( قال - C - ) : ( إذا شهد رجلان على رجل أنه ضرب رجلا بالسيف فلم يزل صاحب فراش حتى مات فعليه القصاص ) بلغنا ذلك عن إبراهيم وهذا لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فقد ظهر بموته هذا السبب ولم يعارضه سبب آخر فيجب إضافة الحكم إليه والروح لا يمكن أخذه مشاهدة وإنما طريق الوصول إلى إزهاق الروح هذا وهو أن يجرحه فيموت قبل أن يبرأ .
يوضحه : أنه لا طريق لنا إلى حقيقة معرفة كون الموت من الضربة وما لا طريق لنا إلى معرفته لا تبنى عليه الأحكام وإنما يبنى على الظاهر المعروف وهو أنه يضربه ويكون صاحب فراش بعده حتى يموت ولا ينبغي للقاضي أن يسأل الشهود هل مات من ذلك أم لا لا في العمد ولا في الخطأ لأنه لا طريق لهم إلى معرفة ذلك .
ولو شهدوا بذلك كانوا قد شهدوا بما يعلم القاضي أنهم فيه كذبة فكيف يحملهم على الكذب بالسؤال عن ذلك ولكنهم إن شهدوا أنه مات من ذلك لم تبطل شهادتهم وجازت إن كانوا عدولا لأنهم اعتمدوا في ذلك دليلا شرعيا وهو الظاهر كما قررنا .
وإن كان بهذا الطريق يحصل علم القضاء للقاضي ويحصل له أيضا علم الشهادة إلا أنه لا حاجة بالقاضي أن يسألهم عن ذلك لأنه يعرف ذلك بدون شهادتهم فلا يسألهم عنه .
ولو شهدوا به لم يبطل شهادتهم لأن المشهود به الكلام الأول فهذه الزيادة لا تكون قدحا فيها بمنزلة شهادة الشهود على أن هذا ابنه ووارثه لا وارث له غيره .
وإذا شهدوا أنه ضربه بالسيف حتى مات ولم يزيدوا على ذلك فهذا عمد لأن كل فاعل يكون قاصدا إلى فعله في المحل الذي باشر الفعل فيه إلا أن القاضي إذا سألهما أتعمد ذلك فهو أوثق لأن صفة العمدية .
وإن ثبتت بأول كلامهما من حيث الظاهر ولكن لم ينقطع احتمال الخطأ .
( ألا ترى ) أن الشهود لو بينوا أن ذلك كان خطأ كان ذلك بيانا موافقا لأول الكلام فسؤالهما عن العمدية لإزالة هذا الاحتمال يكون أوثق وهكذا يوثق فيما إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه والقاضي مندوب إليه وكذلك إن شهدا أنه طعنه برمح أو رماه بسهم أو نشابة فهذا كله عمد .
( أرأيت ) لو شهد أنه ذبحه أو شق بطنه بالسكين حتى مات أما كان ذلك عمدا فكذلك ما سبق لأن الأسلحة في كونها آلة القتل سواء .
وإن شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه طعنه برمح أو أنه ذبحه بالسكين أو شهد أحدهما أنه رماه بسهم والآخر أنه رماه بنشابة أو اختلفا في مكان القتل أو وقته أو موضع الجراحة من بدنه فالشهادة باطلة لأن الفعل يختلف باختلاف الآلة والمحل والوقت والمكان فإنه لا يحتمل التكرار ولم يوجد على كل فعل إلا شهادة شاهد واحد .
ولو شهد شاهدان أنه قطع يده عمدا من مفصله وشهد شاهد أنه قطع رجله من المفصل ثم شهدوا جميعا أنه لم يزل صاحب فراش حتى مات والولي يدعي ذلك كله عمدا فإني أقضي على القاتل بنصف الدية في ماله لأن قطع الرجل لم يثبت عند القاضي فإن الشاهد به واحد وقد ثبت قطع اليد من المفصل عند القاضي بشهادة الشاهدين ولكن قد أقر الولي أنه مات من ذلك الفعل ومن فعل آخر لم يعلم فاعله فيكون ذلك شبهه في إسقاط القود ويتوزع بدل النفس نصفين فيلزمه نصف الدية في ماله لأن فعله كان عمدا لا يعقله العاقلة وإقرار الولي حجة عليه في حقه .
