( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي C ) وإذ قد أجبتكم إلى ما سألتموني من إملاء شرح المختصر على حسب الطاقة وقدر الفاقة بالآثار المشهورة والإشارات المذكورة في تصنيفات محمد بن الحسن C لإظهار وجه التأثير وبيان طريق التقدير رأيت أن الحق به إملاء شرح كتاب الكسب الذي يرويه محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن C وهو من جملة تصنيفاته إلا أنه لم يشتهر لأنه لم يسمع منه ذلك أبو حفص ولا أبو سسليمان رحهمها الله ولهذا لم يذكره الحاكم C في المختصر وفيه من العلوم ما لا يسع جهلها ولا التخلف عن عملها ولو لم يكن فيها إلاحث المفلسين على مشاركة المكتسبين في الكسب لأنفسهم والتناول من كديدهم لكان يحق على كل أحد إظهار هذا النوع من العلماء وقد كان شيخنا الإمام C بين بعض ذلك على طريق الإيثار فيه فنذكر ما ذكره تبركا بالمسموع منه ونلحق به ما تكلم فيه أهل الأصول رحمهم الله وما يجود به الخاطر من المعاني والإشارات فنقول الاكتساب في عرف اللسان تحصيل المال بما حل من الأسباب واللفظ في الحقيقة يستعمل في كل باب وقد قال الله تعالى { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } وقال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } أي بجنايتكم على أنفسكم وقد سمى جناية المرى على نفسه كسبا وقال جل وعلا في آية السرقة : { جزاء بما كسبا } أي باشرا بارتكاب المحظور فعرفنا أن اللفظ مستعمل في كل باب ولكن عند الإطلاق يفهم منه اكتساب المال ثم بدأ محمد C الكتاب بقوله : طلب الكسب فريضة على كل مسلم وفي رواية وقال طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة الفريضة بعد الفريضة وقال عليه السلام : طلب الحلال كمقارعة الأبطال ومن مات دائبا في طلب الحلال مات مغفورا وكان عمر بن الخطاب Bه يقدم درجة الكسب على درجة الجهاد فيقول : لا أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أقتل مجاهدا في سبيل الله لأن الله تعالى قدم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضله على المجاهدين بقوله وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله الآية وفي الحديث أن رسول الله A صافح سعد بن معاذ Bه فإذا يداه قد أكتبتا فسأله النبي A عن ذلك فقال : أضرب بالمر والمسحاة لأنفق على عيالي فقبل رسول الله A وقال كفان يحبهما الله تعالى وفي هذا بيان أن المرء باكتساب مالا بدله منه ينال من الدرجات أعلاها وإنما ينال ذلك بإقامة الفريضة ولأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا به فحينئذ كان فرضا بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة وبيانه من وجوه أحدها أن يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه وإنما يحصل له ذلك بالقوت عادة ولتحصيل القوت طرق الاكتساب أو التغالب بالانتهاب والانتهاب يستوجب العقاب وفي التغالب فساد والله تعالى لا يحب الفساد فعين جهة الاكتساب لتحصيل القوت فقال عليه السلام نفس المؤمن بطنته فليحسن إليها يعني الإحسان بأن لا يمنعها قدر الكفاية وإنما لا يتوصل إلى ذلك إلا بالكسب كما لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بالطهارة ولا بد لذلك من كوز يستقي به الماء أو دلو أو رشا ينزح به الماء من البئر وكذلك لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا بستر العورة وإنما يكون ذلك بثوب ولا يحصل له ذلك إلا بالاكتساب عادة وما لا يتأتى إقامة الفرض إلا به يكون فرضا في نفسه ثم الكسب طريق المرسلين صلوات الله عليهم وقد أمرنا بالتمسك بهداهم قال الله تعالى : { فبهداهم اقتده } وبيانه أن أول من اكتسب أبونا آدم عليه السلام قال الله تعالى : { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي } أي تتعب في طلب الرزق وقال مجاهد في تفسيره : لا تأكل خبزا بزيت حتى تعمل إلى الموت وفي الآثار أن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بالحنطة وأمره أن يزرعها فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها فلما فرغ من هذه الأعمال حان وقت العصر أتاه جبريل عليه السلام وقال : إن ربك يقرؤك السلام ويقول أن صمت بقية اليوم غفرت لك خطيئتك وشفعتك في أولادك فصام وكان حريصا على تناول ذلك الطعام لينظر يجد له من الطعم ما كان يجد لطعام الجنة فمن ثمة حرص الصائمون بعد العصر على تناول الطعام وكذا نوح عليه السلام كان نجارا يأكل من كسبه وإدريس عليه السلام كان خياطا وإبراهيم عليه السلام كان بزارا على ما روى عن النبي A قال : عليكم بالبزر فإن أباكم كان بزارا يعني الخليل عليه السلام وداود عليه السلام كان يأكل من كسبه على ما روي أنه كان يخرج متنكرا فيسأل عن سيرة أهل مملكته حتى استقبله جبريل .
