجل على ما نبينه - إن شاء الله تعالى - فإذا تزوجها على الحرة فهذا حال ضمها إلى الحرة وهي ليست من المحللات في هذه الحالة وهذا المعنى لا يزول برضاها فلهذا لا يجوز النكاح والكلام فيه أن هذا الحديث ناسخ لما في الكتاب أو مبين بطريق التخصيص على نحو ما بينا في الحديث الأول .
ثم ذكر هذا اللفظ عن علي Bه أيضا وزاد فيه وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث وبه نأخذ فإن القسم ينبني على الحل الذي ينبني عليه النكاح وحظ الأمة فيه على النصف من حظ الحرة .
وزعم بعض العلماء - رحمهم الله تعالى - أنه يسوى بينهما في القسم كما يسوى بينهما في النفقة للمساواة بينهما في الملك والحاجة ولكنا نقول لا يسوى بينهما في النفقة أيضا فالحرة تستحق نفقة خادمها كما تستحق نفقة نفسها والأمة لا تستحق النفقة إلا أن يبوئها المولى بيتا مع زوجها .
( قال ) ( وبلغنا عن ابن عباس Bهما أنه قال إن بعض العرب كان في الجاهلية يستحل الرجل نكاح امرأة أبيه فإذا مات أبوه ورث نكاحها عنه فأنزل الله تعالى قوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ( النساء : 22 ) الآية وأنزل الله تعالى قوله { حرمت عليكم أمهاتكم } ( النساء : 23 ) الآية ) وإن العرب في الجاهلية كانوا فريقين : فريق يعتقدون الإرث في منكوحة الأب ويقولون إن ولد الرجل إذا لم يكن منها يخلفه في نكاحها كما يخلفه في ملكه فيطأها بغير عقد جديد رضيت أو كرهت وفيه نزل قوله تعالى { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } وبعضهم كانوا يعتقدون أنها تحل له بعقد جديد وأنه متى رغب فيها فهو أحق بها من غيره وفيه نزل قوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ( النساء : 19 ) .
وكانوا في الجاهلية يسمون الولد الذي يكون بينهما ولد المقت وإليه أشار الله تعالى في قوله { إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } ( النساء : 22 ) وقوله تعالى { إلا ما قد سلف } معناه أن ما قد سلف في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون بذلك إذا خليتم سبيلهن بعد العلم بالحرمة وقيل : معناه : ولا ما قد سلف فإن كلمة إلا قد تكون بمعنى ولا قال الله تعالى { إلا الذين ظلموا منهم } فيكون المعنى أنه كما لا يحل ابتداء العقد بعد نزول الحرمة لا يحل امساك ما قد سلف بعد نزول الحرمة لكيلا يظن ظان أن هذه الحرمة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء كحرمة العدة فأما قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } ( النساء : 23 ) ففيه بيان المحرمات والحاصل أن المحرمات أربعة عشر : سبع من جهة النسب وسبع من جهة السبب .
أما من جهة السبب فالأمهات بقوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } ( النساء : 23 ) فأم الرجل حرام عليه وكذلك جداته من قبل أبيه ومن قبل أمه فعلى قول من يقول إن اللفظ الواحد يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز في محلين مختلفين يقول حرمت الجدات بالنص لأن اسم الأمهات يتناولهن مجازا وعلى قول من يقول : لا يراد باللفظ الواحد الحقيقة والمجاز يقول : حرمت الجدات بدليل الإجماع إذ الأمهات هن الأصول وهو حقيقة معنى هذا الاسم وذلك يجمع الكل إلا أن إطلاق الاسم في الأم الأدنى دون غيرها لدليل العرف فعلى هذا يتناول النص الجدات حقيقة .
والثاني : البنات فعلى القول الأول حرمة بنات البنات وبنات البنين وإن سفلن ثابتة بالنص أيضا لأن الاسم يتناولهن مجازا وعلى القول الآخر حرمتهن بدليل الإجماع على ما بينا .
والثالث : الأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى : { وأخواتكم } وهن أصناف ثلاثة : الأخت لأب وأم والأخت لأب والأخت لأم وهن محرمات بالنص فالأختية عبارة عن المجاورة في الرحم أو في الصلب فكان الاسم حقيقة يتناول الفرق الثلاث .
والرابع : العمات تثبت حرمتهن بقوله تعالى { وعماتكم } ويدخل في ذلك أخوات الأب لأب وأم أو لأب أو لأم .
والخامس : الخالات تثبت حرمتهن بقوله تعالى { وخالاتكم } ويدخل في ذلك أخوات الأم لأب وأم أو لأب أو لأم .
والسادس : بنات الأخ تثبت حرمتهن بقوله تعالى : { وبنات الأخ } ( النساء : 23 ) ويدخل في ذلك بنات الأخ لأب وأم أو لأب أو لأم .
والسابع : بنات الأخت تثبت حرمتهن بقوله تعالى : { وبنات الأخت } ويستوي في ذلك بنات الأخت لأب وأم أو لأب أو لأم .
وأما السبع اللاتي من جهة النسب : الأمهات من الرضاعة .
والأخوات تثبت حرمتهن بقوله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ( النساء : 23 ) والحاصل أنه يثبت بالرضاع من الحرمة ما يثبت بالنسب قال A ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
والثالث : أم المرأة فإن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها تثبت بقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } .
وهذه الحرمة تثبت بنفس العقد عندنا وكان بشر المريسي وابن شجاع - رحمهما الله تعالى - يقولون : لا تثبت إلا بالدخول بالبنت وهو أحد قولى الشافعي - C تعالى .
