( قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - ) اعلم بأن القتل بغير حق من أعظم الجنايات بعد الإشراك بالله تعالى قال الله تعالى : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا } ( المائدة : 32 ) وقال النبي - عليه السلام - : ( ألا أن أعباء الناس ثلاثة رجل قتل غير قاتل أبيه ورجل قتل قبل أن يدخل الجاهلية ورجل قتل في الحرم ) .
وقال في خطبته بعرفات : ( ألا إن دماءكم ونفوسكم محرمة عليكم كحرمة يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا ) .
ولما قتل محلم بن جنامة رجلا من أهل الجاهلية قال النبي - عليه السلام - لا يرحم فدفن بعد موته فلفظته الأرض ثم دفن فلفظته الأرض فقال أما أنها تقبل من هو أعظم جرما منه ولكن الله أراكم حرمة القتل وفي قتل النفس إفسادا لعالم ونقض البنية ومثل هذا الفساد من أعظم الجنايات ومعلوم أن الجاني مأخوذ عن الجناية إلا أنه لو وقع الاقتصار على الزجر بالوعيد في الآخرة ما انزجر إلا أقل القليل فإن أكثر الناس إنما يزجرون مخافة العاجلة بالعقوبة وذلك بما يكون متلفا للجاني أو مجحفا به فشرع الله القصاص والدية لتحقق معنى الزجر وهذا الكتاب لبيان ذلك وقد سماه محمد - C - كتاب الديات لأن وجوب الدية بالقتل أعم من وجوب القصاص فإن الدية تجب في الخطأ وفي شبه العمد وفي العمد عند تمكن الشبهة وكذلك الدية تتنوع أنواعا والقصاص لا يتنوع فلهذا رجح جانب الدية في نسبة الكتاب إليها واشتقاق الدية من الأداء لأنها مال مؤدى في مقابلة متلف ليس بمال وهو النفس والأرش الواجب في الجناية على ما دون النفس مؤدى أيضا وكذلك القيمة الواجبة في سائر المتلفات إلا أن الدية اسم خاص في بدل النفس لأن أهل اللغة لا يطردون الاشتقاق في جميع مواضعه لقصد التخصيص بالتعريف وسمى بدل النفس عقلا أيضا لأنهم كانوا اعتادوا ذلك من الإبل فكانوا يأتون بالإبل ليلا إلى فناء أولياء المقتول فيعقلونها فتصبح أولياء القتيل والإبل معقولة بفنائهم فلهذا سموه عقلا .
ثم بدأ الكتاب فقال : ( قال أبو حنيفة - C - القتل على ثلاثة أوجه : عمد وخطأ وشبه العمد ) والمراد به بيان أنواع القتل بغير حق فيما يتعلق به من الأحكام .
كان أبو بكر الرازي يقول : القتل على خمسة أوجه : .
عمد وشبه عمد وخطأ وما أجري مجرى الخطأ وما ليس بعمد ولا خطأ ولا أجري مجرى الخطأ .
