قال ويستحب للحاج أن يصلي الظهر يوم التروية " بمنى " ويقيم بها إلى صبيحة عرفة هكذا علم " جبرائيل " - عليه السلام - " إبراهيم " - صلوات الله عليه - حين وقفه على المناسك فإنه خرج به يوم التروية إلى " منى " فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم عرفة " بمنى " وإنما سمي يوم التروية لأن الحاج يروون فيه " بمنى " أو لأنهم يروون ظهورهم فيه " بمنى " ففي هذه التسيمة ما يدل على أنه ينبغي لهم أن يكونوا " بمن " ى يوم التروية وإن صلى الظهر " بمكة " ثم راح إلى " منى " لم يضره لأنه لا يتعلق " بمنى " في هذا اليوم نسك مقصود فلا يضره تأخير إتيانه وإن بات " بمكة " ليلة عرفة .
صفحة [ 53 ] وصلى بها الفجر ثم غدا منها إلى " عرفات " ومر " بمنى " أجزأه لما بينا وقد أساء في تركه الاقتداء برسول الله - A - فإنه أقام " بمنى " يوم التروية كما رواه " جابر " - Bه - مفسرا قال ثم ينزل حيث أحب من " عرفات " ويصعد الإمام المنبر بعد الزوال ويؤذن المؤذن وهو عليه فإذا فرغ قام الإمام يخطب فحمد الله وأثنى عليه ولبى وهلل وكبر وصلى على النبي - A - ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم ودعى الله تعالى بحاجته وقد بينا هذا فيما سبق والحاصل أن في الحج عندنا ثلاث خطب . إحداها قبل التروية بيوم والثانية يوم عرفة " بعرفات " والثالثة في الغد من يوم النحر " بمنى " فيخطب " بمكة " قبل التروية بيوم يعلمهم كيف يحرمون بالحج وكيف يخرجون منها إلى " منى " وكيف يتوجهون إلى " عرفات " وكيف ينزلون بها ثم يمهلهم يوم التروية حتى يعملوا بما علمهم ثم يخطب يوم عرفة خطبة يعلمهم فيها ما يحتاجون إليه في هذا اليوم وفي يوم النحر ثم يمهلهم يوم النحر ليعملوا بما علمهم ثم يخطب في اليوم الثاني من أيام النحر خطبة يعلمهم فيها بقية ما يحتاجون إليه من أمور المناسك وعن " زفر " - C تعالى - قال يخطب يوم التروية " بمنى " ويوم عرفة " بعرفات " ويوم النحر " بمنى " لأنه يوم التروية يحرم بالحج ويوم عرفة يقف ويوم النحر يطوف بالبيت وأركان الحج هذه الأشياء الثلاثة فيخطب في كل يوم يأتي فيه بذلك الركن ثم بين في الكتاب كيفية الجمع بين الصلاتين بعرفة واشتراط الإمام فيها عند " أبي حنيفة " - C تعالى - وقد تقدم بيان هذا الفصل بتمامه .
قال ومن أدرك مع الإمام شيئا من كل صلاة فهو كإدراك جميع الصلاة في أنه يجوز له الجمع بينهما على قياس الجمعة إذا أدرك الإمام في التشهد منها كان مدركا الجمعة .
قال وإن كان الإمام سبقه الحدث في الظهر فاستخلف رجلا فإنه يصلي بهم الظهر والعصر لأن الإمام أقامه مقام نفسه فيما كان عليه أداؤه وكان عليه أداء الصلاتين فيقوم خليفته مقامه في ذلك .
قال فإن رجع الإمام فأدرك معه جزء من صلاة العصر جمع بين الصلاتين لأنه مدرك لأول الظهر ومدرك لآخر العصر وإن لم يرجع حتى فرغ خليفته من العصر فإن الإمام لا يصلي العصر ما لم يدخل وقتها في قول " أبي حنيفة " - C تعالى - وهذه المسألة تدل على أن من أصل " أبي حنيفة " - C تعالى - أن الجماعة شرط في الجمع بين الصلاتين هنا كالإمام وإنه بمنزلة الجمعة في هذا وقد ذكر بعد هذا أنه إذا نفر الناس عنه فصلى وحده الصلاتين أجزأه فهو دليل على أن الجماعة فيه ليس بشرط وقيل ما ذكر .
صفحة [ 54 ] بعد هذا قولهما : لأنه أطلق الجواب وهنا نص على قول " أبي حنيفة " وقيل بل فيه روايتان عن " أبي حنيفة " - C تعالى - في إحدى الروايتين جعلها كالجمعة في اشتراط الجماعة فيها وفي الرواية الأخرى فرق بينهما فقال اشتراط الجماعة هناك لتسمية تلك الصلاة جمعة وفي هذا الموضع إنما سمى هاتين الصلاتين الظهر والعصر وليس في هذا الاسم ما يدل على اشتراط الجماعة ومعنى الجمع هنا منصرف إلى الصلاتين لا إلى المؤدين لهما فلا تشترط الجماعة فيهما .
