( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمة الله عليه : اعلم بأن الوصية عقد مندوب إليه مرغوب فيه ليس بفرض ولا واجب عند جمهور العلماء وقال بعض الناس : الوصية للوالدين والأقربين إذا كانوا ممن لا يرثونه فرض وعند بعضهم الوصية واجبة على أحد ممن لم يرثوه واستدلوا بقوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } والمكتوب علينا يكون فرضا وقال عليه السلام : ( لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر إذا كان له مال يريد الوصية فيه أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ) وحجتنا في ذلك أن الوصية مشروعة لنا لا علينا قال عليه السلام : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم فضعوه حيث شئتم ) أو قال : ( أحببتم ) والمشروع لنا ما لا يكون فرضا ولا واجبا علينا بل يكون مندوبا إليه بمنزلة النوافل من العبادات ثم التبرع بعد الوفاة معتبر بالتبرع في حالة الحياة وذلك إحسان مندوب إليه وكذلك التبرع بالوصية بعد الموت . وأما الآية فقد اتفق أكثر أهل التفسير على أن ذلك كان في الابتداء قبل أن ينزل آية المواريث ثم انتسخ وتكلموا في ناسخه وكان أبو بكر الرازي C يقول : إنما انتسخ بقوله : { من بعد وصية يوصى بها أو ين } فإنه نص على الميراث بعد وصية منكرة فلو كانت الوصية للوالدين والأقربين ثابتة بعد نزول هذه الآية لذكر الإرث بعد الوصية المعرفة لأن تلك وصية معهودة وهذا قول الشافعي أيضا بناء على مذهبه أنه لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة والرازي كان لا يجوز نسخ الكتاب إلا بالخبر المتواتر وأكثر مشايخنا رحمهم الله يقولون : إنما انتسخ هذا الحكم بقوله عليه السلام : ( إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ) وهذا حديث مشهور تلقته العلماء بالقبول والعمل به ونسخ الكتاب جائز بمثله عندنا لأن ما تلقته العلماء بالقبول والعمل به كالمسموع من رسول الله A ولو سمعناه يقول : لا تعملوا بهذه الآية فإن حكمها منسوخ لم يجز العمل بها ولأجل شهرة هذا الحديث بدأ الكتاب به ورواه عن أبي قلابة أن رسول الله A قال : ( لا وصية لوارث ) وفي بعض الرواية قال : ( إلا أن يجيزه الورثة ) وفي هذه الزيادة بيان أن المراد نفي الجواز لا نفي التحقيق ومن ضرورة نفي الجواز نفي الفرضية والوجوب والحديث مرسل بالطريق الذي رواه ولكن المراسيل حجة عندنا كالمسانيد أو أقوى من المسانيد لأن الراوي إذا سمع الحديث من واحد لا يشق عليه حفظ اسمه فيرويه مسندا وإذا سمعه من جماعة يشق عليه حفظ الرواية فيرسل الحديث فكان الإرسال من الراوي المعروف دليل شهرة الحديث . فأما الحديث الذي رواه فهو شاذ فيما تعم به البلوى والوجوب لا يثبت بمثله ثم هو محمول على ما كان ابتداء قبل نزول آية المواريث أو المراد أن ذلك لا يليق بطريق الاحتياط واوخذ بمكارم الأخلاق لقوله عليه السلام : ( لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت شبعانا وجاره طاو إلى جنبه ) والمراد ما بينا ثم الوصية تتقدر بقدر الثلث من المال وهي مأخوذة من الدين لحديث علي Bه قال : إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين وكان رسول الله A يبدأ بالدين قبل الوصية وهكذا نقل عن ابن عباس Bهما فهذا منهما إشارة إلى معنى التقديم والتأخير في الآية ثم قضاء الدين من أصول حوائج المرء لأنه تفرغ به ذمته والوصية ليست من أصول حوائجه وحاجته مقدمة في تركته . ( ألا ترى ) أنه يقدم جهازه وكفنه لحاجته إلى ذلك فكذلك قضاء الدين ثم زعم بعض أصحابنا أن الوصية بعد الدين تقدم على الميراث لظاهر الآية وأكثرهم قالوا : التقديم لا يظهر في الوصية بل الوارث يستحق الثلثين إرثا في الوقت الذي يستحق الموصى له الثلث بالوصية والمراد من الآية تقديم الوصية على الميراث في الثلث لأنه محل للارث ) إذا لم يوص فيه بشيء فإذا أقضى كانت الوصية في الثلث مقدمة على الميراث والدليل على أن محل الوصية النافذة شرعا ثلث المال ما رواه من حديث سعد بن مالك قال : يا رسول الله أوصي بمالي كله فقال : ( لا ) قال : فبنصفه قال : ( لا ) قال : فبثلثه قال : ( الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ) وفي رواية : ( يتكفكفون ) وأصل هذا الحديث ما روي أن سعدا Bه مرض بمكة عام حجة الوداع فدهل عليه رسول الله A يعوده فقال : يا رسول الله أخلف عن دار الهجرة فأموت بمكة فقال : ( إني لأرجو أن يبقيك الله ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ) ولكن البائس سعد بن خولة يرثى له أن مات بمكة قيل : هذا من النبي عليه السلام إشارة إلى ما .
