( تابع . . . 2 ) : قال وإذا عطب الصيد بفسطاط المحرم أو بحفيرة حفرها للماء فلا شيء .
والمذهب عند " الشافعي " - C تعالى - أن معنى الغرامة والمقابلة بالمحل يغلب في الفصلين جميعا لأن الواجب مثل المتلف بالنص أما من حيث الصورة أو من حيث القيمة ومثل الشيء إنما يجب في الأصل ليقوم مقامه فكان جانب المحل هو المراعى في الفصلين جميعا وقد ثبت في حق المحرم أن الواجب يتأدى بالصوم بالنص فكذلك في صيد الحرم وأما عندنا الواجب على المحرم بطريق الكفارة فالمعتبر فيه معنى جزاء الفعل لأنه لا حرمة في المحل إنما المحرم في المباشر وهو إحرامه ألا ترى أنه بعد ما حل من إحرامه يجوز له الاصطياد وإن لم يتبدل وصف المحل وجزاء الفعل يجب بطريق الكفارة فأما في صيد الحرم وجوب الجزاء باعتبار وصف ثابت في المحل وهو صفة الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم . ألا ترى أنه إنما يتغير هذا الحكم بتغير وصف المحل بخروجه من الحرم إلى الحل . ألا ترى أنه كما يجب ضمان الصيد بسبب الحرم يجب ضمان النامي من الأشجار النامية في الحرم لما فيها من حياة مثلها وثبوت الأمن لها بسبب الحرم ولا شك أن ما يجب بقطع الأشجار يكون غرم المحل فكذلك ما يجب بقتل صيد الحرم يكون غرم المحل فكان هذا بغرامات المالية أشبه فكما لا مدخل للصوم في غرامات الأموال وإن كان وجوبها لحق الله تعالى كإتلاف مال الزكاة والعشر فكذلك لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم يقرره وهو أنه لما أزال الأمن عن محل أمن لحق الله تعالى فيلزمه بمقابلته إثبات صفة الأمن عن الجوع للمسكين حقا لله تعالى وذلك بالإطعام يحصل دون الصيام فأما في صيد الإحرام لما كان الواجب لارتكابه فعلا محرما حقا لله تعالى يتأدى ذلك بفعل ما هو مأمور به حقا لله تعالى وهو الصيام وفي الهدي روايتان هنا في إحدى الروايتين يقول : لا يتأدى الواجب بإراقة الدم بل بالتصدق باللحم حتى يشترط أن تكون قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد فإن كان دون ذلك لا يتأدى الواجب به وكذلك إن سرق المذبوح لأنه لا مدخل لإراقة الدم في الغرامات وإنما المعتبر فيه التمليك من المحتاج وذلك يحصل في اللحم وفي الرواية الأخرى يقول : يتأدى الواجب بإراقة الدم حتى إذا سرق المذبوح لا يلزمه شيء ويشترط أن تكون قيمته قبل الذبح مثل قيمة الصيد لأن الهدي مال يجب لله تعالى وإراقة الدم طريق صالح لجعل المال خالصا لله تعالى بمنزلة التصدق ألا ترى أن المضحي يجعل الأضحية خالصا لله تعالى بإراقة دمها فكذلك هنا .
قال ومن دخل الحرم بصيد فعليه أن يرسله عندنا وقال " الشافعي " - C تعالى - ليس عليه إرساله لأن الأمن بسبب الحرم يثبت لحق الشرع فإنما يثبت في المباح دون المملوك كالأشجار فإن ما ينبته الناس في الحرم لا يثبت فيه حرمة الحرم وقاس هذا بالاسترقاق فإن الإسلام يمنع الاسترقاق لحق الشرع ثم لا يزيل الرق الثابت قبله فكذا هذا ولكنا نقول حرمة الحرم في حق الصيد كحرمة الإحرام فكما أن الحرمة بسبب الإحرام تثبت في حق الصيد المملوك حتى يجب إرساله فكذلك الحرمة بسبب الحرم وليس هذا نظير الأشجار لأن ما ينبته الناس ليس بمحل لحرمة الحرم أصلا بمنزلة الأهلي من الحيوانات كالإبل والبقر والغنم فأما الصيد مملوكا كان أو غير مملوك فهو محل لثبوت الأمن له بسبب الحرم فإن باع الصيد بعدما أدخله الحرم كان البيع فاسدا يرد إن كان الصيد قائما وإن كان فائتا فعليه جزاؤه لأن حرمة الحرم في الصيد مانعة من بيعه كحرمة الإحرام .
