( قال C ) : قد بينا أن الوصية للوارث لا تجوز بدون إجازة الورثة لقوله عليه السلام : ( لا وصية لوارث إلى أن يجيزه الورثة ) فإن أوصى لبعض ورثته ولأجنبي جازت حصة الأجنبي وبطلت حصة الوارث لأن الإيجاب تناولها بدليل أن عند إجازة الورثة ثم الاستحقاق لهما فبطلانه في حصة الوارث بعدم الإجازة لا يبطل حصة الأجنبي ولا يزيد في نصيبه بخلاف الوصية لحي وميت فالإيجاب في حق الميت غير صحيح أصلا وهذا بخلاف الإقرار لوارثه ولأجنبي لأن الإقرار إخبار عن واجب سابق وقد أقر بالمال مشتركا بينهما ولا يمكن إثباته بهذه الصفة لما فيه من منفعة الوارث والوصية إيجاب مبتدأ وإنما يتناول إيجابه نصف الثلث في حق كل واحد منهما فأمكن تصحيحه في نصيب الأجنبي كما أوجبه الموصى له وعلى هذا الوصية للقاتل وللأجنبي مع الإقرار لهما لأن صفة القتل في المنع عن الوصية والإقرار كصفة الوراثة على ما نبينه ولو أوصى له بشيء وهو وارث يوم أوصي ثم صار غير وارث أو كان غير وارث يوم الوصية ثم صار وارثا ومات الموصي إنما ينظر إلى يوم يموت الموصي فإن كان الموصى له وارثه لم تجز الوصية وإن لم يكن وارثه جازت الوصية لأن الوصية عقد مضاف إلى ما بعد الموت وإنما تحقق الوجوب له عند الموت ولأن المانع صفة الوراثة ولا يعرف ذلك إلا عند الموت لأن صفة الوراثة لا تكون إلا بعد بقاء الوارث حيا بعد موت المورث وكذلك الهبة في المرض والكفالة فإن ذلك في حكم الوصية حتى تعتبر من الثلث في حق الأجنبي ولا يصح للوارث أصلا وقد بينا الفرق بين هذا وبين الإقرار في كتاب الإقرار أن هناك إن صار وارثا بسبب تجدد الإقرار كان الإقرار صحيحا وإن ورثه بسبب كان قائما وقت الإقرار لم يصح الإقرار . وإذا أوصى لمكاتب وارثه أو لعبد وارثه فهو باطل من أجل أن ذلك ينتفع به الوارث فإن المولى يملك كسب عبده وله حق الملك في كسب مكاتبه . ولو أوصى لمكاتبه وقد كاتبه في مرضه أو في صحته جازت الوصية لأنه ليس في هذا منفعة لبعض الورثة دون البعض فإنه إن عتق فالوصية سالمة له وهو أجنبي وإن عجز فرقبته وكسبه يكون ميراثا بين جميع الورثة قال : وبلغنا عن علي بن أبي طالب Bه أنه لم يجعل للقاتل ميراثا وعن عمر Bه مثله وعن عبيدة السلماني Bه قال : لا يورث قاتل بعد صاحب البقرة والوصية عندنما بمنزلة ذلك ولا وصية لقاتل . أما الكلام في نفي الإرث للقاتل فقد بيناه في الديات وأما الوصية للقاتل فلا تصح عندنا سواء أوصى له قبل الجراحة أو بعدها وقال مالك : تصح الوصية له في الوجهين وقال الشافعي : إن أوصى له قبل أن يجرحه بطلت الوصية بقتله إياه وأن أوصى بعد ما جرحه صحت الوصية وجه قول مالك : أن هذا تمليك المال بالعقد فالقتل لا يبطله كالتمليك بالبيع والهبة وبأن كان يبطل الإرث لا يستدل على أنه يبطل الوصية كالرق واختلاف الدين فإنه ينفي التوريث ولا يمنع الوصية والفرق للشافعي من وجهين أحدهما : أنه إن كان الجرح بعد الوصية فالظاهر أن الموصي نادم على وصيته راجع عنه وإذا كانت الوصية بعد الجرح فلم يوجد بعد الوصية ما يدل على الرجوع عنها بل الظاهر أنه قصد الانتداب إلى ما ندب إليه وهو مقابلة السيئة بالإحسان والثاني أنه إذا جرحه بعد الوصية فالموصي له قصد الاستعجال بفعل محظور فيعاقب بالحرمان كالميراث فأأما إذا أوصى له بعد الجراحة فلم يتوهم قصد الاستعجال في تلك الجراحة ولا بعد الوصية فبقيت الوصية على حالها وجه قولنا : ظاهر قوله عليه السلام : ( ليس لقاتل شيء ) ويدخل الوصية والميراث جميعا في عموم هذا اللفظ وقال : ولا وصية لقاتل ولأن الملك بالوصية يثبت