وكذلك لو شهد على الرجل شاهدان فلم يزكيا لأن الحجة في الرجل لا تتم بدون عدالة الشهود فهما وما لو كان الشاهد به واحدا سواء .
ولو زكى أحد شاهدي اليد وأحد شاهدي الرجل لم يؤخذ القاتل بشيء لأن واحدا من الفعلين لم يثبت عند القاضي فإن العدل من الشهود بكل فعل واحد .
ولا ياقل : قد اتفق العدلان على الحكم وهو القصاص فينبغي أن يقضي به لأنه لا يمكن القضاء بالحكم إلا بعد القضاء بالسبب وقد تعذر القضاء بذلك .
( ألا ترى ) أنه لو شهد عليه رجل أنه قطع أصبعا له وشهد الآخر أنه استهلك له ألف درهم لم يقض القاضي عليه بشيء .
فإن اتفقا على وجوب الألف له في ماله فإن نكلوا جميعا قضيت عليه بالقصاص لأن الفعلين ظهرا بالحجر عند القاضي فإن طلب الولي أن يقتص من اليد والرجل لم يكن له ذلك لأنه لما اتصلت بفعله السراية كان ذلك قتلا فيكون حقه في القصاص في النفس مقصودا دون الأطراف وقد بينا خلاف الشافعي في هذا .
ولو شهد الشاهدان عليه أنه قطع يده من المفصل عمدا ثم قتله عمدا كان لوارثه أن يقتص من يده ثم يقتله .
فإن قال القاضي له اقتله ولا تقتص من يده فذلك حسن أيضا وهذا قول أبي حنيفة .
وقال أبو يوسف ومحمد : يأمره بقتله ولا يجعل له القصاص في يده لأن الجنايتين تواليا من واحد وهما من جنس واحد فيكونان كجناية واحدة .
( ألا ترى ) أن في الخطأ لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب إلا دية واحدة لهذا المعنى وهذا لأن قبل البرء الجناية الأولى كانت موقوفة في حق الحكم على السراية فالفعل الثاني يكون إتماما لما يوقف عليه الجناية الأولى فيجعلان كجناية واحدة بخلاف ما إذا تخلل بين الجنايتين برء فإن هناك الأولى قد انتهت واستقر حكمها بالبرء فتكون الثانية جناية أخرى بمنزلة ما لو جعلت على نفس أخرى وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين فتكون الثانية جناية أخرى بمنزلة ما لو جعلت على نفس أخرى وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين لأن الفعل من الأول ما توقف على أن يصير بالسراية فعلا مضافا إلى شخص آخر فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول وبخلاف ما إذا كان أحد الفعلين عمدا والآخر خطأ لأن باختلاف صفة الفعل يختلف الموجب فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول كما إذا اختلف الفاعل أو محل الفعل .
وأيضا جميع ما ذكرنا في فصل الخطأ أنه لو قطع يده ثم قتله قبل البرء لا تجب إلا دية واحدة كذا هنا وأبو حنيفة يقول أن القصاص يبنى على المساواة في الفعل والمقصود بالفعل في القتل والقطع جميعا مراعاة المساواة في صورة الفعل جميعا فيتخير الولي بينهما إلى أن يقطع الإمام عليه هذا الخيار بأن يأمره باعتبار المقصود وهو القتل وأن يترك الاستيفاء بمراعاة الصورة وهذا منه اجتهاد في موضعه فعليه أمره به وبه فارق الخطأ فالمعتبر هناك صيانة المحل عن الإهدار لا صورة الفعل لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع علينا ثم مبنى العمد على التغليظ والتشديد ولهذا يقتل العشرة بالواحد وفيه مراعاة صورة الفعل مع التغليظ أيضا فيجوز اعتبار ذلك في العمد بخلاف الخطأ فإنه مبني على التخفيف .
( ألا ترى ) أن الدية لا تتعدد بتعدد القاتلين وفي العمد المقصود هو التشفي والانتقام وفي التمكن من القطع والقتل جميعا زيادة تحقيق في هذا المقصود وكما أن القتل بعد القطع يكون إتماما للفعل الأول من وجه فقد يكون قطعا لموجب الفعل الأول بمنزلة البرء من حيث أن المحل يفوت به ولا تصور للسراية بعد فوت المحل فيجعل كالبرء من هذا الوجه فللاحتمال أثبتنا الجناية للأول تغليظا لحكم العمد ولا يعتبر ذلك في الخطأ لأنه مبني على التخفيف . ولو كانت إحدى الجنايتين خطأ والأخرى عمدا أخذ بهما جميعا .
