( قال - C - ) ( بلغنا عن رسول الله - A - أنه قال : ( لا قود إلا بالسيف ) ) وهذا تنصيص على نفي وجوب القود واستيفاء القود بغير السيف والمراد بالسيف السلاح هكذا فهمت الصحابة - Bهم - من هذا اللفظ حتى قال علي - Bه - العمد السلاح وقال أصحاب ابن مسعود - Bه - لا قود إلا بالسلاح وإنما كني بالسيف عن السلاح لأن المعد للقتال على الخصوص بين الأسلحة هو السيف فإنه لا يراد به شيء آخر سوى القتال وقد يراد بسائر الأسلحة منفعة أخرى سوى القتال وهو معنى قوله E ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة ) يعني السلاح الذي هو آلة القتال فيكون دليلا لأبي حنيفة - C - أن القود لا يجب إلا بالسلاح حتى إذا قتل إنسانا بحجر كبير أو خشبة عظيمة لم يلزمه القصاص في قول أبي حنيفة - C .
وفي قول أبي يوسف ومحمد والشافعي - رحمهم الله - يلزمه القصاص لقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } ( الإسراء : 33 ) والمراد بالسلطان استيفاء القود بدليل أنه عقبه بالنهي عن الإسراف في القتل فالتقييد بكون الآلة جارحة زيادة على النص وفي الحديث أن يهوديا رضخ رأس جارية على أوضاح فأمر رسول الله - A - بأن يرضخ رأسه بين حجرين .
والمعنى فيه أنه عمد محض لأنه قصد قتله بما لا يقصد به إلا القتل ولا يعرف محض العمد إلا بهذا والآلة الجارحة إذا حصل القتل بها كان عمدا لأن ذلك فعل مزهق للروح وما لا تلبث ولا تطيق النفس احتماله في كونه مزهقا للروح أبلغ من الفعل الجارح لأن هذا مزهق للروح بنفسه والفعل الجارح مزهق للروح بواسطة الجراحة والجرح وسيلة يتوسل بها إلى إزهاق الروح وما يكون عاملا بنفسه يكون أبلغ مما يكون عاملا بواسطة وكذلك من حيث العرف في قصد الناس إلى قتل أعدائهم بإلقاء الأسطوانة أو رفع حجر الرحاء عليهم يكون أبلغ من القصد إلى ذلك بالجرح في بعض الأعضاء فإذا جعل ذلك موجبا للقصاص فهذا أولى ولأبي حنيفة - C - ما روي أن النبي - A - قال : ( كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطأ الدية ) .
وفي حديث الحجاج بن أرطأة أن رجلا قتل رجلا على عهد رسول الله - A - بالحجارة فقضى عليه بالدية .
والمعنى فيه : أن هذه الآلة لا تجرح ولا تقطع فالقتل بها لا يكون موجبا للقصاص كالقتل بالعصا الصغيرة وتحقيقه من وجهين : .
أحدهما : أن وجوب القصاص يختص بقتل هو عمد محض وصفة التمحض أن يباشر القتل بآلته في محله وآلة القتل هي الآلة الجارحة لأن الجرح يعمل في نقض البينة ظاهرا وباطنا وما سواها يدق بنقض البينة باطنا لا ظاهرا وقوام البينة بالظاهر والباطن جميعا فالقتل الذي هو نقض البينة إذا كان مما يعمل في الظاهر والباطن يكون قتلا من كل وجه .
وإن كان مما يعمل في الباطن دون الظاهر يكون قتلا من وجه دون وجه والثابت من وجه دون وجه يكون قاصرا في نفسه فيصلح أن يجب به ما يثبت مع الشبهات ولا يصلح أن يجب به ما يندرئ بالشبهات .
وما ادعوا من أن الجرح وسيلة يتوسل به إلى إزهاق الروح غلط فإن إزهاق الروح بنقض البينة وكمال الجناية مما ينقض البينة من كل وجه ونقض البينة بجرح في الروح لا يتأنى لأنه لا يحس ويفعل في الجسم ما لا يكون كاملا فإنما الكامل منه ما يكون بفعل في النفس التي بها قوام الآدمي وذلك الفعل الجارح المؤثر في تسييل والدليل عليه حكم الذكاة .
فإن الحل بالذكاة إنما يحصل بفعل جارح مسيل للدم بهذا المعنى ولا يحصل بما يعمل في الجسم فلا يكون ناقضا للبينة ظاهرا وهو الفعل الذي يدق ولا فرق بينهما لأن الحل مبني على الاحتياط فلا يثبت عند تمكن الشبهة كالقود ويخرج عليه النار فإنها تعمل في الظاهر والباطن جميعا وقيل في الذكاة أيضا إذا قرب النار من مذبح الشاة حتى انقطع بها الأوداج وسال الدم تحل وإن لم يسل لا تحل لأن ما هو المقصود بالذكاة وهو تمييز الطاهر من النجس لم يحصل .
والوجه ( الآخر ) : أن آلة القتل الحديد قال الله تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } ( الحديد : 25 ) والمراد القتل .
وكذلك خزائن أسلحة الملوك تكون من الحديد فأما الخشب والأحجار فمعدة للأبنية والحديد هو المستعمل في القتال وإنما ينصب المنجنيق لتخريب الأبنية .
( ألا ترى ) أن الحديد إذا حصل القتل به وجب القصاص صغيرا كان أو كبيرا حتى أنه لو غرزه بمسلة أو إبرة في مقتله يلزمه القصاص ما سوى الحديد الصغير منه لا يوجب القصاص وإن تحقق به القتل والفعل لا يتم إلا بآلته فبقصور في الآلة تتمكن شبهة النقصان في الفعل وذلك يمنع وجوب القصاص .
