قال : وإذا ماتت الفأرة في البئر ينزح منها عشرون دلوا أو ثلاثون بعد إخراج الفأرة فعشرون واجب وثلاثون أحوط وقد بينا هذا فيما مضى وأصحاب " الشافعي " رضي الله تعالى عنهم يطعنون في هذا ويقولون دلو يميز الماء النجس من الطاهر دلو كيس .
وهذا طعن في السلف وقد بينا أن طهارة البئر بنزح بعض الدلاء قول السلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم .
ثم هم قالوا بالرأي ما هو أشد من هذا فقالوا في بئر فيها قلتان من الماء ماتت فيها فأرة فنزح منها دلو فإن حصلت الفأرة في الدلو فالماء الذي في الدلو نجس والذي بقي في البئر طاهر .
وإن بقيت الفأرة في البئر فالماء الذي في الدلو طاهر والذي في البئر نجس فدلوهم هذا أكيس .
قال : فإن نزح منها عشرون دلوا قبل إخراج الفأرة لم تطهر لأن بقاء الفأرة فيها بعد النزح كابتداء الوقوع ولأن سبب نجاسة البئر حصول الفأرة الميتة فيها ولا يمكن الحكم بالطهارة مع بقاء السبب الموجب للنجاسة .
قال : فإن أخرجت الفأرة ثم نزح منها عشرون دلوا وهو يقطر فيها لم يضرها ذلك لأن النزح على وجه لا يقطر شيء منه فيها متعذر وما لا يستطاع الإمتناع عنه يكون عفوا لقوله تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " البقرة : 286 . قال : وإن صب الدلو الآخر في بئر أخرى فعليهم أن ينزحوا دلوا مثله كما لو صب في البئر الأولى لأن حال البئر الثانية بعد ما حصل هذا الدلو فيها كحال البئر الأولى حين كان .
صفحة [ 91 ] هذا الدلو فيها .
وإن صب الدلو الأول منها في بئر طاهرة كان عليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا لأن حال البئر الثانية بعد حصول هذا الدلو فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو فيها ولو صب دلو في بئر أخرى قبل إخراج الفأرة ينزح جميع ما في البئر الثانية كذا قاله أستاذنا رضي الله تعالى عنه .
وكان " الكرخي " C تعالى يقول لا أعرف هذه المسائل إلا تقلدا فإن ماء الدلو الأخير نجس كماء الدلو الأول والفرق بينهما بطريق المعنى غير ممكن وشبه هذا بالثوب النجس إذا غسل ثلاثا فالماء الثالث في النجاسة كالماء الأول إذا أصاب ثوبا آخر نجسه .
وكان الإمام " الحاكم الشهيد " C تعالى يقول في مسألة الثوب على قياس مسألة البئر إذا أصاب الماء الأول ثوبا لا يطهر إلا بالغسل ثلاثا وإن أصابه الماء الثانى يطهر بالغسل مرتين وإن أصابه الماء الثالث يطهر بالغسل مرة والأصح الفرق بينهما فنقول النجاسة في الثوب عينية وينجس الماء بحصول النجاسة فيه وفي هذا لا فرق بين الماء الأول والثالث .
فأما تنجيس الماء فحكمي وطهارته بالنزح بغالب الرأي فكان ماء الدلو الأخير أخف من الماء الذي في الدلو الأول لأن عند نزح الدلو الأول يتيقن بكون الماء النجس في البئر وهو ما جاوز الفأرة وعند نوح نزح الدلو الأخير لا يتيقن بذلك فلعل ما جاوز الفأرة الماء الذي نزح فيما سبق من الدلاء فهذا معنى قول " محمد " C تعالى كلما نزح الماء كان أطهر للبئر فلهذا فرقنا بين الدلو الأولى إذا صب في بئر أخرى وبين الدلو الأخير .
وإن صب الدلو الثاني فيها كان عليهم أن ينزحوا منها تسعة عشر دلوا لأن حالها كحال البئر الأولى وإن صبوا الدلو العاشر فيها كان عليهم أن ينزحوا منها عشر دلاء هكذا ذكر في نسخ " أبي سليمان " C وفي نسخ " أبي حفص " C قال أحد عشر دلوا وهو الصواب فإن حال البئر الثانية بعد ما صب الدلو العاشر فيها كحال البئر الأولى حين كان هذا الدلو فيها .