ومذهبنا مذهب عمر وابن عباس - Bهم - وإليه رجع ابن مسعود Bه - حين ناظره عمر - Bه - ومذهبهم مذهب علي وزيد بن ثابت - Bهما - واستدلوا بقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } الآية والأصل : أن الشرط والاستثناء إذا تعقب كلمات منسوقة بعضه على بعض ينصرف إلى جميع ما سبق ذكره .
ولكنا نستدل بحديث عبدالله بن عمر - رضي لله عنهما - أن النبي - A - قال ( من تزوج امرأة حرمت عليه أمها دخل بها أو لم يدخل وحرمت عليه ابنتها إن دخل بها ) وكان ابن عباس - Bهما - يقول : ( أم المرأة مبهمة فأبهموا ما أبهم الله ) بين أن الشرط المذكور ينصرف إلى الربائب دون الأمهات وهذا هو الظاهر لغة فالنساء المذكورة في قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } مخفوضة بالإضافة وفي قوله : ( من نسائكم ) مخفوض بحرف من والمخفوضات بأداتين لا ينعتان بنعت واحد ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقول مررت بزيد إلى عمرو الظريفين وهو الأصل في اللغة أن المعمول الواحد لا يكون بعاملين فلو جعلنا قوله وربائبكم عطفا لصار قوله من نسائكم مخفوضا بحرف من وبالإضافة جميعا وذلك لا يجوز فعرفنا أن قوله ( وربائبكم ) ابتداء بحرف الواو وأن أمهات النساء مبهمة كما قال ابن عباس رضي لله عنهما فأما حرمة الربيبة وهي بنت المرأة لا تثبت الحرمة إلا بالدخول بالأم لقوله تعالى { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ( النساء : 23 ) ولأن الربائب ليس في معنى الأمهات فالظاهر من العبارة أن أم الزوجة تبرز إلى زوج بنتها قبل الدخول وأما بنت المرأة لا تبرز إلى زوج أمها قبل الدخول بالأم واختلفت الصحابة Bهم أن الحجر هل ينتصب شرطا لهذه الحرمة أو لا فكان علي - Bه - يقول : الحجر شرط لقوله تعالى { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ولما روي أنه عرض على رسول لله - A - زينب بنت أم سلمة Bهما . فقال : ( لو لم تكن ربيبتي في حجري ما كانت تحل لي أرضعتني وأباها ثوبية ) فأما عمر وابن مسعود - رضي لله عنهما - كانا يقولان الحجر ليس بشرط وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله تعالى - للحديث الذي رويناه .
وتفسير الحجر وهو أن البنت إذا زفت مع الأم إلى بيت زوج الأم فهذه كانت في حجره وإذا كانت مع أبيها لم تكن في حجر زوج الأم وإنما ذكر الحجر في الآية على وجه العادة فإن بنت المرأة تكون في حجر زوج أمها لا على وجه الشرط مثل قوله تعالى : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } ( النور : 33 ) مذكور على وجه العادة لا على وجه الشرط ألا ترى أنه قال : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } ( النساء : 23 ) شرط للحل عدم الدخول فذلك دليل على أنه بعد ما دخل بالأم لا تحل له البنت قط سواء كانت في حجره أو لم تكن ولا يحل له أن يجمع بين الأم والبنت وإن لم يكن دخل بالأم لأن القرابة التي بينهما أقوى من القرابة التي بين المرأة وعمتها وقد بينا أن هناك لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فهنا أولى فأما إذا طلق الأم قبل أن يدخل بها أو ماتت يحل له أن يتزوج البنت وكان زيد - C تعالى - يفرق بين الطلاق والموت فيقول بالموت ينتهي النكاح . حتى يتقرر به كمال المهر فنزل ذلك منزلة الدخول ولكنا نقول : هذه الحرمة تعلقت شرعا بشرط الدخول فلو أقمنا الموت مقامه كان ذلك بالرأي وكما لا يجوز نصب شرط بالرأي لا يجوز إقامة شرط مقام شرط بالرأي فأما حليلة الابن على الأب حرام سواء دخل الابن بها أو لم يدخل لقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم } ( النساء : 23 ) سميت حليلة لأنها تحل للابن من الحل أو هو مشتق من الحلول على معنى أنها تحل على فراشه وهو يحل في فراشها .
وكما تحرم حليلة الابن نسبا فكذلك حليلة الابن من الرضاع عندنا .
وعند الشافعي - C تعالى - لا تحرم حليلة الابن من الرضاع بناء على أصله أن لبن الفحل لا يحرم واستدل بالتقييد المذكور هنا بقوله من أصلابكم .
ولكنا نستدل بقوله - A - ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) والمراد بقوله تعالى { من أصلابكم } بيان إباحة حليلة الابن من التبني فإن التبني انتسخ بقوله تعالى : { أدعوهم لآبائهم } ( الأحزاب : 5 ) وكان النبي - A - تبنى زيد بن حارثة ثم تزوج زينب بعد ما طلقها زيد فطعن المشركون وقالوا : إنه تزوج حليلة ابنه وفيه نزل قوله تعالى { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } ( الأحزاب : 40 ) فهذا التقييد هنا لدفع طعن المشركين وكما تحرم حليلة الابن فكذلك حليلة ابن الإبن وإن سفل لأن اسم الابن يتناوله مجازا فإن قيل ابن الابن لا يكون من صلبه فكيف يصح تعدية هذا التحريم إليه مع هذا التقيد قلنا مثل هذا اللفظ يذكر باعتبار أن الأصل من صلبه كقوله تعالى { هو الذي خلقكم من تراب } ( غافر : 67 ) والمخلوق من التراب هو الأصل وكذلك منكوحة الأب حرام على الابن دخل بها الأب أو لم يدخل لقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } وكما يحرم على الابن يحرم على النوافل من قبل الرجال والنساء جميعا لأن اسم الأب يتناول الكل مجازا فأما قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } معناه حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين لأنه معطوف على أول الآية والجمع بين الأختين نكاحا حرام وكذلك الجمع بينهما فراشا حتى لا يجمع بين الأختين وطئا بملك اليمين وهو مذهب علي وابن مسعود وعمار بن ياسر - رضوان الله عليهم - فإنه قال : ما حرم الله تعالى من الحرائر شيئا إلا وحرم من الإماء مثله إلا رجل يجمعهن يريد به الزيادة على الأربع وكان عثمان - Bه - يقول : أحلتهما آية وحرمتهما آية يريد بآية التحليل قوله تعالى { أو ما ملكت أيمانكم } وبآية التحريم قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } فكان يتوقف في ذلك ولكنا نقول عند التعارض يترجح جانب الحرمة .