فعلى هذا الطريق يقول : القتل بمثقل الحديد يوجب القصاص نحو ما إذا ضربه بعمود حديد أو بصنجات الميزان لأن الحديد في كونه آلة القتل منصوص عليه وفي المنصوص عليه يعتبر عين النص فأما في غير المنصوص عليه فالحكم يتعلق بالمعنى فيعتبر كونه محددا نحو سن العصا والمروة وليطة القصب ونحو ذلك .
وعلى الطريق الأول يقول : لا يجب القصاص إلا بما هو محدد والحديد وغيره فيه سواء وهو رواية الطحاوي في كتاب الشروط .
وتأويل الحديث : أنه أمر بذلك على طريق السياسة لكونه ساعيا في الأرض بالفساد معروفا بذلك الفعل .
بيانه : فيما روي أنهم أدركوها وبها رمق فقيل لها أقتلك فلان فأشارت برأسها لا حتى ذكروا اليهودي فأشارت برأسها أن نعم وإنما يعد في مثل تلك الحالة من يكون متهما بمثل ذلك الفعل معروفا به .
وعندنا إذا كان بهذه الصفة فللإمام أن يقتله بطريق السياسة .
فأما الدم ( فلا ) ( و ) العصا الصغيرة إذا والى بها في الضربات حتى مات لم يلزمه القصاص عندنا .
وعلى قول الشافعي - Bه - يجب عليه القصاص وكذلك الخلاف فيما إذا ضربه جماعة كل واحد منهم بسوط أو عصا وهو يقول القصد بالعصا الصغيرة عند الموالاة القتل فيكون الفعل بها عمدا محضا بمنزلة القتل بالسيف بخلاف العصا الصغيرة إذا ضربه بها مرة أو مرتين لأن القصد هناك التأديب والغالب معه السلامة ولا يكون القتل بها إلا نادرا فيكون في معنى الخطأ فأما مع الموالاة فالقصد منه القتل .
( ألا ترى ) أن التهديد بالضرب بالسوط مع الموالاة كالتهديد فالقتل في حكم الإكراه بخلاف التهديد بضرب سوط واحد ويستوي في ذلك حصول الضربات من واحد أو من جماعة لأن شرط القتل كون النفس معمودة لا التيقن بكون فعل كل واحد منهم مزهقا للروح لأن ذلك لا طريق إلى معرفته والدليل على الفرق بين الضربة والضربات أن شرب القليل من المثلث لا يكون موجبا للحد فإن استكثر منه حتى سكر لزمه الحد باعتبار أن القليل منه ممرئ للطعام والكثير مسكر .
وإذا حصل السكر بالكثير منه لا يميز بعض الفعل عن البعض بل يجعل الكل كفعل واحد حتى يتعلق به ما يندرئ بالشبهات وهو الحد فهذا مثله .
وأصحابنا - رحمهم الله - استدلوا : بحديث النعمان بن بشير أن النبي - A - قال : ( ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل ) فيكون نصبا على التفسير وبالرفع قتيل السوط والعصا فيكون خبرا للابتداء وفي كليهما بيان أن قتيل السوط والعصا يكون قتيل خطأ العمد وأن الواجب فيه الدية .
والمعنى فيه أن القتل حصل بمجموع أفعال لو حصل بكل واحد منها على الانفراد لا يتعلق به القصاص فكذلك إذا حصل بمجموعها كما جرح رجلا جراحات خطأ أو اشترك جماعة في قتل رجل خطأ وهذا لأن كل واحد من هذه الأفعال غير موجب للقصاص إذا انفرد فلانضمام ما ليس بموجب إلى ما ليس بموجب كيف يكون واجبا لما يندرئ بالشبهات .
ولو انضم ما هو موجب إلى ما ليس بموجب كالحاطئ مع العامد لا يجب القصاص .
فإذا انضم ما هو موجب إلى ما ليس بموجب أولى بخلاف الإقداح فهناك لو حصل السكر بالقدح الأول يجب الحد وإنما لم يجب الحد إذا لم يسكر به لانعدام السبب الموجب وهنا لو حصل القتل بالضربة الأولى لا يجب القصاص فعرفنا أن هذا الفعل في نفسه غير موجب فلا يدخل على هذا شهادة الشاهدين بالقتل العمد فإنها توجب القصاص وكل واحد منهما بانفراده لا يوجب لأن شهادة الشاهدين حجة واحدة وشهادة كل واحد منهما شطر الحجة وشطر الحجة لا يثبت به شيء من الحكم فأما ها هنا فكل فعل صالح لكونه علة تامة وهو على أصله أظهر فإن عنده لو حصل من كل واحد من الجماعة ضربة واحدة يجب عليهم القصاص وما لم تتكامل العلة في حق كل واحد منهم لا يلزمه القصاص وقوله بأن الضربة الواحدة يقصد بها التأديب قلنا حقيقة القصد لا يمكن الوقوف عليها وإنما ينبني الحكم على السبب الظاهر .
( ألا ترى ) أن قطع اليد لا يقصد به القتل أيضا ولهذا كان مشروعا في موضع كان القتل حراما وكذلك الجرح اليسير مشروع على قصد الاستشفاء كالقصد والحجامة ومع ذلك إذا حصل القتل به وجب القصاص لأن حقيقة القصد يتعذر الوقوف عليها فيعتبر السبب الظاهر .
فكذلك ها هنا كان ينبغي أن يجب القصاص إذا حصل القتل بالضربة والضربتين بالسوط وحيث لم يجب بأن كل فعل من هذه الأفعال بانفراده غير موجب وحقيقة الفقه فيه ما ذكرنا في المسألة الأولى ويمكن الاستدلال بهذا الحرف أيضا فيقال العصا الكبير مجموع أجزاء لا يتعلق القصاص بكل جزء منها وإن حصل القتل فكذلك بمجموعها .