بعد الموت فيكون معتبرا بالملك الثابت بالميراث ولا فرق بينهما في المعنى لأن بطلان الوصية للوارث لدفع المغايظة عن سائر الورثة وبطلان الوصية للقاتل لهذا المعنى أيضا فإنه يغيظهم أن يقاسمهم قاتل أبيهم تركة أبيهم بسبب الإرث أو بسبب الوصية وفي هذا المعنى لا فرق بين أن تتقدم الوصية على الجرح أو تتأخر عنه وبه فارق الرق والكفر فإن الحرمان بهما لانعدام الأهلية للولاية لا لدفع المغايضة عن سائر الورثة ولا معتبر بالأهلية للولاية في الوصية وبخلاف سائر عقود التمليكات لأنها لا تشابه الإرث صورة ولا معنى وكذلك لو كان القاتل وارثا فأوصى له لم تجز الوصية وهذا تجوز في العبارة فإن القاتل لا يكون وارثا وإن كان وارثا كالصبي والمعتوه والوصية لمثل هذا القاتل تصح ثم الوجه فيه أنه اجتمع فيه وصفان كل واحد منهما بانفراده يجزئ الوصية فاجتماعهما أولى فإن أجازت الورثة الوصية للقاتل جازت في قول أبي حنيفة ومحمد ولم تجز في قول أبي يوسف ذكر قوله في الزيادات لأن الوصية أخت .
الميراث ولا ميراث للقاتل وإن أوصى به الورثة فكذلك الوصية وهذا لأن الحرمان كان بطريق العقوبة حقا للشرع فلا يتغير ذلك بوجود الرضى من الورثة والدليل عليه أنه لو أوصى لحربي في دار الحرب لم تجز الوصية لتباين الدارين وإن جازت الورثة وإنما امتنعت الوصية للحربي لكونه محاربا حكما والقاتل محارب له حقيقة فلأن لا تنفذ الوصية له بإجازة الورثة كان أولى . وجه قولهما : أن الوصية للقاتل أقرب إلى الجواز من الوصية للوارث لأن الأمر في نفس الوصية للوارث مشهور وفي نفي الوصية للقاتل مسبور والعلماء اتفقوا على أن لا وصية للوارث واختلفوا في جواز الوصية للقاتل ثم بإجازة الورثة تنفيذ الوصية للوارث فكذلك للقاتل والمعنى فيهما واحد وهو أن المغايظة تنعدم عند وجود الرضى من الوارث بالإجازة في الموضعين جميعا بخلاف ميراث القاتل فإن ثبوت الملك بالميراث بطريق الحكم حتى لا يتوقف على القبول ولا يرتد بالرد والإجازة إنما تعمل فيما يعتمد القبول ويرتد بالرد وبهلاف الوصية للحربي في دار الحرب لأن بطلانها لانعدام الأهلية في جانب الموصي له فإن من في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت ولهذا تنقطع العصمة بتباين الدارين حقيقة وحكما والميت لا يكون أهلا للوصية له ولا تأثير للإجازة في إثبات الأهلية لمن ليس بأهل وكذلك الوصية لعبد القاتل أو لمكاتبة فإنها كالوصية للقاتل لما يثبت له من حقيقة الملك أو حق الملك في الموصى به وقال في الأصل : إذا كانت الوصية لمولاه أو لعبده أبطلناها وقال الحاكم : تأويله عندنا إذا كان المولى هو القاتل فأوصى له أو لعبده فأما إذا كان العبد هو القاتل فالوصية لمولاه وصية صحيحة . ( ألا ترى ) أن عبد الوارث إذا قتل المورث لا يحرم المولى ميراثه وهذا لأنه لا حق للعبد في ملك مولاه وليس في حق المولى ما يحرمه الإرث والوصية لابن القاتل وأبويه وغيرهم من قرابته كائزة وكذلك لمماليك هؤلاء من عبيدهم ومكاتبهم ومدبريهم وأمهات أولادهم على قياس الإرث فإن ابن القاتل وأبويه يرثون المقتول وإن لم يرثه القاتل وهذا لأنه ليس للقاتل في ملك هؤلاء حق الملك ولا حقيقة الملك وإذا أقر لقاتله بدين فإن كان مريضا صاحب فراش حتى مات لم يجز وإن كان يذهب ويجيء فهو جائز لأن الجرح وإن كان سبب الهلاك ولكن لا يصير به في حكم المريض ما لم يصر صاحب فراش فإن المريض إنما يباين الصحيح بهذا لأن الإنسان لا يخلو عن نوع مرض وإن كان صحيحا فإذا لم يصر صاحب فراش كان هو في حكم الصحيح وإذا كان صاحب فراش فهو مريض