وتأويل ما ذكر في نسخ " أبي سليمان " أنه ينزح منها عشر دلاء سوى المصبوب فيها والمصبوب فيها واجب النزح بيقين وإن أخرجت الفأرة فألقيت في البئر الثانية وصب فيها عشرون دلوا من البئر الأولى فعليهم إخراج الفأرة ونزح عشرين دلوا لما بينا أن حال البئر الثانية كحال البئر الأولى .
وقد روي عن " أبي يوسف " C تعالى أن عليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا سوى المصبوب فيها وجعل المصبوب فيها كالفأرة في البئر الأولى .
والأصح هو الأول لأنا نتيقن أنه ليس في هذه البئر إلا نجاسة فأرة ونجاسة الفأرة يطهرها نزح .
صفحة [ 92 ] عشرين دلوا .
قال : وإذا خرجت الفأرة وجاؤا بدلو عظيم يسع عشرين دلوا بدلوهم فاستقوا منها دلوا واحدا أجزأهم وقد طهرت البئر لأن النجس ما جاوز الفأرة من الماء فلا فرق بين أن يؤخذ ذلك في دلو واحد أو في عشرين دلوا .
وكان " الحسن بن زياد " C تعالى يقول : لا يطهر بهذا النزح لأن عند تكرار نزح الماء ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه فيكون في حكم الماء الجاري وهذا لا يحصل بنزح دلو عظيم منها .
ونحن نقول لما قدر الشرع الدلاء بقدر خاص عرفنا أن المعتبر قدر المنزوح وأن معنى الجريان ساقط لأن ذلك يحصل بدونه ويزداد بزيادته ولهذا قلنا : لو نزحها عشرة أيام ونحوه يطهر لوجود القدر مع عدم الجريان ثم اللفظ المذكور في الكتاب يدل على أنه يعتبر في كل بئر دلو تلك البئر لقوله بدلوهم وروى " الحسن " عن " أبي حنيفة " رحمهما الله تعالى أن المعتبر دلو يسع فيه صاعا من الماء ليتمكن كل أحد من النزح به من رجل أو امرأة أو صبي .
قال : ولو توضأ رجل من هذه البئر بعدما نحي الدلو الأخير عن رأسها جاز وضوؤه لأنا حكمنا بطهارة البئر فإن صب ذلك الدلو فيها لم يفسد وضوء الرجل لأن تنجيس البئر حصل الآن وإن كان الدلو بعد في البئر لم يفصل عن وجه الماء لا يجوز لأحد أن يتوضأ بذلك الماء وإن فصل الدلو عن وجه الماء وهو معلق في هواء البئر فتوضأ رجل منها لم يجزه في قول " أبي حنيفة " و " أبي يوسف " رحمهما الله تعالى .
وقال " محمد " C تعالى : أجزأه .
وجه قوله : أن الماء الطاهر تميز عن الماء النجس فكأنه نحى عن رأس البئر وكون الماء النجس معلقا في هواء البئر لا يكون أقوى من خمر أو بول في دلو معلق في هواء البئر فلا يحكم هناك بنجاسة البئر بهذا وإنما جعل التقاطر عفوا لأجل الضرورة كما بينا .
و " لأبي حنيفة " و " أبي يوسف " رحمهما الله تعالى أن الماء النجس متصل بماء البئر حكما بدليل أن التقاطر فيه يجعل عفوا ولولا الإتصال حكما لما جعل التقاطر عفوا كما في البول والخمر فصار بقاء الإتصال حكما كبقائه حقيقة ولو كان باقيا حقيقة بأن لم يفصل عن وجه الماء فلا يحكم بطهارة البئر وهذا لأن البئر موضع الماء فأعلاه كأسفله كالمسجد لما كان موضع الصلاة جعل كله كمكان واحد في حكم الإقتداء .
قال : ولو غسل ثوب نجس في إجانة بماء نظيف ثم في أخرى ثم في أخرى فقد طهر الثوب وهذا استحسان والقياس أن لا يطهر الثوب ولو غسل في عشر إجانات وبه قال " بشر بن غياث " .