فأما بيان نفي استيفاء القود بغير السيف وبها يقول علماؤنا - رحمهم الله - فإن القصاص متى وجب فإنه يستوفى بطريق حز الرقبة بالسيف ولا ينظر إلى ما به حصل القتل .
وقال الشافعي - Bه - ينظر إلى القتل بماذا حصل فإن كان بطريق غير مشروع بأن سقاه الخمر حتى قتله أو لاط بصغير حتى قتله فكذلك الجواب يقتل بالسيف وإن كان بطريق مشروع يفعل به مثل ذلك الفعل ويمهل مثل تلك المدة فإن مات وإلا تحز رقبته نحو ما إذا قطع يد إنسان عمدا فمات من ذلك واستدل بما روينا أن النبي - E - أمر برضخ رأس اليهودي بين حجرين وكان ذلك بطريق القصاص .
( ألا ترى ) أنه روي في بعض الروايات فاعترف اليهودي فقضي رسول الله - A - بالقصاص وأمر بأن يرضخ رأسه بين حجرين ولأن المعتبر في القصاص المساواة ولهذا سمي قصاصا مأخوذ من قول القائل التقى الدينان فتقاصا أي تساويا أصلا ووصفا وما قلناه أقرب إلى المساواة لما فيه من اعتبار المساواة في الفعل والمقصود بالفعل يجب اعتباره إلا إذا تعذر وتعذره أن يكون صورة الفعل بخلاف المشروع بأن يكون حراما أو أن لا يحصل القتل به فحينئذ يجعل ما يكون متمما له فيما هو المقصود ويكون الثاني متمما للأول .
( ألا ترى ) أن من قطع يد إنسان خطأ ثم قتله لم يلزمه إلا دية واحدة وجعل الفعل الثاني تتميما للأول .
وحجتنا في ذلك : ظاهر قوله - E - : ( لا قود إلا بالسيف ) وهو تنصيص على نفي استيفاء القود بغير السيف والمعنى فيه أنه قتل مستحق شرعا فيستوفى بالسيف كقتل المرتد وهذا لأنه إنما يستوفى المستحق بالطريق الذي يتيقن أنه طريق له وحز الرقبة يتيقن بأنه طريق استيفاء القتل فأما قطع اليد فلا يكون طريقا لذلك إلا بشرط وهو السراية وذلك لضعف الطبيعة عن دفع أثر الجراحة ولا يعرف ذلك عند القتل وما يتعلق بالشرط لا يكون ثابتا قبل الشرط فقبل السراية هذا الفعل غير القتل فلا يكون مشروعا فضلا عن أن يكون مستحقا وصورة الفعل غير مقصودة وإنما المقصود إزهاق الروح عرفا لمعنى الانتقام واستحقاق القتل شرعا فيجب مراعاة ذلك المقصود .
ولا يقال : لا يقمع الناس في الابتداء من أن يكون هذا الفعل مؤثرا في تحصيل المقصود ما لم يبرأ منه لأنه وإن كان لا يقمع الناس عن ذلك فإنه يؤدي إلى تأخير تحصيل المقصود وكما لا يجوز إبطال مقصود صاحب الحق لا يجوز تأخيره ثم هذا اعتبار معادلة توقعنا في الظلم في الانتهاء لأنه إذا تراخت يده تحز رقبته والفعل الثاني بعد البرء لا يكون إتماما للأول بدليل الخطأ فيؤدي إلى الزيادة على ما كان منه وإلى المثلة وذلك حرام .
فإن قيل : بأي طريق تسقط حرمة ذبح القاتل ولم يوجد منه فعل في مذبح المقتول .
قلنا : بالطريق الذي يسقط عندكم حرمة مذبحه إذا تراخت يده وهو استحقاق القتل عليه وذلك موجود قبل قطع اليد . وتأويل الحديث ما بينا والذي روى أنه قضى بالقصاص شاذ لا يعتمد عليه أو قاله الراوي بناء على ما وقع عنده أنه كان بطريق القصاص وفي الحقيقة إنما كان ذلك بطريق السياسة .
وإن اجتمع رهط على قتل رجل بالسلاح فعليهم فيه القصاص بلغنا عن عمر - Bه - أنه قضي بذلك وهو استحسان .
والقياس : أن لا يلزمهم القصاص وقد ذكر في كتاب الإقرار لأن المعتبر في القصاص المساواة لما في الزيادة من الظلم على المتعدي ولما في النقصان من البخس بحق المتعدى عليه ولا مساواة بين العشرة والواحد وهذا شيء يعلم ببداهة العقول فالواحد من العشرة يكون مثلا للواحد فكيف تكون العشرة مثلا للواحد .
وأيد هذا القياس قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ( المائدة : 45 ) وذلك ينفي مقابلة النفوس بنفس واحدة .
ولكنا تركنا هذا القياس لما روي أن سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا فقضى عمر - Bه - بالقصاص عليهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ولأن شرع القصاص لحكمة الحياة وذلك بطريق الزجر كما قررنا ومعلوم أن القتل بغير حق في العادة لا يكون إلا بالتغالب والاجتماع لأن الواحد يقاوم الواحد فلو لم نوجب القصاص على الجماعة بقتل الواحد لأدى إلى سد باب القصاص وإبطال الحكمة التي وقعت الإشارة إليها بالنص .
يوضحه : أنه لا مقصود في القتل سوى التشفي والانتقام وذلك حاصل لكل قاتل بكماله كأنه ليس معه غيره .
وعلى هذا قال علماؤنا - رحمهم الله - الواحد إذا قتل جماعة فإنه يقتل بهم جميعا على سبيل الكفاءة .