وإن تكلف لمشيه إلى بعض حوائجه وكذلك الهبة إذا قبضها للقاتل وهو مريض فإن تصرف المريض كالمضاف إلى ما بعد الموت . فأما إذا كان يذهب ويجيء فهو صحيح وينفذ تصرفه في الحال مع القاتل كما ينفذ مع غيره وهكذا الجواب في الإقرار للوارث والهبة له وإذا ضربت المرأة الرجل بحديدة أو بغير حديدة فأوصى لها ثم تزوجها فلا ميراث لها ولا وصية وإنما لها مقدار صداق مثلها من المسمى وما زاد على ذلك في معنى الوصية فيبطل بالقتل ولو اشترك عشرة في قتل رجل أحدهم عبده وأوصى لبعضهم بعد الجناية وأعتق عبده فالوصية باطلة لأن كل واحد منهم قاتل له على الكمال . ( ألا ترى ) أنه يلزمهم القصاص إذا كان عمدا والكفارة إذا كان خطأ كما لو تفرد به وإن كل واحد منهم يحرم عن الميراث فكذلك الوصية إلا أن العتق بعد ما تعذر لا يمكن رده فيكون الرد بإيجاب السعاية عليه في قيمته والعفو على القاتل في دم العمد لأن الواجب القصاص والقصاص ليس بمال . ( ألا ترى ) أن متلفه بالشهادة باطلة والإكراه على العفو لا يكون ضامنا وأنه لا يعتبر من الثلث بحال فيكون صحيحا للقاتل وجعل العفو في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء أو أقوى منه ولو كان خطأ فعفا عنه كان هذا منه وصية لعاقلته فيجوز من الثلث لأن الواجب في الخطأ الدية على العاقلة وهو مال . قلنا : أصل الوجوب على القاتل والعاقلة يتحملون عنه فتكون هذه وصية للقاتل قلنا : باعتبار المال الوصية تكون للعاقلة وهم المنتفعون بهذه الوصية فإن قيل جزء من الدية على القاتل ففي ذلك الجزء الوصية منه تكون للقاتل . قلنا : نعم ولكن تتعذر الوصية في ذلك الجزء لأن كل جزء من بدل النفس يتقرر وجوبه على القاتل ففي ذلك الجزء الوصية تتحمله العاقلة كما لو اشترك ألف نفس في قتل رجل فالجزء الواجب على كل واحد منهم مع قلته يتحمله العاقلة وكذلك إن كان القاتل عبدا لأن الوصية بالعفو تقع لمولاه فإن موجب جناية العبد على المولى وهو الذي يخاطب بدفعه أو فدائه . ( ألا ترى ) أن بمد عتق .
العبد لا يطالب بشيء وإذا أوصى لعبده بثلث ماله صحت الوصية لأن رقبته من جملة ماله فيكون موصيا بجزء منها فإن قتله العبد فوصيته باطلة غير أنه يعتق ويسعى في قيمته لأنه تعذر رد العتق فيكون الرد بإيجاب السعاية وعلى هذا المدبر إذا قتل مولاه عمدا أو خطأ فعليه أن يسعى في قيمته لرد الوصية وعليه في العمد القصاص فإن كا للمقتول وليان فعفى أحدهما عنه انقلب نصيب الآخر مالا فعليه أن يسعى في نصف قيمته للآخر لأنها إنما صارت مالا بعد ما عتق وصار أحق بمكاسبه إلا أن الواجب بسبب جناية كانت منه في حال رقه فيكون الوجوب عليه من القيمة دون الدية بخلاف ما إذا قتل مولاه خطأ لأنه حين وجب المال بسبب الجناية كان المولى أحق بكسبه وموجب جنايته على غيره يكون على المولى فلا يجب بجنايته على مولاه شيء من ذلك لأنه لو وجب وجب على نفسه وأم الولد إذا قتلت سيدها خطأ فليس عليها سعاية في شيء لأن عتقها ليس بوصية وموجب جنايتها على غير المولى يكون على المولى فلا يلزمه بالجناية على مولاها خطأ شيء وإن قتلته عمدا وليس لها منه ولد كان عليها القصاص فإن عفى أحد الوارثين سعت للآخر في نصف قيمتها لأن نصيب الآخر إنما انقلب مالا بعد ما عتقت وصارت أحق بكسبها وإن كان لها منه ولد بطل عنها القصاص لصيرورة جزء منه لولدها وعليها أن تسعى في قيمتها لأن القصاص إنما انقلب مالا بعد موت المولى حين ورث ولدها جزءا منه وإذا أوصى لقاتله بالثلث وأجاز ذلك الورثة بعد موته جاز وإن إجازته قبل موته فهو باطل بمنزلة الوصية