قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام : أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - إملاء : اعلم بأن الفرائض من أهم العلوم بعد معرفة أركان الدين حث رسول الله - A - على تعليمها وتعلمها كما رواه ابن مسعود - Bه - أن النبي - A - قال : ( تعلموا القرآن وعلموه الناس وتعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني أمرؤ مقبوض وسيقبض هذا العلم من بعدي حتى يتنازع الرجلان في فريضة فلا يجدان من يفصل بينهما ) .
وكان ابن مسعود - Bه - يقول لأصحابه عند رواية هذا الحديث : تعلموا الفرائض ولا يكونن أحدكم كرجل لقيه أعرابي فقال أمها جر أنت قال : فإن إنسانا من أهلي مات فكيف يقسم ميراثه قال : لا أدرى قال : فما فضلكم علينا تقرؤون القرآن ولا تعلمون الفرائض .
وفي حديث عبدالله بن عمر - Bهما - أن النبي - A - قال : ( تعلموا العلم وعلموه الناس وتعلموا الفرائض فإنها نصف العلم وهي أول ما ينزع من بين أمتي ) . وقد كان أكثر مذاكرة أصحاب رسول الله - A - وBهم - إذا اجتمعوا : في علم الفرائض ومدحوا على ذلك حتى قال عليه السلام ( أقرؤكم لكتاب الله : أبي بن كعب وأقضاكم : علي وأفرضكم : زيد وأعلمكم بالحلال والحرام : معاذ بن جبل - Bهم - أجمعين ) . فقد نوه بذكر زيد في علم الفرائض .
ثم طرق الفرضيين قد اختلفت في شرح هذا الكتاب فمن بين مطول أمل ومن بين موجز أخل فالسبيل أن نجري القصد وندع التطويل بذكر ما لا يحتاج إليه والإخلال بترك نص ما يحتاج إليه فإن خير الأمور أوسطها . فنقول : .
إذا مات ابن آدم يبدأ من تركته بالأقوى فالأقوى من الحقوق عرف ذلك بقضية العقول وشواهد الأصول : .
فأول ما يبدأ به تجهيزه وتكفينه ودفنه بالمعروف كما روي أن ابن عمر - Bه - لما استشهد يوم أحد لم يوجد له إلا نمرة فكان إذا كان غطى بها رأسه بدى رجلاه وإذا غطى بها رجلاه بدى رأسه فأمر A أن يغطي بها رأسه ويجعل على رجليه من الإزخر وقد نقل ذلك في حال حمزة - Bه - أيضا ولم يسأل عن الدين عليهما فلو كان الدين مقدما على الكفن لسأل عن ذلك كما سأل عن الدين حتى كان لا يصلي على من مات وعليه دين فقال : ( هل على صاحبكم دين ) ثم الكفن لباسه بعد وفاته فيعتبر بلباسه في حياته ولباسه في حياته مقدم على دينه حتى لا يباع على المديون ما عليه من ثيابه فكذلك لباسه بعد موته .
ومن مات ولا شيء له يجب على المسلمين تكفينه فيكفن من مال بيت المال وماله يكون أقرب إليه من مال بيت المال وبهذا يتبين أن الكفن أقوى من الدين فإنه لا يجب على المسلمين قضاء دينه من بيت المال .
ثم بعد الكفن يقدم الدين على الوصية والميراث لحديث علي - Bه - قال - : إنكم تقرون الوصية قبل الدين وقد شهدت رسول الله - A - بدأ بالدين قبل الوصية .
وقيل لابن عباس - Bه - إنك تأمر بالعمرة قبل الحج وقد بدأ الله تعالى بالحج فقال : { وأتموا الحج والعمرة لله } ( البقرة : 196 ) فقال : كيف تقرؤون آية الدين فقالوا : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } ( النساء : 12 ) فقال : بماذا يبدأ فقالوا بالدين قال هو ذلك ولأن قضاء الدين من أصول حوائجه فإنه يفك به رهانه وتنفيذ الوصية ليس من أصول حوائجه .
ثم قضاء الدين مستحق عليه والوصية لم تكن متسحقة عليه وصاحب الدين ليس يتملك ما يأخذ عليه ابتداء ولكنه في الحكم يأخذ ما كان له ولهذا ينفرد به إذا ظفر بجنس حقه والموصى له يتملك ابتداء بطريق التبرع .
