( قال - C - ) : ( وإذا سار الرجل على دابة أي الدواب كانت في طريق المسلمين فوطئت إنسانا بيد أو رجل وهي تسير فقتلته فديته على عاقلة الراكب ) والأصل في هذا أن السير على الدابة في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة بمنزلة المشي فإن الحق في الطريق لجماعة المسلمين وما يكون حقا للجماعة يباح لكل واحد استيفاؤه بشرط السلامة لأن حقه في ذلك يمكنه من الاستيفاء ودفع الضرر عن الغير واجب عليه فيقيد بشرط السلامة ليعتدل النظر من الجانبين ثم إنما يشترط عليه هذا القيد فيما يمكن التحرز عنه دون ما لا يمكن التحرز عنه لأن ما يستحق على المرء شرعا يعتبر فيه الوسع ولأنا لو شرطنا عليه السلامة عما لا يمكن التحرز عنه تعذر عليه استيفاء حقه لأنه لا يمتنع من المشي والسير على الدابة مخافة أن يقتل بما لا يمكن التحرز عنه .
فأما ما يستطاع الامتناع عنه لو شرطنا عليه صفة السلامة من ذلك لا يمتنع عليه استيفاء حقه وإنما يلزمه به نوع احتياط في الاستيفاء .
إذا عرفنا هذا فنقول : التحرز عن الوطء على شيء في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك فإذا لم يسلم كان جانيا وهذه جناية منه بطريق المباشرة لأن القتل إنما حصل بفعله حين كان هو على الدابة التي وطئت فتجب عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية وإن نفحته برجلها وهي تسير فلا ضمان على الراكب لقوله - عليه السلام - الرجل جبار أي هدر والمراد نفحة الدابة بالرجل وهي تسير وهذا لأنه ليس في وسعه التحرز من ذلك لأن وجه الراكب أمام الدابة لا خلفها وكذلك النفحة بالذنب ليس في وسعه التحرز عن ذلك .
وقال ابن أبي ليلى هو ضامن لجميع ذلك وقاس الذي يسير على الدابة بالذي أوقف دابته في الطريق فنفحت برجلها أو يدها فكما أن هناك يجب ضمان الدية على عاقلته فكذلك هنا .
ولكنا نقول في الفرق بينهما : هو ممنوع من إيقاف الدابة على الطريق لأن ذلك مضر بالمارة ولأن الطريق ما أعد لإيقاف الدواب فيه فيكون هو في شغل الطريق بما لم يعد الطريق له متعديا والمتعدي في التسبب يكون ضامنا فلهذا يسوي فيه بين ما يمكن التحرز عنه وبين ما لا يمكن وهذا لأنه إن كان لا يمكن التحرز عن النفحة بالرجل والذنب فهو يمكنه التحرز عن إيقاف الدابة بخلاف الأول فإن السير على الدابة في الطريق مباح له لأن الطريق معد لذلك ولأنه لا يضر بغيره وهو محتاج إلى ذلك فربما لا يقدر على المشي فيستعين بالسير على الدابة وإذا لم يكن نفس السير جناية قلنا لا يلزمه ضمان ما لا يستطاع الامتناع منه .
( ألا ترى ) أن الماشي في الطريق لا يكون ضامنا لما ليس في وسعه الامتناع منه بخلاف الجالس والنائم في الطريق ولو كدمت أو صدمت أو خبطت أو ضربت بيدها إنسانا وهو يسير عليها فذلك كله مما يمكن التحرز عنه فيكون موجبا للدية على عاقلته بمنزلة ما لو وطئت إلا أن هذه الأسباب لا تلزمه الكفارة عندنا لأن الكفارة جزاء مباشرة القتل فلا تجب بالتسبب على ما نبينه وإن ضربت بحافرها حصاة أو نواة أو حجرا أو شبه ذلك فأصاب إنسانا وهي تسير فلا ضمان عليه لأن هذا لا يمكن التحرز عنه فهو بمنزلة التراب والغبار المنبعث من سنابكها إذا فقأ عين إنسان إلا أن يكون حجرا كبيرا فيضمن لأن ذلك مما يستطاع الامتناع منه وإنما ينبعث الحجر الكبير بخرق منه في السير .
ولو راثت أو بالت في السير فعطب إنسان بذلك لم يكن عليه ضمان لأنه لا يمكنه التحرز عن ذلك قالوا وكذلك إذا وقفت لتبول أو لتروث لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك حتى يقف فهذا مما لا يستطاع الامتناع عنه .