أما العمد فهو ما تعمدت ضربه بسلاح لأن العمد هو القتل وقصد إزهاق الحياة وهي غير محسوسة لقصد أخذها فيكون القصد إلى إزهاق الحياة بالضرب بالسلاح الذي هو جارح عامل في الظاهر والباطن جميعا ثم المتعلق بهذا الفعل أحكام منها المأثم وذلك منصوص عليه في قوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها } ( النساء : 93 ) الآية ومنها القصاص وهو ثابت في قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ( المائدة : 45 ) وما أخبر الله تعالى أنه كتبه على من قبلنا فهو مكتوب علينا ما لم يقم دليل النسخ فيه وقد نص على أنه مكتوب علينا فقال : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ( البقرة : 178 ) ثم بين وجه الحكمة فيه بقوله ولكم في القصاص حياة وفيه معنيان أحدهما أنه حياة بطريق الزجر لأن من قصد قتل عدوه فإذا تفكر في عاقبة أمره أنه إذا قتله قتل به انزجر عن قتله فكان حياة لهما والثاني أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك فإن القاتل بغير حق يصير حربا على أولياء القتيل خوفا على نفسه منهم فهو يقصد إفناءهم لإزالة الخوف عن نفسه والشرع مكنهم من قتله قصاصا لدفع شره عن أنفسهم وإحياء الحي في دفع سبب الهلاك عنه وقال E : ( العمد قود ) أي موجبه القود فإن نفس العمد لا يكون قودا وقال صلوات الله عليه وسلامه ( كتاب الله القصاص ) أي حكم الله والقصاص عبارة عن المساواة وفي حقيقة اللغة هو اتباع الأثر قال الله تعالى و { قالت لأخته قصيه } ( القصص : 8 ) واتباع أثر الشيء في الإتيان بمثله فجعل عبارة عن المساواة لذلك ومن حكمه حرمان الميراث ثبت ذلك بقوله E : ( لا ميراث لقاتل بعد صاحب البقرة ) وفي رواية لا شيء للقاتل أي من الميراث ومن حكمه وجوب المال به عند التراضي أو عند تعذر إيجاب القصاص للشبهة ثبت ذلك بقوله تعالى : { فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } ( البقرة : 178 ) أي فمن أعطى له من دم أخيه شيء لأن العفو بمعنى الفضل قال الله تعالى : { يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } ( البقرة : 219 ) والمراد به إذا رغب القاتل في أداء الدية فالمولى مندوب إلى مساعدته على ذلك وعلى القاتل أداؤه إليه بإحسان إذا ساعده الولي وهذه الدية تجب في مال القاتل إذا كان بطريق الصلح والتراضي فكأنه هو الذي التزمه بالعقد .
وأما إذا كان عند تعذر استيفاء القصاص فلأن في الدية الواجبة عليه معنى الزجر ومعنى الزجر إنما يتحقق فيما يكون أداؤه مجحفا به وهو الكثير من ماله .
ويختلفون في وجوب الدية بهذا الفصل عند وجوب القصاص به : فالمذهب عندنا أنه لم تجب الدية بالعمد الموجب للقصاص إلا أن يصالح الولي القاتل على الدية .
وللشافعي - Bه - فيه قولان : .
في أحد القولين موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية يتعين ذلك باختيار المولى .
وفي القول الآخر : موجبه القصاص إلا أن للولي أن يختار أخذ الدية من غير رضا القاتل واحتج في ذلك بقوله E : ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ) فهذا تنصيص على أن كل واحد منهما موجب القتل وإن الولي مخير بينهما .
ولما أتى بالقاتل إلى رسول الله - A - قال - عليه السلام - للولي أتعفو فقال : لا فقال : أتأخذ الدية فقال : لا فقال : القتل فقال : نعم ففي هذا بيان أن الولي يستبد بأخذ الدية كما يستبد بالعفو والقتل .
والمعنى فيه : أن هذا إتلاف حيوان متقوم فيكون موجبا ضمان القيمة كإتلاف سائر الحيوانات وقيمة النفس الدية وهذا لأن الحيوان ليس من ذوات الأمثل وإتلاف المقوم مما لا مثل له يوجب القيمة وقيمة النفس الدية بدليل حالة الخطأ فإن الدية إنما تجب بالإتلاف لا بصفة الخطأ لأنه عذر مسقط والمتلف في حالة العمد ما هو المتلف في حالة الخطأ إلا أن الشرع أوجب القصاص بمعنى الانتقام وشفاء الصدر للولي ودفع الغيظ عنه فكان ذلك بخلاف القياس لأنه إتلاف والإتلاف لا يكون واجبا بمقابلة الإتلاف وهو ليس بمثل .