قال رجل أدخل الحرم بازيا أو صقرا فعليه إرساله لأنه صيد ممتنع فيثبت فيه الأمن بسبب الحرم فعليه إرساله كما لو أخذه في الحرم فإن أرسله فجعل يقتل حمامات الحرم لم يكن عليه في ذلك شيء لأنه بالإرسال ما قصد الاصطياد وإنما قصد مباشرة ما هو مستحق عليه وهو رفع اليد عن الصيد الآمن فلا يكون عليه عهدة ما يفعله الصيد بعد ذلك كمن أعتق عبدا من كفارته فجعل العبد يرتكب الكبائر لا يكون على المعتق شيء من ذلك فهذا مثله .
قال ولا خير فيما يرخص فيه أهل " مكة " من الحجل واليعاقيب ولا يدخل الحرم شيئا منها لحديث " ابن عمر " - Bه - أن " عبدالله بن عامر " - Bه - أهدى إليه " بمكة " بيض نعام وظبيين حيين فلم يقبلهما وقال أهديتهما إلي آمنين ما كانا أي ما داما يريد به أنهما صارا آمنين بإدخالهما في الحرم حيين والحجل واليعاقيب من الصيود فبإدخال الحرم إياهما حيين يثبت الأمن فيهما فلا يحل تناول شيء منهما وذلك مروي عن " عائشة " و " الحسين بن علي " - رضي الله تعالى عنهما - وعادة أهل " مكة " في هذا الترخيص بخلاف النص فيكون ساقط الاعتبار فإن ذبحهما قبل أن يدخلهما الحرم فلا بأس بتناولهما في الحرم لأنه إنما أدخل اللحم في الحرم واللحم ليس بصيد .
قال وإن رمى صيدا بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم فعليه جزاؤه لأن جزاء صيد الحرم مبني على الاحتياط ولأنه إذا اجتمع المعني الموجب للحظر والموجب للإباحة في شيء واحد يغلب الموجب للحظر " لقوله A ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال " فلا يحل تناول هذا الصيد لهذا المعنى أيضا قال وإن كان الرامي في الحرم والصيد في الحل فقد بينا أن الاصطياد محرم على من كان في الحرم كما هو محرم على المحرم فهذا وما لو كان الصيد في الحرم سواء وإن كان الرامي في الحل والصيد في الحل إلا أن بينهما قطعة من الحرم فمر فيها السهم فلا شيء عليه ولا بأس بأكله لأنه إن اعتبرنا الرامي فهو حلال في الحل وإن اعتبرنا جانب الصيد فهو صيد الحل وبمرور السهم في هواء الحرم لا تثبت حرمة الحرم في حق الصيد ولا في حق الرامي والسهم ليس بمحل حرمة الحرم فلهذا لا يجب على الرامي شيء ولا بأس بأكله .
قال وإن جرح صيدا في الحل وهو حلال فدخل الحرم ثم مات فيه لم يكن عليه جزاؤه لأن فعله في وقت الجرح كان مباحا والسراية أثر الفعل فإذا لم يكن أصل فعله موجبا للجزاء لا يكون أثره موجبا كمن جرح مرتدا فأسلم ثم مات وفي القياس لا بأس بأكل هذا الصيد لأن فعله كان مذكيا له موجبا للحل حتى لو مات منه في الحل حل تناوله ولكنه كره أكله استحسانا لما بينا أن حل التناول حكم يثبت عند زهوق الروح عنه وعند ذلك هو صيد الحرم فاعتبار هذا الجانب يحرم التناول واعتبار جانب الجرح يبيح تناوله فيترجح الموجب للحرمة على الموجب للحل .
قال وإذا ذبح الهدي في جزاء الصيد بالكوفة وتصدق به لم يجزه من الهدي لأن إراقة الدم لا يكون قربة إلا في وقت مخصوص أو مكان مخصوص وهو الحرم كيف وقد نص الله تعالى على التبليغ إلى الحرم هنا بقوله D { " هديا بالغ الكعبة " } ولكن إن كانت قيمة اللحم بعد الذبح مثل قيمة الصيد أجزأه من الطعام إذا أصاب كل مسكين قيمة نصف صاع على قياس كفارة اليمين إذا كسى عشرة مساكين ثوبا واحدا أجزأه من الطعام دون الكسوة إن كانت قيمة ما أصاب كل مسكين قيمة نصف صاع من حنطة أو أكثر .