وقال الشافعي - Bه - إن قتلهم على التعاقب يقتل بأولهم ويقضى بالديات لمن بعد الأول في تركته وإن قتلهم معا يقرع بينهم ويقضى بالقود لمن خرجت قرعته وبالدية للباقين واستدل بقوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ( المائدة : 45 ) فقد جعل الله تعالى النفس بمقابلة النفس قصاصا فلا يجوز أن يجعل النفس بمقابلة النفوس قصاصا بالرأي .
ولأنا قد بينا أنه لا مساواة بينهما إلا أنا أوجبنا القصاص على العشرة بقتل الواحد لرد عليه القتل بغير حق وهذا لا يوجد في القتل قصاصا لأن ذلك يكون بقوة السلطان فلا تقع الحاجة فيه إلى التعاون والتغالب ولأن في إيجاب القصاص هناك تحقيق معنى الزجر وذلك لا يوجد هنا فإنه بعدما قتل الواحد إذا علم أنه وإن قتل جميع أعدائه لا يلزمه القصاص أخذ يتجاسر على قتل الأعداء وإذا علم أنه يستوفى الديات من تركته يتحرز من ذلك لإبقاء العناء لورثته فكان معنى الزجر فيما قلنا .
وحقيقة المعنى في الفرق أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قتل عشره فوجب عليه القصاص بقدر ما أتلف إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك منه إلا بإسقاط ما بقي من حرمة نفسه فيسقط ذلك لضرورة الحاجة إلى استيفاء القصاص كما إذا غصب ساحة وبنى عليها سقط حرمة بنائه لوجوب رد الساحة وكذلك عندي في الساحة فأما ها هنا فكل واحد من المقتولين قد استحق على القاتل نفسا كاملة وليس في نفسه وفاء بالنفوس فلا يمكن أن يقتل بهم جميعا ولكن يترجح أولهم بالسبق فإن حقه ثبت في محل فارغ وإذا قتلهم معا رجح بالقرعة كما هو مذهبي في نظائره .
والدليل على أن كل واحد من القاتلين يستوفى الجزاءات في الخطأ ( أنه ) يجب على كل واحد منهم جزء من الدية وأنه لو كان بعض الفاعلين مخطئا لم يجب القصاص على واحد منهم بخلاف ما إذا قتل جماعة بعضهم عمدا وبعضهم خطأ فإنه يلزمه القصاص لمن قتله عمدا وإن كان واحدا .
وحجتنا في ذلك : أن العشرة إذا قتلوا واحدا يقتلون به وكانوا مثلا له جزاء لدمه فكذلك إذا قتل واحدا يقتل بهم ويكون مثلا لهم لأن المثل اسم مشترك فمن ضرورة كون أحد الشيئين مثلا للآخر أن يكون الآخر مثلا له كاسم الأخ فإن من ضرورة كون أحد الشخصين أخا للآخر أن يكون الآخر أخا له فلا يجوز أن يقال يلزمهم القصاص لرد غلة القتل بغير حق من غير اعتبار المماثلة .
وكذلك في كل موضع يتعذر اعتبار المماثلة نحو كسر العظام لا يوجب القصاص والحاجة إن رد عليه الجناية ها هنا بغير حق يتحقق هنا ومع ذلك يوهم الزيادة بمنع القصاص فتحقق الزيادة لأن يمنع من ذلك كان أولى فعرفنا أنه إنما يقتل العشرة بالواحد بطريق المماثلة .
وبيان ذلك : وهو أن القتل مما لا يتجزأ وإذا اشترك الجماعة فيما لا يحتمل التجزي فإما أن ينعدم أصلا أو يتكامل في حق كل واحد منهم .
والدليل عليه : أن كل واحد منهم لو حلف أن لا يقتله كان حانثا في يمينه بهذا الفعل ولا يجب إلا بوجوب كمال الشرط وفي الخطأ يجب على كل واحد منهم الكفارة كاملة ولا تجب الكفارة إلا بقتل كامل فأما الدية بمقابلة المحل فلصيانته عن الإهدار لا أن يكون ذلك جزاء الفعل والمحل واحد فلا يجب بمقابلته إلا دية واحدة والدليل عليه أن القتل يخرج ببعضه زهوق الروح لأن الروح لا يمكن أخذه حسا فطريق أثرها فيه قصدا هذا وقد تحقق من كل واحد منهم والحكم إذا حصل عقيب علل يضاف جميعه إلى كل علة فيجعل زهوق الروح محالا به على فعل كل واحد منهم فكان كل واحد منهم قاتلا على سبيل الكمال بمنزلة الأولياء في التزويج بتكامل الولاية لكل واحد منهم وفي هذا المعنى القتل الذي هو عدوان والقتل الذي هو جزاء سواء فإن الأولياء إذا اجتمعوا وقتلوا كان كل واحد منهم قاتلا بكماله .
والدليل عليه : أن فيما هو المقصود بالقتل وهو التشفي والانتقام لا فرق بين الجزاء والعدوان وهو يتكامل لكل واحد من الأولياء كما يتكامل لكل واحد من العبدين فعرفنا أن كل واحد منهم مستوف حقه بكماله فلا حاجة إلى المصير إلى الدية .
وبه فارق النكاح : فإن المرأة لو زوجت نفسها من جماعة لا يثبت النكاح لكل واحد منهم على هذه المرأة لأن المقصود الفراش والنسل وذلك ينعدم بالاشتراك فلا يتكامل لكل واحد منهم .
ثم هناك لما لم يحتمل التجزي في المحل انعدم أصلا عند الاشتراك وها هنا لم ينعدم القتل فعرفنا أنه تكامل في حق كل واحد منهم .
وما قال : ( بأن الواجب على كل منهم عشر القتيل ) كلام غير معقول لأن القصاص في نفس واحدة كما لا يحتمل التجزي استيفاء لا يحتمل التجزي وجوبا فلا يجوز أن يستحق بعض نفسه قصاصا .