قال وليس في هاتين الصلاتين القراءة جهرا إلا على قول " مالك " - C تعالى - فإنه يقول يجهر بالقراءة فيها لأنها صلاة مؤداة بجمع عظيم فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين ولكنا نقول أن رواة نسك رسول الله A - لم ينقلوا أنه جهر في هاتين الصلاتين بالقراءة وهما يؤديان في هذا المكان كما يؤديان في غيره من الأمكنة وفي غير هذا اليوم فلا يجهر بالقراءة فيهما " عملا بقوله A صلاة النهار عجماء " أي ليس فيها قراءة مسموعة .
قال وإن خطب قبل الزوال أو ترك الخطبة وصلى الصلاتين معا أجزأه وقد أساء في تركه الاقتداء برسول الله - A - فإن الخطبة ليس من شرائط هذا الجمع بخلاف الجمعة وقد بينا ذلك فهذه خطبة وعظ وتذكير وتعليم لبعض ما يحتاج إليه في الوقت فتركها لا يوجب إلا الإساءة كترك الخطبة في العيدين .
قال وإن كان يوم غيم فاستبان أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعده فالقياس أنه يعيد الظهر وحدها لأن العصر مؤداة في وقتها وحين أدى العصر ما كان ذاكرا للظهر فيكون في معنى الناسي والترتيب يسقط بالنسيان ولكن استحسن أن يعيد الخطبة والصلاتين جميعا لأن شرط صحة العصر في هذا اليوم تقديم الظهر عليه على وجه الصحة فإن العصر معجل على وقته وهذا التعجيل للجمع فإنما يحصل الجمع بأداء العصر إذا تقدم أداء الظهر بصفة الصحة فإذا تبين أن الظهر لم يكن صحيحا كان عليه إعادة الصلاتين جميعا .
قال وإن أحدث الإمام بعد الخطبة قبل أن يدخل في الصلاة فأمر رجلا قد شهد الخطبة أو لم يشهد أن يصلي بهم أجزأهم لأن الخطبة ليست من شرائط هذا الجمع .
قال وإن تقدم رجل من الناس بغير أمر الإمام فصلى بهم الصلاتين جميعا لم يجزهم في قول " أبي حنيفة " - C تعالى - لأن هذا الإمام شرط هذا الجمع عنده .
قال وإن مات الإمام فصلى بهم خليفته أو ذو سلطان أجزأهم لأن خليفته قائم مقامه فهو بمنزلة ما لو صلى الإمام بنفسه وإن لم يكن فيهم ذو سلطان صلى كل صلاة لوقتها .
صفحة [ 55 ] بمنزلة الجمعة .
قال ولا جمعة بعرفة يعني إذا كان الناس يوم الجمعة " بعرفات " لا يصلون الجمعة بها لأن المصر من شرائط الجمعة و " عرفات " ليس في حكم المصر إذ ليس لها أبنية إنما هي فضاء وليست من فناء " مكة " لأنها من الحل بخلاف " منى " عند " أبي حنيفة " - C تعالى - و " أبي يوسف " لأنها من فناء " مكة " ولأنها بمنزلة المصر في هذه الأيام لما فيها من الأبنية والأسواق المركبة وقد بينا هذا في الصلاة .
قال ومن وقف بعرفة قبل الزوال لم يجزه ومن وقف بعد زوال الشمس أو ليلة النحر قبل انشقاق الفجر أو مر بها مجتازا وهو يعرفها أو لا يعرفها أجزأه فالحاصل أن ابتداء وقت الوقوف بعد الزوال عندنا وقال " مالك " - C تعالى - من طلوع الشمس لأن هذا اليوم مسمى بأنه يوم عرفة فإنما يصير اليوم مطلقا من وقت طلوع الفجر فتبين أن وقت الوقوف من ذلك الوقت واستدل بقوله - " A - الحج عرفة " فمن وقف بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه والنهار اسم للوقت من طلوع الشمس سمي نهارا لجريان الشمس فيه كالنهر يسمى نهرا لجريان الماء فيه وحجتنا في ذلك أن النبي - A - إنما وقف بعد الزوال فكان مبينا وقت الوقوف بفعله فدل أن ابتداء الوقوف بعد الزوال والدليل عليه ما روينا من حديث " ابن عمر " - Bه - أنه قال للحجاج بعد الزوال إن أردت السنة فالساعة ولا يبعد أن يسمى اليوم بهذا الاسم وإن كان وقت الوقوف بعد الزوال كيوم الجمعة صار وقتا لأداء الجمعة بعد الزوال مع أن اليوم مسمى بهذا الاسم .