قال وإذا أراد الصوم بالكوفة فذلك جائز في حق المحرم لأن الصوم قربة في أي موضع كان فأما صيد الحرم في حق الحلال فقد بينا أنه لا مدخل للصوم فيه إلا أن يكون محرما أصاب الصيد في الحرم فحينئذ تتأدى كفارته بالصوم لأن في حق المحرم لا يظهر حرمة الحرم فالواجب عليه كفارة ألا ترى أنها لا تتجزى فلهذا يتأدى بالصوم وعلى هذا لو دل محرم على صيد في الحرم وجب عليه الجزاء بخلاف الحلال إذا دل على صيد الحرم لا يلزمه الجزاء كالمحرم بناء على أصله أن الواجب عليه كفارة حتى تتأدى بالصوم فيكون الدال فيه كالمباشر وقد روي عن " أبي يوسف " - C تعالى - في هذا الفصل مثل قول " زفر " C تعالى .
قال وإذا أكل المحرم من جزاء الصيد فعليه قيمة ما أكل لأن حق الله تعالى بالتصدق تعلق بالمذبوح فإذا صرفه إلى حاجته صار ضامنا قيمته للمساكين وكذلك إن أكله بعد ما ذبحه " بمكة " فعليه قيمته مذبوحا بخلاف ما إذا سرق فإن الهدي قد بلغ محله حين ذبحه " بمكة " وبقي وجوب التصدق معلقا بعين المذبوح فإذا هلك من غير صنعه لا يلزمه شيء وإذا استهلكه بالأكمل فعليه ضمان قيمته للفقراء بمنزلة مال الزكاة فإذا تصدق بهذه القيمة على مسكين واحد أجزأه بمنزلة اللحم إذا تصدق به على مسكين بخلاف ما إذا اختار التكفير بالإطعام فإنه لا يجزئه إلا أن يطعم كل مسكين نصف صاع لأن طعام الكفارة في حق كل مسكين مقدر بنصف صاع كما في كفارة اليمين فأما في الهدي التكفير يحصل بإراقة الدم دون التصدق باللحم ثم التصدق بعد ذلك يلزمه باعتبار أنه صار لله تعالى خالصا فهو بمنزلة الزكاة فإن شاء صرف الكل إلى مسكين واحد وإن شاء فرقه على المساكين وفي التكفير بالطعام إذا أعطى كل مسكين نصف صاع ففضل مد تصدق به على مسكين واحد بمنزلة ما لو كان الواجب هذا المقدار يتصدق به على مسكين واحد وإن اختار الصوم يصوم باعتبار هذا المد يوما كاملا أو يطعم لأن الصوم لا يكون أقل من يوم وله أن يفرق الصوم في جزاء الصيد لأنه مطلق في كتاب الله D قال الله تعالى { " أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره " } فإن شاء تابع وإن شاء فرق .
قال وإذا قتل المحرم الجراد فعليه فيه القيمة لأن الجراد من صيد البر وقد روي عن " عمر بن الخطاب " - Bه - أنه قال تمرة خير من جرادة وقصة هذا الحديث أن أهل حمص أصابوا جرادا كثيرا في إحرامهم فجعلوا يتصدقون مكان كل جرادة بدرهم فقال " عمر " - Bه - أرى دراهكم كثيرة يا أهل حمص تمرة خير من جرادة .
قال وليس على المحرم في قتل البعوض والذباب والنمل والحلمة والقراد شيء لأن هذه الأشياء ليست من الصيود فإنها لا تنفر من بني آدم ولو كانت من الصيود كانت مؤذية بطبعها فلا شيء على المحرم فيها وقد روي عن " عمر " - Bه - أنه كان يقرد بعيره في إحرامه وقال " ابن عباس " - Bه - " لعكرمة " مولاه فم فقرد البعير فقال أنا محرم فقال لو أمرتك بنحره هل كنت تنحره قال نعم فقال كم من قراد وحمنانة تقتل بالنحر بين أنه ليس على المحرم في القراد والحمنانة شيء ويكره له قتل القملة لا لأنه صيد ولكن لأنه ينمو من بدنه فيكون قتله من قضاء التفث والمحرم ممنوع من ذلك بمنزلة إزالة الشعر فإن قتلها فما تصدق به فهو خير من القملة إذ لا خير في القمل كما قال " علي " - Bه - القملة ضالة لا تلتمس فلهذا يخرج عن الواجب بما يتصدق به من قليل أو كثير .