وكيف يستقيم هذا ولو عفى أحد الأولياء حتى حي جزء من المقتول سقط القصاص كله فإذا كان القصاص الواجب يسقط إذا لم يبق مستحقا في بعض النفس بعد العفو فلان لا يجب ابتداء في بعض النفس دون البعض أولى .
وتبين بهذا التحقيق أنه لا طريق سوى ما قلنا أن العشرة إذا قتلوا واحدا فكل واحد منهم قاتل له على الكمال .
وكذلك الأولياء إذا اجتمعوا واستوفوا القصاص كان كل واحد منهم قاتلا له على الكمال مقدار حقه ليحيوه بدفع شر قاتل أبيه عن نفسه وكان له معه غيره فلا حاجة إلى القضاء بالدية ولا إلى الترجيح بالسبق أو إلى القرعة .
قال : ( وإذا قتل الحر المملوك عمدا فعليه القصاص عندنا ) وقال الشافعي لا قصاص عليه لقوله تعالى : { الحر بالحر والعبد بالعبد } ( البقرة : 178 ) ومقابلة الحر بالحر يقتضي نفي مقابلة الحر بالعبد وهذا على وجه التفسير للقصاص المذكور في قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ( البقرة : 178 ) فيكون بيان أن المساواة التي هي معتبرة إنما تكون عند مقابلة الحر بالحر لا عند مقابلة الحر بالعبد .
وعن ابن عمر وابن الزبير - رضي الله تعالى عنهم - قالا : السنة أن لا يقتل لعبد بالحر . والمعنى فيه أن هذا أحد نوعي القصاص فلا يجب على الحر بسبب المملوك كالقصاص في الأطراف بل أولى لأن حرمة الطرف دون حرمة النفس فالأطراف تابعة للنفس وإذا كان طرف الحر لا يقطع بطرف العبد مع خفة حرمة الطرف فلأن لا يقتل الحر بالعبد مع عظم حرمة النفس كان ذلك أولى .
وتأثيره أن القصاص ينبني على المساواة ولا مساواة بين الأحرار والعبيد فإن العبد مملوك مالا والحر مالك والمالكية في نهاية من العز والكمال والمملوكية في نهاية من الذل والنقصان .
والدليل عليه : أن المملوك قائم من وجه هالك من وجه فإن الحرية حياة والرق تلف ولهذا كان المعتق منسوبا بالولاء إلى المعتق لأنه أحياه بالإعتاق حكما ولا مساواة بين القائم من كل وجه وبين القائم من وجه والهالك من وجه . والدليل عليه أن التفاوت ظاهر بينهما في بدل النفس وهو المال وبه تبين أن الرق أثر في النفسية ولهذا المعنى لا يجب القصاص على المولى بقتل عبده .
ولو لم يؤثر الرق في النفسية لكان المولى كالأجنبي في قتل العبد فيلزمه القصاص ولأن المقتول كان بعرض أن يصير من خول القاتل بأن يشتريه فيمنع ذلك القصاص المساواة بينهما في حكم القصاص كالمسلم مع المستأمن .
وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ( البقرة : 178 ) فهذا يقتضي وجوب القصاص بسبب كل قتل إلا ما قام عليه الدليل فأما قوله الحر بالحر فهو ذكر بعض ما شمله العموم على موافقة حكمه فلا يجب تخصيص ما بقي .
( ألا ترى ) أنه كما قابل العبد بالعبد قابل الأنثى بالأنثى ثم لا يمنع ذلك مقابلة الذكر بالأنثى وفي مقابلة الأنثى بالأنثى دليل على وجوب القصاص على الحرة بقتل الأمة .
وفائدة هذه المقابلة ما نقل عن ابن عباس - Bه - قال كانت المقابلة بين بني النضير وبين بني قريظة وكانت بنو النضير أشرف وكانوا يعدون بني قريظة على النصف منهم فتواضعوا على أن العبد من بني النضير بمقابلة الحر من بني قريظة والأنثى منهم بمقابلة الذكر من بني قريظة فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم وبيانا أن الحر بمقابلة الحر والعبد بمقابلة العبد والأنثى بمقابلة الأنثى من القبيلتين جميعا .
وعن علي بن أبي طالب قال : يقتل الحر بالعبد . وما روي عن ابن عمر وابن الزبير محمول على السيد إذا قتل عبده فقد كانوا مختلفين في ذلك فمنهم من كان يوجب القصاص ويستدل بقوله - عليه السلام - : ( من قتل عبده قتلناه ) فإنما قال ذلك ردا على من يقول منهم لا يقتل السيد بعبده .
والمعنى فيه أن دم العمد مضمون بالقصاص فيستوي أن يكون قاتله حرا أو عبدا كدم الحر .
وبيان الوصف : أن العبد إذا قتل عبدا يلزمه القصاص والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات فيستدعي وجوبها انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة الحر والعبد فيه سواء وسنقرر هذا الكلام في مسألة قتل المسلم الذمي والذي يختص بهذه المسألة حرفان : .
أحدهما : أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الذمي وقد تحقق ذلك فالرق والمملوكية لا يؤثر في الدم لأن الرق إنما يؤثر فيما يتصور ورود القهر عليه وذلك أجزاء الجسم فأما الحياة فلا تدخل تحت القهر والدليل عليه أن العبد فيه يبقى على أصل الحرية حتى لا يملك المولى التصرف فيه إقرارا عليه به ولا استيفاء منه إلا أن المولى إذا قتله لا يلزمه القصاص لانعدام المستوفى لأنه لو كان القاتل غيره كان هو المستوفى بولاية الملك والقتل لا يحرمه ذلك ولا يكون هو مستوفيا العقوبة من نفسه ونقصان بدل الدم كنقصان صفة المملوكية في محله لا في غيره كنقصان بدل الدم بسبب الأنوثة إنما يكون للملوكية في محله فأما الحياة فلا تحلها الأنوثة .