عليه السلام يوما على صورة شاب فقال له : كيف تعرف داود أيها الفتى فقال : نعم العبد داود إلا أنه فيه خصلة قال : وما هي قال : إنه يأكل من بيت المال وإن خير الناس من يأكل من كسبه فرجع داود عليه السلام إلى محرابه باكيا متضرعا يسأل الله تعالى ويقول : اللهم علمني كسبا تغنيني به عن بيت المال فعلمه الله تعالى صنعة الدرع ولين له الحديد حتى كان الحديد في يده كالعجين في يد غيره قال الله تعالى : { وألنا له الحديد } وقال D : { وعلمناه صنعة لبوس لكم } فكان يصنع الدرع ويبيع كل درع باثني عشر ألفا فكان يأكل من ذلك ويتصدق وسليمان صلوات الله عليه يصنع المكاييل من الخوص فيأكل من ذلك وزكريا عليه السلام كان نجارا وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه وربما كان يلتقط السنبلة فيأكل من ذلك وهو نوع اكتساب ونبينا A كان يرعى في بعض الأوقات على ما روى أنه عليه السلام قال لأصحابه Bهم يوما كنت راعيا لعقبة بن معيط وما بعث الله نبيا إلا وكان راعيا وفي حديث السائب بن شريك عن أبيه Bه قال : كان رسول الله A شريكي وكان خير شريك لا يداري ولا يماري أي لا يلاحي ولا يخاصم فقيل فيماذا كانت الشركة بينكما فقال : في الأدم وازدرع رسول الله A بمكة على ما ذكر محمد C في كتاب المزارعة ليعلم أن الكسب طريق المرسلين عليهم السلام ثم الكسب نوعان كسب من المرء لنفسه وكسب منه على نفسه فالكاسب لنفسه هو الطالب لما لا بد له من المباح والكاسب على نفسه هو الباغي لما عليه فيه جناح نحو ما يكون من السارق والنوع الثاني منه حرام بالاتفاق قال الله تعالى : { ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه } وقال D : { ومن يكسب خطيئة أو إثما } الآية والمذهب عند الفقهاء من السلف والخلف رحمهم الله أن النوع الأول من الكسب مباح على الإطلاق بل هو فرض عند الحاجة وقال قوم من جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصوف أن الكسب الحرام لا يحل إلا عند الضرورة بمنزلة تناول الميتة وقالوا : إن الكسب ينفي التوكل على الله تعالى أو ينقص منه وقد أمرنا بالتوكل قال الله تعالى : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } فما يتضمن نفي ما أمرنا به من التوكل يكون حراما والدليل على أنه ينفي التوكل قوله عليه السلام : لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقتم كما يرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا وقال تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدوون وفي هذا حث على ترك الاشتغال بالكسب وبيان أن ما قدر له من الموعود يأتيه لا محالة وقال D وأمر أهلك بالصلاة الآية والحطاب وإن كان لرسول الله A فالمراد أمته فقد أمروا بالصبر والصلاة وترك الاشتغال بالكسب لطلب الرزق لقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وفي الاشتغال بالكسب ترك ما خلق المرء لأجله وأمر به من عبادة ربه وإليه أشار النبي A في قوله : ( ما أوحى إلى أن أجمع المال وأكون من المتاجرين وإنما أوحى إلي { فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين } الآية وما في القرآن من ذكر البيع والشراء في بعض الآيات ليس المراد به التصرف في المال والكسب بل المراد تجارة العبد مع ربه D يبذل النفس في طاعته والاشتغال بعبادته فذلك يسمي تجارة وقال الله تعالى : { هل أدلكم على تجارة } الآية وقال D : { إن الله اشترى من المؤمنين } الآية والمراد هذا النوع وهو بذل النفس لنيل الثواب بالجهاد وأنواع الطاعة وكذا قد سمى الله تعالى آخذ المال لارتكاب ما لا يحل له في الدين بائعا نفسه قال الله تعالى : { ولبئس ما شروا به أنفسهم } وقال D : { واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } وإلى ذلك أشار النبي A بقوله الناس غاديان بائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها وإن الصحابة Bهم لم يشتغلوا بالكسب فالقول مع أصحاب الصفة Bهم كانوا يلزمون المسجد فلا يشتغلون بالكسب ومدحوا على ذلك وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من أعلى الصحابة Bهم لم يشتغلوا بالكسب وهم الأئمة السادة والقدوة القادة وحجتنا في ذلك قوله تعالى وأحل الله البيع وقال جل وعلا : { إذا تداينتم بدين } الآية وقال D : { إلا أن تكون تجارة عن تراض } وقال جل وعلا : { إلا أن تكون تجارة حاضرة } ففي بعض هذه الآيات تنصيص على الحل وفي بعضها ندب إلى الاشتغال بالتجارة فمن يقول بحرمتها إنما يخاطبنا بما يفهمه ولفظ البيع والشراء حقيقة للتصرف في المال بطريق الاكتساب والكلام محمول على حقيقة لا يجوز تركها إلى نوع .