ويتأيد هذا بقوله A لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجمع ماءه في رحم أختين ولأن المراد من قوله { وأن تجمعوا } حرمة الجمع فراشا كما أن قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } يقتضي حرمة الاستفراش بأي سبب كان والجمع فراشا يحصل بالوطء بملك اليمين فلهذا يحرم عليه الجمع بينهما فإن تزوجهما في عقدة واحدة بطل نكاحهما لأنه لا وجه لتصحيح نكاح إحداهما بغير عينها فإن النكاح عقد تمليك فلا يثبت في المجهولة ابتداء ولا بعينها إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى ولا يمكن تصحيح نكاحهما لأن الجمع محرم بالنص فتعين البطلان وإن نكح إحداهما قبل الأخرى فنكاح الأولى جائز لأن بهذا العقد لا يصير جامعا ونكاح الثانية فاسد لأن بهذا العقد يصير جامعا بين الأختين فتعين فيه جهة البطلان فيفرق بينهما فإن لم يكن دخل بها فلا شيء لها عليه وإن كان قد دخل بها فعليها العدة ولها الأقل من المسمى ومن مهر المثل لأن الدخول حصل بشبهة صورة النكاح فيسقط به الحد ويجب المهر والعدة كما إذا زفت إليه غير امرأته وحكم ذلك مروي عن علي - Bه .
فأما وجوب الأقل من المسمى ومن مهر المثل فهو مذهبنا .
وعند زفر C تعالى يجب مهر المثل بالغا ما بلغ لأن الواجب عند فساد العقد بدل المتلف ألا ترى أن المقبوض بحكم الشراء الفاسد يكون مضمونا بالقيمة بالغة ما بلغت عند الإتلاف فكذلك المستوفي بالنكاح الفاسد ولكنا نقول المستوفي بالوطء ليس بمال فإنما يتقدر بالمال بالتسمية .
إلا أن المسمى إذا كان أكثر من مهر المثل لم تجب الزيادة لعدم صحة التسمية فإذا كان أقل لم تجب الزيادة على قدر المسمى لانعدام التسمية فيه ولتمام التراضي على قدر المسمى بخلاف المبيع فإنه مال متقوم بنفسه فبدله يتقدر بالقيمة وإنما يتحول عنه إلى المسمى إذا صحت التسمية فإذا لم تصح لفساد العقد كان مضمونا بالقيمة ثم يعتزل عن امرأته حتى تنقضي عدة الأخرى سواء دخل بالأولى أو لم يدخل بها لأن رحم المعتدة مشغول بمائه حكما ولو وطئ الأخرى في هذه الحالة صار جامعا ماءه في رحم الأختين وذلك حرام شرعا ولكن أصل نكاح الأولى بهذا لا يبطل لأن اشتغال رحم الثانية عارض على شرف الزوال فلا يبطل ذلك أصل النكاح كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة ووجبت عليها العدة لا يكون للزوج أن يطأها حتى تنقضي عدتها ولا يبطل نكاحها ولا تتزوج المرأة في عدة أختها منه من نكاح فاسد أو جائز عن طلاق بائن أو غير بائن .
وعلى قول الشافعي - C تعالى - إن كانت تعتد منه من طلاق رجعي فليس له أن يتزوج أختها وإن كان من ثلاث أو خلع فله أن يزوج أختها في عدتها وقد روي مثل مذهبه عن زيد بن ثابت - Bه - إلا أن أبا يوسف - C تعالى - ذكر في الأمالي رجوع زيد - Bه - عن هذا القول وذكر الطحاوي - C تعالى - قول زيد الآخر أنه ليس له أن يتزوجها وحكي أن مروان شاور الصحابة - Bهم - في هذا فاتفقوا على أنه يفرق بينهم وخالفهم زيد ثم رجع إلى قولهم وقال عبيدة السلماني ما اجتمع أصحاب رسول الله - A - وBهم - على شيء كاجتماعهم على تحريم نكاح الأخت في عدة الأخت والمحافظة على الأربع قبل الظهر وذكر سلمان بن بشار عن علي وابن مسعود وابن عباس Bهم المنع عن نكاح الأخت المعتدة من طلاق بائن أو ثلاث .
وكان الحسن البصري - C تعالى - يقول إن كانت حاملا فليس له أن يتزوج أختها وإن كانت حائلا فله أن يتزوجها وحجة الشافعي - C تعالى - أن النكاح مرتفع بينهما بجميع علائقه فيجوز له نكاح أختها كما بعد انقضاء العدة ودليل الوصف أنه لو وطئها وقال علمت أنها علي حرام يلزمه الحد ولو جاءت بولد لأكثر من سنتين حتى علم أن العلوق كان في العدة لم يثبت النسب ولو بقيت بينهما علاقة من علائق النكح لسقط به الحد وثبت النسب والعدة الواجبة أثر ماء محترم لأنها من حقوق النكاح حتى لا يجب بدون توهم الدخول وما كان من العدة لحق النكاح لا يعتبر فيه توهم الدخول كعدة الوفاة وإذا ثبت الوصف فتأثيره أن المحرم هو الجمع بينهما نكاحا فلا يصير جامعا بهذا حتى لم يبق بينه وبين الأولى علقة من علائق النكاح والمقصود من هذا التحريم صيانة الرحم عن القطيعة التي تكون بسبب المنازعة بينهما في القسم وذلك لا يتحقق بعد الخلع والتطليقات الثلاثة .