ووجهه أن الثوب النجس كلما حصل في الإجانة تنجس ذلك الماء فإنما غسل الثوب بعد ذلك في الماء النجس فلا يطهر .
صفحة [ 93 ] حتى يصب عليه الماء أو يغسل في الماء الجاري .
وجه الإستحسان " قوله A طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله ثلاثا " فتبين بهذا الحديث أن الإناء النجس يطهر بالغسل من غير حاجة إلى تقوير أسفله ليجري الماء على النجاسة .
والمعنى فيه أن الثياب النجسة يغسلها النساء والخدم عادة وقد يكون ثقيلا لا تقدر المرأة على حمله لتصب الماء عليه والماء الجاري لا يوجد في كل مكان فلو لم يطهر بالغسل في الإجانات أدى إلى الحرج .
ثم النجاسة على نوعين مرئية وغير مرئية ثم المرئية لابد من إزالة العين بالغسل وبقاء الأثر بعد زوال العين لا يضر هكذا قال رسول الله A في دم الحيض حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه ولا يضرك بقاء الأثر ولأن المرأة إذا خضبت يدها بالحناء النجس ثم غسلته تجوز صلاتها ولا يضرها بقاء أثر الحناء .
وكان الفقيه " أبو جعفر " C تعالى يقول : بعد زوال عين النجاسة يغسل مرتين لأنه التحق بنجاسة غير مرئية غسلت مرة .
فأما النجاسة التي هي غير مرئية فإنها تغسل ثلاثا " لقوله A إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده " فلما أمر بالغسل ثلاثا في النجاسة الموهومة ففي النجاسة المحققة أولى وهذا مذهبنا وعلى قول " الشافعي " Bه العبرة بغلبة الرأى فيما سوى ولوغ الكلب حتى إن غلب على ظنه أنه طهر بالمرة الواحدة يكيفيه ذلك لظاهر " قوله A ثم اغسليه " قلا يشترط فيه العدد .
ولكنا نقول غلبة الرأى في العام الغالب لا تحصل إلا بالغسل ثلاثا وقد تختلف فيه قلوب الناس فأقمنا السبب الظاهر مقامه تيسيرا وهو الغسل ثلاثا .
قال : وإن أصابت النجاسة عضوا من أعضائه " فأبو يوسف " C تعالى أخذ فيه بالقياس فقال لا يطهر بالغسل في الإجانات لأن صب الماء عليه ممكن من غير حرج ولأن استعمال الماء في العضو في تغير صفة الماء أقوى منه في الثوب فإن العضو الطاهر إذا غسل بالماء الطاهر صار مستعملا بخلاف الثوب الطاهر فلا يمكن قياس العضو على الثوب .
و " محمد " C تعالى سوى بين الثوب والعضو في أنه يطهر بالغسل في الإجانات وهو قول " أبي حنيفة " C تعالى قال لأن الضرورة تحققت في بعض الأعضاء فإن من دمى أنفه أو فمه لا يمكنه صب الماء عليه حتى يشرب الماء النجس أو يعلو على دماغه وفيه حرج بين فأخذنا بالإستحسان في العضو كما أخذنا به في الثوب ثم ماء الإجانات كلها نجس ولأن النجاسة تحولت إلى الماء .
فإن قيل : جزء من الماء .
صفحة [ 94 ] الثالث قد بقي في الثوب بعد العصر فكيف يحكم بطهارة الثوب .
قلنا : ما لايستطاع الإمتناع عنه يكون عفوا مع أن الماء يتداخل في أجزاء الثوب فيخرج النجاسة ثم يخرج على أثرها بالعصر فما بقي من البلة بعد العصر لم تجاوزه النجاسة ألا ترى أنه لو كان مكان النجاسة صبغ كالزعفران وغيره يتحول إلى الماء ولا يبقى شيء من ذلك اللون في الثوب ببقاء البلة فكذلك النجاسة .
قال : جنب اغتسل في ثلاثة آبار وليس على بدنه نجاسة عينية فقد أفسد ماء الآبار ولا يجزئه غسله في قول " أبي يوسف " .
وقال " محمد " C تعالى يخرج من البئر الثالث طاهرا وهذا لأن الحدث الحكمي معتبر بالنجاسة العينية فالآبار كالإجانات .