من المجاز إلا عند قيام الدليل كما فيما استشهدوا به من قوله تعالى : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } فقد قام الدليل على أن المراد به المجاز ولما لم يوجد مثل ذلك هنا فكان محمولا على حقيقته وقال الله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض والمراد التجارة وقال الله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعني التجارة في طريق الحج وقال النبي A : إن أطيب ما أكلتم من كسب أيديكم وإن أخي داود كان يأكل من كسب يده والمراد الإشارة إلى قوله تعالى : كلوا من طيبات ما رزقناكم وأقوى ما تعتمده أن الاكتساب طريق المرسلين صلوات الله عليهم وقد قررنا ذلك ولا معنى لمعارضتهم إيانا في ذلك بيحيى وعيسى عليهما السلام فقد بينا أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه Bها ثم يقول أن الأنبياء عليهم السلام في هذا ليس كغيرهم فقد بعثوا لدعوة الناس إلى دين الحق وإظهار ذلك لهم فكانوا مشغولين بما بعثوا لأجله ولم يشتغلوا عامة أوقاتهم بالكسب لهذا وقد اكتسبوا في بعض الأوقات ليبينوا للناس أن ذلك مما ينبغي أن يشتغل به المرء وأنه لا ينفي التوكل على الله تعالى كما ظنه هؤلاء الجهال وقد بين هذا عمر Bه في حديث حيث مر بقوم من القراء فرآهم جلوسا قد نكسوا رؤوسهم فقال من هؤلاء فقال هم المتوكلون فقال كلا ولكنهم المتأكلون يأكلون أموال الناس ألا أنبئكم من المتوكلون فقيل نعم فقال هو الذي يلقي الحب في الأرض ثم يتوكل على ربه D وفي رواية أخرى عنه قال يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم واكتسبوا لأنفسكم ودعواهم أن الكبار من الصحابة Bهم كانوا لا يكتسبون دعوى باطل فقد روى أن أبا بكر الصديق Bه كان بزارا وعمر Bه كان يعمل في الأدم وعثمان كان تاجرا يجلب إليه الطعام فيبيعه وعلي Bه كان يكسب على ما روى أنه أجر نفسه غير مرة حتى أجر نفسه من يهودي وقال للوزان زن وارجح فإن معاشر الأنبياء هكذا تزن وباع رسول الله A قعبا وحلسا من يزيد واشترى ناقة من أعرابي وأوفاه ثمنها ثم جحد الأعرابي وقال هلم شاهد قال عليه السلام من يشهد لي فقال خزيمة بن ثابت Bه أنا أشهد لك بأنك أوفيت الأعرابي ثمن الناقة فقال عليه السلام كيف تشهد لي ولم تكن حاضرا فقال : يا رسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من إيفاء ثمن الناقة فقال عليه السلام من شهد له خزيمة فحسبه ولا حجة لهم في قوله تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } فالمراد المطر الذي ينزل من السماء فيحصل به النبات فإن ذلك يسمى رزقا على ما نقل عن بعض السلف يا ابن آدم إن الله تعالى يرزقك ويرزق رزقك ويرزق رزق رزقك يعني ينزل المطر من السماء رزقا للنبات ثم النبات رزق الأنعام والأنعام رزق لبني آدم ولئن حملنا الآية على ظاهرها فنقول في السماء رزقنا كما أخبر الله تعالى ولكن أمر باكتساب السبب ليأتينا ذلك الرزق عند الاكتساب . بيانه في قوله عليه السلام فيما يأثر عن ربه D عبدي حرك يدك أنزل عليك الرزق وقد أمر الله تعال مريم بهز النخلة كما قال الله تعالى : وهزي إليك الآية وهو قادر على أن يرزقها من غير هز منها كما كان يرزقها في المحراب فقال D كلما دخل عليها زكريا المحراب الآية وإنما أمرها بذلك ليكون بيانا للعباد أنه ينبغي لهم أن لا يدعوا اكتساب السبب وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى هو الرزاق وهذا نظير الخلق فإن الله تعالى هو الخالق قد يخلق لا من سبب ولا في سبب كما خلق آدم صلوات الله عليه وقد يخلق لا من سبب ولا في سبب كما خلق عيسى عليه السلام وقد يخلق من سبب في سبب كما قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر الآية ثم الاشتغال بالنكاح وطلب الولد لا ينفي يقين العبد بأن الخالق هو الله تعالى فكذا أمر الرزق ليعلم أن من يزعم أن حقيقة التوكل في تركه الكسب فهو مخالف للشريعة وإليه أشار رسول الله A في قوله للسائل الذي قال أرسل ناقتي وأتوكل فقال عليه السلام لا بل اعقلها وتوكل ونظير هذا الدعاء فقد أمرنا به قال الله تعالى واسألوا الله من فضله ومعلوم أن كل ما قدر لأحد فهو يأتيه لا محالة ثم أحد لا يتطرق بهذا إلى ترك السؤال والدعاء من الله تعالى والأنبياء عليهم السلام كانوا يسألون الجنة مع علمهم أن الله تعالى يدخلهم الجنة وقد وعدهم ذلك هو لا يخلف الميعاد وكانوا يأمنون العاقبة ثم كانوا يسألون الله تعالى ذلك في دعائهم وكذا أمر الشفاء فالشافي هو الله وقد أمرنا بالمداواة قال عليه السلام : تداووا عباد الله .