جرى من الفتوح على يد سعد في زمن عمر Bه ثم قال : يا رسول الله إني لا يرثني إلا ابنة لي أفأوصى بمالي كله . . . الحديث وفيه دليل على أنه لا ينبغي للمرء أن يوصي بأكثر من ثلثه لأن النبي عليه السلام ذم المعتدين في الوصية والتعدي في الوصية مجاوزة حدها قال الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } وفي الحديث : ( الحيف في الوصية أكبر الكبائر ) والحديث هو الظلم والميل وذلك بمجاوزة الحد المحدود شرعا بأن يوصي لبعض ورثته أو يوصي بأكثر من ثلث ماله على قصد الإضرار بورثته والدليل على أن محل الوصية الثلث ما روينا من قوله : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ) ثم بين المعنى بقوله : ( إنك إن تدع عيالك أغنياء ) معناه ورثتك أقرب إليك من الأجانب فترك المال خير لك من الوصية فيه وفي هذا دليل أن التعليل في الوصية أفضل وذلك مروي عن أبي بكر وعمر وقال : لأن يوصي بالخمس أحب إلينا من أن يوصي بالربع ولأن يوصي بالربع أحب إلينا من أن يوصي بالثلث وعن علي Bه مثل ذلك وزاد وقال : من أوصى بالثلث فلم يترك شيئا يعني لم يترك شيئا مما جعل له الشرع حق الوصية فيه فعرفنا أن القليل في الوصية أفضل لأن ذلك أبعد عن وحشة الورثة فإنه إذا أوصى بجميع الثالث قال الوارث : لا منة له علي فإنه ما ترك الوصية بما زاد على الثلث إلا لعجزه عن تنفيذه شرعا وحق الوارث ثبت في ماله شرعا قال عليه السلام : ( إن أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ) حتى إذا بلغ هذا وأشار إلى التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا كان ذلك وإن لم يقل وإنما تحل الوصية بالثلث شرعا لمن يترك مالا كثيرا يستغنى ورثته بثلثيه أما لكثرة المال أو لقلة الورثة هكذا روي أن عليا استأذنه رجل في الوصية لمن يترك خيرا يريد قوله تعالى : { إن ترك خيرا } ثم يستدل بظاهر هذا الحديث من يقول بأن الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر فإن النبي عليه السلام قدم صفة لغني لوارثة سعد فقال : ( إنك إن تدع عيالك أغنياء ) ولكنا نقول : قدم صفة الغنى لهم واختار الفقر لنفسه والأفضل ما اختاره رسول الله A لنفسه ثم إنما قدم الغني على الفقير الذي يسأل كما قال : ( من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ) أي يلحون في السؤال ونحن إنما نقدم الفقير الصابر دون الذي يسأل كما وصفهم الله بقوله تعالى : { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا } وهذا لأن الفقر مع الصبر أسلم للمرء وأزين للمؤمن قال عليه السلام : ( الفقر أزين للمؤمن من العذار الجيد على جلد الفرس ) فأما الغني فسبب للطغيان والفتنة قال الله تعالى : { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } وروي أن حمزة بن عبد المطلب أوصى إلى زيد بن حارثة يوم أحد وأن عليا Bه أوصى إلى الحسن Bهم وفيه دليل أن للمرء أن يوصي إلى غيره في القيام بحوائجه بعد وفاته وهذا من نظر الشرع له أيضا فقد يفرط في بعض حوائجه في حياته أو تخترمه المنية فيحتاج إلى من يقوم مقامه في القيام بحوائجه بعد موته والإيصار إلى الغير كان مشهورا بين الصحابة Bهم فإن أبا بكر Bه استخلف عمر وأوصى إلى عائشة Bها في حوائجه وعمر أوصى إلى حفصة وتكلم الناس في أن رسول الله A هل أوصى إلى أحد والصحيح عندنا أنه لم يوص إلى أحد بشيء إنما أمر أبا بكر أن يصلي بالناس وبه استدلوا على خلافته فقالوا : ما اختاره لأمر ديننا إلا وهو يرضى به لأمر دنيانا وينبغي أن يوصي إلى من هو أقرب إليه إذا كان أهلا لذلك كما أوصى علي إلى ولده الحسن Bه وأوصى حمزة إلى زيد بن حارثة وكان رسول الله A قد آخى بينهما حين قدم المدينة وذكر عن ابن مسعود أنه سئل عن إنسان أوصى بسهم من ماله فقال : هو السدس وبه أخذ أبو حنيفة C تعالى فقال : مطلق لفظ السهم في الوصية والإقرار ينصرف إلى السدس وهو مروي عن جماعة من أهل اللغة منهم إياس بن معاوية قالوا : السهم السدس وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا : للموصى له سهم مثل أخس سهام الورثة وروي ذلك في الكتاب عن شريح لأن ماله يصير سهاما بين ورثته فذكر السهم ينصرف إلى ذلك وأخس السهام متيقن فيه إلا أن يجاوز السهم فحينئذ لا تنفذ الوصية فيما زاد على الثلث بدون إجازة الورثة وأبو حنيفة يقول : هذا إن لو ذكر السهم معرفا وقد ذكره منكرا بقوله : أوصيت لكم بسهم من مالي فينصرف إلى ما فسر أهل اللغة السهم بهم .