وعند " أبي يوسف " C تعالى النجاسة لا تزول عن البدن بالغسل في الإجانات فكذلك الحدث .
قال : ولو كان يزول بالغسل في الآبار لكان يخرج الجنب من البئر الأولى طاهرا كما إذا صب الماء على بدنه مرة بعد مرة .
وعند " محمد " C تعالى النجاسة العينية عن البدن تزول بالغسل في الإجانات فكذلك الجنابة قال ولما كان ثبوت هذا الحكم بالقياس على النجاسة شرطنا فيه عدد الثلاث كما يشترط في غسل النجاسة بخلاف صب الماء على رأسه .
قال : فأرة وقعت في بئر فماتت فيها ووقعت فأرة أخرى في بئر أخرى فماتت فاستقى من إحداهما عشرون دلوا وصب في الأخرى أجزأهم نزح عشرين دلوا من البئر الثانية والأصل أن الشيء ينتظم ما هو مثله أو دونه لا ما هو فوقه فإذا كان ما في البئر الثانية مثل ما صب فيها انتظم أحدهما الآخر فتطهر بنزح عشرين دلوا من البئر الثانية ولأن هذا في معنى ما لو ماتت فأرتان في بئر وحكم الفأرتين كحكم الفأرة الواحدة في أن البئر تطهر بنزح عشرين دلوا منها .
وإن ماتت فأرة في بئر ثالثة فصب منها عشرون دلوا في هذه البئر فإنها تطهر بنزح أربعين دلوا لأن المصبوب فيها أكثر فينتظم ما كان فيها فتطهر بنزح القدر المصبوب فيها وذلك أربعون دلوا ولأن هذه بمنزلة ثلاث فأرات ماتت في بئر وثلاث فأرات في ظاهر الرواية كالدجاجة إلا في رواية عن " أبي يوسف " C تعالى .
قال : ما لم يكن خمس فأرات لا يكون بمنزلة الدجاجة فإذا كان الثلاث كالدجاجة في ظاهر الرواية يطهرها نزح أربعين دلوا وإن صبوا من البئر الثالثة فيها دلوا أو دلوين فعليهم أن ينزحوا منها عشرين دلوا مع هذه الزيادة لأن المصبوب فيها أكثر فينتظم ما كان فيها وعن " أبي يوسف " C تعالى في هذه الفصول كلها أن بعد نزح القدر المصبوب ينزح منها عشرون دلوا .
قال : وإن ماتت فأرة في جب .
صفحة [ 95 ] فصب ماؤها في بئر فعند " أبي يوسف " C تعالى ينزح منها ما صب فيها وبعده عشرون دلوا وعند " محمد " C تعالى ينظر إلى ماء الجب فإن كان عشرين دلوا أو أكثر ينزح ذلك القدر وإن كان دون عشرين دلوا ينزح منها عشرون دلوا لأن الحاصل في البئر نجاسة الفأرة .
قال : وإن ماتت فأرة في سمن فإن كان جامدا يرمى بها وما حولها ويؤكل ما بقي وإن كان ذائبا لم يؤكل منه شيء " لحديث " أبي موسى الأشعري " رضي الله تعالى عنه أن النبي A سئل عن فأرة ماتت في سمن فقال : إن كان جامدا فألقوها وما حولها وكلوا ما بقي وإن كان ذائبا فأريقوه " ولأن في الجامد النجاسة إنما جاورت موضعا واحدا فإذا قور ذلك كان الباقي طاهرا وفي الذائب النجاسة جاورت الكل فصار الكل نجسا .
وحد الجمود والذوب إذا كان بحال لو قور ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب .
ثم الذائب لا بأس بالإنتفاع به سوى الأكل من حيث الإستصباح ودبغ الجلد به وكذلك يجوز بيعه مع بيان عيبه عندنا فإذا باعه ولم يبين عيبه فالمشترى بالخيار إذا علم به .
وعند " الشافعي " Bه لا يجوز بشيء من ذلك لأنه بصفة النجاسة صار كالخمر فإن عينه نجس ولا يجوز بيعه ولا الإنتفاع به ألا ترى أن النبي A في الجامد أمر بالقاء ما حول الفأرة وفي الذائب أمر بإراقة الكل فدل أنه لا يجوز الإنتفاع به .
( يتبع . . . )