( ولنا ) أن هذه معتدة على الإطلاق فليس له أن يتزوج بأختها كالعدة من طلاق رجعي وهذا لأن العدة حق من حقوق النكاح ألا ترى أنها لا تجب بدون النكاح أو شبهة النكاح ولا معنى لما قال إن وجوبها بماء محترم لأنه إن اعتبر أصل الماء فهو موجود في الزانية ولا عدة وإن اعتبر الماء المحترم فاحترام الماء يكون بالنكاح والدليل عليه أن العدة تختلف بالرق والحرية واشتغال الرحم بالماء لا يختلف وإنما يختلف ملك النكاح لتفاوت بينهما في الحل الذي ينبني عليه النكاح فعرفنا أنه من حقوق النكاح ولكن حق النكاح بعد ارتفاعه إنما يبقى إذا كان النكاح متأكدا وتأكده بالموت أو بالدخول ولهذا لا تجب العدة على المطلقة قبل الدخول وإذا ثبت أنه من حقوق النكاح فالحق يعمل عمل الحقيقة في إثبات الحرمة كما أن حق ملك اليمين للمكاتب كحقيقة ملك اليمين للحر في المنع من نكاح أمته وكما أن الرضاع في التحريم ينزل منزلة النسب لأنه في البعضية بمنزلة الحق من الحقيقة والدليل عليه أن في جانبها جعل الحق كالحقيقة في حق المنع من التزوج فكذلك في جانبه ونحن نسلم ارتفاع ملك النكاح بجميع علائقه إنما ندعي بقاء الحق وهذا الحكم عندنا يثبت بدون ملك النكاح فإن بالنكاح الفاسد أصل الملك لا يثبت ثم يكون ممنوعا من نكاح أختها وكما يلزمه الحد إذا وطئها يلزمها الحد إذا مكنت نفسها منه ولا يدل ذلك على زوال المنع من جانبها فكذلك من جانبه وكما لا يجوز له أن يتزوج أختها في عدتها فكذلك لا يجوز أن يتزوج أحدا من محارمها لأنهما في معنى الأختين في حرمة الجمع بينهما وكذلك لا يجوز له أن يتزوج أربعا سواها في عدتها لأن الجمع بين الخمس حرام بالنكاح بمنزلة الجمع بين الأختين .
( قال ) ( ولا يحل له أن يجمع بين امرأتين ذواتي رحم محرم من نسب أو رضاع ) لأن الرضاع في حكم الحرمة بمنزلة النسب وبهذا تبين أن في المنصوص لا يعتبر المعنى وإن المعتبر حرمة الجمع بالنص لا صيانة الرحم عن القطيعة فإنه ليس بين الأختين من الرضاعة قرابة يفترض وصلها ثم كان الجمع بينهما حراما فإن تزوجها فهو على ما بينا في الأختين نسبا زاد في التفريع هنا فقال : إن تزوجهما في عقده ودخل بهما فرق بينه وبينهما وعليهما العدة وإنما تصير كل واحدة منهما شارعة في العدة من وقت التفريق عندنا وقال زفر - C تعالى - من آخر الوطآت وكذلك في كل نكاح فاسد لأن وجوب العدة بسبب الوطء فيعتبر من آخر الوطآت ولكنا نقول الموجب للعدة شبهة النكاح ورفع هذه الشبهة بالتفريق ألا ترى إن وطئها قبل التفريق لا يلزمه الحد وبعده يلزمه فلا تصير شارعة في العدة ما لم ترتفع الشبهة وذلك بالتفريق بينهما والدليل على أن المعتبر هو الشبهة أنه وإن وطئها مرارا لا يجب إلا مهر واحد لاستناده إلى شبهة واحدة إذا ثبت هذا فنقول بعد ما فرق بينه وبينهما ليس له أن يتزوج واحدة منهما حتى تنقضي عدة الأخرى لأن الأخرى في عدته وعدة الأخت تمنع نكاح الأخت فإن انقضت عدتهما معا فله أن يتزوج أيتهما شاء وإن انقضت عدة إحداهما فليس له أن يتزوج التي انقضت عدتها لأن الأخرى معتدة وله أن يتزوج المعتدة لأن الأخرى منقضية العدة وعدة هذه لا تمنع صاحب العدة من نكاحها إنما تمنع غيره من ذلك وكذلك لو كان دخل بإحداهما ثم فرق بينه وبينهما فالعدة على التي دخل بها دون الأخرى وله أن يتزوج المعتدة ولا يتزوج الأخرى حتى تنقضي عدة المعتدة لما بينا .
