( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد C ) ورضي عنه وعن أسلافه : اعلم بأن الجناية اسم لفعل محرم شرعا سواء حل بمال أو نفس ولكن في لسان الفقهاء يراد بإطلاق اسم الجناية الفعل في النفوس والأطراف فإنهم خصوا الفعل في المال باسم وهو الغصب والعرف غيره في سائر الأسامي ثم الجناية على النفوس نهايتها ما يكون عمدا محضا فإنها من أعظم المحرمات بعد الإشراك بالله تعالى . قال الله تعالى : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } فقد جعل قتل نفس واحدة كتخريب العالم إن لو كان ذلك في وسع البشر وإنما جعله كذلك لأن الواحد يقوم مقام الجماعة في الدعاء إلى الدين وفي الإعانة لكل من يستعان به فإن التعاون بين الناس ظاهر فالذي يقتل الواحد يكون قاطعا لهذه المنفعة وأيد هذا قول النبي E : ( لزوال الدنيا أهون على الله تعالى من قتل امرئ مسلم ) وقال عليه السلام : ( سباب المؤمن فسق وقتاله كفر ) وهذا وإن كان تأويله قتاله لإيمانه فظاهره يدل عليه عظم الجناية في قتل المسلم ولهذا كان ابن عباس Bه لا يرى التوبة القاتل العمد ولم يؤخذ بقوله حتى روي أن رجلا سأله فقال : ما تقول في من يقتل مؤمنا متعمدا ؟ فقال : جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما فقال : إلا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى فقال : وأنى يكون له الهدى سمعت رسول الله A يقول : ( يؤتى بقاتل العمد يوم القيامة عند عرش الرحمن والمقتول متعلق به ويقول : يا رب سل هذا فيم قتلني ) وفي ذلك نزل قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } وما نسخها شيء بعد نبيكم ولعظم الجناية في قتل العمد لم ير علماؤنا الكفارة على قاتل العمد لأن الوعيد المنصوص عليه لا يرتفع بالكفارة والذنب فيه أعظم من أن ترفعه الكفارة ويستوي فيه إن كان عمدا يجب فيه القصاص أو لا يجب كالأب إذا قتل ابنه عمدا والرجل إذا قتل من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا عمدا والشافعي يوجب الكفارة باعتبار القتل ولكن لا يقول أن ما يلحقه من المآثم يرتفع بالكفارة وكيف يقول ذلك والوعيد منصوص عنده عليه واستدل لإيجاب الكفارة بالقتل بقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } والمراد إيجاب الكفارة بالقتل لا بصفة الخطأ لأنه عذر مسقط وربما يقول المراد بالخطأ ما يضاد الصواب قال الله تعالى إن قتلهم كان خطأ كبيرا أي ضد الصواب ويقال : فلان أخطأ في مسألة كذا إذا لم يصب والعمد ضد الصواب فتتناوله الآية والدليل عليه قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } الآية وإنما يقتل المرء عدوه عمدا فعرفنا أن المراد إيجاب الكفارة بقتل العمد وفي حديث واثلة بن الأسقع قال : أتينا رسول الله A بصاحب لنا أوجب القتل بالنار فقال عليه السلام : ( أعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار ) وإيجاب النار إنما يكون بقتل العمد والمعنى فيه أنه قتل آدمي مضمون فيكون موجبا للكفارة كالخطأ وشبه العمد وهذا على أصله صحيح لأن إثبات الكفارة بالقياس جائز والزيادة على النص بالقياس جائزة عنده وقياس المنصوص على المنصوص مستقيم عنده وشيء من ذلك لا يجوز عندنا صحيح علينا نفصل الخطأ على طريق الاستدلال وهو أن الكفارة إنما وجبت على الحاطئ لأنه نقص بفعله من عدد المسلمين أحدهم ممن كان يحضر الجمعة والجماعاة فعليه إقامة نفس مقامها وليس في وسعه ذلك بطريق الإحياء فألزمه الشرع ذلك بطريق التحرير لأن الحرية حياة والرق تلف في حق أحكام الدنيا وفي هذا المعنى العامد والمخطئ سواء وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } فهذا يقتضي أن يكون المذكور في الآية جميع أجزائه ولو أوجبنا عليه الكفارة لكان المذكور بعض جزئه فيكون فسا لهذا الحكم ولا وجه لحمل الآية على المستحل لأن المذكور في الآية جزاء قتل العمد وإذا حمل على المستحل كان المذكور جزأ لرده وتبين بهذه الآية أن المراد بقوله : { ومن قتل مؤمنا خطأ } الخطأ الذي هو ضد القصد لأنه عطف عليه العمد ولا يعطف الشيء على نفسه ولأنه قابله بالعمد ومتى قوبل الخطأ بالعمد فالمراد ما يضاد القصد قال الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ولأنه استثنى الخطأ من التحريم بقوله : إلا خطأ والاستثناء من التحريم إباحة فلو حمل هذا على ضد الصواب أدى إلى أن يكون القتل الصواب هو المحرم وهذا محال فعرفنا أن المراد الخطأ الذي هو ضد القصد فإن أصل ذلك الفعل غير محرم لكونه رمى إلى قصد الصيد أو الحربي لكنه باتصاله بالمحل المحترم يصير محرما ولكن لا يلحقه إثم نفس الفعل لكونه موضوعا عنه كما .