وبيان المسألة يأتي في موضعه . وعن عمر Bه قال : إذا أوصى الرجل بوصيتين فالأخيرة منهما أملك وبظاهره أخذ الشافعي فقال : الوصية الثانية بالثلث أو بالعتق للذي أوصى به لغيره يكون دليل الرجوع عن الوصية الأولى ولكنا نقول : المراد وصيتان بينهما منافاة بأن يوصي ببيع عبده من إنسان ثم يوصي بعتقه أو على عكس ذلك فإن بين هاتين الوصيتين في محل واحدة منافاة فالثانية منهما دليل الرجوع عن الأولى فأما إذا أوصى إلى إنسان بعبد بعينه ثم أوصى لآخر بذلك العبد فلا منافاة بين الوصيتين في المحل ومراده أن يكون كله لأحدهما إن لم يقبل الآخر الوصية أو لم يبق إلى ما بعد موت الموصي وإن لم يكن مشتركا بينهما إن قبلا جميعا الوصية فلا تكون الثانية منهما دليل الرجوع عن الأولى وإن لم يستحق الموصى له الأول الترجيح بالسبق فلا أقل من أن يزاحم الموصي له الثاني وعن إبراهيم في الرجل يموت ولم يحج قال : إن أوصى أن يحج عنه فمن الثلث وإن لم يوص فلا شيء وبهذا نأخذ وقد بينا المسألة في كتاب المناسك فنقول : فيما يجب حقا لله تعالى خالصا كالزكاة والحج لا يصير دينا في التركة بعد الموت مقدما على الميراث ولكنه ينفذ من الثلث أو أوصى به كما ينفذ بسائر التبرعات وإن لم يوص به فهو يسقط بالموت في أحكام الدنيا وإن كان مؤاخذا في الآخرة بالتفريط في الأداء بعد التمكن منه وعلى قول الشافعي يصير ذلك دينا في تركته مقدما على الميراث أوصى له أو لم يوص وقد بينا المسألة في كتاب المناسك والزكاة . وعن إبراهيم في الرجل يوصي بثلث ماله يحج به عنه أو يعتق به رقبة فلم تتم الحجة ولا الرقبة قال : يتصدق عنه ولسنا نأخذ بهذا فأين تنفذ الوصية تجب على ما أوجبه الموصي بحسب الإمكان والتحرز عن التبديل واجب بالنص قال تعالى : { فمن بدله بعد ما سمعه } الآية وإنما يحج بثلثه من حيث يبلغ وإن كان الثلث لقلته بحيث لا يمكن أن يحج به عنه فهو لورثته وكان إبراهيم ذهب في ذلك إلى أن مقصود الموصي التقرب إلى الله تعالى بثلث ماله ونيل الثواب في ذلك القدر من المال فيجب تحصيل مقصوده بحسب الإمكان وذلك في التصدق به ولكنا نقول : اعتبار التعبير في ألفاظ الشرع يجب لأنها لا تخلو عن حكمة حميدة فأما في أوامر العباد فيعتبر اللفظ . ( ألا ترى ) أنه لو أمر إنسانا بأن يطلق امرأته للسنة فطلقها بغير السنة لم يقع والشرع أمر بإيقاع الطلاق للسنة ومن طلق امرأته لغير السنة كان طلاقه واقعا وعن إبراهيم قال : لا بأس بأن يوصي المسلم للنصراني أو النصراني للمسلم فيما بينه وبين الثلث وهكذا عن شريح وبه نأخذ فإن الوصية تبرع بعد الوفاة بعقد مباشرة فيعتبر بالتبرع في حياته ولا بأس بعقد الهبة بين المسلم والذمي في حال الحياة والأصل فيه قوله تعالى : { لا ينهاكم الله } إلى قوله : { أن تبروهم وتقسطوا إليهم } وإن أراد بهذا بيان الفرق بين الوصية والميراث فإن الإرث لا يجري مع اختلاف الدين لأن الإرث طريقه طرق الولاية والخلافة على معنى أنه يبقى للوارث المال الذي كان للمورث واختلاف الدين يقطع الولاية . فأما الوصية فتمليك بعقد مبتدأ ولهذا لا يرد الموصى له بالعيب ولا يصير مغرورا فيما اشتراه الموصي بخلاف الوارث وعن إبراهيم في الرجل يستأذن ورثته في الوصية فيأذنون له ثم يرجعون بعد موته قال لهم ذلك إن شاؤوا رجعوا وبه نأخذ فإن الإجازة من الورثة معتبرة في الوصية بما زاد على الثلث أو في الوصية للوارث وإنما تعتبر إجازتهم بعد موت الموصي فأما في حياته فلا تعتبر لأن الإجازة إما أن تكون بمنزلة التمليك منهم أو بمنزلة إسقاط الحق وإنما ثبت كله لهم بعد موت الموصى فتمليكهم قبل أن يملكوا أو إسقاطهم لحقهم قبل أن يتقرر وجوب الحق لهم يكون لغوا ثم إجازتهم في حالة الحياة لا تكون دليل الرضى منهم بهذا بل الظاهر أنهم كارهون له إلا أنهم احتشموا المورث فلم يجاهروه بالإباء فلو لزمهم حكم الإجازة في حالة الحياة تضرروا بخلاف ما بعد الموت فإجازتهم بعد الموت دليل الرضى منهم . وعن إبراهيم في رجل أوصى لغير وارث بدين أو أقر به قال : هو جائز ولو أحاط بماله ومراده الإقرار بالدين لا الوصية وإنما سماه وصية لذكره إياه فيما بين الوصايا وفي موضع الوصية وبهذا نأخذ فنقول : الإقرار لغير الوارث بالدين صحيح وإن أحاط بماله وهو مروي عن ابن عم Bه وقد روي مرفوعا إلى رسول الله A وبيناه في كتاب الإقرار وعن الشعبي أنه سئل عن رجل له ثلاث بنين فأوصى لرجل بمثل نصيب أحدهم قال : له الربع وبه نأخذ لأن مثل الشيء غيره فهو جعل نصيب أحد البنين معيارا لما أوجب الوصية .
