قال : وإذا لم يخرج الرجل صدقة الفطر فعليه إخراجها وإن طالت المدة إلا على قول " الحسن بن زياد " فإنه يقول يسقط بمضي يوم الفطر لأنه قربة اختصت بأحد يومي العيد فكانت قياس الأضحية تسقط بمضي أيام النحر .
ولنا أن هذه صدقة مالية فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كزكاة المال ولا نقول الأضحية تسقط بل ينتقل الواجب إلى التصدق بالقيمة لأن إراقة الدم لا تكون قربة إلا في وقت مخصوص أو مكان مخصوص فأما التصدق بالمال قربة في كل وقت .
ولم يذكر في الكتاب جواز التعجيل في صدقة الفطر إلا في بعض النسخ فإنه قال لو أدى قبل يوم الفطر بيوم أو بيومين جاز والصحيح من المذهب عندنا أن تعجيله جائز لسنة ولسنتين لأن السبب متقرر وهو الرأس فهو نظير تعجيل الزكاة بعد كمال النصاب وعلى قول " الحسن بن زياد " لا يجوز تعجيله أصلا كالأضحية .
وكان " خلف بن أيوب " يقول يجوز تعجيله بعد دخول شهر رمضان لا قبله لأنه صدقة الفطر ولا فطر قبل الشروع في الصوم .
وكان نوح بن أبي مريم يقول يجوز .
صفحة [ 111 ] تعجيله في النصف الأخير من رمضان ومنهم من قال في العشر الأواخر منه .
قال : ويجوز أن يدفع صدقة الفطر إلى أهل الذمة وعلى قول " الشافعي " C تعالى لا يجوز وعن " أبي يوسف " C تعالى ثلاثة روايات .
في رواية قال : كل صدقة مذكورة في القرآن لا يجوز دفعها إلى أهل الذمة فعلى هذه الرواية يجوز دفع صدقة الفطر إليهم .
وفي رواية قال : كل صدقة واجبة بإيجاب الشرع ابتداء من غير سبب من العبد لا يجوز دفعها إلى أهل الذمة فعلى هذا لا يجوز دفع صدقة الفطر إليهم ويجوز دفع الكفارات والنذور إليهم .
وفي رواية قال : كل صدقة هي واجبة لا يجوز دفعها إليهم فعلى هذا لا يجوز دفع الكفارات وإنما يجوز دفع التطوعات .
و " الشافعي " C تعالى يقيس هذا بزكاة المال بعلة أنها صدقة واجبة فإن الصدقة المالية صلة واجبة للمحاويج المناسبين له في الملة فلا يملك صرفها إلى غيرهم والمقصود منه أن يتقوى به على الطاعة ويتفرغ عن السؤال لإقامة صلاة العيد ولا يحصل هذا المقصود بالصرف إلى أهل الذمة كما لا يحصل بالصرف إلى المستأمنين فكما لا يجوز صرفها إليهم فكذلك إلى أهل الذمة .
ولنا أن المقصود سد خلة المحتاج ودفع حاجته بفعل هو قربة من المؤدي وهذا المقصود حاصل بالصرف إلى أهل الذمة فإن التصديق عليهم قربة بدليل التطوعات لأنا لم ننه عن المبرة لمن لا يقاتلنا قال الله تعالى : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " } الممتحنة : 8 الآية بخلاف المستأمن فإنه مقاتل وقد نهينا عن المبرة مع من يقاتلنا قال الله تعالى : " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين " } الممتحنة : 9 الآية .
والقياس أن يجوز صرف الزكاة إليهم إنما تركنا القياس فيه بالنص وهو " قوله A " لمعاذ " خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم " والمراد به الزكاة لا صدقة الفطر والكفارات إذ ليس للساعي فيها ولاية الأخذ فبقي على أصل القياس .
قال : وفقراء المسلمين أحب إلي لأنه أبعد عن الخلاف ولأنهم يتقوون بها على الطاعة وعبادة الرحمن والذمي يتقوى بها على عبادة الشيطان .
قال : وإذا كان للرجل دار وخادم ولا مال له غير ذلك فليس عليه صدقة الفطر لأنه يحل له أخذ الصدقة ولأنه محتاج فإن الدار تسترم والخادم يستنفق ولا بد له منهما فهما يزيدان في حاجته ولا يغنيانه وقد بينا أن الصدقة لا تجب إلا على الغني لأن وجوبها للإغناء كما قال أغنوهم ولا يخاطب بالإغناء من ليس بغني في نفسه .
قال : وإذا أذن الرجل لعبده في التجارة فتعلقت رقبته بالدين ومولاه موسر فعليه صدقة الفطر لأنه يمونه بولايته عليه وبسبب الدين تستحق ماليته ومالية من يؤدى عنه .