قال تعالى : { ولا جناح عليكم فيما أخطأتم به } وإنما يلحقه به نوع مأثم بسبب ترك التحرز والكفارة تلزمه لمحو ذلك الإثم والإثم في حق قاتل العمد ليس من ذلك الجنس حتى تمحوه الكفارة ثم أن الله تعالى ذكر أنواع قتل الخطأ ما يكون منه بين المسلمين وما يكون في دار الحرب لقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } أي في قوم عدو لكم وما يكون في حق أهل الذمة لقوله : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ونص على إيجاب الكفارة في كل نوع ففيه إشارة إلا أنه لا مدخل للقياس فيه إذ لو كان للقياس مدخل لنص على الكفارة في نوع من الخطأ ليقاس عليه سائر الأنواع وقال عليه السلام : ( خمس من الكبائر لا كفارة فيهن - ومن جملتها قتل نفس بغير حق ) والمشهور من حديث واثلة : أتينا رسول الله A بصاحب لنا قد أوجب النار فيحتمل أن ذلك بسبب آخر غير القتل ولأن صح قوله بالقتل فهو محمول على القتل بالحجر والعصا الكبير ثم مراد رسول الله A التطوع بالإعتاق عنه . ( ألا ترى ) أنه خاطب به غير القاتل والكفارة لا تجب على غير القاتل والمعنى فيه أن هذا محظور محض فلا يكون سببا لإيجاب الكفارة كالزنا والسرقة وتفسير الوصف أنه حرام ليس فيه شبهة الإباحة وتأثيره أن الكفارة دائرة بين العبادة والعقوبة فسببهما ما يكون دائرا بين الحظر والإباحة فكما أن المباح المحض وهو القتل بحق لا يصلح سببا للكفارة فكذلك المحظور المحض وإنما السبب القتل الخطأ لأنه باعتبار أصل الفعل مباح وباعتبار المحل الذي أصابه محظور فكان جائزا وشبه العمد كذلك فإن القصد به التأديب والتأديب مباح والقتل بالحجر الكبير عند أبي حنيفة ليس بمحظور محض أيضا من حيث أن الآلة باعتبار جنسها ليس بآلة القتل فتتمكن فيه الشبهة ولهذا لم يجعله موجبا للقود ولا يدخل على هذا قتل الاب ابنه عمدا فإنه محظور محض وإنما لم يكن موجبا للقصاص لانعدام الأهلية فيمن يجب عليه وكذلك قتل المسلم الذي لم يهاجر إلينا محظور محض وإنما لا يكون موجبا للضمان لانعدام الأحراز بالدار وبه لا تخرج الفعل من أن يكون محظورا محضا وكذلك المسلم يقتل المستأمن عمدا فإن الفعل محظور محض وإنما لم يجب القصاص به لانعدام تمام الإحراز ثم قد بينا أنه لا مدخل للقياس في هذه المسألة عندنا من الوجوه الذي بيناها وكلامه على طريق الاستدلال ممنوع فإن الكفارة وجبت عندنا بطريق الشكر لأن الشرع لما عذره بالخطأ وسلم له نفسه فلم يلزمه القصاص مع تحقق الفعل منه كان عليه أن يقيم نفسا مقام نفسه شكرا لله تعالى وذلك في أن يحرر شبحا ليتفرغ لعبادة الله تعالى فإذا عجز عن ذلك شغل نفسه بعبادة لله فصام شهرين متتابعين وهذا المعنى لا يوجب في حق العامد فإن الشرع ألزمه القصاص وما سلم له نفسه والدليل على أن المعنى ليس ما قلتم أنه لو قتل مستأمنا أو ذميا خطأ يلزمه الكفارة أيضا وما نقص بفعله من عدد المسلمين أحدهم يوضحه أن في نفس المقتول حرمتان والمال في الخطأ وجب اعتبار حرمة صاحب النفس فقط فتجب الكفارة باعتبار حرمة حق الله تعالى . فأما في العمد الواجب هو العقوبة ولا تجب العقوبة إلا باعتبار الحرمتين جميعا لأن الفعل ما لم يكن موجبا للعقوبة إنما يكون حراما لعينه لمجموع الحرمتين فلا يمكن إثبات الكفارة مع ذلك في أحكام الدنيا إذا عرفنا هذا فنقول : جناية القتل أنواع ثلاثة : عمد وخطأ وشبه عمد وقد يكون ذلك من الأحرار وقد يكون من المماليك وكذلك يكون على الأحرار تارة وعلى المماليك تارة وقد ذكرنا في كتاب الديات عامة أحكام هذه الأنواع إلا أنه ذكر في هذا الكتاب بعض ما لم يذكر هناك من الأحكام وفرع على بعض ما ذكرنا من الأصول هناك فبدأ الكتاب بجناية المدبر . وروي عن معاذ بن جبل أن أبا عبيدة بن الجراح Bهما جعل جناية المدبر على سيده وعن عمر بن عبدالعزيز أنه جعل جناية المدبر على مولاه وعن إبراهيم وعن عامر Bهما قالا : جناية المدبر على مولاه والمراد به ما يكون موجبا للمال من جنايته كالخطأ والعمد فيما دون النفس فأما ما يكون موجبا للقصاص فعلى الجاني خاصة ليس على المولى منه شيء والمراد بإيجاب القيمة على المولى بجناية المدبر لا بإيجاب الدية على المدبر لأن المدبر مملوك والمستحق بجناية المملوك نفسه يدفع بها إلا أنه بالتدبير السابق منع دفعه على وجه لم يصر مختارا إلا أنه ما كان يعلم أنه يجني ولو منعه بالتدبير بعد الجناية على وجه لم يصر مختارا بأن لم يكن عالما بالجناية كان عليه قيمته فكذلك إن منعه بتدبير قبل الجناية وهذه القيمة في مال المولى لا تعقله العاقلة لأن .