فإن الله ما خلق داء إلا وخلق له دواء إلا السام أو قال الهرم وقد فعل ذلك رسول الله A يوم أحد حين داوى ما أصابه من الجراحة في وجهه ثم اكتساب السبب بالمداواة لا ينفي التيقين بأن الله هو الشافي فكذا اكتساب سبب الرزق بالتحرك لا ينفي التيقن بأن الله تعالى هو الرازق والعجب من الصوفية أنهم لا يمتنعون من تناول طعام من أطعمهم من كسب يده وربح تجاراته مع علمهم بذلك فلو كان الاكتساب حراما لكان المال الحاصل به حرام التناول لأن ما يتطرق إليه بارتكاب الحرام يكون حراما ( ألا ترى ) أن بيع الخمر للمسلم لما كان حرما كان تناول ثمنها حراما وحيث لم يمتنع أحد منهم من التناول عرفنا أن قولهم من نتيجة الجهل والكسل ثم المذهب عند جمهور الفقهاء من أهل السنة والجماعة رحمهم الله أن الكسب بقدر ما لا بد منه فريضة وقالت الكرامية بل هو مباح بطريق الرخصة لأنه لا يخلو إما أن يكون فرضا في وقت مخصوص شرعا يكون مضافا إلى ذلك الوقت كالصلاة والصوم ولم يرد الشرع بإضافة الكسب إلى وقت مخصوص ثم لا يخلو إما أن يكون فرضا لرغبة الناس إليه أو للضرورة والأول باطل فإن الرغبة ثابتة في جميع ما في الدنيا من الأموال وأحد لا يقول يفترض على كل واحد تحصيل جميع ذلك والثاني باطل أيضا فإن ما يفترض للضرورة إنما يفترض عند تحقق الضرورة وبعد تحقق الضرورة يعجز عن الكسب فكيف تتأخر فريضته إلى حال عجزه ولا يخلو إما أن يفترض جميع أنواعه أو نوع مخصوص منه والأول باطل فإن الأنبياء عليهم السلام ما اشتغلوا بالكسب في عامة أوقاتهم وكذا أعلام الصحابة ومن بعدهم من الأخيار ولا يظن بهم أنهم اجتمعوا على ترك ما هو فرض عليهم والثاني باطل لأنه ليس بعض الناس بتخصيصه بهذا الفريضة بأولي من البعض فتبين أن الكسب ليس بفرض أصلا والدليل عليه أنه لو كان أصله فرضا لكان الاستكثار منه مندوبا إليه وكان نقلا بمنزلة العبادات والاستكثار منه مذموم كما قال الله تعالى إنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلى قوله عذاب شديد وبهذا الحرف يقع الفرق بينه وبين طلب أهل العلم فإن أصله لما كان فرضا كان الاستكثار منه مندوبا إليه وحجتنا في ذلك قوله تعالى : انفقوا من طيبات ما كسبتم والأمر حقيقة للوجوب ولا يتصور الإنفاق من المكسوب إلا بعد الكسب وما لا يتوصل إلى إقامة الفرض إلا بة يكون فرضا وقال تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا الآية يعني الكسب والأمر حقيقة للوجوب . فإن قيل قد روى عن مجاهد ومكحول رحمهما الله أنهما قالا المراد طلب العلم قلنا ما ذكرنا من التفسير مروي عن رسول الله A فإنه قال طلب الكسب بعد الصلاة المكتوبة هي الفريضة بعد الفريضة وتلا قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فلا يترك ذلك بقول مكحول ومجاهد رحمهما الله والظاهر يؤيد ما ذكرنا بدليل ما ذكر بعده وإذا رأوا تجارة الآية وكانوا انفضوا بذلك في حال خطبته فنهوا عن ذلك وأمروا به بعد الفراغ من الصلاة . فإن قيل الأمر بعد النهي يفيد الإباحة . قلنا الأمر حقيقة للإيجاب ولو كان المراد هو الإباحة والرخصة لقال فلا جناح عليكم أن تبتغوا من فضل الله كما قال في باب طريق الحج ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم والدليل عليه أن الله تعالى أمر بالإنفاق على العيال من الزوجات والأولاد والمعتدات ولا يتمكن من الانفاق عليهم إلا بتحصيل المال بالكسب وما يتوصل به إلى أداء الواجب يكون واجبا والمعقول يشهد له فإن في الكسب نظام العالم والله تعالى حكم ببقاء العالم إلى حين فنائه وجعل سبب البقاء والنظام كسب العباد وفي تركه تخريب نظامه وذلك ممنوع منه . فإن قيل فبقاء هذا النظام يتعلق بالتسافد بين الحيوان وأحد لا يقول بفرضية ذلك . قلنا نعم أن الله تعالى علق البقاء بتسافد الحيوانات وركب الشهوة في طباعهم وتلك الشهوة تحملهم على مباشرة ذلك الفعل فلا تقع الحاجة إلى أن يجعل ذلك فرضا عليهم لكيلا يمتنعوا من ذلك فإن الطبع داع إلى اقتضاء الشهوة . فأما الاكتساب في الابتداء فكد وتعب وقد تعلق به بقاء نظام العالم فلو لم يجعل أصله فرضا لاجتمع الناس عن آخرهم على تركه لأنه ليس في طبعهم ما يدعو إلى الكد والتعب فجعل الشرع أصله فرضا لكيلا يجتمعوا على تركه فيحصل ما هو المقصود وجميع ما ذكروا من التقسيمات يبطل بما أشار إليه محمد C في قوله طلب الكسب فريضة كما أن طلب العلم فريضة . فإن هذه التقسيمات تأتي في العلم ومع ذلك كان أصله فرضا بالاتفاق فكذلك طلب الكسب وكان معني الفريضة ما بينا من بقاء نظام العالم به ولا يوجد ذلك في الاستكثار منه على قصد .
