صفحة [ 2 ] قال : الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام " أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي " - C تعالى - اعلم أن الحج في اللغة القصد ومنه قول القائل : .
وأشهد من عوف حلولا كثيرة .
يحجون سب الزبرقان المزعفرا .
أي يقصدون له معظمين إياه وفي الشريعة عبارة عن زيارة البيت على وجه التعظيم لأداء ركن من أركان الدين عظيم ولا يتوصل إلى ذلك إلا بقصد وعزيمة وقطع مسافة بعيدة فالاسم شرعي فيه معنى اللغة والمناسك جمع النسك والنسك اسم لكل ما يتقرب به إلى الله D ومنه سمي العابد ناسكا ولكنه في لسان الشرع عبارة عن أركان الحج قال الله تعالى : { " فإذا قضيتم مناسككم " } البقرة : 200 وفرضية الحج ثابتة بالكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى : { " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " } وآكد ما يكون من ألفاظ الإلزام كلمة على وأما السنة " فقول رسول الله - A - : من وجد زادا وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج حتى مات فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا وفي رواية فليمت على أي ملة شاء سوى ملة الإسلام " وتلا قوله تعالى : " من كفر فإن الله غني عن العالمين " آل عمران : 97 .
وسبب وجوب الحج ما أشار الله تعالى إليه في قوله { " حج البيت " } فالواجبات تضاف إلى أسبابها ولهذا لا يجب في العمر إلا مرة واحدة لأن سببه وهو البيت غير متكرر والأصل فيه " حديث " الأقرع بن حابس " - رضي الله تعالى عنه - حيث قال : يا رسول الله الحج في كل عام أم مرة ؟ فقال A بل مرة فما زاد فتطوع " والوقت فيه شرط الأداء وليس بسبب ولهذا لا يتكرر بتكرر الوقت إلا أن أركان هذه العبادة متفرقة على الأمكنة والأزمنة .
صفحة [ 3 ] فلا يجوز إلا بمراعاة الترتيب فيها ولهذا لا يتأدى طواف الزيارة قبل الوقوف كما لا يتأدى السجود في فصل الصلاة قبل الركوع والمال شرط يتوصل به إلى الأداء ولهذا لا يتحقق الأداء من فقير لا مال له فرضا وأركان هذه العبادة الأفعال والمال ليس بسبب فيه ولكنه معتبر ليتيسر به الوصول إلى مواضع إداء أركانه ثم بدأ الكتاب فقال : إذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء الله اقتد بكتاب الله تعالى في ذكر الاستثناء في قوله تعالى : { " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " } الفتح : 27 وقيل إن " أبا حنيفة " - C تعالى - خاطب " أبا يوسف " - C تعالى - والواحد يشك في حاله أنه يحج أو لا يحج فقيد بالاستثناء وتفرس فيه أنه يحج فما أخطأت فراسته قال : فاغتسل أو توضأ والغسل فيه أفضل هكذا " روي أن النبي - A - تجرد لإهلاله فاغتسل " رواه " خارجة بن زيد بن ثابت " - Bه - وهذا الاغتسال ليس بواجب لما " روي أن " أبا بكر " - رضى الله عنه - قال لرسول الله - A - إن أسماء قد نفست قال : مرها فلتغتسل ولتحرم بالحج " ومعلوم أن الاغتسال الواجب مع النفاس والحيض لا يتأدى فعرفنا أن هذا الاغتسال لمعنى النظافة وما كان لهذا المقصود فالوضوء يقوم مقامه كما في العيدين والجمعة ولكن الغسل أفضل لأن معنى النظافة فيه أكمل ثم ألبس ثوبين إزارا ورداء جديدين أو غسيلين هكذا " ذكر " جابر " - Bه - أن النبي - A - ائتزر وارتدى عند إحرامه " ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط ولا بد له من ستر العورة فتعين للستر الارتداء والائتزار والجديد والغسيل في هذا المقصود سواء غير أن الجديد أفضل " لقوله - A " - " لأبي ذر " - Bه - تزين لعبادة ربك .
قال : وادهن بأي دهن شئت " وهو الظاهر من المذهب عندنا . أنه لا بأس بأن يتطيب ويدهن قبل إحرامه بما شاء وروي عن " محمد " - C تعالى - قال : كنت لا أرى بذلك بأسا حتى رأيت أقواما يحضرون طيبا كثيرا ويصنعون شيئا شنعا فكرهت ذلك وهو قول " مالك " - C تعالى - وقد نقل عن " عمر " و " عثمان " - Bهما - كراهة ذلك وحجة هذا القول " حديث الأعرابي حيث جاء إلى رسول الله - A - وعليه جبة متضمخة أي متلطخة بالخلوق فسأله عن العمرة فلم يجبه حتى نزل عليه الوحي فلما سرى عنه قال أين السائل عن العمرة فقال الأعرابي ها أنا يا رسول الله فقال - A - أما جبتك فانزعها وأما الخلوق فاغسله واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجتك " فقد أمره بإزالة الطيب عن نفسه عند الإحرام ولنا " حديث " عائشة " - Bها .
صفحة [ 4 ] - قالت كنت أطيب رسول الله - A - لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يزور البيت " وفي رواية كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله - A بعد إحرامه فتطيبوا " و " عن " عائشة " - Bها - قالت كنا نخرج مع رسول الله - A - متضمخا جباهنا بالمسك ثم نحرم فنعرق فيسيل على وجوهنا ورسول الله - A - يرى ذلك ولا يكرهه " .
وتأويل حديث الأعرابي أنه كره الخلوق له لكونه بمنزلة الثوب المورس والمزعفر ومعنى كراهة " محمد " - C تعالى - لاستعمال الطيب الكثير أنه بعد الإحرام ربما ينتقل على بدنه من موضع إلى موضع فيكون ذلك بمنزلة التطيب ابتداء بعد الإحرام في الموضع الثاني ولكن هذا ليس بقوي فإنه لا تلزمه الكفارة بهذا ولو كان بهذه المنزلة لوجب عليه الكفارة واختلف مشايخنا - رحمهم الله تعالى - فيما إذا تطيب بعد إحرامه وكفر ثم تحول الطيب مع عرقه من موضع إلى موضع فمنهم من يقول لا تلزمه كفارة جديدة لأن أصل فعله قد انقطع بالتكفير فلا معتبر بأثره كما لو فعله قبل الإحرام ومنهم من قال تلزمه كفارة أخرى هنا لأن أصل فعله كان محظورا فتحوله من موضع إلى موضع يكون جناية أيضا في حكم الكفارة بخلاف ما قبل الإحرام فإن أصل فعله لم يكن محظورا ثم لا معتبر ببقاء الأثر بعد الإحرام إذا كان أصل فعله قبل الإحرام كالحلق ثم قال : وصلى ركعتين " لحديث " عمر " - Bه - أن النبي - A - قال : أتاني آت من ربي وأنا بالعقيق فقال صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل لبيك بحجة وعمرة معا " وفيما " ذكر " جابر " - Bه - إن النبي - A - صلى بذي الحليفة ركعتين عند إحرامه ثم قال : وقل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني " لأنه محتاج في أداء أركانه إلى تحمل المشقة ويبقي في ذلك أياما فيطلب التيسير من الله تعالى إذ لا يتيسر للعبد إلا ما يسره الله تعالى ويسأل القبول كما فعله " الخليل " و " إسماعيل " - صلوات الله عليهما - في قولهما ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ولم يأمر بمثل هذا الدعاء لمن يريد افتتاح الصلاة : لأن أداءها يسير عادة ولا تطول في أدائها المدة فأما أركان الحج متفرقة على الأمكنة والأزمنة ولا يؤمن فيها اعتراض الموانع عادة فلهذا أمر بتقديم سؤال التيسير .
قال : ثم لب في دبر صلواتك تلك فإن شئت بعد ما يستوي بك بعيرك والكلام فيه في فصول : .
أحدها : في اشتقاق التلبية لغة فقيل هو مشتق من قولهم ألب الرجل إذا أقام في مكان فمعنى قول القائل لبيك أنا مقيم على طاعتك وقيل هو مشتق من قولهم .
صفحة [ 5 ] داري تلب دارك أي تواجهها فمعنى قوله لبيك اتجاهي لك يا رب وقيل هو مشتق من قولهم امرأة لبة أي محبة لزوجها فمعناه محبتي لك يارب .
والثاني : أن المختار عندنا أن يلبي من دبر صلواته وهذا قول " ابن عباس " - Bه - وكان ابن " عمر " - Bه - يقول يلبي حين تستوي به راحلته و " ذكر " جابر " - Bه - أن النبي - A - لبى حين علا البيداء " إلا أن " ابن عمر " - Bه - رد هذا فقال : إن بيداءكم هذه تكذبون فيها على رسول الله - A - وإنما لبى رسول الله - A - حين استوت به راحلته و " عن " سعيد بن جبير " - Bه - قال قلت " لابن عباس " - Bه - كيف اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله - A - وما حج إلا مرة واحدة قال : لبى رسول الله - A - في دبر صلواته فسمع ذلك قوم من أصحابه - رضوان الله عليهم - أجمعين فنقلوه وكان القوم يأتونه أرسالا فلبى حين استوت به راحلته فسمع تلبيته قوم فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا ذلك ثم لبى حين علا البيداء فسمعه آخرون فظنوا أنه أول تلبيته فنقلوا ذلك وأيم الله ما أوجبها إلا في مصلاه " والثالث أنه لا خلاف أن التلبية جواب الدعاء والكلام في أن الداعي من هو فقيل الداعي هو الله تعالى كما قال تعالى : { " فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم " } إبراهيم : 10 . وقيل الداعي رسول الله - A - كما " قال صلوات الله عليه إن سيدا بنى دارا واتخذ فيها مأدبة وبعث داعيا وأراد بالداعي نفسه " والأظهر أن الداعي هو " الخليل " - صلوات الله عليه - على ما روي أنه لما فرغ من بناء البيت أمر بأن يدعو الناس إلى الحج فصعد " بأبي قبيس " وقال ألا إن الله تعالى أمر ببناء بيت له وقد بنى ألا فحجوه فبلغ الله صوته الناس في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم فمنهم من أجاب مرة ومنهم من أجاب مرتين وأكثر من ذلك وعلى حسب جوابهم يحجون وبيان هذا في قوله تعالى : { وأذن في الناس بالحج } الآية فالتلبية إجابة لدعاء الخليل صلوات الله عليه وسلامه ثم صفة التلبية أن يقول لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك هكذا رواه " ابن عمر " و " ابن مسعود " - Bهما - في صفة تلبية رسول الله - A - ومن أهل اللغة من اختار نصب الألف في قوله إن الحمد ومعناه لأن الحمد أو بأن الحمد فأما المختار عندنا الكسر وهو المروي عن " محمد " - C تعالى - ووافقه الفراء لأن بكسر الألف يكون ابتداء الثناء وبنصب الألف يكون وصفا لما تقدم وابتداء الثناء أولى ولا بأس عندنا في الزيادة على هذه التلبية وبين العلماء اختلاف يأتي في موضعه إن .
صفحة [ 6 ] شاء الله تعالى فظاهر المذهب عندنا أن غير هذا اللفظ من الثناء والتسبيح يقوم مقامه في حق من يحسن التلبية أو لا يحسن وكذلك لو أتي به بالفارسية فهو والعربية سواء أما على قول " أبي حنيفة " فظاهر لأنا قد بينا مذهبه في التكبير عند افتتاح الصلوات أن المعتبر ذكر الله تعالى على سبيل التعظيم وأن لفظ الفارسية والعربية فيه سواء فكذلك هنا و " محمد " - C تعالى - هناك يقول لا يتأدى بالفارسية ممن يحسن العربية وهنا يتأدى لأن غير الذكر هنا يقوم مقام الذكر وهو تقليد الهدي فكذلك غير العربية يقوم مقام العربية بخلاف الصلوات وبهذا يفرق " أبو حنيفة " و " أبو يوسف " - رحمهما الله تعالى - بين التلبية والتكبير عند افتتاح الصلوات وقد روى " الحسن " عن " أبي يوسف " - رحمهما الله تعالى - أن غير التلبية من الأذكار لا يقوم مقام التلبية هنا كما في الصلوات على قوله ولا يصير محرما بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية هنا كما في الصلوات على قوله : ولا يصير محرما بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية أو ما يقوم مقامها خلافا " للشافعي " - C تعالى - وبيانه يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
قال : والمستحب رفع الصوت بالتلبية هكذا " روى " خلاد بن السائب " أن النبي - A - قال : أمرني " جبريل " - عليه السلام - أن آمر أمتي أو من معي بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " " وقال A أفضل الحج العج والثج " فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة الدم والمستحب عندنا في الأذكار والدعاء الخفية إلا فيما تعلق بإعلانه مقصود كالأذان للإعلام والخطبة للوعظ وتكبيرات الصلوات لإعلام التحرم والانتقال والقراءة لإسماع المؤتم فالتلبية للشروع فيما هو من إعلام الدين فلهذا كان المستحب رفع الصوت به .
قال : فإذا لبيت فقد أحرمت يعني إذا نويت ولبيت إلا أنه لم يذكر النية لتقدم الإشارة إليها في قوله : اللهم إني أريد الحج قال : فاتق ما نهى الله عنه من قتل الصيد والرفث والفسوق والجدال أما قتل الصيد فالمحرم منهي عنه في قوله تعالى : { " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم " } والصيد محرم عليه ما دام محرما لقوله تعالى : { " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " } وأما الرفث والفسوق والجدال فالنهي عنها في قوله تعالى : { " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " } فهو نهي بصيغة النفي وهذا آكد ما يكون من النهي وفي تفسير الرفث قولان .
أحدهما : الجماع بيانه في قوله تعالى : { " أحل لكم ليلة الصيام الرفث " } .
والثاني : الكلام الفاحش إلا أن " ابن عباس " - Bه - كان يقول : إنما يكون الكلام الفاحش رفثا بحضرة النساء حتى روي أنه كان ينشد في إحرامه : .
وهن يمشين بنا هميسا .
إن تصدق الطير ننك لميسا .
صفحة [ 7 ] لميس اسم جاريته فقيل له أترفث وأنت محرم ؟ فقال إنما الرفث بحضرة النساء .
وقال " أبو هريرة " - Bه - كنا ننشد الأشعار في حالة الإحرام فقيل له مثل ماذا فقال مثل قول القائل : .
قامت تريك رهبة إن تصر ما .
ساقا بحناء وكعبا أدرما .
ذكر في كفاية المتحفظ .
وأما الفسوق فهو اسم للمعاصي وذلك منهي عنه في الإحرام وغير الإحرام إلا أن الحظر في الإحرام أشد لحرمة العبادة .
( يتبع . . . )