وجوبها بجناية مملوكه ووصلة الملك بين المملوك والمالك وهذه القيمة في ذمة المولى لا في ذمة المدبر لأن جناية القن لا تتعلق بذمته فكذلك جناية المدبر وعند كثرة قيمة المدبر لا يجب على المولى أكثر من عشرة آلاف إلا عشرة لأن قيمته بعد الجناية عليه لا تزيد على هذا المقدار فكذلك قيمته عند الجناية منه ويستوي جنايته على النفس وما دونها لأن فيما دون النفس الواجب على المولى الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأنه لو كان ما كان الواجب دفعه أو فداه بأرش الجناية بالقيمة هنا بمنزلة الدفع هناك إلا أن التخيير بين القليل والكثير في الجنسين مستقيم وفي جنس واحد لا يستقيم عليه لخلوه عن فأوجبنا الأقل لهذا فإن مات المدبر بعد الجناية فعلى المولى قيمته في ماله لأن جنايته ما تعلقت بنفسه ولا بذمته وإنما أوجبت القيمة دينا على المولى فبقاء المدبر وموته في ذلك سواء وإن اختلفوا في مقدار قيمته بعد موته فالقول قول المولى لإنكاره الزيادة وعلى ولي الجناية إثبات ما يدعيه بالبينة وإذا اختلفوا في قيمته وقت جنايته وهو حي وقيمته ألف فقال المولى : لم تزل هذه قيمته منذ جنى وقال المولى : كانت قيمة يوم الجناية أقل من هذه ولا يعلم متى كانت الجناية لم يصدق واحد منهما وأخذ بالقيمة على ما وجد عليه اليوم على قول أبي يوسف الأول وقال محمد : إذا أقر المجني عليه أن الجناية وقعت قبل اليوم في وقت لا يدري كم كانت قيمته فيه فالقول قول السيد وهو قول أبي يوسف الآخر ولو لم يعلم وقت الجناية عليه تجب قيمته للحال إضافة للحادث إلى أقرب الأوقات ولو علم وقت الجناية وعلم أنها كانت سابقة فعلى قول أبي يوسف الأول يحكم بقيمته في الحال ولا يصدق المولى في النقصان ولا في قيمته وفي قوله الآخر وهو قول محمد : إذا أقر المجني عليه أن الجناية كانت قبل اليوم في وقت لا يدري كم كانت قيمته يومئذ فالقول قول المولى وجه قول الأول أن قيمته للحال معلوم وفيما مضى مسببه فيرد المسبب إلى المعلوم ويجعل في الحال شاهدا على ما مضى باعتبار الظاهر فيكون القول قول من شهد له الظاهر كما إذا اختلف رب الماء مع المستأجر في انقطاع الماء في المدة فإنه يحكم الحال فيه . ( ألا ترى ) أنه لو كان عجل الدفع كان مدفوعا بالجناية في الحال فكذلك إذا لم يكن عجل الدفع كان الواجب على المولى قيمته في الحال إلا أن يعلم أن قيمته وقت الجناية كانت دون هذا وجه قوله الآخر أن جنايته لا تتعلق برقبته وإنما يقوم في الحال ليتبين به حكم متعلق برقبته ولكن موجب جنايته قيمته في ذمة المولى وقت الجناية وقيمته في الحال لا يكون دليلا على قيمته وقت الجناية إذ القيمة تزداد تارة وتنقص الأخرى فإن بقي بينهم الدعوى والإنكار فالمولى يدعي الزيادة فيما هود ين له في ذمة المولى والمولى ينكر ذلك فكان القول قول المولى كما في سائر الدعاوى ثم ذكر في الأصل في الدعاوى الجناية على طرف العبد وقد بينا هذا في الزيادات فزاد ها هنا رواية عن أبي يوسف إذا قطع يد عبد كثير القيمة فصالح على عشرة آلاف فإني أرد من الصلح أحد عشر درهما وقال محمد : لا يزاد بدل يد العبد على خمسة آلاف إلا خمسة وكان أبو يوسف يقول : لما تعذر بدل نفسه بعشرة آلاف إلا عشرة فلا بد من أن ينقص بدل طرفه عن بدل نفسه ولا نص في مقدار هذا النقصان فقدره بدرهم واحد اعتبارا للآدمي ومحمد جعل بدل طرفه النصف من بدل نفسه كما في الحر وسوى هذا رواية عن محمد أن الواجب في بدل طرف المملوك نقصان القيمة فقط وهو رواية عن أبي يوسف أيضا وعلى قول أبي حنيفة بدل طرف المملوك يتقدر بنصف بدل نفسه إذا لم يتجاوز الدية إلا أن في رواية الحسن عن أبي حنيفة عم جميع الأطراف في ذلك وفي رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة استثنى الأذن والشعر كالحاجب وشعر الرأس واللحية فقال : أستقبح اعتبار المملوك بالحر في هذا وأوجب نقصان القيمة وجه قول محمد أن طرف الملوك في حكم المال بدليل أنه لا يجري فيه القصاص بحال ويتحمله العاقلة بالجناية على بمنزلة الجناية على سائر الأموال في أنها توجب نقصان المالية بدلا مقدار وجه رواية الحسن عن أبي حنيف C : أن الأطراف تابعة للنفس المملوك والحر في ذلك سواء فكما أن موجب الجناية على طرف الحر نصف بدل نفسه فكذلك موجب الجناية على طرف العبد . وجه رواية أبي يوسف : أن البدل المقدر في الحر تارة يجب لتفويت الزينة وتارة يجب لتفويت المنفعة ومعنى الزينة في المملوك غير المطلوب وإنما المطلوب المنفعة ففي كل طرف يجب بدله باعتبار تفويت المنفعة كان العبد فيه كالحر وفي كل ما يجب في الحر باعتبار تفوي الزينة والجمال كالشعر وقطع الأذن .