( قال ) ( وإذا وطئ الرجل امرأة بملك يمين أو نكاح أو فجور يحرم عليه أمها وابنتها وتحرم هي على آبائه وأبنائه ) وقال الشافعي - C تعالى - : إن كان الوطء بنكاح أو ملك يمين فكذلك الجواب وإن كان بالزنا لا تثبت به الحرمة واستدل بقوله - A - ( الحرام لا يحرم الحلال ) وهكذا رواه ابن عباس - Bه - وروى أبو هريرة - Bه - ( أن النبي - A - سئل عمن يبتغي من امرأة فجورا ثم يتزوج ابنتها فقال لا بأس لا يحرم الحرام الحلال ) وقالت عائشة - Bها - ( سئل رسول الله - A - عن رجل يبتغي من امرأة حراما ثم يتزوج ابنتها فقال يجوز لا يحرم الحرام الحلال وإنما يحرم ما كان من قبل النكاح ) وعلل الشافعي - C تعالى - في كتابه فقال : النكاح أمر حمدت عليه والزنا فعل رجمت عليه فأنى يستويان ومعنى هذا أن ثبوت حرمة المصاهرة بطريق النعمة والكرامة فإن الله تعالى من به على عباده بقوله تعالى { فجعله نسبا وصهرا } وهو معقول فإن أمهاتها وبناتها يصرن كأمهاته وبناته حتى يخلو بهن ويسافر بهن وهذا يكون بطريق الكرامة والزنا المحض سبب لإيجاب العقوبة فلا يصلح سببا لإيجاب الحرمة والكرامة ألا ترى أنه لا يثبت به النسب والعدة فكذلك حرمة المصاهرة وحجتنا في ذلك قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ( النساء : 22 ) وقد بينا أن النكاح للوطء حقيقة فتكون الآية نصا في تحريم موطوءة الأب على الابن فالتقيد بكون الوطء حلالا زيادة ولا تثبت هذه الزيادة بخبر الواحد ولا بالقياس .
والدليل عليه أن موطوءة الأب بالملك حرام على الابن بهذه الآية فدل أن المراد بالنكاح الوطء لا العقد وقد نقل مثل مذهبنا عن ابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وعمران بن حصين ( Bهم ) بألفاظ مختلفة والمعنى فيه أنه وطء في محله فيكون موجبا للحرمة كالوطء بالنكاح وملك اليمين وتفسير الوصف أن الوطء في هذا المحل محرم لكونه مثبتا لأن هذا الفعل حرث والحرث لا يكون إلا في محل مثبت وكون المحل مثبتا لا يختلف بالملك وعدم الملك وتأثيره أن ثبوت الحرمة بسبب هذا الوطء في الملك ليس لعين الملك بل لمعنى البعضية لأن الولد الذي يتخلق من الماءين يكون بعضا لكل واحد منهما فتتعدى شبهة البعضية إلى أمهاتها وبناتها وإلى آبائه وأبنائه والشبهة تعمل عمل الحقيقة في إيجاب الحرمة وهذا المعنى لا يختلف بالملك وعدم الملك لأن سبب البعضية حسي وإنما تكون هذه البعضية موجبة حرمة الموطوءة لأن البعضية الحكمية عملها كعمل حقيقة البعضية وحقيقة البعضية توجب الحرمة في غير موضع الضرورة فأما في موضع الضرورة لا توجب ألا ترى أن حواء عليها السلام خلقت من آدم عليه السلام فكانت بعضه حقيقة وهي حلال له فكذلك شبهة البعضية إنما توجب الحرمة في غير موضع الضرورة وفي حق الموطوءة ضرورة وهذا لأن العلل الشرعية إمارات لا موجبات فلهذا ثبت الحكم بها في الموضع الذي جعلها الشرع علة وقد جعل الشرع موضع الضرورة مستثنى من الحرمة بقوله تعالى ( إلا ما اضطررتم إليه ( فأما النسب فعندنا أحكام النسب تثبت ولكن الانتساب لا يثبت لأنه لمقصود الشرف به ولا يحصل ذلك بالنسبة إلى الزاني والعدة إنما لا تجب لأن وجوبها في الأصل باعتبار حق النكاح أو الفراش وبين النكاح والسفاح منافاة فبانعدام الفراش ينعدم السبب الموجب للعدة .
وبعض أصحابنا رحمهم الله تعالى يقولون الحرمة تثبت هنا بطريق العقوبة كما تثبت حرمة الميراث في حق القاتل عقوبة والأصل فيه قوله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم } الآية وعلى هذا الطريق يقولون المحرمية لا تثبت حتى لا تباح الخلوة والمسافرة بها ولكن هذا التعليل فاسد فإن التعليل لتعدية حكم النص لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص فإن ابتداء الحكم لا يجوز إثباته بالتعليل والمنصوص حرمة ثابتة بطريق الكرامة فإنما يجوز التعليل لتعدية تلك الحرمة إلى الفروع لا لإثبات حكم آخر سوى المنصوص ولكن الصحيح أن نقول هذا الفعل زنا موجب للحد كما قال ولكنه مع ذلك حرث للولد ويصلح أن يكون سببا لثبوت الحرمة والكرامة باعتبار أنه حرث للولد ألا ترى أنه في جانبها الفعل زنا ترجم عليه وإذا حبلت به كان لذلك الولد من الحرمة ما لغيره من بني آدم فيثبت نسبه منها وتحرم هي عليه وثبوت هذا كله بطريق الكرامة لأنه حرث لا لأنه زنا فكذا هنا فبهذا التقرير يتبين فساد استدلالهم بالحديث فإنا لا نجعل الحرام محرما للحلال وإنما نثبت الحرمة باعتبار أن الفعل حرث للولد وحرمة هذا الفعل بكونه زنا على أن هذا الحديث غير مجرى على ظاهره فإن كثيرا من الحرام يحرم الحلال كما إذا وقعت قطرة من خمر في ماء وكالوطء بالشبهة ووطء الأمة المشتركة ووطء الأب جارية الابن فإن هذا كله حرام حرم الحلال لا لأنه حرام بل للمعنى الذي قلنا فكذلك هنا .
ومن فروع هذه المسألة بنت الرجل من الزنا بأن زني ببكر وأمسكها حتى ولدت بنتا حرم عليه تزوجها عندنا .