صفحة [ 112 ] صدقة الفطر غير معتبرة للوجوب كما في ولده وأم ولده وبسبب الإذن في التجارة لم يخرج من أن يكون للخدمة لأن شغله بنوع من خدمته وهذا بخلاف ما إذا كان الدين المستغرق على المولى فإنه لا يلزمه صدقة الفطر لأن الدين عليه ينفي غناه ولا صدقة إلا على الغني .
قال : رجلان بينهما مملوك للخدمة لا يجب على واحد منهما صدقة الفطر عنه عندنا . وقال " الشافعي " C تعالى يجب عليهما وهو بناء على الأصل الذي تقدم بيانه فإن عنده الوجوب على العبد وهو كامل في نفسه .
قال : فإن اشترى العبد المأذون له عبيدا فليس على المولى عنهم صدقة الفطر لأنه إنما اشتراهم للتجارة .
وفي الأمالي عن " أبي يوسف " C تعالى إن كان اشتراهم للخدمة فإن أذن له المولى في ذلك فإن لم يكن على المأذون دين فعلى المولى صدقة الفطر عنهم لأنه مالك لرقابهم .
وإن كان على العبد دين مستغرق لكسبه ورقبته فعلى قول " أبي حنيفة " C تعالى لا تجب على المولى صدقة الفطر عنهم بناء على أصله أنه لا يملك رقابهم .
وعلى قول " أبي يوسف " و " محمد " رحمهما الله تعالى يجب على المولى صدقة الفطر عنهم بناء على أصلهما أن دين العبد لا يمنع ملك المولى في كسبه كما لا يمنع ملكه في رقبته .
قال : وزكاة الفطر في العبد الموصى بخدمته على مالك الرقبة وارثا كان أو موصى له لأنه تقرر السبب في حقه فأما الموصى له بالخدمة فحقه في المنفعة لا في الرقبة وكذلك العبد المستعار والمؤاجر تجب الصدقة على المالك دون المستعير والمستأجر وكذلك عبد الوديعة تجب الصدقة عنه على المودع فإن يد المودع كيده وكذلك إن كان في عنقه جناية عمدا أو خطأ لأن ملكه وولايته لا يزول بهذا السبب وكذلك العبد المرهون تجب الصدقة عنه على الراهن إذا كان عنده وفاء بالدين وفضل مائتي درهم لأن الرهن لا يزيل ملك الرقبة ولا يوجب فيها حقا للمرتهن إنما حق المرتهن في المالية وذلك غير معتبر لإيجاب الصدقة .
وفي الاملاء : عن " أبي يوسف " C تعالى ليس على الراهن أن يؤدي الصدقة عنه حتى يفكه فإذا فكه أعطاها لما مضى وإن هلك قبل أن يفكه فلا صدقة عنه على الراهن وجعله كالبيع بشرط الخيار .
بقي الكلام في بيان القدر الواجب من الصدقة وذلك من البر نصف صاع في قول علمائنا وعلى قول " الشافعي " C تعالى صاع .
واستدل بحديث " ابن عمر " Bه فإنه ذكر فيه صاعا من بر أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير والتقدير بنصف صاع شيء أحدثه " معاوية " برأيه على ما قاله " أبو سعيد الخدري " Bه كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام حتى قدم " معاوية " من الشام فقال لا أرى إلا مدين من سمراء الشام يعدل صاعا من طعامكم هذا .
وأكثر ما في الباب أن الآثار فيه قد اختلفت والأخذ بالاحتياط في باب العبادات واجب والاحتياط في إتمام الصاع وقاسه بالشعير والتمر لعلة .
صفحة [ 113 ] أنه أحد الأنواع التي تتأدى به صدقة الفطر .
ولنا حديث " عبدالله بن ثعلبة بن صعير " كما روينا في أول الباب وفي " حديث آخر قال A وعن كل اثنين صاعا من بر " فالذي روى الصاع كأنه سمع آخر الحديث لا أوله وهو " قوله وعن كل اثنين " والتقدير من البر بنصف صاع مذهب " أبي بكر " و " عمر " و " علي " وجماعة من الصحابة Bهم أجمعين حتى قال " أبو الحسن الكرخي " إنه لم ينقل عن أحد منهم أنه لا يجوز أداء نصف صاع من بر وبهذا يندفع دعواه أنه رأى معاوية ونقيسه على كفارة الأذى لعلة أنها وظيفة المسكين ليوم وفي كفارة الأذى نص " فإن " كعب بن عجرة " سأل رسول الله A فقال ما الصدقة فقال ثلاثة آصع على ستة مساكين " وليس البر نظير التمر والشعير فإن التمر والشعير يشتمل على ما ليس بمأكول وهو النوى والنخالة وعلى ما هو مأكول فأما البر مأكول كله فإن الفقير يمكنه أكل دقيق الحنطة بنخالته بخلاف الشعير وقد بينا تفسير الصاع فيما تقدم وإنما يعتبر نصف صاع من بر وزنا هكذا رواه أبو يوسف عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى .
وقال " ابن رستم " عن " محمد " رحمهما الله تعالى : كيلا حتى قال قلت له لو وزن الرجل منوين من الحنطة وأعطاها الفقير هل تجوز من صدقته ؟ فقال : لا فقد تكون الحنطة ثقيلة الوزن وقد تكون خفيفة فإنما يعتبر نصف الصاع كيلا .
وجه قوله : أن الآثار جاءت بالتقدير بالصاع وهو اسم للمكيال .
ووجه الرواية الأخرى أن العلماء حين اختلفوا في مقدار الصاع أنه ثمانية أرطال أو خمسة أرطال وثلث فقد اتفقوا على التقدير بما يعدل بالوزن فإنما يقع عليه كيل الرطل فهو وزنه .
قال : ودقيق الحنطة كالحنطة ودقيق الشعير كعينه عندنا وعند " الشافعي " لا يجوز الأداء من الدقيق بناء على أصله أن في الصدقات يعتبر عين المنصوص عليه .
ولنا " حديث " أبي هريرة " Bه أن النبي A قال أدوا قبل خروجكم زكاة فطركم فإن على كل مسلم مدين من قمح أو دقيقه " ولأن المقصود سد خلة المحتاج وإغناؤه عن السؤال كما قال صاحب الشرع وحصول هذا بأداء الدقيق أظهر لأنه أعجل لوصول منفعته إليه وعلى هذا روي عن " أبي يوسف " C تعالى قال أداء الدقيق أفضل من أداء الحنطة وأداء الدرهم أفضل من أداء الدقيق لأنه أعجل لمنفعته .
وأما من الزبيب يتقدر الواجب بنصف صاع عند " أبي حنيفة " C تعالى ذكره في الجامع الصغير .
وعلى قول " أبي يوسف " و " محمد " يتقدر بصاع وهو .
صفحة [ 114 ] رواية " أسد بن عمرو " و " الحسن " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى .
ووجهه : أن الزبيب نظير التمر فإنهما يتقاربان في المقصود والقيمة فكما يتقدر من التمر بصاع فكذلك من الزبيب وقد روي في بعض الآثار أو صاعا من زبيب .
وجه قول " أبي حنيفة " C تعالى : أن الزبيب نظير البر فإنه مأكول فكما يتقدر من البر بنصف صاع لهذا المعنى فكذلك من الزبيب والأثر فيه شاذ وبمثله لا يثبت التقدير فيما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لأنه لو كان صحيحا لاشتهر لعلمهم به وإن أراد الأداء من سائر الحبوب أعطى باعتبار القيمة وقد بينا جواز أداء القيمة عندنا وهذا لأنه ليس في سائر الحبوب نص على التقدير فالتقدير بالرأي لا يكون .
وكذا من الأقط يؤدى باعتبار القيمة عندنا .
وقال " مالك " Bه يتقدر من الأقط بصاع .
وقال " الشافعي " C تعالى في كتابه لا أحب له الأداء من الأقط وإن أدى فلم يتبين لي وجوب الإعادة عليه .
وهذا الحديث روي أو صاعا من أقط وبه أخذ " مالك " C تعالى وقال الأقط كان قوتا لأهل البادية في ذلك الوقت كما أن الشعير والتمر كانا قوتا في أهل البلاد .
وأصحابنا قالوا : الحديث شاذ لم ينقل في الآثار المشهورة وبمثله لا يجوز إثبات التقدير فيما تعم به البلوى فيبقى الاعتبار بالقيمة فإن كانت قيمته قيمة نصف صاع من بر أو صاع من شعير جاز وإلا فلا .
والحاصل أن فيما هو منصوص لا تعتبر القيمة حتى لو أدى نصف صاع من تمر تبلغ قيمته قيمة نصف صاع من بر لا يجوز لأن في اعتبار القيمة هنا إبطال التقدير المنصوص في المؤدى وذلك لا يجوز فأما ما ليس بمنصوص عليه فإنه ملحق بالمنصوص باعتبار القيمة إذ ليس فيه إبطال التقدير المنصوص وسويق الحنطة كدقيقها لأن التقدير منه نصف صاع لما بينا في الدقيق والله تعالى أعلم بالصواب