المملوك فيه لا يلحق الحر ولكن يلحق بالمال فيجب النقصان وهذا لأن المملوك يشبه الحر من وجه والمال من وجه والسبيل فيما يردد بين أصلين أن يوفر عليه حظهما وإذا حفر المدبر بئرا في الطريق فوقع فيها رجل فمات فعلى المولى قيمته لأنه بالحفر السابق جان على من وقع في البئر بطريق التسبب فإن دفع المولى قيمته إلى وليه بقضاء قاض فوهب الولي نصف القيمة للمولى ثم وقع فيها آخر قال : يدفع الولي النصف الذي في يده كله إلى الآخر لأنه تبين أن القيمة المقبوضة كانت مشتركة بينهما نصفين فهبة المولى النصف ينصرف إلى نصيبه خاصة دون نصيب شريكه فما بقي في يده كله نصيب شريكه ولأنه صار مستهلكا كالقائم من القيمة إذ لا فرق بين أن يهب ذلك من المولى وبين أن يهب من أجني آخر وما استهلكه كالقائم في يده حكما فعليه أن يدفع نصف قيمته إلى شريكه فإن وقع فيها ثالث وقد غرم الواهب نصف القيمة للثاني بأمر القاضي فعلى الواهب لولي الثالث سدس القيمة لأنه تبين أن القيمة والواجبة كانت بينهم أثلاثا وأن حق الثالث في ثلث القيمة إلا أن نصف ذلك في النصف الذي هو في يد الثاني ولا ضمان على الأول فيه لأنه دفعه بقضاء قاض فيرجع به على الثاني ويأخذ منه ثلث ما في يده ونصف حقه وهو سدس القيمة كان في النصف الذي وهبه الأول وهو مستهلك لذلك فلهذا يغرم له سدس القيمة ولا سبيل له على المولى لأن المولى قد أدى ما عليه من القيمة وإنما يملك الموهوب بتملك صحيح من الواهب ولا سبيل لأحد عليه وإن حفر المدبر بئرا في الطريق فوقع فيها رجل فمات ثم كاتب المولى المدبر ثم وقع فيها رجل آخر فعلى المولى قيمته بينهما نصفان ولا شيء على المكاتب لأنه إنما صار جانيا بالحفر السابق وقد كانت تلك الجناية قبل الكتابة فلهذا لا يجب على المكاتب شيء . ( ألا ترى ) أنه لو أعتقه مولاه أو أدى بدل الكتابة فعتق ثم وقع فيها رجل كان على المولى قيمته ولا شيء على المعتق ولا على عاقلته وعلى هذا يعتبر قيمته يوم الحفر لأنه صار جانيا بذلك الحفر . ( ألا ترى ) أن عند الوقوع قد يكون المدبر ميتا ولا تتحقق الجناية من الميت وعلى هذا لو أعتقه المولى بعد الحفر ثم وقع المولى في البئر فمات كان دمه هدرا لأنه صار جانيا بالحفر وهو كان مملوكا للمولى عند ذلك وجناية المملوك على المالك فيما يوجب المال هدر وكذلك لو وقع فيها عبد للمولى عند ذلك والمولى وارثه أو ابنه أو بعض من لا يرثه إلا المولى فدمه هدر لأنه لو اعتبر كان موجبا للمولى على نفسه إلا المكاتب فإن على المولى الأقل من قيمة المكاتب يوم وقع فيها ومن قيمة المدبر يوم حفر البئر يؤدي من ذلك مكاتبته وما بقي فهو ميراث لأن المكاتب إذا ترك وفاء فهو في حكم الأجنبي عن المولى فتعتبر الجناية عليه في إيجاب الأقل من قيمته يوم وقع في البئر ومن قيمة المدبر يوم حفر ليؤدي منه المكاتبة فتحصل له الحرية ثم ما بقي ميراث فإن كان للمكاتب ولد حر فهو ميراث له وإلا فهو للمولى بالولاء ويستوي إن كان حفر المدبر البئر قبل أن يكاتب المولى هذا العبد أو بعده لأن جنايته فيما اتصلت به حين وقع في البئر وهو مكاتب في هذه الحالة وإن كان الواقع فيها ابن المولى وله وارث غير المولى فهو ضامن حصة من يرث معه من قيمة العبد ويسقط حصته بمنزلة دين آخر واجب للابن على الأب ثم مات الابن فإنه يسقط حصته من ذلك ويؤدي حصة الابن الآخر ولو حفر المدبر البئر ثم أعتقه المولى ثم مات المولى ثم وقع في البئر إنسان فمات كانت قيمة المدبر في مال المولى لأن الحفر كان جناية منه في حال كونه مملوكا للمولى وكان موجبه القيمة على المولى إذا اتصل الوقوع به فيكون هذا نظير ما لو حفر المولى بنفسه ثم وقع فيها دابة بعد موته فكما أن هناك قيمة الدابة تكون في تركة المولى فيها هنا قيمة المدبر كذلك وإن لم يترك المولى شيئا فلا شيء على ورثته ولا على المعتق لما بينا أن موجب هذه الجناية الدين في ذمة المولى وليس على الوارث قضاء دين المورث من مال نفسه ولا على المعتق شيء من دين المعتق مدبر قتل دابة رجل وأحرق ثوب آخر فعليه السعاية في قيمة ذلك كله لأن جنايته على المال توجب الضمان دينا في ذمته يقضي من كسبه وسعايته ولكن يصير بهذا مأذونا له في التجارة حتى لا ينفذ سائر تصرفاته لأن انفكاك الحجر منه يعتمد الرضا من المولى به صريحا أو دلالة ولم يوجد وحاله ها هنا كحال العبد المحجور عليه يلزمه دين بالاستهلاك فلا يصير به مأذونا ولكنه لو اكتسب كسبا أو وهبت له هبة فذلك كله مصروف إلى دينه فإن قضى به دين أحدهما كان للآخر أن يشارك فيه لأن القاضي لما قضى لهما .