وعند الشافعي - C تعالى - لا يكون حراما وله في البنت الملاعنة التي لم يدخل بالأم أو لا واستدل فقال نص التحريم قوله تعالى : { وبناتكم } وذلك يتناول البنت المضافة إليه نسبا والبنت من الزنا غير مضافة إليه نسبا بل هي حرام الإضافة إليه نسبا ولو أثبتنا الحرمة فيها كان إثبات الحرمة بالزنا وبه فارق جانبها فإن الإبن من الزنا يضاف إلى الأم نسبا فكانت هي حراما عليه لقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } وتبين بهذا التفريق أن هذه الحرمة الثابتة شرعا تنبني على ثبوت النسب شرعا والنسبة إلى الزاني غير ثابتة من كل وجه فكذا هنا وهكذا يقول على أحد القولين في بنت الملاعنة وعلى القول الآخر يفرق بينهما فيقول النسب هناك كان ثابتا باعتبار الفراش لكن انقطع باللعان وبقي موقوفا على حقه حتى لو أكذب نفسه يثبت النسب منه ولا يثبت من غيره .
وإن أعاده فيجوز إبقاء الحرمة وهنا النسب لم يكن ثابتا أصلا لانعدام الفراش ولا هو بعرض الثبوت منه ولنا أن ولد الزنا بعضه فتكون محرمة عليه كولد الراشدة وهذا لأن البعضية باعتبار الماء وذلك لا يختلف حقيقته بالملك وعدم الملك فالولد المخلوق من الماءين يكون بعض كل واحد منهما قال النبي A لفاطمة Bها : هي بضعة مني .
والبعضية علة صالحة لإثبات الحرمة لأن الإنسان كما لا يستمتع بنفسه لا يستمتع ببعضه إلا أن النسب لا يثبت لا لانعدام البعضية بل للإشتباه لأن الزانية يأتيها غير واحد ولو أثبتنا النسب بالزنا ربما يؤدي إلى نسبة ولد إلى غير أبيه وذلك حرام بالنص حتى أن في جانبها لما كان لا يؤدي إلى هذا الإشتباه كان النسب ثابتا ولأن قطع النسب شرعا لمعنى الزجر عن الزنا فإنه إذا علم أن ماءه يضيع بالزنا يتحرز عن فعل الزنا وذلك يوجب إثبات الحرمة لأن معنى الزجر عن الزنا به يحصل فإنه إذا علم أنه بسبب الحرام مرة يفوته حلال كثير يمتنع من مباشرة الحرام فلهذا أثبتنا الحرمة وإن لم يثبت النسب هنا .
إذا عرفنا هذا فنقول كما ثبتت حرمة المصاهرة بالوطء تثبت بالمس والتقبيل عن شهوة عندنا سواء كان في الملك أو في غير الملك وعند الشافعي - C تعالى - لا تثبت الحرمة بالتقبيل والمس عن شهوة أصلا في الملك أو في غير الملك حتى أنه لو قبل أمته ثم أراد أن يتزوج ابنتها عنده يجوز .
وكذلك لو تزوج امرأة وقبلها بشهوة ثم ماتت عنده يجوز له أن يتزوج ابنتها بناء على أصله أن حرمة المصاهرة تثبت بما يؤثر في إثبات النسب والعدة وليس للمس والتقبيل عن شهوة تأثير في إثبات النسب والعدة فكذلك في إثبات الحرمة وقاس بالنكاح الفاسد فإن التقبيل والمس فيه لا يجعل كالدخول في إيجاب المهر والعدة وكذلك في إيجاب الحل للزوج الأول فكذا هنا ولكنا نستدل بآثار الصحابة Bهم : .
فقد روي عن ابن عمر - Bه - أنه قال : إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وابنتها .
وعن مسروق - C تعالى - قال : بيعوا جاريتي هذه أما أني لم أصب منها ما يحرمها على ولدي من المس والقبلة .
ولأن المس والتقبيل سبب يتوصل به إلى الوطء فإنه من دواعيه ومقدماته فيقام مقامه في إثبات الحرمة كما أن النكاح الذي هو سبب الوطء شرعا يقام مقامه في إثبات الحرمة إلا فيما استثناه الشرع وهي الربيبة وهذا لأن الحرمة تنبني على الإحتياط فيقام السبب الداعي إلى الوطء فيه مقام الوطء احتياطا وإن لم يثبت به سائر الأحكام كما تقام شبهة البعضية بسبب الرضاع مقام حقيقة البعضية في إثبات الحرمة دون سائر الأحكام .
ولو نظر إلى فرجها بشهوة تثبت به الحرمة عندنا استحسانا وفي القياس لا تثبت وهو قول ابن أبي ليلى والشافعي - رحمهما الله تعالى - لأن النظر كالتفكر إذ هو غير متصل بها ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم وإن اتصل به الإنزال ولأن النظر لو كان موجبا للحرمة لاستوى فيه النظر إلى الفرج وغيره كالمس عن شهوة ولكنا تركنا القياس بحديث أم هانئ - رضي الله تعالى عنها - أن النبي - A - قال : ( من نظر إلى فرج امرأة بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها ) .
وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه جرد جارية ثم نظر إليها ثم استوهبها منه بعض بنيه فقال : أما أنها لا تحل لك .
وفي الحديث : ( ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها ) ثم النظر إلى الفرج بشهوة نوع استمتاع لأن النظر إلى المحل إما لجمال المحل أو للإستمتاع وليس في ذلك الموضع جمال ليكون النظر لمعنى الجمال فعرفنا أنه نوع استمتاع كالمس بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء ولأن النظر إلى الفرج لا يحل إلا في الملك بمنزلة المس عن شهوة بخلاف النظر إلى سائر الأعضاء .