التكاثر والتفاخر وإنما ذم الله تعالى الاستكثار إذا كان بهذه الصفة فقال D وتفاخر بينكم وتكاثرتم ينبني على هذه المسألة مسألة أخرى وهي أنه بعدما اكتسب ما لا بد منه هل الاشتغال بالاكتساب أفضل أم التفرغ للعبادة قال بعض الفقهاء رحمهم الله الاشتغال بالكسب أفضل وأكثر مشايخنا رحمهم الله على أن التفرغ للعبادة أفضل وجه القول الأول أن منفعة الاكتساب أعم فإن ما يكتسبه الزارع تصل منفعته إلى الجماعة عادة والذي يشتغل بالعبادة إنما ينفع نفسه لأنه بفعله يحصل النجاة لنفسه ويحصل الثواب لجسمه . وما كان أعم نفعا فهو أفضل لقوله عليه السلام خير الناس من ينفع الناس ولهذا كان الاشتغال بطلب العلم أفضل من التفرغ للعبادة لأن منفعة ذلك أعم ولهذا كان الإمارة والسلطنة بالعدل أفضل من التخلي للعبادة كما اختاره الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم لأن ذلك أعم نفعا وإلى هذا المعنى أشار النبي A في قوله العبادة عشرة أجزاء وقوله عليه السلام الجهاد عشرة أجزاء تسعة منها في طلب الحلال للانفاق على العيال والدليل عليه أنه بالكسب يتمكن من أداء أنواع الطاعات من الجهاد والحج والصدقة وبر الوالدين وصلة الرحم والإحسان إلى الأقارب والأجانب وفي التفرغ للعبادة لا يتمكن إلا من أداء بعض الأنواع كالصوم والصلاة وجه القول الآخر وهو الأصح أن الأنبياء والرسل ما اشتغلوا بالكسب في عامة الأوقات ولا يخفى على أحد أن اشتغالهم بالعبادة في عمرهم كان أكثر من اشتغالهم بالكسب ومعلوم أنهم كانوا يختارون لأنفسهم أعلى الدرجات ولا شك أن أعلى مناهج الدين طريق المرسلين عليهم السلام وكذا الناس في العادة إذا أحرجهم أمرلا يحتاجون إلى دفعه عن أنفسهم يشتغلون بالعبادات لا بالكسب والناس إنما يتقربون إلى العباد دون المكتسبين والدليل عليه أن الاكتساب يصح من الكافر والمسلم جميعا فكيف يستقيم القول بتقديمه على ما لا يصح إلا من المؤمنين خاصة وهي العبادة والدليل عليه أن النبي A لما سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها أي أشقها على البدن وإنما أشار بهذا إلى أن المرء إنما ينال أعلى الدرجات بمنع النفس هواها قال الله تعالى ونهى النفس عن الهوى الآية . والاشتغال بهذه الصفة في الانتهاء والدوام في العبادات فأما الكسب ففيه بعض التعب في الابتداء ولكنه فيه قضاء الشهوة في الانتهاء وتحصيل مراد النفس فلا بد من القول بأنه ما يكون بخلاف هوى النفس ابتداء وانتهاء فهو أفضل ولا يدخل في شيء مما ذكرنا النكاح فإن الاشتغال بالنكاح أفضل عندنا من التخلي لعبادة الله تعالى وهذا المعنى موجود فيه لأنه إنما كان ذلك أفضل لما فيه من تكثير عبادة الله تعالى وأمة رسوله عليه السلام وتحقيق مباهاة رسول الله بهم وذلك لا يوجد هنا فكان التفرغ للعبادة أفضل من الاشتغال بالكسب بعد ما يحصل ما لا بد منه وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء رحمهم الله وهي أن صفة الفقر أعلى أم صفة الغني . والمذهب عندنا أن صفة الفقر أعلى وقال بعض الفقهاء صفة الغني أعلى وقد أشار محمد C في كتاب الكسب في موضعين إلى ما بينا من مذهبنا فقال في أحد الموضعين .