ثم الأصل فيما قلنا " حديث " عروة بن مضرس بن لام الطائي " - C تعالى - أنه جاء إلى النبي - A - صبيحة الجمع وهو بالمشعر الحرام . فقال أكللت راحلتي وأجهدت نفسي وما مررت بجبل من الجبال إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال - A - من وقف معنا هذا الموقف وصلى معنا هذه الصلاة وقد كان أفاض قبل ذلك من " عرفات " ساعة من ليل أو نهار فقد تم " . قال ومن وقف بعرفة بعد الزوال ثم أفاض من ساعته أو أفاض قبل غروب الشمس أو صلى بها الصلاتين ولم يقف وأفاض أجزأه عندنا وعلى قول " مالك " - C تعالى - لا يجزئه إلا أن يقف في اليوم وجزء من الليل وذلك بأن تكون إفاضته بعد غروب الشمس واستدل " بقوله - A - من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج " ولكنا نقول هذه الزيادة غير مشهورة وإنما المشهور ما رواه في الكتاب ومن فاته عرفة فقد فاته الحج وفيما روينا وهو " قوله - A - ساعة من ليل أو .
صفحة [ 56 ] نهار " دليل على أن بنفس الوقوف في وقته يصير مدركا للحج وإن لم يستدم الوقوف إلى وقت غروب الشمس ثم يجب عليه الدم إذا أفاض قبل غروب الشمس لأن نفس الوقوف ركن واستدامته إلى غروب الشمس واجبة لما فيها من إظهار مخالفة المشركين فعله رسول الله - A - وأمر به وترك الواجب يوجب الجبر بالدم فإن رجع ووقف بها بعد ما غابت الشمس لم يسقط الدم إلا في رواية " ابن شجاع " عن " أبي حنيفة " - رحمهما الله تعالى - فإنه يقول يسقط عنه الدم قال : لأنه استدرك ما فاته وأتى بما عليه لأن الواجب عليه الإفاضة بعد غروب الشمس وقد أتى به فيسقط عنه الدم كمن جاوز الميقات حلالا ثم عاد إلى الميقات وأحرم وفي ظاهر الرواية لا يسقط عنه الدم لأن الواجب على من وصل إلى " عرفات " بعد الزوال استدامة الوقوف إلى غروب الشمس ولم يتدارك ذلك بالانصراف بعد الشمس فلا يسقط عنه الدم وإن عاد قبل غروب الشمس حتى أفاض مع الإمام فذكر " الكرخي " في مختصره أن الدم يسقط عنه لأن الواجب عليه الإفاضة مع الإمام بعد غروب الشمس وقد تدارك ذلك في وقته ومن أصحابنا من يقول لا يسقط الدم هنا أيضا لأن استدامة الوقوف قد انقطعت بذهابه فبرجوعه لا يصير وقوفه مستداما بل ما فات منه لا يمكنه تداركه فلا يسقط عنه الدم .
قال وإذا أغمي على المحرم فوقف به أصحابه " بعرفات " أجزأه ذلك لأنه تأدى الوقوف بحصوله في الموقف في وقت الوقوف ألا ترى أنه لو مر " بعرفات " مار وهو لا يعلم بها في وقت الوقوف أجزأه ولا يبعد أن يتأدى ركن العبادة من المغمى عليه كما يتأدى ركن الصوم وهو الإمساك بعد النية من المغمى عليه .
قال ووقوف الجنب والحائض ومن صلى صلاتين ومن لم يصل جائز لأن الوقوف غير مختص بالبيت فلا تكون الطهارة شرطا فيه وفرضية الصلاة عليه غير متصل بالوقوف فتركها لا يؤثر في الوقوف كما لا يؤثر في الصوم .
قال وإن وقف القارن بعرفة قبل أن يطوف للعمرة فهو رافض لها إن نوى الرفض وإن لم ينو لأن المعنى المعتبر تعذر أداء العمرة بعد الوقوف وهذا متحقق نوى الرفض أو لم ينو ولم يذكر في الكتاب ما إذا اشتبه يوم عرفة على الناس بأن لم يروا هلال ذي الحجة وهو مروي عن " محمد " - C تعالى - قال إذا نحروا ووقفوا بعرفة في يوم فإن تبين أنهم وقفوا في يوم التروية لا يجزيهم وإن تبين أنهم وقفوا يوم النحر أجزأهم استحسانا وفي القياس لا يجزيهم لأن الوقوف مؤقت بوقت مخصوص فلا يجوز بعد ذلك الوقت كصلاة الجمعة .
صفحة [ 57 ] ولكنه استحسن " لقوله - A - عرفتكم يوم تعرفون وفي رواية حجكم يوم تحجون " والحاصل أنهم بعد ما وقفوا بيوم إذا جاء الشهود ليشهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك لا ينبغي للقاضي أن يستمع إلى هذه الشهادة ولكنه يقول قد تم للناس حجهم ولا مقصود في شهادتهم سوى ابتغاء الفتنة فإن جاؤوا فشهدوا عشية عرفة فإن كان بحيث يتمكن فيه الناس من الخروج إلى " عرفات " قبل طلوع الفجر قبل شهادتهم وأمر الناس بالخروج ليقفوا في وقت الوقوف وإن كان بحيث لا يتمكن من ذلك لا يستمع إلى شهادتهم ويقف الناس في اليوم الثاني ويجزئهم .
قال وإن جامع القارن بعرفة قبل زوال الشمس وقد طاف لعمرته فعليه دمان ويفرغ من حجته وعمرته وعليه قضاء الحج وهنا فصول :