موجبا الدين في ذمته فقد تعلق حقهما بكسبه فلا يملك تخصيص أحدهما بقضاء دينه وإبطال حق الآخر بمنزلة العبد المحجور عليه يخص بعض غرمائه بقضاء الدين من كسبه وهناك حق الباقين حق المشاركة معه ولو أن رجلا أعتق عبدا في مرضه ولا مال له غيره أو له مال غيره يخرج العبد من ثلثه ثم أن العبد قتل سيده خطأ فعليه أن يسعى في قيمتين في قول أبي حنيفة إحداهما رد الوصية فإن العتق في المرض وضية ولا وصية للقاتل والأخرى لأجل الجناية لأن المستسعى في قيمة عبده مكاتب وجناية المكاتب على مولاه خطأ كجناية الأجنبي فيلزمه قيمته كذلك وعند أبي يوسف ومحمد : عليه قيمة واحدة لرد الوصية والدية على عاقلته لأن المستسعى عندهما حر عليه دين فجنايته خطأ تكون على عاقلته ولو أن عبدا جرح مولاه فأعتقه مولاه ثم مات من تلك الجراحة فإن كان المولى صاحب فراش سعى العبد في قيمته لورثته وإن كان المولى يجيء ويذهب فالعبد حر لا سبيل عليه لأنه إذا كان صاحب فراش فهو مريض والإعتاق منه بمنزلة الوصية ولا وصية لقاتل وإذا كان يذهب ويجيء فهو بمنزلة الصحيح ينفذ إعتاقه لا بطريق الوصية . ( ألا ترى ) أن رجلا لو جرح رجلا جراحة وأقر له بدين وهو جيء ويذهب جاز وإن كان صاحب فراش لم يجز وحصل ذلك بمنزلة الوصية منه للقاتل ولو أن مدبرة قتلت مولاها خطأ وهي حبلى ثم ولدت بعد موته فلا سعاية على ولدها في شيء من قيمته لأنه وجب عليها السعاية في قيمتها لرد الوصية فكانت كالمكاتبة عند أبي حنيفة والمكاتبة إذا ولدت ولدا فالولد يدخل في كتابتها ويعتق بعتقها وليس عليه شيء من بدل الكتابة وعندهما هي حرة والولد ينفصل عنها حرا ولو جرحت مولاها ثم ولدت ثم مات المولى من تلك الجراحة فعليها السعاية في قيمتها لرد الوصية ويعتق الولد من الثلث لأن الولد انفصل عنها وهي مدبرة فإن المولى حي حين ولدت وهي إنما تعتق بموت المولى وولد المدبرة مدبر ولم يوجد من الولد ما يحرمه من الوصية فكان هذا من الثلث مدبر تاجر عليه دين قتل مولاه خطأ فعليه أن يسعى في قيمة رقبته لغرمائه وما بقي من الدين عليه على حاله . أما وجوب السعاية عليه في قيمة رقبته فلرد الوصية حين قتل مولاه ثم غرماؤه أحق بهذه القيمة من المولى لأن المولى صار ضامنا لهم شيئا فإن حقهم كان في كسبه . ( ألا ترى ) أن المولى لو أعتقه في حياته لم يغرم لهم شيئا فكذلك إذا أعتق بموته ولكن هذه القيمة بدل ماليته وغرماؤه أحق بمكاتبته من مولاه . ( ألا ترى ) أنه لو قتل في حياة مولاه كانت قيمته لغرمائه دون مولاه وأما وجوب ما بقي من الدين عليه فلأن في حال حياة المولى كان الدين واجبا بمعاملته فبقي بعد موت المولى على حاله وكذلك لو كان عبدا مأذونا عليه دين جرح مولاه ثم أعتقه المولى وهو صاحب فراش ثم مات من جراحه ولا مال له غيره لأنه أعتقه وهو مريض فيكون ذلك بمنزلة الوصية ولا وصية لقاتل وإن أعتقه وهو يجيء ويذهب فإن كان ترك مالا فغرماء العبد بالخيار إن شاؤوا أخذوا قيمة العبد من تركته لأن المولى أتلف عليهم مالية رقبته بالإعتاق ويأخذون قيمته من تركته ويتبعون العبد ببقية دينهم وإن شاؤوا باعوا العبد بجميع دينهم لكن الدين واجب بمعاملته في ذمته ولا سعاية على العبد لورثة المولى لأن المولى أعتقه في صحته مدبر ضرب مولاه ورجلا أجنبيا خطأ بدئ بأحدهما قبل الآخر إلا إن كان الأجنبي مات قبل المولى فلورثة الأجنبي قيمة المدبر في مال المولى لأنه صار قاتلا له وهو مدبر فيجب قيمته دينا في ذمة المولى ويستوفي من تركته بعد موته ويسعى المدبر في قيمته لورثته لأنه صار قاتلا لمولاه فصار محروما من الوصية فعليه رد قيمته للورثة لبطلان الوصية وكذلك لو مات المولى قبل الأجنبي لأن المدبر إنما صار قاتلا للأجنبي بالضربة وقد وجدت منه في حال حياة المولى فيكون موجبها القيمة على المولى . ( ألا ترى ) أن مدبرا لو جرح رجلا ثم مات المولى بعد ذلك كانت القيمة في مال المولى وكذلك إن لم يعلم أنهما ماتا أولا لا إن قد علمنا أن الجناية من المدبر لأن قيمته كانت دينا لهم على المولى وما يسعى فيه المدبر ملك المولى وحق غرمائه في ملكه مقدم على حق ورته وإن كان لرجلين مدبران لكل واحد منهما مدبر فقطع كل واحد منهما يد صاحبه فيرثا جميعا فإن سيد كل واحد منهما يضمن نصف قيمة مدبر صاحبه يوم جنى عليه مدبره إلا أن يكون قيمة مدبره أقل من ذلك لأن موجب جناية المدبر الأقل من قيمته مدبرا ومن أرش الجناية فإن ماتا جميعا ضمن كل واحد منهم قيمة مدبره إلا أن يكون قيمة مدبر صاحبه أقل فحينئذ يلزمه ذلك لأن كل منهما صار قاتلا لصاحبه بفعل كان منه في .