ولو أن الناس قعنوا بما يكفيهم وعمدوا إلى الفضول فوجهوها لأمر آخرتهم لكان خيرا لهم وقال في الموضع الآخر وما زاد على ما لا بد منه يحاسب المرء عليه يكون أفضل مما يحاسب المرء عليه وأما من فضل الغني فاحتج وقال الغني نعمة والفقر بؤس ونقمة ومحنة ولا يخفى على عاقل أن النعمة أفضل من النقمة والمحنة والدليل عليه أن الله تعالى سمى المال فضلا فقال غز وجل : ابتغوا من فضل الله وقال تعالى ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم وما هو فضل الله فهو أعلى الدرجات وسمى المال خيرا فقال D أن ترك خيرا الوصية للوالدين وهذا اللفظ يدل على أنه خير من عنده وقال تعالى ولقد آتينا داود منا فضلا يعني الملك والمال حتى روى أنه كانت له مائة سرية فتمنى من الله تعالى الزيادة على ذلك فقال رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي ولا يظن بأحد من الرسل عليهم السلام أنه سأل من الله تعالى الدرجة الدنيا دون الدرجة العليا والدليل عليه أن النبي A قال الآيدي ثلاثة يد الله ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة وهي السفلى إلى يوم القيامة وفي حديث آخر قال عليه السلام اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي اليد المعطية وقال عليه السلام لسعد بن أبي وقاص Bه إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وقال أبو بكر الصديق Bه لعائشة Bها في مرضه أن أحب الناس إلي غنى أنت وأعزهم علي فقرا أنت فهذا يدل على أن صفة الغنى أعلى من صفة الفقر قال عليه السلام كاد الفقر أن يكون كفرا وقال عليه السلام اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك وقال عليه السلام اللهم إني أعوذ بك من البؤس والتباؤس البؤس الفقر والتباؤس التمسكن ولا يظن بالنبي A أنه يتعوذ بالله من أعلى الدرجات . وحجتنا في ذلك أن الفقر أسلم للعباد وأعلى الدرجات للعبد ما يكون أسلم له وبيان ذلك أنه يسلم بالفقر من طغيان الغني قال الله تعالى كلا إن الإنسان ليطغى الآية وقال D الذين طغوا في البلاد الآية وإنما حملهم على ذلك الطغيان الأغنياء يعني الذين ادعوا ما لا ينبغي لأحد من البشر فإنه لم ينقل أن أحدا من الفقراء وقع في ذلك فدل أن الفقر أسلم ثم صفة الغنى مما تميل إليه النفس ويدعو إليه الطبع ويتوصل به إلى اقتضاء الشهوات ولا يتوصل بالفقر إلى شيء من ذلك وأعلى الدرجات ما يكون أبعد من اقتضاء الشهوات وقال تعالى واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا وقال جل وعلا زين للناس الآية والدليل عليه قوله عليه السلام حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وقال عليه السلام الفقر أزين بالمؤمن من العداء الجيد على جيد الفرس وقال عليه السلام إن فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام وفي الآثار أن آخر الأنبياء عليهم السلام دخولا الجنة سليمان عليه السلام لملكه وقال عليه السلام يوما لعبدالرحمن بن عوف Bه ما أبطأك عني يا عبدالرحمن قال وما ذاك يا رسول الله قال إنك آخر أصحابي لحوقا بي يوم القيامة فأقول ما حبسك عني فتقول المال كنت محاسبا محبوسا حتى الآن وكان هو من العشرة الذين شهد لهم رسول الله A بالجنة وقد قاسم الله ماله أربع مرات فتصدق بالنصف وأمسك النصف في المرة الأولى وكان ماله ثمانية آلاف فتصدق بأربعة آلاف دينار فتصدق بنصفها وفي المرة الرابعة كان اثنين وثلاثين ألف دينار فتصدق بنصفها ومع ذلك كله قال عليه السلام في حقه ما قال فتبين به أن صفة الفقر أفضل وقال عليه السلام عرض علي مفاتيح خزائن الأرض فاستفتيت أخي جبريل عليه السلام بذلك فأشار إلي بالتواضع فقلت : أكون عبدا أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت صبرت وإذا شبعت شكرت وكان النبي A يقول : اللهم احبني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ولا شك أن النبي A سأل لنفسه أعلى الدرجات وإن الأفضل لنا ما سأله رسول الله A فقد قال النبي A أنا حظكم من الأنبياء وأنتم حظي من الأمم ففي هذا إشارة إلى أن الواجب علينا التمسك بهذا ويتبين بما ذكرنا أن النبي A ما تعوذ من الفقر المطلق وإنما تعوذ من الفقر المنسي على ما روى في بعض الروايات أنه عليه السلام قال اللهم إني أعوذ بك من فقر منسي ومن غنى يطغي إلا أنه قيد السؤال في بعض الأحوال ومراده ذلك أيضا ولكن من سمع اللفظ مطلقا نقله كما سمع وهذه المسألة تنبني على مسألة أخرى اختلف فيها العلماء وهو أن الشكر على الغنى أفضل أم الصبر على الفقر واختلفا العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أربعة أقاويل فمنهم من توقف في جوابها لتعارض الآثار وقال إن أبي حنيفة C توقف في أطفال المشركين .