ثم معنى الشهوة المعتبرة في المس والنظر أن تنتشر به الآلة أو يزداد انتشارها فأما مجرد الإشتهاء بالقلب غير معتبر ألا ترى أن هذا القدر يكون من الشيخ الكبير الذي لا شهوة له والنظر إلى الفرج الذي تتعلق به الحرمة هو النظر إلى الفرج الداخل دون الخارج وإنما يكون ذلك إذا كانت متكئة أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت الحرمة بالنظر .
ثم حرمة المصاهرة بهذه الأسباب تتعدى إلى آبائه وإن علوا وأبنائه وإن سفلوا من قبل الرجال والنساء جميعا وكذلك تتعدى إلى جداتها وإلى نوافلها لما بينا أن الأجداد والجدات بمنزلة الآباء والأمهات والنوافل بمنزلة الأولاد فيما نبني عليه الحرمة وذلك كله مروي عن إبراهيم النخعي - C تعالى .
وعلى هذا إذا جامع الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته نقل ذلك عن أبي بن كعب - Bه - وكان المعنى فيه أن الحرمة بسبب المصاهرة مثل الحرمة بالرضاع والنسب وذلك كما يمنع ابتداء النكاح يمنع بقاء النكاح فكذلك هذا يمنع بقاء النكاح كما يمنع ابتداءه .
( قال ) رجل له أربع نسوة فطلق واحدة منهن بعد ما دخل بها ثلاثا أو واحدة بائنة أو خلعها لم يجز له أن يتزوج أخرى مادامت في العدة لأن حرمة ما زاد على الأربع كحرمة الأختين فكما أن هناك العدة تعمل على حقيقة النكاح في المنع فكذا هنا فإن قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت فإن كان ذلك في مدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قوله ولا قولها إن أخبرت إلا أن تفسر بما هو محتمل من إسقاط سقط مستبين الخلق ونحوه وإن كان ذلك في مدة تنقضي في مثلها العدة إن صدقته أو كانت ساكتة أو غائبة فله أن يتزوج أخرى أو أختها إن شاء ذلك وكذلك إن كذبته في قول علمائنا .
وعن زفر - C تعالى - ليس له ذلك لأن عدتها باقية فإنها أمينة في الإخبار بما في رحمها وقد أخبرت ببقاء عدتها والزوج إنما أخبر عليها وهي تكذبه في ذلك فيسقط منه اعتبار قوله كشاهد الأصل إن أكذب شاهد الفرع أو راوي الأصل إن كذب الراوي عنه والدليل عليه بقاء نفقتها وسكناها وثبوت نسب ولدها إن جاءت به لأقل من سنتين وبالإتفاق إذا حكمنا بثبوت نسب ولدها يبطل نكاح أختها فكذلك إذا قضينا بنفقتها .
وحجتنا في ذلك أنه أخبر عن أمر بينه وبين ربه D فكان أمينا مقبول القول فيه إذا احتمل كمن قال صمت أو صليت وبيان الوصف أنه أخبر بحل نكاح أختها له ولا حق للمطلقة في ذلك فإن الحل والحرمة من حق الشرع وإنما حق العباد فيه باعتبار قيام حق لهم في محله ولا حق لها في نكاح أختها فلا يعتبر تكذيبها فيه والدليل أن بمجرد الخبر يثبت له حل نكاح أختها .
ألا ترى أنها لو كانت غائبة كان له أن يتزوج بأختها ولو بطل ذلك الحق إنما يبطل بتكذيبها وتكذيبها يصلح حجة في إبقاء حقها لا في إبطال حق ثابت للزوج والنفقة والسكنى حقها فيكون باقيا وأما نكاح الأخت لا حق لها فيه فلا يعتبر تكذيبها في ذلك لأن ثبوت الحكم بحسب الحجة وكذلك ثبوت النسب من حقها وحق الولد لأنه يندفع به تهمة الزنا عنها ويتشرف به الولد .
ثم من ضرورة القضاء بالنسب الحكم باستناد العلوق إلى ما قبل الطلاق فإذا أسندنا صار الخبر بانقضاء العدة قبل الوضع مستنكرا فلهذا بطل نكاح الأخت بخلاف القضاء بالنفقة فإنه يقتصر على الحال وليس من ضرورة الحكم بها الحكم ببقاء العدة مطلقا فإن المال تكثر أسباب وجوبه في الجملة توضيحه أن من ضرورة القضاء بالنسب القضاء بالفراش فتبين أنه صار جامعا بين الأختين في الفراش وليس من ضرورة القضاء بالنفقة القضاء بالفراش وأكثر ما فيه أنه يجتمع عليه استحقاق النفقة للأختين وذلك جائز كما في ملك اليمين .
( قال ) وإن مات لم يكن لها ميراث وكان الميراث للأخرى هكذا ذكر هنا وذكر في كتاب الطلاق وقال الميراث للأولى دون الثانية ولكن وضع المسألة فيما إذا كان مريضا حين قال أخبرتني أن عدتها قد انقضت وإنما يتحقق اختلاف الروايات في حكم الميراث إذا كان الطلاق رجعيا فأما إذا كان الطلاق بائنا أو ثلاثا وكان في الصحة فلا ميراث للأولى سواء أخبر الزوج بهذا أو لم يخبر .
ولكن في كتاب الطلاق لما وضع المسألة في المريض وكان قد تعلق حقها بماله لم يقبل قوله في إبطال حقها كما في نفقتها وهنا وضع المسألة في الصحيح ولا حق لها في مال الزوج في صحته فكان قوله مقبولا في إبطال إرثها توضيحه أن بقوله أخبر أن الواقع صار بائنا فكأنه أبانها في صحته فلا ميراث لها ولو أبانها في مرضه كان لها الميراث وقيل هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى - لأن عندهما للزوج أن يجعل الرجعى بائنا خلافا لمحمد - C تعالى - ومتى كان الميراث للأولى فلا ميراث للثانية لأن بين إرث الأختين منه بالنكاح منافاة ومتى لم ترث الأولى ورثته الثانية .