والثاني : أن وجوب القصاص يعتمد المساواة في الإحراز والإحراز إنما يكون بالدار أو بالدين والمملوك في ذلك مساو للحر والحكمة في شرع القصاص الحياة وفي ذلك المعنى الحر والمملوك سواء وليست النفوس قياس الأطراف لأن وجوب القصاص هناك يعتمد المساواة في الجزء المبان ولهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء والرق ثابت في أجزاء الجسم فتنعدم بسببه المساواة بينهما في الأطراف مع أن طرف العبد في حكم المال عندنا ولهذا لا يكون مضمونا بالقصاص على أحد عبدا كان أو حرا بخلاف النفس فالمعتبر فيه المساواة في الحياة ولهذا لا نقتل النفس الصحيحة بالنفس الزمنة وقد تحققت المساواة ها هنا .
وعلى هذا لو قتل رجل صبيا فعليه القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة وكذلك لو قتل رجل امرأة .
وروي عن علي - Bه - يتخير أولياؤها بين أن يستوفوا ديتها وبين أن يعطوا القاتل نصف ديته ثم يقتلونه قصاصا .
وهذا بعيد لا يصح عن علي - Bه - وقد كان أفقه من أن يقول القصاص لم يكن واجبا ثم يجب بإعطاء المال .
وعلى هذا لو قتل العبد الحر عمدا والمرأة الرجل فعليهما القصاص لوجود المساواة بينهما في الحياة .
والشافعي لا يخالفنا في هذا فإنه يرى استيفاء الأنقص بالأكمل قصاصا وإنما يأبى استيفاء الأكمل بالأنقص .
فإذا تبين هذا في حالة الانفراد فكذلك عند الاشتراك حتى إذا اشترك جماعة من الرجال في قتل حرة أو أمة فعليهم القصاص كما لو اشتركوا في قتل رجل حر .
وكذلك لو قتل المسلم الذمي عمدا فعليه القصاص عندنا وعند الشافعي لا قصاص عليه .
وأما الذمي إذا قتل الذميا ثم أسلم القاتل فعليه القصاص بالاتفاق .
ويحكى أن أبا يوسف - C - قضى بالقصاص على هاشمي بقتل ذمي فجعل أولياء القاتل يؤذونه بألسنتهم ويقولون يا جائر يا قاتل مؤمن بكافر فشكاهم إلى الخليفة فقال ارفق بهم فلما علم مراد الخليفة خرج وأمر بإعادتهم إليه ثم قال لأولياء القتيل هاتوا بينة من المسلمين أن صاحبكم كان يؤدي الجزية طوعا فإن هؤلاء يدعون أنه كان ممتنعا من أداء الجزية فلهذا قتله ولا قتل عليهم إلا ببينة من المسلمين فعجزوا عن ذلك فدرأ القود به ودخل على الخليفة فأخبره بذلك فضحك وقال من يقاومكم يا أصحاب أبي حنيفة .
واستدل الشافعي بقوله تعالى : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } ( السجدة : 18 ) فالقصاص يبنى على المساواة وبعد ما انتفت المساواة بينهما بالنصوص الظاهرة لا يجب عليه القصاص وقال - عليه السلام - : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) وبالإجماع ليس المراد نفي الاستيفاء فعرفنا أن المراد نفي الوجوب .
والمعنى فيه : أن المقتول منقوص بنقص الكفر فلا يجب القصاص على المسلم بقتله كالمستأمن وهذا لأن الكفر من أعظم النقائص فالكافر كالميت من وجه قال الله تعالى : { أو من كان ميتا فأحييناه } ( الأنعام : 122 ) أي كافرا فرزقناه الهدى فلا مساواة بين من هو ميت من وجه وبين من هو حي من كل وجه بخلاف الذمي إذا قتل ذميا فقد وجدت المساواة هناك فوجب القصاص ثم الإسلام بعد ذلك زيادة حصلت على حق الأولياء فلا يمنعهم من الاستيفاء كالمستأمن إذا قتل مستأمنا يلزمه القصاص منصوص عليه في السير الكبير في النفس والطرف جميعا .
ثم لو أسلم القاتل بعد ذلك لا يسقط عنه القصاص ولأن الكفر مهدر للدم مؤثر في الإباحة فإذا وجد ولم يبح يصير شبهة كالملك فإنه مبيح فإذا وجد في الأخت من الرضاعة ولم يبح فيصير شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات والدليل على أن الكفر مهدر للدم أن من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والذراري إذا قتلهم إنسان لا يغرم شيئا لوجود المهدر وما ذلك إلا الكفر والدليل عليه أنا أمرنا بقتل الكفار لكفرهم قال الله تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } ( البقرة : 192 ) يعني فتنة الكفر وقال - E - : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) وهذا الكفر قائم بعد عقد الذمة إلا أنه غير عامل في إباحة الدم بمعنى الدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه على ما أشار الله تعالى إليه في قوله تعالى : { فأجره حتى يسمع كلام الله } ( التوبة : 6 ) فبقي باعتباره شبهة ينتفي بها المساواة بينه وبين المسلم بمنزلة طهارة المستحاضة مع طهارة الإصحاء فإن سيلان الدم الذي هو ناقض للطهارة موجود مع طهارة المستحاضة ولكنه غير عامل في الوقت ومع هذا لا تكون طهارتها طهارة الأصحاء حتى لا تصلح لإمامة الأصحاء وهذا بخلاف المال فإنه يجب القطع بسرقة مال الذمي لأن المبيح وهو الكفر ليس في المال وإنما هو في النفس فهو نظير حقيقة الإباحة بسبب القضاء بالرجم فإنه لا يكون مؤثرا في المال حتى يجب القطع بسرقة ماله ولا يجب القصاص على أحد بقتله ولهذا أوجب القطع بسرقة مال المستأمن أيضا .