قال ولا بأس للمحرم أن يغتسل فإن " عمر " - Bه - اغتسل وهو محرم وإنما أورد هذا لأن من الناس من كره ذلك ويقول إن الماء يقتل هوام الرأس وليس كذلك بل الماء لا يزيده إلا شعثا .
قال ولو أن حلالا أصاب بيضا من بيض الصيد فأعطاه محرما فشواه فعلى المحرم جزاؤه لأن البيض أصل الصيد وقد أفسده المحرم بفعله فعليه جزاؤه ولا بأس بأكله بخلاف الصيد إذا قتله المحرم لأنه إنما يحرم بفعل المحرم ما يحتاج في حله إلى الذكاة ولا حاجة إلى الذكاة في حل تناول البيض ألا ترى أن المسلم والمجوسي فيه سواء فكذا المحرم والحلال ووجوب الجزاء على المحرم لا يوجب الحرمة كما لو دل حلالا على صيد يلزمه الجزاء ولا يحرم به تناول الصيد .
قال محرم أصاب صيدا كثيرا على قصد الإحلال والرفض لإحرامه فعليه لذلك كله دم عندنا وقال " الشافعي " - C تعالى - عليه جزاء كل صيد لأنه مرتكب محظور الإحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاؤه كما لو لم يقصد رفض الإحرام وهذا لأن قصده هذا ليس بشيء لأن إحرامه لا يرتفض بقتل الصيد فكان وجود هذا القصد كعدمه وهو بناء على أصله أن في وجوب الجزاء العبرة للمحل دون الفعل فلا معتبر بقصده إلى الرفض بفعله ولكنا نقول أن قتل الصيد من محظورات الإحرام وارتكاب محظورات العبادة يوجب ارتفاضها كالصوم والصلاة إلا أن الشرع جعل الإحرام لازما لا يخرج منه إلا بأداء الأعمال ألا ترى أنه حين لم يكن لازما في الابتداء كان يرتفض بارتكاب المحظور وكذلك الأمة إذا أحرمت بغير إذن مولاها أو المرأة إذا أحرمت بغير إذن زوجها بحجة التطوع لما لم يكن ذلك لازما في حق الزوج كان له أن يحللها بفعل شيء من المحظورات بها فكان هو في قتل الصيود هنا قاصدا إلى تعجيل الإحلال لا إلى الجنابة على الإحرام وتعجيل الإحلال يوجب دما واحدا كما في حق المحرم بخلاف ما إذا لم يكن على قصد رفض الإحرام لأنه قصد الجناية على الإحرام بقتل كل صيد فيلزمه جزاء كل صيد وقد بينا أن حكم جزاء الصيد في حق المحرم ينبني على قصده حتى أن ضارب الفسطاط لا يكون ضامنا للجزاء بخلاف ناصب الشبكة .
قال ولا يتصدق من جزاء الصيد على والده وولده بمنزلة الزكاة وصدقة الفطر فإنه مال وجب التصدق به لحق الله تعالى وإن أعطى منه ذميا أجزأه إلا أن في رواية عن " أبي يوسف " - C تعالى - حيث كل صدقة واجبة لا يجوز صرفها إلى فقراء أهل الذمة وقد بينا هذه الفصول في كتاب الصوم فهو على ما ذكرناه ثمة .
قال وإذا بلغ جزاء الصيد جزورا فهو أحب إلي من أن يشتري بقيمته أغناما لأن المندوب إليه التعظيم في الهدايا قال الله تعالى { " ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " } فما كان أقرب إلى التعظيم فهو أولى وإن اشترى أغناما فذبحها وتصدق بها أجزأه على قياس سائر الهدايا نحو هدي الإحصار وهدي المتعة .
( يتبع . . . )