حياته فموته بعد ذلك لا بمنع وجوب القيمة على المولى وإن مات أحدهما دون الآخر فعلى مولى الباقي الأقل من قيمة مدبره ومن قيمة المقتول وعلى مولى المقتول الأقل من قيمة الميت ومن نصف قيمة الحي لأن أرش الجناية عليه هذا المقدار وإن أعتقهما مولاهما بعد الجناية كان على كل واحد منهما الأقل من قيمة مدبره وأرش جنايته على صاحبه إلى يوم أعتق الآخر سيده ولا يضمن الفضل الذي حدث في الجناية بعد العتق لأن إعتاق المجني عليه بمنزلة البرء في انقطاع السراية به لمعنى يبدل المستحق وقد بيناه في الديات مدبر بين رجلين أثلاثا جنا جناية فعليهما قيمته على قدر حصتهما فيه لأن وجوب القيمة على المولى لمنعه دفع الرقبة بالتدبير السابق وإنما منع كل واحد منهم بقدر ملكه فيلزمه من القيمة بقدر ذلك وكذلك لو كان أحدهما دبر نصيبه منه واختار الآخر تركه على حاله في قول أبي حنيفة لأن التدبير عنده يتجزأ إلا أن الآخر لا يخاطب بالدفع أو الفداء في نصيبه لأن مدبر البعض لا يحتمل التمليك كمعتق البعض فيتعذر عليه دفع نصيبه كما يتعذر عليه نصيبه مدبر بين رجلين على أحدهما جناية فعلى الآخر نصف قيمته له لأن قيمته نصيب المجني عليه فما يكون موجبا للمال عليه هدر وجناية تصيب صاحبه عليه معتبرة . ( ألا ترى ) أنه لو كان محل الدفع كان يخاطب صاحبه بدفع نصيبه إليه فكذلك يخاطب بدفع نصف القيمة إليه إذا كان نصيبه مدبرا فإن أعطى ذلك بأمر القاضي ثم جنى المدبر على أجنبي فعلى المولى المجني عليه نصف قيمة المدبر للأجنبي لأن الجناية الأولى لم تثبت في نصيبه فكأنه لم يوجد من نصيبه إلا هذه الجناية على الأجنبي فيغرم نصف قيته له فيكون النصف الباقي فيما أخذه المولى المجني عليه من صاحبه يقتسمانه على مقدار أنصاف جنايتهما لأنه اجتمع في ذلك النصف جنايتان والمولى لا يغرم بجنايات المدبر وإن كثرت إلا قيمة واحدة وقد غرم قيمة نصيبه للمجني عليه مرة فلا يغرم شيئا آخر ولكن ما غرم يكون مشتركا بينهما لأن الأجنبي قد وصل إليه نصف حقه فإن ما بقي نصف حقه والمولى المجني عليه ما تثبت من الجناية عليه إلا نصفه فكان هذا النصف بينهما نصفان فإن جنى المدبر بعد ذلك جناية مالية لم يكن على الموليين بسبب هذه الجناية شيء آخر لأن كل واحد منهما غرم قيمة نصيبه مرة ولكن الآخر يتبع المولى المجني عليه الأول فيكون ما أخذه المولى والأول بينهما وبين هذا الآخر يضرب فيه كل واحد منهم بنصف حقه ويكون ما أخذ الأول أيضا من المولى المجني عليه بينه وبين هذا الآخر يضرب كل واحد منهما فيه بنصف الجناية لاستواء حقهما فيه وكذلك إن جنى بعد ذلك جناية أخرى فهو على هذا القياس والمعنى الذي بينا يعم الفصول كلها وإذا جنى المدبر على أحد مولييه جناية تزيد على قيمته فغرم شريكه له نصف قيمته بأمر القاضي ثم جنى المدبر على الآخر فغرم شريكه له نصف قيمته بأمر القاضي ثم جنى على أجنبي جناية فإنه يضرب مع كل واحد من الموليين فيما في يده بنصف الجناية لأن كل واحد من الموليين غرم قيمة نصيبه بجناية المدبر مرة فلا يغرم شيئا آخر ثم حق الآخر استوى بحق كل واحد من الموليين في النصف الذي وصل إليه من القيمة فكذلك يقسم كل نصف بينه وبين من في يده نصفان رجل مات وترك مدبرا لا مال له غيره فجنى المدبر جناية فعليه أن يسعى في الأقل من قيمته ومن أرش الجناية ويسعى المدبر في ثلثي قيمته في قول أبي حنيفة لأن بموت المولى عتق ثلثه بالتدبير ولزمه السعاية في ثلثي قيمته والمستسعى بمنزلة المكاتب عنده وجناية المكاتب توجب عليه في كسبه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية وعلى قولهما حر عليه دين فجنايته تكون على عاقلته وعاقلته عاقلة مولاه ثم عند أبي حنيفة حكمه في الجناية كحكم المكاتب حتى إذا جنى جنايتين قبل أن يقضي القاضي عليه بشيء فليس عليه إلا قيمة واحدة إلا أن يكون القاضي قضى عليه للأول بالقيمة ثم جنى جناية أخرى فحينئذ تلزمه القيمة للثاني وعلى قول زفر : لا فرق بين ما قبل القضاء وبين ما بعده وهو قول أبي حنيفة الأول وقد بينا هذا في الديات وفيه إشكال ها هنا فإن في المكاتب جعلنا جنايته في رقبته لتوهم دفعه بالجناية بعد العجز وهذا لا يتحقق في معتق البعض فكان ينبغي أن يكون موجب جنايته القيمة في ذمته ابتداء سواء قضى بها القاضي أو لم يقض ولكنا نقول الدفع ها هنا متوهم أيضا فإن من العلماء من يقول معتق البعض يستدام فيه الرق فيما بقي منه ويكون محتملا للتمليك والتملك فإن اجتهد القاضي هذا القول حكم به عند عجزه عن الأداء بعد حكمه فلهذا تتعلق جنايته برقبته كما تتعلق بجناية المكاتب إلا أنهما .