يوضحه : أن القطع في السرقة خالص حق الله تعالى فوجوبه يعتمد الجناية على حق الله تعالى دون المساواة ومعنى الجناية يتحقق في سرقة مال الذمى والمستأمن بثبوت إلا من لهما حقا لله تعالى فما كان القطع إلا نظير الكفارة والكفارة تجب بقتل الذمى والمستأمن كما تجب بقتل المسلم .
وحجتنا في ذلك : ما روي أن النبي - E - أقاد مسلما بذمي وقال : ( أنا أحق من وفى بذمته ) وهذا التعليل تنصيص على وجوب القود على المسلم بقتل الذمي واستيفاء القود منه .
وفي بعض الروايات : أن رجلا مسلما قتل ذميا فقضى رسول الله - A - بالقصاص وقال : ( أنا أحق من وفى بذمته ) .
وعن عمر - Bه - أنه أمر بقتل رجل مسلم برجل من أهل الحيرة ذمي ثم بلغه أنه فارس من فرسان العرب فكتب فيه أن لا يقتل يعني يسترضوا الأولياء فيصالحوا على الدية .
وأن عبيدالله بن عمر لما قتل هرمزان بتهمة دم أبيه استقر الأمر على عثمان فطلب منه علي - Bه - أن يقتص من عبدالله وكان يدافع في ذلك أياما ثم قال هذا رجل قتل أبوه بالأمس فأنا أستحي أن أقتله اليوم .
وأن هرمزان رجل من أهل الأرض أنا وليه أعفو عنه وأؤدي الدية فهذا اتفاق منهما على وجوب القصاص وقضى علي - Bه - بالقصاص على مسلم بقتل ذمي ثم رأى الولى بعد ذلك فقال ماذا صنعت قال إني رأيت أن أقتل أباه لا برد أخي وقد أعطوني المال فقال فلعلهم خوفوك فقال لا فقال علي - Bه - إنما أعطيناكم الدية وتبذلون الجزية لتكون دماؤكم كدمائنا وأموالكم كأموالنا .
والمعنى فيه أن دم الذمي مضمون بالقصاص حتى إذا كان القاتل ذميا يلزمه القصاص به بالإجماع وذلك دليل على انتفاء الشبهة المبيحة عن الدم وبعد انتفاء الشبهة يستوي أن يكون القاتل مسلما أو ذميا ولا يدخل عليه الأب إذا قتل ابنه لأن امتناع وجوب القود عليه عندنا ليس لقيام الشبهة في دم الابن بل لأن فضيلة الأبوة تخرج الولد من أن يكون مستوجبا القود على والده كما يمنعه من قتله شرعا وإن كان الأب مباح الدم بأن كان مرتدا أو حربيا أو زانيا وهو محصن والدليل على أن الأبوة إذا طرأت تمنع استيفاء القصاص والشبهة إنما تؤثر إذا اقترنت بالسبب الموجب وحيث كان طريان الأبوة مانعا من الاستيفاء عرفنا أن المعنى فيه ما ذكرنا .
فأما المستأمن إذا قتل مستأمنا ففي وجوب القصاص على المسلم بقتل المستأمن قياس أو استحسان في القياس يلزمه القصاص ذكره في هذا الكتاب وهو رواية أحمد بن عمران أستاذ الطحاوي عن أصحابنا .
ورواه ابن سماعة عن أبي يوسف فقالوا ما ذكره في السير بناء على جواب القياس أن الشبهة المبيحة عن الدم تنفى بعقد الأمان فلا جرم يجب القصاص بقتله على المستأمن والمسلم جميعا فأما على جواب الاستحسان فيقول بقيت الشبهة المبيحة في دمه وهو كونه حربيا لأنه ممكن من الرجوع إلى دار الحرب فجعل في الحكم كأنه في دار الحرب فلا يجب القصاص بقتله على أحد سواء كان القاتل مستأمنا أو ذميا أو مسلما ولأن الذمي محقون الدم على التأييد فيجب القصاص بقتله على المسلم كالمسلم وتحقيقه أن القصاص يعتمد المساواة في الحياة لأنه إزهاق الحياة وهو مشروع لحكمة الحياة وإنما تتحقق المساواة في ذلك شرعا لوجود التساوي في حقن الدم وقد وجد ذلك بين المسلم والذمي .
فإن حقن كل واحد منهما مؤبد بسبب مشروع وهو عقد الذمة خلف عن الإسلام في معنى الحقن والخلف يعمل عمل الأصل عند عدم الأصل وهذا الحقن والتقوم إنما يثبت بالإحراز والإحراز يكون بالدار لا بالدين لأن الإحراز بالدين إنما يكون في حق من يعتقده فأما الإحراز بقوة أهل الدار فيكون في حق الكل والذمي في الإحراز مساو للمسلم لأنه من أهل دارنا حقيقة وحكما .
والدليل عليه : أن الإحراز يؤثر في المال والنفس جميعا ثم في المال إحراز الذمي كإحراز المسلم حتى يجب القطع بسرقة مال الذمي وحد السرقة أقرب إلى السقوط عند تمكن الشبهة من القصاص ولا يدخل عليه المقضي عليه بالرجم لأنا لا نقول يباح قتله لنقصان في إحراز كل جزء على جريمته فأما الإحراز فقائم في المال والنفس جميعا وها هنا إن سلم لنا أن الإحراز في حق المسلم والذمي سواء يتضح الكلام فإنه لا يمكنه أن يدعي بعد ذلك بقاء الشبهة بسبب إصراره على الكفر لأن المبيح كان هو القتال دون الكفر كما قال الله تعالى : { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ( البقرة : 191 ) ولما رأى رسول الله - A - امرأة مقتولة قال هاه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت والقتال ينعدم بالإحراز في حق الذمي أصلا كما ينعدم في حق المسلم وقد قررنا هذا في السير .