فيه وجعل وصيته بمثل ذلك . فأما أن يقال يصير الموصى له بالإيجاب كابن آخر له مع البنين الثلاثة فله الربع أويقال ينظر في نصيب أحد البنين فيزاد على أصل السهام مثل ذلك للموصى له والمال بين البنين الثلاثة على ثلاثة أسهم لكل واحد منهم سهم فإذا زدنا للموصى له سهما على الثلاثة كانت السهام أربعة ثم نعطيه ذلك السهم فيكون له الربع ولا يجوز له أن يعطى الثلث بهذا الإيجاب لأن ذلك حينئذ ينفذ الوصية له في نصيب أحد البنين لا في مثل نصيب أحدهم وهو إنما أوصى له لمثل نصيب أحدهم . وعن إبراهيم والشعبي قالا في رجل أوصى لرجلين بالنصف والثلث فردوا إلى الثلث : أن الثلث بينهم على خمسة أسهم لصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث اثنان وهذا قول أبي يوسف ومحمد وابن أبي ليلى رحمهم الله . فأما عند أبي حنيفة C فالثلث بينهما نصفان والأصل عند أبي حنيفة أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة تبطل في حق الضرب بها في الثلث وبيانه إذا أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلث ماله فلم تجز الوصية أو أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بنصف ماله فلم تجز الورثة فعند أبي حنيفة الثلث بينهما نصفان في الفصلين جميعا وعندهما في الفصل الأول يكون الثلث بينهما أرباعا على أن يضرب الموصى له بالجميع بالثلث في سهام جميع المال الثلاثة والموصى له بالثلث بسهم واحد وفي الفصل الثاني يكون الثلث بينهما أثلاثا على أن يضرب الموصى له بالجميع بسهمين والموصى له بالنصف بيهم فهما يقولان ما يوجبه الموصي بعد موته معتبر بما أوجبه الله تعالى من السهام للورثة بعد الموت والله تعالى وجب للزوج النصف وللأخت النصف وللأم الثلث فكان موجب استحقاق كل واحد منهما بما أوجب له عند الانفراد والضرب بجميع ما سمى له بالوصية في محل الميراث عند المزاحمة فكذلك فيما أوجب الموصي المقصود استحقاق كل واحد منهما لما أوجبه له عند الإنفراد وإجازة الورثة . يوضحه أن الموصي قصد سلامة ما سمى لكل واحد منهما بكماله وتفضيل أحدهما على الآخر ففي أحد الحكمين تعذر تحصيل مقصوده عند عدم إجازة الورثة وفي الحكم الآخر ما تعذر تحصيل مقصوده فيجب تحصيله كما لو قال : أوصيت بهذه الألف لفلان منها بستمائة ولفلان منها بسبعمائة تعتبر تسميته لكل واحد منهما وفي القدر الذي سمى التفضيل بينهما وإن تعذر اعتباره في استحقاق جميع المسمى لكل واحد منهما لضيق المحل ثم وصيته بالنصف والثلث ينصرف كل واحد منهما إلى جزء شائع في جميع ماله وفيما ذهب إليه أبو حنيفة تنفذ وصية أحدهما بجميع الثلث الذي له أن يوصى به وجعل الزيادة فيما أوصى لأحدهما بثلث ماله للآخر خاصة حتى يبصل بعدم إجازة الورثة وذلك خلاف ما أوجبه الموصي . ( ألا ترى ) أنه لو أوصى لأحدهما بثلث ماله ولآخر بسدس ماله ولأحدهما بالثلث الآخر بالربع إن لكل واحد منهما أن يضرب بجميع ما أوصى به له في الثلث وكذلك لو أوصى لأحدهما بألف درهم وللآخر بألفين وثلث ماله ألف ضرب كل واحد منهما في الثلث بجميع ما سمى له وكذلك لو أعتق في مرضه عبدا قيمته ألف وعبدا قيمته ألفان وثلث ماله ألف أو باع من إنسان عبدا وحاباه بألف وباع من أحد شيئا وحاباه بألفين ضرب كل واحد منهما في الثلث بجميع ما حاباه وإن كان أكثر من ثلث ماله فكذلك فيما سبق ولأبي حنيفة C طريقان أحدهما : أن الوصية بما زاد على الثلث عند عدم إجازة الورثة مفسوخة بتغيير الوصية المفسوخة كالمرجوع فلا يستحق الضرب بها كالوصية بمال الجار وإنما قلنا ذلك لأنها كانت موقوفة على إجازة الورثة فتنفسخ بردهم كالبيع الموقوف على إجازة المالك ينفسخ برده وتأثيره أن حق الضرب فيه بناء على صحة الإيجاب وقد بطل ذلك بالانفساخ فلا معنى للضرب به في مزاحمة وصية الإيجاب فيها صحيح ولهذا فارق المواريث فإن ما أوجبه الله تعالى لكل وارث صحيح قطعا ويقينا فعرفنا أن المراد المضاربة بها عند ضيق المحل لعلمنا أن المال الواحد لا يكون له نصفان وثلث وبه فارق الوصية بالثلث والسدس لأن كل واحد منهما إيجاب صحيح لا ينفسخ برد الوارث فإن كل واحد منهما إيجاب بتسمية يوجد ذلك فيما هو محل الوصية وهو الثلث فأما هذا فإيجاب بتسمية لا توجد تلك التسمية إلا فيما هو حق الورثة فيبطل بردهم الإيجاب فيما يتناول حقهم وكذلك الوصية بالألف والألفين فإنها ما وقعت في حق الورثة بهذه التسمية لأن حق الورثة في أعيان التركة دون الألف المرسلة . ( ألا ترى ) أنه يتصور تنفيذ جميع هذه الوصية على ما سمى الموصي .