لتعارض الآثار فيهم وقال إذا فيقتدى به يتوقف في هذا الفصل لتعارض الآثار أيضا ومنهم من قال هما سواء واستدلوا بقوله عليه السلام الطاعم الشاكر كالجائع الصابر ولأن الله تعالى اثنى في كتابه على عبدين وأثنى على كل واحد منهما بنعم العبد أحدهما بنعم عليه فشكر وهو داود قال الله ووهبنا لداود الآية والآخر ابتلى فصبر وهو أيوب عليه السلام قال الله تعالى إنا وجدناه صابرا الآية فعرفنا أنهما سواء ومنهم من قال الشكر على الغنى أفضل لقوله عليه السلام الحمد لله على كل نعمة وقال عليه السلام لو أن جميع الدنيا صارت لقمة فتناولها عبد وقال الحمد لله رب العالمين كان بما أتى به خيرا مما أوتي يعني لما في هذه الكلمة من الثناء على الله تعالى وتبين بالحديث الأول أن الشكر يكون بالثناء على الله تعالى فكان أفضل من الصبر والدليل عليه قوله تعالى اعملوا آل داود شكرا وهذا يعم جميع الطاعات ولا شك أن ما يعم جميع الطاعات فهو أعلى الدرجات وذلك لا يوجد في الصبر على الفقر والمذهب عندنا أن الصبر على الفقر أفضل قال عليه السلام الصبر نصف الإيمان . وقال عليه السلام الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولأن في الفقر معنى الابتلاء والصبر على الابتلاء يكون أفضل من الشكر على النعمة يعتبر هذا بسائر أنواع الابتلاء فإن الصبر على ألم المرض يكون أعظم من الثواب من الشكر على صحة البدن وكذلك الصبر على العمي أفضل من الشكر على البصر قال عليه السلام فيما يأثر عن ربه D من أخذت كريمته وصبر على ذلك فلا جزاء له عندي إلا الجنة أو قال الجنة والرؤية وهذا الفقه وهو أن للمؤمن ثوابا في نفس المصيبة قال عليه السلام يؤجر المؤمن في كل شيء حتى الشوكة تشاكه في رجله . والدليل عليه أن ماعزا Bه حين أصابه حر الحجارة هرب وكان ذلك منه نوع اضطراب ثم مع ذلك قال فيه رسول الله لقد تاب توبة لو قسمت توبته على جميع أهل الأرض لوسعتهم فعرفنا أن نفس المصيبة للمؤمن ثواب وفي الصبر عليها ثواب أيضا فأما نفس الغنى فلا ثواب فيه وإنما الثواب في الشكر على الغنى وما ينال به الثواب من الوجهين يكون أعلى مما ينال فيه الثواب من وجه واحد وكما أن في الشكر على الغنى ثناء على الله تعالى ففي الصبر على المصيبة كذا لقوله تعالى : الذين إذا أصابتهم مصيبة الآية وحكى أن غنيا وفقيرا تناظرا في هذه المسألة فقال الغني الشاكر أنا أفضل فإن الله تعال استقرض من الأغنياء فقال D : من ذا الذي يقرض الله الآية . وقال الفقير إن الله تعالى إنما استقرض من الأغنياء للفقراء وقد يستقرض من الخبيث وغير الخبيث ولا يستقرض إلا الأجل يوضحه أن الغنى يحتاج إلى الفقير ولا يحتاج الفقير إلى الغني لأن الغنى يلزمه أداء حق المال فلو اجتمع الفقراء عن آخرهم على أن لا يأخذوا شيئا من ذلك لم يجبروا على الأخذ ويحمدون شرعا على الامتناع من الأخذ فلا يتمكن الأغنياء من إسقاط الواجب عن أنفسهم والله تعالى يوصل الفقراء كفايتهم على حسب ما ضمن لهم فبهذا تبين أن الأغنياء هم الذين يحتاجون إلى الفقراء والفقراء لا يحتاجون إليهم بخلاف ما ظنه من يعتبر الظاهر ولا يتأمل في المعنى ويتضح بما قررنا أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر وفي خير ثم الكسب على مراتب فمقدار ما لا بد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه غنيا أو فقيرا لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض إلا به وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك فهو في سعة من ذلك لقوله عليه السلام من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وقال عليه السلام لابن خنيس Bه فيما يعظه لقمة تسد بها جوعتك وخرقة تواري بها سوأتك فإن كان لك كن يكنك فحسن وان كان لك دابة تركبها بخ بخ .
وهذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضى به دينه فرض عليه لأن قضاء الدين مستحق عليه إن كان غنيا قال عليه السلام الدين مقضى وبالاكتساب يتوصل إليه . وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد صغار فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم غنيا لأن الانفاق على زوجته مستحق عليه قال الله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم معناه فانفقوا عليهم من وجدكم وهكذا في قراءة ابن مسعود Bه وقال جل وعلا وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن الآية وقال D ومن قدر عليه رزقه فلينفق الآية وإنما يتوصل إلى إيفاء هذا المستحق بالكسب وقال A كفى بالمرء إثما أن يضيع من يمون فالتحرز عن ارتكاب المآثم فرض وقال عليه السلام إن لنفسك عليك حقا وإن لا هلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه ولكن هذا في الفرضية دون الأول لقوله عليه السلام ثم من تعول فإن اكتسب زيادة على ذلك ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة من ذلك لما روي أن النبي A ادخر قوت عياله لسنة بعد ما كان منهيا عن ذلك على ما روى أنه A قال لبلال Bه أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا والبمتأخر يكون ناسخا للمتقدم فإن كان له أبوان كبيران معسران فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفيايتهما لأن نفقتهما مستحقة عليه بعد عسرته إذا كان متمكنا من الكسب قال عليه السلام للرجل الذي أتاه وقال أريد الجهاد معك ألك أوبان قال : نعم قال عليه السلام ارجع ففيهما