وكذلك اللعاب يخرج من فيها ولو وقع سرجها أو لجامها أو شيء محمول عليها من أداتها أو متاع الرجل الذي معه يحمله فأصاب إنسانا في السير كان ضامنا لأن هذا مما يمكن التحرز عنه وإنما سقط لأنه لم يشد عليها أو لم يحكم ذلك فكأنه ألقاه بيده على الطريق .
وكذلك من عطب به بعدما وقع على الأرض فإن عثر به أو تعقل فهو ضامن له بمنزلة ما لو وضعه بيده على الطريق والراكب والرديف والسائق والقائد في الضمان سواء لأن الدابة في أيديهم وهم يسيرونها ويصرفونها كيف شاؤوا وذلك مروي عن شريح - C - إلا أنه لا كفارة على السائق والقائد فيما وطئت لأنهما مسببان للقتل والكفارة جزاء مباشرة القتل .
فأما الراكب والمرتدف فمباشر أن القتل بفعلهما فعليهما الكفارة كالنائم إذا انقلب على إنسان فقتله .
وإذا أوقف دابته في طريق المسلمين أو في دار لا يملكها بغير إذن أهلها فما أصابت بيد أو رجل أو ذنب أو كدمت أو سال من عرقها أو لعابها على الطريق فزلق به إنسان فضمان ذلك على عاقلته لأنه متعد في هذا التسبيب فإنه ممنوع من إيقاف الدابة خصوصا إذا كان يضر بالمار ولكن لا كفارة عليه لانعدام مباشرة القتل منه .
وإذا أرسل الرجل دابته في الطريق فما أصابت في وجهها فهو ضامن له كما يضمن الذي سار به ولا كفارة عليه لأنه سائق لها ما دامت تسير على سنن إرساله فإذا عدت يمينا أو شمالا فلا ضمان عليه لأنها تغيرت عن حالتها أنشأت سيرا آخر باختيارها فكانت كالمنفلتة إلا أن لا يكون لها طريق غير الذي أحدثت فيه فحينئذ يكون ضامنا على حاله لأنه إنما سيرها في الطريق الذي يمكنه أن يسير فيه وإنما سارت في ذلك الطريق فكان هو سائقا لها ووقفت ثم سارت فيه بريء الرجل من الضمان إذ لأنها لما وقفت فقد انقطع حكم إرساله ثم أنشأت بعد ذلك سيرا باختيارها فهي كالمنفلتة .
فإن ردها فالذي ردها ضامن لما أصابت في فورها ذلك لأنه سائق لها في الطريق الذي ردها فيه .
وإذا حل عنها وأوقفها ثم سارت هي فلا ضمان عليه لأن حكم فعله قد انقطع بما أنشأت من السير باختيارها .
قال : ( وإذا اصطدم الفارسان فوقعا جميعا فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه عندنا استحسانا وفي القياس على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه وهو قول زفر والشافعي ) .
وجه القياس : أن كل واحد منهما إنما مات بفعله وفعل صاحبه لأن الاصطدام فعل منهما جميعا فإنما وقع كل واحد منهما بقوته وقوة صاحبه فيكون هذا بمنزلة ما لو جرح نفسه وجرحه غيره .
ولكنا استحسنا : لما روي عن علي - Bه - أنه جعل دية كل واحد من المصطدمين على عاقلة صاحبه .
والمعنى فيه : أن كل واحد منهما موقع لصاحبه فكأنه أوقعه عن الدابة بيده وهذا لأن دفع صاحبه إياه علة معتبرة لإتلافه في الحكم فأما قوة المصطدم فلا تصلح أن تكون علة معارضة لدفع الصادم فهو بمنزلة من وقع في بئر حفرها رجل في الطريق يجب الضمان على الحافر وإن كان لولا مشيه وثقله في نفسه لما هوى في البئر وكذلك لو دفع إنسان غيره في بئر حفرها رجل في الطريق فالضمان على الدافع دون الحافر .
وإن كان لولا حفره لذلك الموضع لما أتلفه بدفعه وعلى هذا الأصل قالوا لو أن رجلين تجاذبا حبلا فانقطع الحبل فماتا جميعا فإن مات كل واحد منهما بفعل صاحبه بأن وقع على وجهه فعلى عاقلة كل واحد منهما دية صاحبه لأنه إنما وقع على وجهه بجذب صاحبه إياه .