من غير إجازة الورثة بأن يكثر مال المورث فكذلك في مسألة العتق فإن ذلك وصية بالبراءة عن السعاية والسعاية بمنزلة الألوف المرسلة . ( ألا ترى ) أنه يتصور تنفيذ الوصية لكل واحد منهما بدون إجازة الورثة بأن يكثر مال الميت وكذلك في مسألة المحاباة فالوصية بالمحاياة تكون من الثمن وذلك بمنزلة المال المرسل حتى يتصور تنفيذه لكل واحد منهما بدون إجازة الورثة عند كثرة المال . فإن قيل : هذا فاسد فإن الخلاف ثابت فيما إذا أوصى بعبد بعينه لإنسان قيمته ألف وبعبد آخر بعينه لإنسان قيمته ألفان ولا مال له سواهما وهنا يتصور تنفيذ الوصية لكل واحد منهما في جميع ما سمى له بغير إجازة الورثة بأن يكثر مال الميت فيخرج العبدان من الثلث . قلنا : نعم ولكن وصيتهما بعين التركة حق الورثة فكانت تلك الوصية واقعة في حق الورثة . ( ألا ترى ) أنها لا تصح إلا بعد قيام ملكه في العين عند الوصية بخلاف الوصية بالألف المرسلة فإنها صحيحة إن لم يكن في ملكه مال عند الوصية والطريق الآخر لأبي حنيفة : أن الوصية بما زاد على الثلث وصية ضعيفة حتى لا يجب تنفيذها إلا بإجازة الورثة والوصية بالإرث وصية قوية ولا مزاحمة بين الضعيف والقوي في الاستحقاق ولكن الضعيف في مقابلة القوي كالمعدوم بمنزلة الوصية للوارث مع الوصية للأجنبي فإنه لا تثبت المزاحمة بينهما والمضاربة عند عدم إجازة الورثة وبه فارق المواريث فقد استوت السهام في القوة وكذلك الوصايا في الثلث فقد استوت في القوة لمصادفة كل واحد منهما محل الوصية وكذلك النركة إذا كانت ألفا وفيها دين ألف ودين ألفان لأن الدينين استويا في القوة وكذلك الوصايا في الألوف المرسلة والعتق والمحاباة فإنها استوت في القوة حين لم تصح في حق الورثة على ما بينا وقول الموصي قد تبين فلنا الفصيل بنا على صحة الإيجاب في حق الاستحقاق وقد بطل ذلك بالرد على الطريق الأول وهو ضعيف على الطريق الثاني فلا يزاحم القوي وبه فارق مسألة الألف لأن مطلق الإضافة إليهما بعقبه تفسير وهو ما سمى من الستمائة لأحدهما والسبعمائة للآخر فيكون الحكم لذلك التفسير استواء الإيجاب في القوة وما قالوا أن الإيجاب ينصرف إلى جزء شائع ها هنا فاسد فإنه إذا أوصى بثلث ماله لابنه استحق الموصى له جميع الثلث ولو انصرف الإيجاب إلى ثلث شائع في جميع المال صار له ثلث الثلث لأن ذلك القدر صادف محل الوصية وحيث استحق جميع الثلث عرفنا أن تسمية الثلث مطلقا تنفيذ محل الوصية لتصحيح إيجابه في جميعه كالعبد المشترك بين اثنين يبيع أحدهما نصفا مطلقا فإنه ينصرف البيع إلى نصيبه خاصة فهذا مثله . وعن أبي عاصم الثقفي قال : سألني إبراهيم عن رجل أوصى بنصف ماله وثلثه وربعه فأجازوا قلت : لا علم لي بها قال لي : خذ مالا له نصف وثلث وربع وذلك اثنا عشر فخذ نصفها ستة وثلثها أربعة وربعها ثلاثة فاقسم المال على ذلك وهذا قول أبي يوسف ومحمد . وقال أبو حنيفة C بخلاف ذلك ولم يزد على ذلك حتى اختلفوا في تخريج المسألة على قول أبي حنيفة وهذه مسألة معروفة تدعى الثقفية وربما يمتحن من يدعي التحرز في المقدرات من أصحابنا فأما تخريج قولهما فظاهر لأن القسمة عندهما على طريق العول والمضاربة فالموصى له بالنصف يضرب بنصف المال ستة من اثني عشر والموصى به بالثلث يضرب بأربعة من اثنى عشر والموصى له بالربع يضرب بثلاثة فمبلغ هذه السهام ثلاثة عشر فحينئذ أجازه الورثة يقسم جميع المال بينهم على ذلك وعند عدم الإجازة يقسم الثلث بينهم على ذلك . وأما عند أبي حنيفة فقسمة المال بينهم عند إجازة الورثة على طريق المنازعة فخرج أبو يوسف C قوله على طريق ومحمد C على طريق آخر والحسن C على طريق آخر وكل واحد منهما روى طريقه عنه وطريق الحسن أوجه . فأما طريق أبي يوسف : فهو أن الموصى له بالنصف فضل الموصى له بالثلث بسهمين لأن تفاوت ما بين النصف والثلث سهمان ولا منازعة في هذين السهمين لصاحب الثلث والربع فيأخذهما صاحب النصف ثم لا منازعة لصاحب الربع فيما زاد على الربع إلى تمام الثلث وهو سهم لصاحب الثلث والنصف كل واحد منهما يدعي ذلك وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما سهما ففي ثمانية استوت منازعتهم فيها يكون بينهم أثلاثا فانكسر بالأثلاث فيضرب أصل المال اثنا عشر في ثلاثة فيكون ستة وثلاثين صاحب النصف أخذ مرة سهمين ومرة سهما وقد ضربنا ذلك في الثلاثة وهس تسعة وصاحب الثلث أخذ سهما وذلك ثلاثة والباقي أربعة وعشرون بينهم لكل واحد منهم .