وإذا ثبت انتفاء الشبهة والمساواة في الإحراز ثبتت المساواة بينهما في حكم القصاص فلا يجوز أن تكون فضيلة الإسلام في القاتل مانعا لأن طريان هذه الفضيلة لا تمنع الاستيفاء فلو كان اقترانها بالسبب يمنع الوجوب لكان طريانها يمنع الاستيفاء كفضيلة الأبوة وفضيلة الإسلام في المنكوحة فإنه لما كان يمنع ابتداء النكاح عليها للكافر يمنع الوطء إذا طرأ بعد النكاح فأما المسلم إذا قتل مستأمنا فلا قصاص عليه على طريق الاستحسان لانعدام المساواة في الإحراز فالمستأمن غير محرز نفسه بدار الإسلام على التأبيد ولهذا لا يوجب القطع بسرقة ماله لبقاء الشبهة المبيحة وهي المحاربة فإنه ممكن من أن يرجع إلى دار الحرب فيعود حربا للمسلمين .
وبهذا الطريق نقول : لا يقتل الذمي بالمستأمن أيضا خلافا للشافعي لأن الذمي محرز نفسه بدارنا على التأبيد فلا تتحقق المساواة بينه وبين المستأمن فأما الآيات في نفي المساواة بين الكفار والمؤمنين فالمراد بها في أحكام الآخرة وذلك مبين في آخر كل آية .
وأما قوله - عليه السلام - : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فمن أصلنا أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون هذا بيان أن دماء غير المسلمين لا تكافئ دماء المسلمين .
وأما قوله - عليه السلام - : ( لا يقتل مؤمن بكافر ) فهو غير مجري على ظاهره بالاتفاق لأن القاتل إذا أسلم يقتل قصاصا وفيه قتل مؤمن بكافر ثم المراد به الحربي يعني من لا يحل قتله من أهل الحرب كالنساء والصبيان فإنه لا يقتل المؤمنون بهم بدليل قوله : ( ولا ذو عهد في عهده ) أي يقتل ذو العهد بالكافر وإنما لا يقتل ذو العهد بالكافر الحربي .
فإن قيل : هذا ابتداء أي لا يقتل ذو العهد في مدة عهده .
قلنا : ابتداء ( الواو ) حقيقة للعطف خصوصا فيما لا يكون مستقلا بنفسه .
فإن قيل : قد روي : ( ولا بذي عهد ) فيفهم منه أن المؤمن لا يقتل بذي العهدة .
قلنا : إن ثبتت هذه الرواية فهي محمولة على المستأمن وبه نقول أن المسلم لا يقتل بالمستأمن وكذلك لو اجتمع نفر من المسلمين على قتل ذمي قتلوا به لأنهم في حكم القصاص كالمسلمين .
( وكل قطع من مفصل ففيه القصاص في ذلك الموضع ) لأن المعتبر في القصاص المساواة وفي القطع من المفاصل يمكن اعتبار المساواة فيجب القصاص .
فأما كل قطع لا يكون من مفصل بل يكون بكسر العظم فإنه لا يجب القصاص فيه عندنا .
وفي أحد قولي الشافعي يجب القصاص لأن القصاص مشروع لمعنى الزجر والجناية بغير حق في الغالب إنما تكون بهذه الصفة وقل ما يكون من المفصل فلو قلنا لا يجب القصاص في ذلك أدى إلى إبطال الحكمة .
ولكنا : نستدل بقوله - عليه السلام - : ( لا قصاص في العظم ) ولأنه لا تتأتى مراعاة المساواة في العظام لأنه لا ينكسر في الموضع الذي برئ كسره وبدون اعتبار المساواة لا يجب القصاص ما خلا السن فالقصاص يجب فيه وقد بيناه ولا تقطع اليسار باليمين ولا اليمين باليسار ولا اليد بالرجل ولا الإبهام بغيرها من الأصابع ولا أصبع من يد بأصبع من الرجل لانعدام المساواة بين هذه الأعضاء فإن فيما هو المقصود بها لا مساواة يعني مقصود منفعة البطش في اليد والعمل بها وبين اليمين واليسرى في ذلك تفاوت .
وكذلك في الخلقة والهيئة يظهر التفاوت بين الإبهام وغيرها من الأصابع وبين اليد والرجل وأصابع اليد وأصابع الرجل فيمتنع جريان القصاص بينهما ولا يقتص من عظم ما خلا السن .
والأصل في جريان القصاص في الأسنان قوله تعالى : { والسن بالسن } ( المائدة : 45 ) وروي أن الربيع عمة أنس بن مالك كسرت سن جارية فقضى رسول الله - A - بالقصاص فقاله أنس بن النضر أو يكسر سن الربيع بسن جارية فرضوا بالأرش فقال - عليه السلام - : ( إن لله عبادا لو أقسموا عليه لأبرهم منهم أنس بن النضر ) .
والأصل في جريان القصاص فيما دون النفس اعتبار المماثلة في الفعل وفي المحل أما المأخوذ بالفعل فلأن المماثلة في ضمان العدوان منصوص عليها فيجب اعتبارها في كل ما يتأتى والمتأتى اعتبار المماثلة في هذه الأشياء ويعنى بالمماثلة في المأخوذ بالفعل المساواة في المنفعة والمساواة في البدل لأن التفاوت في المنفعة المقصودة دليل اختلاف الجنس .
وإن اتحد الأصل فلأن تنعدم الم