يفترقان في فصل وهو أن هذا المدبر لو مات بعد جنايته قبل أن يسعى في ثلثي قيمته للورثة وعليه دين فإن ما تركه بين أصحاب الجناية وأصحاب الدين الذين لهم عليه بالحصص بخلاف المكاتب فقد بينا أن هناك إذا لم يقض القاضي بالجناية على المكاتب حتى مات وعليه دين كان صاحب الدين مقدما على صاحب الجناية لأن هناك بموته عاجزا تنفسخ الكتابة ويبطل حق ولي الجناية فكان صاحب الدين أقوى من هذا الوجه وهذا المعنى لا يوجد هنا فإن بموته لا ينفسخ السبب الموجب للسعاية عليه ولكن يتحول حق ولي الجناية إلى القيمة باعتبار الناس عن الدفع سواء كان قضى القاضي بالدفع أو لم يقض فلهذا كان مساويا لصاحب الدين ولو ترك ولدا له من ابنه ولم يترك مالا يسعى الولد فيما على أبيه لأنه بمنزلة ولد المكاتبة وقد بينا أن الولد هناك بعد موت أبيه يسعى في بدل الكتابة وفيما كان على ابنه لأصحاب الدين والجناية فإن كان المدبر قد سعى فيما قد كان للورثة ولم يقض القاضي عليه بالجناية حتى مات الأب يسعى في ثلثي قيمة أبيه لأن هذا بمنزلة بدل الكتابة وفيما على أبيه لأصحاب الدين والجناية فإن كان المدبر قد سعى فيما قد كان للورثة ولم يقض القاضي عليه بالجناية حتى مات الإب لم يسع الابن في شيء لأن الأب عتق بأداء ثلثي قيمته إلى ورثته والولد عتق بعتقه وإنما كان يجب عليه السعاية لتنفيذ العتق بالأداء فإذا عتق بالأول في حياته لم يطالب بشيء من دين أبيه كما لا يطالب به سائر ورثة أبيه رجل أوصى بعتق عبد له يخرج من ثلثه ثم مات الوصي فجنى العبد جناية بعد موته قال : يدفعه إلى الورثة وتبطل الوصية أو يفدونه متطوعين من أموالهم ويعتقونه عن الميت لأن الوصية بالعتق لا تصير منفذة بدون التنفيذ فجنى بعد موت المولى قبل أن يعتق كان هو بمحل الدفع وهو مبقي على محل ملك المولى فيخاطب من يخلف المولى بالدفع وإذا دفعه بطلت الوصية لفوات محلها فإذا اختار فداه فهو متطوع في ذلك في غير محله عليه فهو كما لو تبرع أجنبي بالفداء عنه وإذا ظهر عن الجناية يعتق عن الميت كما كان يعتق إنما تنفذ من ثلثه وجناية المدبر الذمي بمنزلة جناية مدبر المسلم لأنه مانع دفع الرقبة بالتدبير اسابق كالمسلم فإن الذمي ملزم أحكام الإسلام فيما يرجع إلى المعاملات فليس له أن يتبع مدبره كما ليس له أن يتبع أم ولده وسواء ما جنى قبل إسلامه وما جنى بعد إسلامه ما لم يقض عليه بالسعاية لمولاه الذمي من أجل إسلام المدبر لأن نفس الإسلام لا يضر ما لم يقض عليه بالسعاية . ( ألا ترى ) أن مولاه لو أسلم بقي مدبرا له على حاله فيكون موجب جنايته على مولاه فإن قضى القاضي عليه بالسعاية في قيمته ثم جنى كان عليه في كسبه الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأنه صار بمنزلة المكاتب بقضاء القاضي . ( ألا ترى ) أن مولاه لو أسلم بعد هذا بقي هو في حكم المكاتب يعتق بأداء القيمة إلا أن يعجز عنها فيكون هو في جنايته كالمكاتب وهذا بالإجماع . أما عند أبي حنيفة فلأن المستسعى بمنزلة المكاتب بقضاء القاضي وأما عندهما فلأنه إنما يسعى ليعتق بخلاف معتق البعض وأما مدبر العبد الحربي المستأمن فإن كان دبره في دار الحرب ثم جنى العبد في دار الإسلام قيل للحربي : ادفعه أو افده لأن التدبير في دار الحرب باطل بمنزلة الإعتاق فإن الحربي إذا أعتق عبده في دار الحرب كان عتقه باطلا وإذا أخرجه إلى دار الإسلام كان له أن يتبعه فكذا إذا دبره في دار الحرب كان له أن يتبعه في دار الإسلام وإن كان بمحل التبع يخاطب مولاه في جنايته بالدفع أو الفداء وإن كان دبره في دار الإسلام فهو بمنزلة مدبر الذمي لأن تدبيره في دار الإسلام صحيح كإعتاقه فيتعذر به دفع الرقبة ويلزمه القيمة بجنايته دينا عليه فإن دبره في دار الإسلام ثم لحق الحربي بدار الحرب والعبد في دار الإسلام ثم جنى جناية لم يكن على العبد منها شيء لأن موجب جنابة المدبر القيمة دينا في ذمة مولاه والدين في ذمة الحربي لا تعلق له بمدبره فإن رجع الحربي بأمان أو مسلما أو أسلم أهل داره أخذه بقيمته كما يؤخذ بسائر الديون الواجبة عليه فإن سبى الحربي فالمدبر حر لأن نفسه تبدلت بالسبي من صفة المالكية إلى صفة المملوكية وكذلك كموته حكما فيعتق به مدبره لأن الحرية حياة والرق تلف ولأنه بالرق خرج من أن يكون أهلا للملك فلا يبقى المدبر على ملكه ولا يحتمل النقل إلى غيره فيعتق لهذا والجناية تبطل لأنها كانت دينا عليه والحربي إذا سبي عليه دين يبطل وقد بينا هذا في المأذون وإن قتل المولى ولم يسب أو مات بالمدبر حر ولا حرمة لحق ورثته من أهل الحرب فلا يجب على المدبر السعاية لحقهم ولكنه مدبر مات مولاه لا وارث له فيعتق كله من غير سعاية وإذا فقأ الحر عين .
مدبر أو أم ولد أو مكاتب أو قطع يديه أو أذنيه أو رجليه كانعليه نقصان ذلك لأن إيجاب جميع القيمة على الجاني غير ممكن ها هنا فإن شرط وجوب جميع قيمة الدية دفع الجثة بدليل أنه لو كان قنا فغرم الجاني جميع القيمة بهذه الجناية سلمت له الجثة واتخاذ هذا الشرط متعذر في هؤلاء فيكون الواجب نقصان المالية بمنزلة ما لو جنى على المملوك جناية ليس لها أرش مقدر فإنه يجب نقصان ولو فعل ذلك عبد بأن فقأ عينه أو قطع يديه كان عليه قيمته كاملة فإذا أخذها المولى دفع إليه الجثة عندنا . وقال الشافعي : ليس عليه دفع الجثة إلى الجاني ولكن يأخذ منه القيمة ويسلم له الجثة لأن القيمة بدل عن الفائت خاصة فإن الجناية على المماليك بمنزلة الجناية على الأحرار ولهذا يقدر بدل طرفه بكمال بدل نفسه كما في الحريم الواجب في حق الحر يكون بدلا عن الفائت دون القائم فكذا منه في حق العبد وهذا على أصله مستقيم فإنه يجعل طرف العبد مضمونا بالقصاص بطرف الحر ولا أجمعنا على أنه لو قطع إحدى اليدين من العبد بغرم نصف القيمة ولا يملك به شيئا من الجثة بل يكون ذلك بدلا عن الفائت خاصة فكذلك إذا قطع اليدين اعتبارا للكل بالبعض وأصحابنا يقولون : يوفر على المولى كمال بدل ملكه وملكه محتمل للنقل فلا يحتمل للبدل على نفسه على ملكه كالغاصب إذا أخذ منه المغصوب القيمة بطريق الصلح بالاتفاق أو بقضاء القاضي عندنا وهذا لأن البدل والمبدل لا يجتمعان في ملك رجل والضمان إنما يجب جبرا للفائت فمع بقاء أصل ملكه في العين لا يملك إيجاب الضمان بطريق الجبران ثم الدليل على أن الواجب ها هنا بدل عن جميع العبد لأن الواجب يقدر بمالية العبد وأن العبد صار في حكم المستهلك لفوات منفعة الجنس منه ولو كان مستهلكا حقيقة كان الواجب من القيمة بدلا عنه فكذلك إذا صار مستهلكا حكما وإذا ثبت أن الواجب بدل عن الكل فيملك به ما يحتمل التمليك دون ما لا يحتمله والجثة وإن كانت مستهلكة حكما فهي محل التمليك بخلاف ما إذا كانت مستهلكة حقيقة فأما في الحر لا يمكن أن يجعل بمقابلة الجثة إذ لا قيمة للحربي الحر لأن جعل القيمة بمقابلة الجثة إنما يجعل ليتملك والحر لا يحتمل ذلك فلو جعلنا الدية بمقابلة الجثة إنما يجعل ليتمكن من إتلافه الجثة وهذا لا وجه له فأما إذا قطع إحدى اليدين من العبد فهناك الجثة قائمة حقيقة وحكما لبقاء منفعتها فيجعل الواجب بمقابلة المتلف خاصة وهذا لأن الواجب جزء من مالية المعتق والفائت جزء من العين فيمكن جعل الجزء بمقابلة الجزء وها هنا الواجب جميع مالية العين والفائت جزء من العين حقيقة وجميع المالية لا يمكن أن تجعل بمقابلة الجزء فلهذا جعلنا القيمة بمقابلة الكل يوضحه أنه إذا غرم نصف القيمة بقطع إحدى اليدين . فأما إن ملك نصفا معينا من جانب اليد المقطوعة والحيوان لا يحتمل ذلك أو نصفا شائعا من جميع العبد فيكون ذلك ثلاثة أرباعه معنى لأن اليد من الآدمي نصفه وقد فات النصف وملك نصف ما بقي فذلك ثلاثة أرباع ولا يجوز أن يسلم ثلاثة أرباعه بضمان نصف القيمة . فأما ها هنا الواجب جميع مالية العين ولا يسلم له إلا جميع مالية العين تمليكا وإتلافا فإن أبى المولى أن يدفع الجثة لم يكن له أن يرجع بشيء على الجاني في قول أبي حنيفة C وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله : له أن يرجع بنقصان المالية وفي ظاهر المذهب عندنا الخيار ثبت للمولى بين أن يدفع الجثة ويأخذ القيمة وبين أن يمسك ويأخذ النقصان وكان أبو بكر الأعمش C يقول : الخيار للجاني بين أن يأخذ الجثة ويغرم القيمة وبين أن يغرم النقصان ولا يأخذ الجثة لأن الضمان عليه فالخيار في مقدار ما يلزمه من الضمان إليه والأصح هو الأول ووجه قولهما أن العبد في حكم الجناية على أطرافه بمنزلة المال حتى لا يتعلق القصاص بالجناية على أطرافه بحال ولا تتحمله العاقلة وتجب بالغة ما بلغت فعرفنا أنه بمنزلة المال وفي الجناية على الأموال يثبت الخيار للمال