ثمانية فحصل لصاحب الربع ثمانية من ستة وثلاثين ولصاحب الثلث أحد عشر ولصاحب النصف سبعة عشر . وأما تخريج محمد لقول أبي حنيفة فقريب من هذا ولكنه قال : لما أخذ صاحب النصف سهمين بلا منازعة تراجع حقه إلى الثلث فوصاياهم جميعا بعد ذلك اجتمعت في الثلث ومن أصل أبي حنيفة أن الوصايا متى وقعت في الثلث فالقسمة بين أربابها على طريق العول فيضرب صاحب النصف بما بقي من حقه وهو أربعة من اثني عشر وصاحب الثلث بأربعة أيضا وصاحب الربع بثلاثة فيكون بينهم على أحد عشر فالسبيل أن تضرب أصل المال اثنى عشر في إحدى عشر فيكون مائة واثنين وثلاثين كان قد أخذ صاحب النصف سهمين وضربنا سهما في أحد عشر وذلك اثنان وعشرون بقي بعد ذلك مائة وعشرة لصاحب الربع من ذلك ثلاثون ولصاحب الثلث أربعون ولصاحب النصف كذلك فجملة ما حصل لصاحب النصف اثنان وستون ولصاحب الثلث أربعون ولصاحب الربع ثلاثون . فأما تخريج الحسن C لقوله فهو : أنه اجتمع ها هنا وصيتان وصية في الثلث ووصية فيما زاد على الثلث وأبو حنيفة يرى القسمة على طريق العول في الوصايا في الثلث والقسمة على طريق المنازعة في الوصايا فيما زاد على الثلث فيعتبر كل واحد منهما ويبدأ بقسمة الثلث لأن القسمة على طريق العول تكون عن موافقة فهو أقوى مما يبني على المنازعة ولأن الوصية في محلها أقوى مما إذا جاوزت محلها فنقول : يضرب صاحب النصف في الثلث بجميع الثلث وهي أربعة وصاحب الثلث بمثله وصاحب الربع بينهم فيضرب الثلث بينهم على أحد عشر فيكون جميع المال على ثلاثة وثلاثين ثم يأتي إلى القسمة بطريق المنازعة فنقول : صاحب النصف حقه في النصف من جميع المال وذلك ستة عشر ونصف وقد وصل إليه أربعة بقي له من حقه اثنا عشر ونصف وصاحب الثلث كان حقه في أحد عشر وصل إليه أربعة بقي له سبعة فما زاد على سبعة إلى تمام اثنى عشر ونصف لا منازعة فيه لصاحب الثلث فيأخذه صاحب النصف وذلك خمسة ونصف ثم صاحب الربع كان حقه في الربع وذلك ثمانية وربع وصل إليه ثلاثة بقي له خمسة وربع فما زاد على خمسة وربع إلى تمام سبعة لا منازعة فيه لصاحب الربع فصاحب الثلث والنصف كل واحد منهما يدعيه وفي المال سعة فيأخذ كل واحد منهما سهما وثلاثة أرباع بلا منازعة فجملة ما أخذا من اثنين وعشرين وهو ثلثا المال تسعة مرة خمسة ونصف ومرتين سهم وثلاثة أرباع وذلك ثلاثة ونصف والباقي ثلاثة عشر استوت منازعتهم فيه فيكون بينهم أثلاثا فانكسر بالأثلاث وكان قد انكسر بالأنصاف والأرباع إلا أن الربع يجزي عن النصف لأن النصف يخرج من مخرج الربع فالسبيل أن يضرب ثلاثمائة وستة وتسعين الثلث من ذلك مائة واثنان وثلاثون كان لصاحب النصف من ذلك أربعة مضروبة في اثنى عشر وذلك ثمانية وأربعون ولصاحب الثلث مثل ذلك ولصاحب الربع ثلاثة مضروبة في اثنى عشر وذلك ستة وثلاثون وكان ما أخذ صاحب النصف من الثلاثين بلا منازعة خمسة ونصف مضروبة في اثنى عشر فذلك ستة وستون وما أخذه صاحب النصف وصاحب الثلث ثلاثة ونصف مضروبة في اثنى عشر وذلك اثنان وأربعون بينهما نصفان لكل واحد منهما أحد وعشرون وكان الذي لا يستقيم بينهم ثلاثة عشر مضروبة في اثنى عشر فيكون ذلك مائة وستة وخمسين بينهم لكل واحد منهم اثنان وخمسون فصاحب الربع ما وصل إليه من الثلثين إلا اثنان وخمسون وصاحب الثلث أخذ مرة اثنين وخمسين ومرة أحدا وعشرين وذلك ثلاثة وسبعون وصاحب النصف أخذ مرة اثنين وخمسين ومرة أحدا وعشرين ومرة ستة وستين فيكون ذلك مائة وتسعة وستين فإذا جمعت بين هذه السهام بلغت سهام ثلثي المال مائتين وأربعة وستين فإذا ضممته إلى الثلث الذي اقتسموه على طريق العول كانت الجملة ثلاثمائة وستة وتسعين فاستقام التخريج .
وعن إبراهيم C قال : إذا أوصى الرجل وأعتق بدئ بالعتق وبه نأخذ وهو مروي عن ابن عمر رضي اليه عنه وهذا لأن العتق أقوى سببا من سائر الوصايا فإنه لا يحتمل الفسخ وهو إسقاط للرق والمسقط يكون متلاشيا وسائر الوصايا يتحمل الفسخ والرجوع عنها وثبوت الحكم بحسب السبب ولا مزاحمة للضعيف مع القوي ثم أبو يوسف ومحمد رحمهما الله أخذا بظاهر هذا الحديث فقدما العتق على المحاباة المتقدمة وأبو حنيفة C خص المحاباة من سائر الوصايا باعتبار أنها أقوى سببا فسببها عقد الضمان وعقد الضمان أقوى من التبرع وقوة العتق باعتبار حكم السبب فعند البداءة بالمحاباة يترجح بالسبق وبقوة السبب فقال : يبدأ بها وعند البداءة بالعتق يستويان من حيث أن للعتق قوة السبق وقوة الحكم وللمحاباة قوة السبب والمعتبر أولا السبب فإن الحكم ينبني على السبب فيتحاصان وسيأتي بيان المسألة في موضعها .