وإن وقع كل واحد منهما على قفاه فلا شيء على واحد منهما لأن سقوطه على قفاه بقوة نفسه لا بجذب صاحبه إياه .
وإن سقط واحد منهما على وجهه والآخر على قفاه فدية الساقط على وجهه على عاقلة صاحبه .
ولو قطع إنسان الحبل بينهما فسقط كل واحد منهما على قفاه ومات فديتهما على عاقلة القاطع للحبل لأنه كالدافع لكل واحد منهما ولو كان الصبي في يد أبيه فجذبه رجل من يده فمات فديته على عاقلة الجاذب لأن الأب محق في إمساكه والجاذب متعد في تسبيبه .
وكذلك لو تجاذبا صبيا يدعي أحدهما أنه ابنه والآخر يدعي أنه عبده فالدية على عاقلة الذي يدعي أنه عبده لأن الشرع جعل القول قول من يدعيه ابنه فيكون هو محقا في إمساكه والآخر متعديا في جذبه .
ولو جذب ثوبا من يد إنسان وهو يدعى أنه ملكه فتخرق الثوب من جذبهما ثم أقام المدعي البينة أنه كان له فله نصف قيمة الثوب على صاحبه لأنه كان يكفيه الإمساك باليد وما كان يحتاج إلى الجذب فيجعل التخريق محالا به على فعلهما جميعا ولو عض ذراع إنسان فنزع ذراعه من فيه فسقطت إنسان العاض فهو هدر .
ولو انقطع لحم صاحب الذراع فأرش ذلك على العاض لأنه محتاج إلى جذب الذراع من فيه فإن العض يؤلمه وهو إنما قصد دفع الألم عن نفسه فيكون محقا في الجذب والآخر متعديا في العض .
ولو انقطع لحم صاحب الذراع فأرش ذلك على العاض لأنه محتاج إلى جذب الذراع من فيه فإن العض يؤلمه وهو إنما قصد دفع الألم عن نفسه فيكون محقا في الجذب والآخر متعديا في العض .
ولو أخذ بيد إنسان فجذب صاحب اليد يده فعطبت يده فإن كان أخذ بيده ليصافحه فلا ضمان على الذي أخذ لأن الجاذب ما كان يحتاج إلى ما صنع فيكون هو الجاني على يد نفسه .
وإن كان أخذ يده ليعصره فالضمان على الآخذ لأن الجاذب محتاج إلى الجذب لدفع الألم عن نفسه .
ولو جلس على ثوب إنسان فقام صاحبه فتخرق الثوب من جذبه فالضمان على الجالس عليه لأنه متعد في الجلوس على ذيل الغير بغير إذنه والذي بينا في اصطدام الفارسين فكذلك الجواب في اصطدام الماشيين .
فإن كان أحدهما حرا والآخر عبدا فقيمة العبد على عاقلة الحر ثم يأخذها ورثة الحر لأن كل واحد منهما صار قاتلا لصاحبه فيجب على عاقلة الحر قيمة العبد ثم إن تلف العبد الجاني وأخلف بدلا فيكون بدله لورثة المجني عليه وهو الحر .
وإذا أوقف الرجل دابته في ملكه فما أصابت بيد أو رجل أو غير ذلك فلا ضمان عليه فيه لأنه غير متعد في إيقافها في ملكه وكذلك إن كان الملك له ولغيره لأن لكل واحد من الشريكين أن يوقف دابته في الملك المشترك ويستوي إن قل نصيبه فيها أو كثر .
( أرأيت ) لو قعد في الملك المشترك أو توضأ فعطب إنسان بوضوئه أكنت أضمنه ذلك لا أضمنه شيئا من هذا وإذا سار الرجل على دابته فضربها أو كبحها باللجام فنفحت برجلها أو بذيلها لم يكن عليه شيء لأنه يحتاج إلى ضربها أو كبحها باللجام في تسييرها ولا يمكنه التحرز عن النفحة بالرجل والذنب .
ولو خبطت بيد أو رجل أو كدمت أو صدمت فقتلت إنسانا فالضمان على الراكب سواء كان يملكها أو لا يملكها لأن التحرز عن هذا كله ممكن ولو سقط عنها ثم ذهبت على وجهها فقتلت إنسانا لم يكن عليه شيء لأنها منفلتة فالذي سقط منها ليس براكب ولا قائد ولا سائق والمنفلتة جرحها جبار لأنها عجماء بلغنا عن رسول الله - A - أنه قال العجماء جبار وهي المنفلتة عندنا ذكره في الأصل والله أعلم