للوارث وقد تقدم بيانه ولو أوصى لرجل بوصية فقامت البينة عليه أنه قاتل وصدقهم بذلك بعض الورثة وكذبهم بعضهم فإنه يبرأ من حصة الذين كذبوا من الدية وتجوز وصيته في حصتهم من الثلث ويلزمه حصة الذين صدقوا من الدين وتبطل وصيته في حصتهم من الثلث لأن في حق كل فريق يجعل كأن الفريق الآخ في مثل حاله إذ لا ولاية لبعضهم على البعض وإذا قامت عليه بينة بالقتل وأبرأه الميت فإبراؤه عفو منه فيصح من الثلث إن كان القتل خطأ ولا وصية له بعد ذلك لأن القتل ثبت عليه بالبينة فإن في حق الذين كذبوهم حتى لو كذب الورثة الشهود جازت الوصية له بعد وإذا جرح الرجل في مرضه جراحة عمدا أو خطأ فقال المجروح : لم يجرحني فلان ثم مات من ذلك كان القول قوله ولا سبيل للورثة على القاتل لأنهم يخلفونه وبعد ما قال : لم يجرحني لا سبيل له عليه في دعوى القتل فكذلك لورثته وإن أقام ورثته البينة على القتل لم تقبل بينتهم لأن قبول البينة ينبني على صحة الدعوى منهم وبعد قول المجروح : لم يجرحني فلان لا يصح كما لا يصح الدعوى منه قبل موته بخلاف ما إذا قال : لا جراحة لي قبل فلان ثم ادعى عليه القتل وأثبته بالبينة جازت لأنه نفى موجب الجرح ودعواه موجب النفس لا تنافي ما أبقاه من موجب الجرح وفي الأول نفي أصل الجرح ومن ضرورته نفي القتل إذ القتل بدون الجرح لا تصور له أما ظاهرا أو باطنا وإذا أوصى الرجل لرجلين بوصية وأقام كل واحد من ورثته البينة على أحد الموصى لهما أنه قتل صاحبهما خطأ كان على كل واحد منهما خمسة آلاف للذي أقام عليه البينة ولا وصية له في حصة الذي أقام عليه البينة بالقتل وتجوز له الوصية في حصة الآخر بالحساب لأن كل واحد منهما يثبت الحق على المشهود عليه لنفسه ولصاحبه وصاحبه مكذب لشهوده فيخرج كل واحد منهما من أن يكون قاتلا في حق من كذب المشهود عليه ويبقى قاتلا فيحق الآخر في حكم الدية والوصية جميعا وإذا أوصى الرجل لرجلين لكل واحد منهما بالثلث وأوصى لآخر بعبد فشهد الموصى لهما بالثلث على الموصى له بالعبد أنه قاتل فشهادتهما باطلة لأنهما يجزءان الثلث إلى أنفسهما ويسقطان مزاحمة الموصى له بالعبد معهما في الثلث ويلزمه الدية أيضا ولهما من ذلك الثلث فكانا شاهدين لأنفسهما والموصى له بالثلث شريك الوارث في التركة فهذه الشهادة لا تقبل من الورثة للتهمة فكذلك من الموصى له وكذلك لو شهدا على وارث أو على أجنبي أنه قتله خطأ لأن المعنى في الكل سواء وإذا أعتق الرجل في مرضه صبيا صغيرا لا مال له غيره ثم قتل الصبي مولاه عمدا فعليه أن يسعى في قيمتين يدفع له من ذلك الثلث وصية له ويسعى فيما بقي لأن الصبي لا يحرم الإرث بسبب القتل فكذلك لا يحرم الوصية ومحل الوصية الثلث فيلزمه السعاية فيما زاد على الثلث والمعتق في المرض ما دام عليه شيء من السعاية فهو بمنزلة المكاتب فلهذا ألزمه السعاية في قيمته بسبب الجناية وفي قيمته بسبب العتق في المرض بعد أن يسلم .
له من ذلك الثلث ولو كان كبيرا فقتل مولاه خطأ سعى في قيمتين للورثة ولا وصية له لأنه قاتل وهذا أقوى وهذا كله قول أبي حنيفة C . فأما عندهما : عليه السعاية في قيمته لرد الوصية والدية على العاقلة لأن المستسعى حر عندهما ولو قتل غير مولاه خطأ كانت الدية على عاقلته وكذلك إذا قتل مولاه . وعند أبي حنيفة هو بمنزلة المكاتب فعليه السعاية في قيمته لأجل الجناية وكذلك قولهما في الصبي أن الدية تجب على عاقلته كما لو قتل غير مولاه لأنه حرفان كان عليه السعاية لم يحسب له قيمته من الثلث بطريق الوصية لأن الصبي لا يحرم الوصية وإن كان قاتلا والله أعلم