وعن إبراهيم في رجل يوصي إلى رجل فيموت الموصى إليه فيوصي إلى رجل آخر فإن وصيتهما جميعا صحيحة وبه نأخذ فإن الوصي بعد موت الموصى قائم مقام الموصي في ولابته في المال وقد كانت ولايته في ماله ومال الموصي الأول من حوائج الوصي كالتصرف في مال نفسه وإنما يقيم الموصي مقامه فيما هو من حاجته . وعن إبراهيم في الرجل يوصي لأم ولده في حياته وصحته فيموت قال : هو ميراث وإن أوصى عند موته لها بوصية فهو لها من الثلث والمراد بوصيته لها في صحته الإقرار والهبة لا الوصية المضافة إلى ما بعد الموت لأن حالة الصحة وحالة المرض في ذلك سواء وبه نأخذ فنقول : الهبة لأم الولد والإقرار لها بالدين باطل من المولي لأنها باقية على ملكه وكسبها له بمنزلة القنة فأما وصتيه لها مضافة إلى ما بعد الموت فصحيحة لأنها تعتق بالموت ووجوب الوصية يكون بعد الموت فالوصية لها بمنزلة الوصية لجارية أجنبية وعن ابن عمر Bه قال : إذا أقر الرجل عند موته بدين لوارث فإنه لا يجوز إلا ببينة وإن أقر لغير وارث بالدين جاز ولو أحاط بجميع ماله وبه نأخذ في الفصلين وقد روي في بعض الروايات مرفوعا إلى رسول الله A وقد بينا ذلك في الإقرار . وعن إبراهيم في المرأة يضربها الطلق قال : هي بمنزلة المريض في الوصية والتبرع والطلق اسم لوجع الولادة وبسمى ذلك مخاضا أيضا قال الله تعالى : { فاجاءها المخاض إلى جذع النخلة } ومتى أخذها وجع الولادة فهي بمنزلة المريض لأنها أشرفت على الهلاك إلا أنه قد يأخذها الوجع ثم يسكن فباعتبار ذلك الوجع لا تصير في التبرعات كالمريضة بمنزلة مرض يعقبه برء وإنما تصير كالمريضة إذا أخذها الوجع يكون آخره انفصال الولد عنها من سلامتها به أو موتها لأن المعتبر مرض الموت ومرض الموت ما يتصل به ومن أوصى بأكثر من ثلث ماله لم يجز في الفضل على الثلث إلا أن يجيزه الورثة بعد موته وهم كبار لأن حقهم تعلق بماله بمرضه ولكن الشرع جعل الثلث محلا لوصية الموصي ليتدارك به ما فرط في حياته فما زاد على ذلك إذا أوصى به فقد قصد الإضرار بورثته بإسقاط حقهم عما تعلق حبهم به وإيثار الأجنبي على من آثره الشرع وهو الوارث فللوارث أن يرد عليه قصده بأن يأبى الإجازة ولا معتبر بإجازته في حياة الموصي عندنا وقال ابن أبي ليلى : تصح إجازته في حياته وليس له أن يرجع بعد وفاته لأنه سقط حقه بالإجازة وبالمرض قد تعلق حقه بماله فيصح إسقاطه وفقه هذا أن حق الوارث إنما يثبت في ماله بالموت ولكن سبب موته المرض فلما أقيم هذا السبب مقام حقيقة الموت في منع المورث من التصرف المبطل لحق الوارث فكذلك قام مقامه في صحة إسقاط الحق من الوارث بالإجازة ولكنا نقول : إسقاط الحق قبل وجود السبب لا يجوز ويعتبر المرض بسبب تعلق حقه بماله بل السبب مرض الموت ومرض الموت ما يتصل به الموت فقبل اتصال الموت لا يكون سببا وهذا الاتصال موهوم فيكون هذا إسقاط الحق قبل تقرر السبب ثم الإجازة من الوارث إنما تعمل لوجود دليل الرضى منه بتصرف المريض وإجازته في حياة الموصي لا تدل على ذلك بل الظاهر أنه احتشم المورث فلم يجاهره بالرد من غير أن يكون راضيا بوصيته بخلاف ما إذا أجازه بعد الموت وفي الإجازة بعد الموت إن لم يكن الوارث من أهله بأن كان صغيرا فهو باطل أيضا لأنه إسقاط الحق بطريق التبرع فأما إذا كان كبيرا فإجازاه صحيحة ويسلم المال للموصى له بطريق الوصية من الموصي عندنا وعند الشافعي صحيحة بطريق التمليك من الوارث ابتداء منه حتى لا يتم إلا بالقبض على قوله وعندنا يتم من غير قبض الموصى له والشيوع لا يمنع صحة الإجازة وليس للوارث أن يرجع فيه . وجه قوله : أن بنفس الموت قد صار قدر الثلثين من المال ملكا للوارث لأن الميراث يثبت من غير قبول الوارد ولا يرتد بالرد فإجازته تكون إخراجا للمال عن ملكه بغير عوض وهذا فيه لا يتم إلا بالقبض كما لو أوصى بمال جاره فأجازه الجار بعد موته ولكنا نقول : تصرف الموصي صادف ملكه وامتنع نفوذه بقيام حق الغير فيه إجازة من له الحق تكون إسقاطا كإجازة المرتهن بيع الراهن وكذلك إن أجازوا وصية الوارث ولو أوصى بألف درهم من مال رجل أو بعبد أو ثوب فأجاز ذلك الرجل قبل موته أو بعده فله أن يرجع عنه ما لم يدفعه إلى الموصى له فإذا دفعه إليه جاز لأن وصيته من مال غيره بمنزلة الهبة كأنه وهب مال غيره فلا يصح إلا بالتسليم والقبض كما لو وهب مال نفسه بخلاف الوصية من مال نفسه بأكثر من الثلث لأنه أوصى بمال نفسه إلا أنه لم ينفذ لحق الورثة فإذا أجازوا فقد أبطلوا حقهم وجاز من قبل الوصي جواز الوصية فلم يكن التسليم ومن شرط صحتها وجوازها وإذا أوصى الرجل لرجل بعبد ولآخر بثوب وللآخر بدار .