وأيد هذا كله ما روي أن رجلا أعتق عبدا في مرضه وعليه دين فاستسعاه رسول الله - A - في قيمته وإنما فعل ذلك لأنه قدم الدين على الوصية .
وعلى هذا قال علماؤنا - رحمهم الله - الدين إذا كان محيطا بالتركة يمنع ملك الوارث في التركة وإن لم يكن محيطا فكذلك في قول أبي حنيفة - C - الأول .
وفي قوله الآخر لا يمنع ملك الوارث بحال لأنه يخلف المورث في المال والمال كان مملوكا للميت في حال حياته مع اشتغاله بالدين كالمرهون فكذلك يكون ملكا للوارث .
وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين } ( النساء : 22 ) . فقد جعل الله تعالى أوان الميراث ما بعد قضاء الدين والحكم لا يسبق أوانه فيكون حال الدين كحال حياة المورث في المعنى ثم الوارث يخلفه فيما يفضل من حاجته فأما المشغول بحاجته لا يخلفه وارثه فيه وإذا كان الدين محيطا بتركته فالمال مشغول بحاجته وقيام الأصل يمنع ظهور حكم الخلف ولا يقول يبقى مملوكا بغير مالك ولكن تبقى مالكية المديون في ماله حكما لبقاء حاجته .
وأصل هذه المسألة فيما بيناه في النكاح أن المكاتب لا يعتبر ميراثا للوارث بموت المولى عندنا لبقاء حاجته إلى ولاية .
وعند الشافعي - C - يصير ميراثا .
ثم بعد قضاء الدين تقدم الوصية في محلها على الميراث ومحل الوصية الثلث قال عليه السلام ( إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم ) . ففي مقدار الثلث تقدم الوصية على الميراث لأن الله تعالى جعل الميراث بعد الوصية ولأن تنفيذ الوصية من حوائج الميت أيضا فأما ما زاد عن الثلث لا يظهر فيه تقديم الوصية لأن حق الوارث فيه يمنع الوصية إلا أن يجيز الوارث وبعد تنفيذ الوصية يقسم الميراث .
فنقول : الأسباب التي بها يتوارث ثلاثة : الرحم والنكاح والولاء والولاء نوعان : ولاء نعمة وولاء موالاة وكل واحد منهما سبب الإرث عندنا على ترتيب بينهما . وبينه والأسباب التي بها يحرم الميراث ثلاثة : الرق واختلاف الدين ومباشرة القتل بغير حق في حق من يتحقق منه التقصير شرعا .
والوارثون أصناف ثلاثة : .
أصحاب الفرائض والعصبات وذووا الأرحام وأصحاب الفرائض هم الذين لهم سهام مقدرة ثابتة بالكتاب والسنة أو الإجماع والعصبات أصناف ثلاثة : عصبة بنفسه وعصبة بغيره وعصبة مع غيره فالعصبة بنفسه الذكر الذي لا يفارقه الذكور في نسبته إلى الميت والعصبة بغيره الأنثى التي تصير عصبة بمن في درجتها من الذكر كالبنات بالبنين والأخوات بالأخوة والعصبة مع غيره كالأخوات يصرن عصبة مع البنات .
وفرق فيما بين العصبة بغيره والعصبة مع غيره أنه لا يكون عصبة بغيره إلا وأن يكون ذلك الغير عصبة والعصبة مع غيره أن لا يكون ذلك الغير عصبة في نفسه كالأخوات مع البنات فالبنت ليست عصبة بنفسها والأخت تصير عصبة معها .
وذووا الأرحام ما عدا هذين الصنفين من القرابة ثم أقوى أسباب الإرث العصوبة فإنه يستحق بها جميع المال ولا يستحق بالفريضة جميع المال والعصوبة في كونها سببا للإرث مجمع عليها بخلاف الرحم فكانت العصوبة أقوى الأسباب .
ثم إن محمدا - C - بدأ الكتاب ببيان ميراث الآباء وقد استحسن مشايخنا - رحمهم الله - البداءة ببيان ميراث الأولاد اقتداء بكتاب الله فقد قال الله D { يوصيكم الله في أولادكم } ( النساء : 11 ) ولأن الابن مقدم في العصوبة على الأب وقد بينا أن أقوى الأسباب : العصوبة فقدمنا بيان ميراث الأولاد لهذا والله أعلم بالصواب