فإن كانت الأولى خطأ فإنه يجب دية اليد على عاقلته ويقتل قصاصا .
وإن كانت الثانية خطأ فعليه القصاص في اليد والدية على عاقلته في النفس لأنه لا احتمال لجعل الثاني إتماما للأول عند اختلاف صفة الفعل وموجبه فيجعل بمنزلة ما لو تخلل بالجنايتين برء .
ولو كان لكل واحدة من الجنايتين جان على حدة وهما جميعا عمد أو خطأ أو إحداهما عمد والأخرى خطأ أخذ كل واحد منهما بجنايته لما بينا أن الفعل الثاني من غير الفاعل الأول لا يمكن أن يجعل إتماما للأول فكأنه تخلل بين الفعلين برء فيؤخذ كل واحد منهما بجنايته .
ولو شهد شاهدان أن هذا قطع يده من مفصل الكف وشهد آخر على آخر أنه قطع تلك اليد من المرفق ثم مات من ذلك كله والقطع عمد فعلى قاطع الكف القصاص في اليد وعلى الآخر القصاص في النفس عندنا .
وقال زفر والشافعي القصاص في النفس عليهما جميعا لأنه صار مقتولا بفعلين كل واحد منهما عمد محض فيلزمهما القصاص كما لو قطع أحدهما يده عمدا والآخر رجله ومات من ذلك وهذا لأن بقطع يده حدث في البدن آلام وبقطع الآخر اليد من المرفق لا تنعدم تلك الآلام بل تزداد وإنما حصلت السراية لضعف الطبيعة عن دفع الآلام التي توالت عليه وفي هذا لا فرق بين أن يقطع الثاني تلك اليد أو يقطع عضوا آخر . وأصحابنا قالوا : فعل الثاني بمنزلة البرء في حق الأول تنقطع به سراية الفعل الأول فكأنه انقطع بالبرء وإنما قلنا ذلك لأن السراية أثر الفعل ولا يتصور بقاؤها بدون بقاء محل الفعل إذ الأثر لا يقوم بنفسه وبفعل الثاني فات محل الفعل الأول وانقطاع السراية بفوات المحل أقوى من انقطاعها بالبرء لأن البرء يحتمل النقص وفوات المحل لا يحتمل النقص وبه فارق ما إذا كان فعل كل واحد منهما في محل آخر لأن الفعل من الثاني في محل آخر لا يفوت محل لفعل الأول فلا يمكن أن يجعل كالبرء في حق الأول وكذلك لو كان الفعلان خطأ كانت دية اليد على الأول ودية النفس على الثاني عندنا والعمد والخطأ في هذا سواء بمنزلة البرء وكذلك على هذا الخلاف لو قطع أحدهما يده عمدا ثم حز الآخر رقبته بالسيف يجب القصاص في النفس على الثاني والقصاص في اليد على الأول .
وعند زفر والشافعي يجب عليهما القصاص في النفس لأن الروح انزهقت عقيب فعلهما فيكون مضافا إلى فعل كل واحد منهما ولا معتبر بالتفاوت في صفة الفعل ولا في مقداره كما لو قطع أحدهما أصبعا من أصابعه وجرحه الآخر عشر جراحات نحو قطع اليد والرجل وما أشبه ذلك فإنه يجب القصاص عليهما إذا مات من ذلك للمعنى الذي قلنا .
وأصحابنا قالوا : حز الرقبة قتل بيقين لأنه لا توهم للحياة معه فأما قطع اليد فقيل يشترط أن تتصل السراية به .
( ألا ترى ) أن الغالب فيه السلامة فإن القطع مشروع في موضع كان القتل حراما وهو القصاص والتعارض لا يقع بين فعلين بهذه الصفة فيجعل القتل مضافا إلى ما هو مشروع له بيقين وهو حز الرقبة ويكون هذا في حق اليد بمنزلة البرء لتفويت المحل به فلهذا كان القصاص في اليد في الأول والقصاص في النفس على الثاني .