( قال ) وإن ماتت في العدة أو لحقت بدار الحرب مرتدة حل له أن يتزوج أختها لأن لحوقها كموتها فلا تبقى معتدة بعد موتها فإن رجعت مسلمة قبل أن يتزوج أختها فله أن يتزوج أختها عند أبي حنيفة - C تعالى - لأن العدة بعد ما سقطت لا تعود إلا بتجدد سببها وعندهما ليس له أن يتزوج أختها لأنها لما عادت مسلمة كان لحوقها بمنزلة الغيبة ألا ترى أنه يعاد إليها مالها فلا تعود كحالها فتعود كما كانت .
وإن كان قد تزوج أختها قبل رجوعها ثم رجعت مسلمة عن أبي يوسف - C تعالى - روايتان في إحدى الروايتين يبطل نكاح الأخت وفي الرواية الأخرى لا يبطل ذكر الروايتين عنه في الأمالي .
( قال ) ولا بأس بأن يتزوج المسلم الحرة من أهل الكتاب لقوله تعالى : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } الآية وكان ابن عمر - Bهما - لا يجوز ذلك ويقول : الكتابية مشركة وقد قال الله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وكان يقول معنى الآية الثانية واللاتي أسلمن من أهل الكتاب .
ولسنا نأخذ بهذا فإن الله تعالى عطف المشركين على أهل الكتاب فدل أن اسم المشرك لا يتناول الكتابي مطلقا ولو حملنا الآية الثانية على ما قال ابن عمر - Bهما - لم يكن لتخصيص الكتابية بالذكر معنى فإن غير الكتابية إذا أسلمت حل نكاحها وقد جاء عن حذيفة بن اليمان - رضي الله تعالى عنه - أنه تزوج يهودية وكذلك كعب بن مالك - رحمهما الله تعالى - تزوج يهودية .
وكذلك إن تزوج الكتابية على المسلمة أو المسلمة على الكتابية جاز والقسم بينهما سواء كأن جواز النكاح ينبني على الحل الذي به صارت المرأة محلا للنكاح وعلى ذلك ينبني القسم والمسلمة والكتابية في ذلك سواء إسرائيلية كانت أو غير إسرائيلية وبعض من لا يعتبر قوله فصل بين الإسرائيلية وغيرها ولا معنى لذلك في الجواز لكونها كتابية وأما المجوسية لا يجوز نكاحها لأنها ليست من أهل الكتاب .
وذكر ابن اسحق في تفسيره عن علي - Bه - جواز نكاح المجوسية بناء على ما روي عنه أن المجوس أهل كتاب ولكن لما واقع ملكهم أخته ولم ينكروا عليه أسري بكتابهم فنسوه وهو مخالف للنص فإن الله تعالى قال : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } وإذا قلنا للمجوس كتاب كانوا ثلاث طوائف وقال - A - : ( سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ) ولئن كان الأمر على ما قاله علي - Bه - ولكن بعد ما نسوا خرجوا من أن يكونوا أهل كتاب .
فأما الصابئة فإنه يجوز للمسلم عند أبي حنيفة - C تعالى - ويكره ولا يجوز عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - وكذلك ذبائحهم وهذا الاختلاف بناء على أن الصابئين من هم فوقع عند أبي حنيفة - C تعالى - أنهم قوم من النصارى يقرؤون الزبور ويعظمون بعض الكواكب كتعظيمنا القبلة وهما جعلا تعظيمهم لبعض الكواكب عبادة منهم لها فكانوا كعبدة الأوثان وقالا أنهم يخالفون النصارى واليهود فيما يعتقدون فلا يونون من جملتهم ولكن أبو حنيفة - C تعالى - يقول مخالفتهم للنصارى في بعض الأشياء لا تخرجهم من أن يكونوا من جملتهم كبني تغلب فإنهم يخالفون النصارى في الخمور والخنازير ثم كانوا من جملة النصارى .
( قال ) ولا بأس بأن يتزوج الرجل المرأة وبنت زوج قد كان لها من قبل ذلك يجمع بينهما لأنه لا قرابة بينهما وقال ابن أبي ليلى لا يجوز ذلك لأن بنت الزوج لو كان ذكرا لم يكن له أن يتزوج الأخرى لأنها منكوحة أبيه وكل امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا لم تجز المناكحة بينهما فالجمع بينهما نكاحا لا يجوز كالأختين ولكنا نستدل بحديث عبد الله بن جعفر - Bه - فإنه جمع بين امرأة علي - Bه - وابنته .
ثم المانع من الجمع قرابة بين المرأتين أو ما أشبه القرابة في الحرمة كالرضاع وذلك غير موجود هنا وما قاله ابن أبي ليلى - C تعالى - إنما يعتبر إذا تصور من الجانبين كما في الأختين وذلك لا يتصور هنا فإن امرأة الأب لو صورتها ذكرا جاز له نكاح البنت فعرفنا أنهما ليستا كالأختين ولا بأس بأن يجمع بين امرأتين كانتا عند رجل واحد لأنه لا قرابة بينهما وكما جاو للأول أن يجمع بينهما فكذلك للثاني وكذلك لا بأس بأن يتزوج المرأة ويزوج ابنه أمها أو ابنتها فإن محمد بن الحنفية - Bه - تزوج امرأة وزوج ابنتها من ابنه وهذا لأن بنكاح الأم تحرم الأم هي على ابنه فأما أمها وابنتها تحرم عليه لا على ابنه فلهذا جاز لابنه أن يتزوج أمها أو ابنتها والله سبحانه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب