الاعتكاف قربة مشروعة بالكتاب والسنة : .
أما الكتاب : فقوله تعالى : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " } البقرة : 187 فالإضافة إلى المساجد المختصة بالقرب وترك الوطء المباح لأجله دليل على أنه قربة . والسنة : " حديث " أبي هريرة " و " عائشة " Bهما أن النبي A كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله تعالى " وقال " الزهري " عجبا من الناس كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله A كان .
صفحة [ 115 ] يفعل الشيء ويتركه وما ترك الاعتكاف حتى قبض وفي الاعتكاف تفريغ القلب عن أمور الدنيا وتسليم النفس إلى بارئها والتحصن بحصن حصين وملازمة بيت الله تعالى .
قال " عطاء " : مثل المعتكف كمثل رجل له حاجة إلى عظيم فيجلس على بابه ويقول لا أبرح حتى تقضي حاجتي والمعتكف يجلس في بيت الله تعالى ويقول لا أبرح حتى يغفر لي فهو أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص ثم جوازه يختص بمساجد الجماعات .
وروى " الحسن " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى قال كل مسجد له إمام ومؤذن معلوم وتصلى فيه الصلوات الخمس بالجماعة فإنه يعتكف فيه .
وكان " سعيد بن المسيب " يقول لا اعتكاف إلا في مسجدين مسجد المدينة والمسجد الحرام .
ومن العلماء من قال لا اعتكاف إلا في ثلاثة مساجد وضموا إلى هذين المسجدين المسجد الأقصى " لقوله A لا تشد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد إيليا " يعني مسجد بيت المقدس والدليل على الجواز في سائر المساجد قوله تعالى : " وأنتم عاكفون في المساجد " } البقرة : 187 فعم المساجد في الذكر .
واختلفت الروايات عن " ابن مسعود " و " حذيفة بن اليمان " Bهما : .
فروى أن " حذيفة " قال " لابن مسعود " عجبا من قوم عكوف بين دارك ودار " أبي موسى " وأنت لا تمنعهم فقال " ابن مسعود " ربما حفظوا ونسيت وأصابوا وأخطأت كل مسجد جماعة يعتكف فيه .
وروي أن " ابن مسعود " مر بقوم معتكفين فقال " لحذيفة " وهل يكون الاعتكاف إلا في المسجد الحرام " فقال " حذيفة " Bه سمعت رسول الله A يقول كل مسجد له إمام ومؤذن فإنه يعتكف فيه " .
وفي الكتاب ذكر عن " حذيفة " قال لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة .
هذا بيان حكم الجواز فأما الأفضل : فالاعتكاف في المسجد الحرام أفضل منه في سائر المساجد .
وروى " محمد " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى أنه كان يكره الجوار بمكة ويقول إنها ليست بدار هجرة فإن رسول الله A هاجر منها إلى " المدينة " .
وعلى قول " أبي يوسف " و " محمد " رحمهما الله لا بأس بذلك وهو أفضل وعليه عمل الناس اليوم .
ثم الاعتكاف غير واجب بإيجاب الشرع ابتداء إلا أن يوجبه بنذره فيلزمه " لحديث " عمر " Bه أنه سأل رسول الله A فقال إني نذرت أن أعتكف يوما في الجاهلية أو قال ليلة أو قال يومين فقال : أوف بنذرك " .
ومن شرط الاعتكاف الواجب الصوم عندنا .
وقال " الشافعي " C تعالى ليس بشرط .
ومذهبنا مروي عن " ابن عباس " و " عائشة " Bهما أنهما صفحة [ 116 ] قالا لا اعتكاف إلا بصوم .
ومذهبه مروي عن " ابن مسعود " .
وعن " علي " فيه روايتان : .
إحدى الروايتين : مثل قولنا .
والثاني : ما روي عنه قال ليس على المعتكف صوم إلا أن يوجب ذلك على نفسه .
فالشافعي .
C تعالى استدل بهذا " وبحديث " عمر " Bه في سؤاله أني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فأمره رسول الله A بالوفاء بالنذر " والليل لا يصام فيه ولأن ابتداء الاعتكاف من وقت غروب الشمس في حق من نذر أن يعتكف شهرا وما يكون شرط العبادة شرط اقترانه بأوله كالطهارة للصلاة وكذلك الاعتكاف بدوام الليل والنهار ولا صوم بالليل فتبين بهذا أنه ليس شرط الاعتكاف ولا هو ركنه لأن الصوم أحد أركان الدين والاعتكاف نفل زائد فلا يكون الأقوى ركنا للأضعف بل هو زائد في معنى القربة على ما يتم به الاعتكاف فيلزمه التنصيص عليه كالتتابع في الصوم والقرآن في الحج .
ولنا أن النبي A ما اعتكف إلا صائما والأفعال المتفقة في الأوقات المختلفة لا تجري على نمط واحد إلا لداع يدعو إليه وليس ذلك إلا بيان أنه من شرائط الاعتكاف والمعنى فيه أنه لو قال لله علي أن أعتكف صائما يلزمه الجمع بينهما وبقوله صائما ولا يصح أن يجعل نصبا على المصدر كما يقال : ضربته وجيعا أي ضربا وجيعا فإنه حينئذ يصير كأنه قال اعتكف اعتكافا صائما والصوم لا يكون صفة للاعتكاف فالاعتكاف لبث في مقام لتعظيم ذلك المقام والصوم كف النفس عن اقتضاء الشهوات إتعابا للبدن فكيف يكون صفة للاعتكاف فعرفنا أنه نصب على الحال كما يقال دخل الدار راكبا والحال خلو عن الإيجاب لأنه صفة الموجب لا الواجب ومع ذلك يلزمه الجمع بينهما فعرفنا أنه إنما لزمه لأنه شرط الاعتكاف كمن يقول : أصلي طاهرا وشرط الشيء يتبعه فيثبت بثبوته سواء ذكر أو لم يذكر بخلاف قوله أصوم متتابعا فإنه نصب على المصدر لأن التتابع صفة الصوم وبخلاف قوله أصلي قائما فإنه ينصب قائما على المصدر يقال صلاة قائمة وبخلاف قوله أحج قارنا فإن العمرة بالانضمام إلى الحج يزداد فيها معنى القربة ولهذا لزمه دم القران وهو دم نسك .
وعن كلامه جوابان : .
أحدهما : أن الصوم شرط الاعتكاف والشرائط إنما تثبت بحسب الإمكان ولا يمكن اشتراط الصوم ليلا فسقط للتعذر وجعل الليل تبعا للأيام كما أن الشرب والطريق يجعل تبعا في بيع الأرض .
والثاني : أن شرط الاعتكاف أن يكون مؤدى في وقت الصوم وبوجود الصوم في النهار يتصف جميع الشهر بأنه وقت الصوم ودليله شهر رمضان .
صفحة [ 117 ] فصار الشرط به موجودا كما أن من شرط الصلاة أن يقوم إليها طاهرا وذلك يحصل في جميع البدن بغسل الأعضاء الأربعة .
و " حديث " عمر " Bه دليلنا فإن النبي A قال له اعتكف وصم " وبلفظ رسول الله A تبين أن الصحيح من الرواية إني نذرت أن أعتكف يوما .
فأما التطوع من الاعتكاف في رواية " الحسن " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى لا يكون إلا بصوم ولا يكون أقل من يوم فجعل الصوم للاعتكاف كالطهارة للصلاة .
وفي ظاهر الرواية : يجوز التنفل بالاعتكاف كالطهارة للصلاة وفي ظاهر الرواية يجوز التنفل بالاعتكاف من غير صوم فإنه قال في الكتاب إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام تارك له إذا خرج وهذا لأن مبنى النفل على المساهلة والمسامحة حتى تجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام وراكبا مع القدرة على النزول والواجب لا يجوز تركه .
قال : ولا ينبغي للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا الجمعة أو غائط أو بول أما الخروج للبول والغائط " فلحديث " عائشة " Bها قالت كان رسول الله A لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان " ولأن هذه الحاجة معلوم وقوعها في زمان الاعتكاف ولا يمكن قضاؤها في المسجد فالخروج لأجلها صار مستثنى بطريق العادة .
وكان " مالك " C تعالى يقول إذا خرج لحاجة الإنسان لا ينبغي أن يدخل تحت سقف فإن آواه سقف غير سقف المسجد فسد اعتكافه .
وهذا ليس بشيء فإن النبي A كان يدخل حجرته إذا خرج لحاجة وإذا خرج للحاجة لم يمكث في منزله بعد الفراغ من الطهر لأن الثابت للضرورة يتقدر بقدرها .
وأما إذا خرج للجمعة فلا يفسد اعتكافه عندنا .
وقال " الشافعي " C تعالى يفسد اعتكافه .
فإن كان اعتكافه دون سبعة أيام اعتكف في أي مسجد شاء وإن كان سبعة أيام أو أكثر اعتكف في المسجد الجامع .
قال : لأن ركن الاعتكاف هو المقام والخروج ضده فيكون مفسدا له إلا بقدر ما تحققت الضرورة فيه ولا ضرورة في الخروج للجمعة لأنه يمكنه أن يعتكف في الجامع فلا يحتاج إلى هذا الخروج فهو والخروج لعيادة المريض وتشييع الجنائز سواء .
ولنا أن الخروج للجمعة معلوم وقوعه في زمان الاعتكاف فصار مستثنى من نذره كالخروج للحاجة والخروج لعيادة المريض ليس بمعلوم وقوعه في زمان الاعتكاف لا محالة وهذا لأن الناذر يقصد التزام القربة لا المعصية والتخلف عن الجمعة معصية فيعلم يقينا .
صفحة [ 118 ] أنه لم يقصده بنذره فإذا اعتكف في الجامع كان خروجه أكثر لأنه يحتاج في الخروج لحاجة الإنسان إلى الرجوع إلى بيته وإذا كان بيته بعيدا عن الجامع يزداد خروجه إذا اعتكف في الجامع على ما إذا اعتكف في مسجد حيه .
فإذا أراد الخروج للجمعة قال في الكتاب يخرج حين تزول الشمس فيصلي قبلها أربعا وبعدها أربعا أو ستا قالوا هذا إذا كان معتكفه قريبا من الجامع بحيث لو انتظر زوال الشمس لا تفوته الخطبة ولا الجمعة فإذا كان بحيث تفوته لم ينتظر زوال الشمس ولكنه يخرج في وقت يمكنه أن يأتي الجامع فيصلي أربع ركعات قبل الأذان عند المنبر .
وفي رواية " الحسن " ست ركعات : ركعتان تحية المسجد وأربع سنة وكذلك بعد الجمعة يمكث مقدار ما يصلي أربع ركعات أو ستا بحسب اختلافهم في سنة الجمعة ولا يمكث أكثر من ذلك لأن الخروج للحاجة والسنن تبع للفرائض ولا حاجة بعد الفراغ من السنة فإن مكث أكثر من ذلك لم يضره ذكره " ابن سماعة " عن " محمد " رحمهما الله تعالى .
قال : ألا ترى أنه لو بدا له أن يتم اعتكافه في الجامع جاز وهذا لأن المفسد للاعتكاف الخروج من المسجد لا المكث في المسجد إلا أنه لا يستحب له ذلك لأنه التزم أداء الاعتكاف في مسجد واحد فلا ينبغي له أن يتمه في مسجدين .
قال : ولا يعود المعتكف مريضا ولا يشهد جنازة إلا على قول " الحسن البصري " فإنه يروي " حديثا أن رسول الله A قال يعود المعتكف المريض ويشهد الجنازة " .
ولنا " حديث " عائشة " Bها أن رسول الله A كان في اعتكافه إذا خرج لحاجة الإنسان يمر بالمريض فيسأل عنه ولا يعرج عليه " ولأن هذا لم يكن معلوما وقوعه في مدة اعتكافه فالخروج لأجله لم يكن مستثنى كالخروج لتلقي الحاج وتشييعهم وما كان من أكل أو شرب فإنه يكون في معتكفه إذ لا ضرورة في الخروج لأجله فإن هذه الحاجة يمكن قضاؤها في معتكفه .