وكذلك لو كان الأول خطأ والثاني عمدا كان على الأول دية اليد وعلى الثاني القصاص .
ولو شهدا على رجلين أنهما قتلا رجلا أحدهما بسيف والآخر بعصا ولا يدريان أيهما صاحب العصا لم تجز شهادتهما لأنهما لم يثبتا بشهادتهما سببا يمكن القاضي من القضاء به .
( ألا ترى ) أن على صاحب العصا نصف الدية على عاقلته وعلى صاحب السيف نصف الدية في ماله فلا يتمكن القاضي من القضاء بشيء على واحد منهما بعينه في ماله أو على عاقلته .
وكذلك لو شهدا على رجل واحد بقطع أصبع وعلى آخر بقطع أخرى من تلك اليد ولا يميز أن قاطع هذه الأصبع من قاطع الأخرى لأن القاضي لا يتمكن من القضاء بفعل معين على واحد منهما فإن ذلك لا يكون بدون تعيين محل فعله .
وكذلك لو شهدا عليهما بالخطأ لا يتمكن القاضي من القضاء بالحكم بدون السبب .
ولو شهدا على رجل أنه قطع إبهام هذا عمدا وشهدا على صاحب الإبهام أنه قطع كف القاطع ذلك عمدا ثم برأ فإنه يخير صاحب الكف فإن شاء قطع ما بقي من يد القاطع بيده وإن شاء أخذ دية يده وبطلت الأصبع أما بطلان الأصبع فلفوات محلها بالفعل الثاني وأما ثبوت الخيار للثاني فلأن مقطوع الإبهام قطع يده الصحيحة ويد المقطوعة الإبهام ناقصة بأصبع وفي هذا يثبت له الخيار للمقطوعة يده .
ولو شهدا على رجل أنه قطع يد رجل من المفصل وشهد آخران أنه جرحه سبع أو سبعان أو جرح نفسه أو جرحه عبد له أو عثر فانكسرت رجله فمات من ذلك كله فلا قصاص على قاطع اليد وعليه نصف دية اليد .
والأصل أن النفس تتوزع على عدد الجناة لا على عدد الجنايات لأن الإنسان قد يتلف بجراحة واحدة وقد يسلم من جراحات ثم ما اتحد حكمه من الجراحات في كونه هدرا يجعل في حكم فعل واحد لأن حكم الكل واحد وهو الإهدار .
وإذا صار بعض النفس هدرا امتنع وجوب القصاص في شيء منه فيجب فيما هو معتبر حصته من الدية وعلى هذا يخرج ما ذكرنا من المسائل .
وكذلك لو قطع رجل يد رجل خطأ وجرحه سبع وجرحه عبد له وجرح نفسه فمات من ذلك فعلى قاطع اليد ربع دية اليد لأن النفس تلفت من أفعال أربعة مختلفة الحكم فإن جراحة السبع هدر غير معتبرة في حق الإثم والحكم جميعا وجرحه نفسه معتبر في حق الإثم غير معتبر في حق الحكم لأنه ليس بسبب الحكم وجرح عبده له معتبر في الإثم والحكم جميعا إذا كان عمدا حتى يجب القصاص فلهذا توزع بدل نفسه أرباعا فيكون ربعه على قاطع اليد خطأ ولو جرحه سبع وخرجت به قرحة ونهشته حية وقطع رجل يده وآخر رجله فمات من ذلك كله فعلى الرجلين ثلثا الدية لأن فعل السبع والحية وما خرج به من القرحة كشيء واحد فكل ذلك هدر في حق الإثم والحكم وإنما تتوزع النفس أثلاثا فيهدر الثلث من ذلك وعلى الرجلين ثلث الدية .
وكذلك لو أصابه حجر وضعه رجل أو حائط تقدم إلى أهله فيه مع جراحة الرجل والسبع فعلى الرجل ثلث الدية وعلى صاحب الحجر ثلث الدية والثلث هدر لأن النفس تلفت بمعان ثلاثة جراحة الرجل وحكمه معتبر وإصابة الحجر أو الحائط وحكم ذلك معتبر أيضا وفعل السبع وهو هدر فيتوزع بدل النفس على ذلك أثلاثا والله أعلم