والثلث يبلغ ألف درهم والوصية تبلغ ألفا وخمسمائة أصاب كل واحد منهم ثلثي وصيته وبطل الثلث لأنه لا بد من إبطال الفضل على الثلث وليس أحدهم بإبطالها أولى من الآخر وقد استووا في استحقاق الثلث فكذا في إبطاله فينقص من وصية كل واحد منهما ثلثها ووجه ذلك أن ينظر إلى مبلغ الوصويا وإلى ثلث ماله فإن كانت الزيادة مقدار الثلث ينقص من نصيب كل واحد منهما الثلث وإن كان نصفا النصف وتفسيره إذا أوصى لرجل بعبد قيمته ألف درهم ولآخر بثوب قيمته ثلاثمائة درهم ولآخر بدار قيمتها مائتان فذلك كله ألف وخمسمائة وثلث ماله ألف فالزيادة مقدار الثلث فينقص من كل واحد منهم مقدار الثلث فلصاحب العبد ثلثا العبد ولصاحب الدار ثلثا الدار ولصاحب الثوب ثلثا الثوب فاستقام الثلث والثلثان وإذا أوصى لذوي قرابته بالثلث فإن ذوي قرابته كل ذوي رحم محرم منه . قال Bه : هنا خمسة ألفاظ أما أن يوصي لذوي قرابته أو لأقاربه أو لأنسابه أو لأرحامه أو لذوي أرحامه فأبو حنيفة يعتبر خمسة أشياء ذا رحم محرم واثنين فصاعدا ما سوى الوالد والولد ومن لا يرث والأقرب فالأقرب وفي قول أبي يوسف الأول يدخل فيها جميع ذوي رحم محرم منه الأقرب والأبعد في ذلك سواء ثم رجع فقال : كل من يجمعه وأباه أقصى أب في الإسلام ويدخل في الوصية ذو الرحم وغير ذي الرحم المحرم كلهم سواء وهو قول محمد . والاختلاف في موضعين أحدهما : أنه يصرف إلى ذوي الرحم المحرم ولا يصرف إلى غيرهم عند أبي حنيفة وعندهما ذو الرحم المحرم وغيره سواء والثاني أنه يصرف إلى الأقرب فالأقرب عنده وعندهما يستوي فيه الأقرب والأبعد واتفقوا أنه لا يدخل فيها الوصية لوارث لقوله عليه السلام : ( لا وصية لوارث ) وكذلك يعتبر الاثنان بالاتفاق لأن ذوي لفظ جمع وأقل الجمع اثنان في الميراث . ( ألا ترى ) أن الأخوين ينقلان الأم من الثلث إلى السدس فكذلك في الوصية إذ هي أخت الميراث فلذلك لا يصرف إلى الولد لأنهما يسميان قرابة لقوله تعالى : { إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين من بينهما } فتبين أن الوالدين غير القرابة فإذا خرج الأب من أن يكون قريبا للابن خرج الابن من أن يكون قريبا للأب وهل يدخل فيها الجدود وولد الولد ؟ ففي الزيادات أنه يدخل ولم يذكر فيه خلافا وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الجد وولد الولد لا يدخلان في الوصية وكذا روي عن أبي يوسف لأن الجد بمنزلة الأب وولد الولد بمنزلة الولد وإنما اعتبر أبو حنيفةلرحم المحرم لأن الموصي قصد الوصية صلة الرحم لأنه مأمور بها قال الله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } وقال جل وعلا : { وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله } فلما كان مأمورا بصلة القرابة وإنما تجب الصلة ممن كان ذا رحم محرم منه فانصرفت الوصية إليه دون غيره لأن القرابة المطلقة قرابة ذي الرحم المحرم لاختصاصها بأحكام مخصوصة من عدم جواز المناكحة والعتق عند الملك وعدم الرجوع في الهبة ووجوب النفقة عند العشرة فانصرفت الوصية إليه وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب لأن كل من كان أقرب إليه فهو أشبه بهذا اللفظ فكان أولى كما في العصبات وذوي الأرحام في الميراث والأقرب في الشفعة . وجه قول أبي يوسف الأول : أنه ينصرف إلى كل ذي رحم محرم منه الأقرب والأبعد منه سواء لأنهم في استحقاق الاسم سواء . ( ألا ترى ) أنه لو أوصى لإخوته وله أخوة بعضهم لأب وأم وبعضهم لأب وبعضهم لأم أنهم في الوصية سواء و يعتبر الأقرب . وجه قوله الآخر وهو قول محمد : أنه يدخل فيه ذوو الرحم المحرم وغير ذي الرحم المحرم ويصرف إلى كل من يجمعه وأباه أقصى أب في الإسلام أن هذا اللفظ في الأبعدين أكثر استعمالا من الأقربين . ( ألا ترى ) أنه لا يقال للأخ أو العمل هذا قريبي فيدخلون كلهم في الوصية . ( ألا ترى ) إلى ما روي في الخبر لما نزل قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع رسول الله A أقرباءه سبعين نفسا وقال لهم : ( إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) وكان فيهم ذو رحم محرم وغيره فثبت أن كلهم في الوصية سواء إلا أنه لا يمكن أن يدخل فيه جميع أولاد آدم عليه السلام فيجعل الحد فيه من يجمعه وإياهم أقصى أب في الإسلام لأنه لما ورد الإسلام صارت المعرفة بأهل الإسلام وكان قبل ذل