فجاهد يعني اكتسب وأنفق عليهما وقال تعالى : وصاحبهما في الدنيا معروفا وليس من المصاحبة بالمعروف تركهما يموتان جوعا مع قدرته على الكسب ولكن هذا دون ما سبق في الفرضية لما روى أن رجلا قال لرسول الله A معي دينار فقال عليه السلام : أنفقه على نفسك فقال : معي رخر فقال عليه أنفقه على عيالك قال : معي آخر قال عليه السلام أنفقه على والديك الحديث فأما غير الوالدين من ذوي الرحم المحرم فلا يفترض على المرء الكسب للانفاق عليهم لأنه لا تستحق نفقتهم عليه إلا باعتبار صفة اليسار ولكنه يندب إلى الكسب والإنفاق عليهم لما فيه من صلة الرحم وهو مندوب إليه في الشرع قال عليه السلام لا خير فيمن لا يحب المال فيصل به رحمه ويكرم به ضيفه ويبر به صديقه وقال عليه السلام لعمرو بن العاص Bه وأرغب لك رغبة من المال الحديث إلى أن قال نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحمه وقطيعة الرحم حرام لقوله عليه السلام ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم نقول النعمة كفرت ولم أشكر وتقول الأمانة فضيعت ولم أؤد وتقول الرحم قطعت ولم أوصل وقال E صلة الرحم تزيد في العمر وقطيعة الرحم ترفع البركة من العمر قال عليه السلام فيما يأثر عن ربه D أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته وفي ترك الإنفاق عليهم ما يؤدى إلى قطيعة الرحم فيندب إلى الاكتساب للإنفاق عليهم وبعد ذلك الأمر موسع عليه فإن شاء اكتسب وجمع المال وإن شاء أبى لأن السلف رحمهم الله منهم من جمع المال ومنهم من لم يفعل فعرفنا أن كلا الفريقين مباح أما الجمع فلما روى عن النبي A من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبها مفاخرا مكاثرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فدل أن جمع المال على طريق التعفف مباح وكان عليه السلام يقول في دعائه اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبرسني وانقضاء عمري وكان كذا فقد اجتمع له أربعون شاة حلوبة وفدك وسهم بخيبر في آخر عمره وأما الامتناع من جمع المال فطريق مباح أيضا لحديث عائشة Bها عن النبي A قال : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وقيل هذا كان مما يتلى في القرآن في سورة يونس من الركوع الثاني أو الثالث ثم انتسخت تلاوته وبقيت روايته وقال عليه السلام : تبا للمال وفي رواية لصاحب الذهب والفضة وقال A : هلك المكثرون إلا من قال بماله هكذا وهكذا يعني يتصدق من كل جانب وقال عليه السلام يقول الشيطان لن ينجو مني صاحب المال من إحدى ثلاث إما أن أزينه في عينه فيجمعه من غير حله وإما أن أحقره في عينه فيعطى في غير حله وإما أن أحببه إليه فيمنع حق الله تعالى منه ففي هذا بيان أن الامتناع من الجمع أسلم ولا عيب على من اختار طريق السلامة ثم بين محمد C إن الكسب فهي معنى المعاونة على القرب والطاعات أي كسب كان حتى قال إن كسب فتال الحبال ومتخذ الكيزان والجرار وكسب .
الحركة فيه معاونة على الطاعات والقرب فإنه لا يتمكن من أداء الصلاة إلا بالطهارة ويحتاج ذلك إلى كوز يستقى به الماء وإلى دلو ورشاء ينزح به الماء ويحتاج إلى ستر العورة لأداء الصلاة وإنما يتمكن من ذلك بعمل الحركة فعرفنا أن ذلك كله من أسباب التعاون على إقامة الطاعة وإليه أشار علي Bه في قوله : لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة وقال أبو ذر Bه حين سأله رجل عن أفضل الأعمال بعد الإيمان فقال الصلاة وأكل الخبز فنظر إليه الرجل كالمتعجب فقال لولا الخبز ما عبد الله تعالى يعني بأكل الخبز يقيم صلبه فيتمكن من إقامة الطاعة ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله إن المكاسب كلها في الإباحة سواء وقال بعض المتقشفة ما يرجع إلى الدناءة من المكاسب في عرف الناس لا يسع الإقدام عليه إلا عند الضرورة لقوله عليه السلام ليس للمؤمن أن يذل نفسه وقال عليه السلام إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها والسفساف ما يدنى المرء ويبخسه . وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ولا الصلاة قيل فما يكفرها يا رسول الله قال الهموم في طلب المعيشة وقال عليه السلام طلب الحلال كمقارعة الأبطال ومن بات وانيا من طلب الحلال مات مغفورا له وقال عليه السلام أفضل الأعمال الاكتساب للانفاق على العيال من غير تفصيل بين أنواع الكسب ولو لم يكن فيه سوى التعفف والاستغناء عن السؤال لكان مندوبا إليه فإن النبي A قال السؤال آخر كسب العبد أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة وقال عليه السلام لحكيم بن حزام Bه أو لغيره مكسبة فيها نقص المرتبة خير لك من أن تسألة الناس أعطوك أو منعوك ثم المذمة في عرف الناس ليست للكسب بل للخيانة وخلف الوعد واليمين الكاذبة ومعنى البخل ثم المكاسب أربعة الإجارة والتجارة والزراعة والصناعة وكل ذلك في الإباحة سواء عند جمهور الفقهاء رحمهم الله وقال بعضهم الزراعة مذمومة لما روى أن النبي A رأى شيئا من آلات الحرابة في دار قوم فقال ما دخل هذا بيت قوم إلا دلوا وسئل النبي A عن قوله D أن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم أهو التعرب قال لا ولكنه الزراعة والتعرب سكنى البادية وترك الهجرة وقال عبدالله بن عمر Bهما إذا تبايعتم بالعين واتبعتم أذناب البقر ذللتم حتى يطمع فيكم . وحجتنا في ذلك ما روى أن النبي A ازدرع بالجرف وقال عليه السلام