قال : وإذا مرض المعتكف في اعتكاف واجب فإن أفطر يوما استقبل الاعتكاف لأن من شرط الاعتكاف الصوم وقد فات والعبادة لا تبقى بدون شرطها كما لا تبقى بدون ركنها .
قال : وإذا خرج من المسجد يوما أو أكثر من نصف يوم فكذلك الجواب لأن ركن الاعتكاف قد فات .
فأما إذا خرج ساعة من المسجد فعلى قول " أبي حنيفة " C تعالى يفسد اعتكافه .
وعند " أبي يوسف " و " محمد " رحمها الله تعالى لا يفسد ما لم يخرج أكثر من نصف يوم .
وقول " أبي حنيفة " C تعالى أقيس وقولهما أوسع .
قالا : اليسير من الخروج عفو لدفع الحاجة .
صفحة [ 119 ] فإنه إذا خرج لحاجة الإنسان لا يؤمر بأن يسرع المشي وله أن يمشي على التؤدة فظهر أن القليل من الخروج عفو والكثير ليس بعفو فجعلنا الحد الفاصل أكثر من نصف يوم فإن الأقل تابع للأكثر فإذا كان في أكثر اليوم في المسجد جعل كأنه في جميع اليوم في المسجد كما قلنا في نية الصوم في رمضان إذا وجدت في أكثر اليوم جعل كوجودها في جميع اليوم .
و " أبو حنيفة " C تعالى يقول : ركن الاعتكاف هو المقام في المسجد والخروج ضده فيكون مفوتا ركن العبادة والقليل والكثير في هذا سواء كالأكل في الصوم والحدث في الطهارة .
قال : ولا تعتكف المرأة إلا في مسجد بيتها وقال " الشافعي " C تعالى لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة الرجال والنساء فيه سواء قال لأن مسجد البيت ليس له حكم المسجد بدليل جواز بيعه والنوم فيه للجنب والحائض وهذا لأن المقصود تعظيم البقعة فيختص ببقعة معظمة شرعا وذلك لا يوجد في مساجد البيوت .
ولنا أن موضع أداء الاعتكاف في حقها الموضع الذي تكون صلاتها فيه أفضل كما في حق الرجال وصلاتها في مسجد بيتها أفضل " فإن النبي A لما سئل عن أفضل صلاة المرأة فقال في أشد مكان من بيتها ظلمة " .
وفي " الحديث أن النبي A لما أراد الاعتكاف أمر بقبة فضربت في المسجد فلما دخل المسجد رأى قبابا مضروبة فقال لمن هذه ؟ فقيل " لعائشة " و " حفصة " فغضب وقال البر يردن بهن " وفي رواية يردن بهذا وأمر بقبته فنقضت فلم يعتكف في ذلك العشر فإذا كره لهن الاعتكاف في المسجد مع أنهن كن يخرجن إلى الجماعة في ذلك الوقت فلأن يمنعن في زماننا أولى .
وقد روى " الحسن " عن " أبي حنيفة " رحمها الله تعالى أنها إذا اعتكتفت في مسجد الجماعة جاز ذلك واعتكافها في مسجد بيتها أفضل وهذا هو الصحيح لأن مسجد الجماعة يدخله كل أحد وهي طول النهار لا تقدر أن تكون مستترة ويخاف عليها الفتنة من الفسقة فالمنع لهذا وهو ليس لمعنى راجع إلى عين الاعتكاف فلا يمنع جواز الاعتكاف .
وإذا اعتكفت في مسجد بيتها فتلك البقعة في حقها كمسجد الجماعة في حق الرجل لا تخرج منها إلا لحاجة الإنسان فإذا حاضت خرجت ولا يلزمها به الاستقبال إذا كان اعتكافها شهرا أو أكثر ولكنها تصل قضاء أيام الحيض لحين طهرها وقد بينا هذا في الصوم المتتابع في حقها ومسجد بيتها الموضع الذي تصلى فيه الصلوات الخمس من بيتها .
قال : وإذا قال الرجل لله علي أن اعتكف شهرا فعليه اعتكاف شهر متتابع في قول علمائنا .
صفحة [ 120 ] وقال " زفر " C تعالى : هو بالخيار إن شاء تابع وإن شاء فرق .
( يتبع . . . )