( ألا ترى ) أن الجماعة يقتلون بالواحد ولا مماثلة بين العشرة والواحد فعرفنا أنه ممنوع بمعنى زيادة النظر للولي وذلك في أن لا يسقط حقه في الواجب الأصلي بل يكون متمكنا فيه كما لو قطع يد إنسان ويد القاطع شلاء أو ناقصة بإصبع فإن القصاص واجب ولصاحب الحق أن يأخذ الإرش بغير رضا الجاني لهذا المعنى ولأن النفس محترمة بحرمتين وفي إتلافها هتك الحرمتين جميعا حرمة حق الله تعالى وحرمة حق صاحب النفس وجزاء حرمة الله تعالى العقوبة زجرا وجزاء هتك حرمة العبد الغرامة جبرا ولكن تعذر الجمع بينهما ها هنا لأن كل واحد منهما يوجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه ويورث عنه ويسقط بإذنه ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل واحد فأثبتنا الجمع بينهما على سبيل التخيير وقلنا إن شاء مال إلى جانب هتك حرمة حق الله تعالى واستوفى العقوبة وإن شاء مال إلى جهة حرمة حق العباد فاستوفى الدية ولا خلاف أن أحد الشريكين في الدم إذا عفا أن للآخر أن يستوفي المال .
ولو لم يكن المال واجبا له بنفس القتل لما وجب بالعفو لأن العفو مسقط ولو وجب بالعفو لوجب على العافي .
وإن كان محسنا كضمان الإعتاق يجب على المعتق إذا كان موسرا ولما وجب المال للآخر على القاتل عرفنا أنه كان واجبا بنفس القتل ولما ظهر ذلك عند العفو في حق من لم يعف فكذلك يظهر في حق العافي إذا عفا عن القصاص فقلنا يتمكن من أخذ المال ولأن القاتل في الامتناع من أداء الدية بعد ما استحقت نفسه قصاصا ملق نفسه في التهلكة فيكون ممنوعا شرعا كالمضطر إذا وجد طعاما يشتريه ومعه ثمنه يفترض عليه شراؤه شرعا لهذا المعنى فكذا ها هنا .
وحجتنا في ذلك : قوله E : ( العمد قود ) فقد أدخل الألف واللام في العمد وذلك للمعهود فإن لم يكن فللجنس وليس ها هنا معهود فكان للجنس وفيه تنصيص على أن جنس العمد موجب للقود فمن جعل المال واجبا بالعمد مع القود فقد زاد على النص وإلى هذا أشار ابن عباس - Bه - في قوله ( العمد قود ) ولا مال له فيه .
وعن علي وابن مسعود - Bهما - قالا في دم عمد بين شريكين عفا أحدهما : ( انقلب نصيب الآخر مالا ) فتخصيصهما غير العافي بوجوب المال له دليل على أن العافي لا شيء له .
فأما ما روي من قوله : ( فأهله بين خيرتين ) : فقد اختلفت الرواية فيه : .
فإن في بعض الروايات : ( إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا فادوا ) والمفاداة على ميزان المفاعلة يقتضي وجود القتل بين اثنين بالتراضي وذلك أخذ الدية بطريق الصلح وتأويل الرواية التي قال وإن أحبوا أخذوا الدية من جهتين : .
إحداهما : أنه إنما لم يذكر رضا القاتل لأن ذلك معلوم ببديهة العقل فإن من أشرف على الهلاك إذا تمكن من دفع الهلاك عن نفسه بأداء المال لا يمتنع من ذلك إلا من سفهت نفسه لأن امتناعه لإبقاء منفعة المال سفه ولا يتصور ذلك بعد ما تلفت نفسه وهو نظير قوله - E - : ( خذ سلمك أو رأس مالك ) وهو في أخذ رأس المال يحتاج إلى رضا المسلم إليه ولم يذكره لا لأنه غير محتاج إليه بل لأنه معلوم بطريق الظاهر .
والثاني : أن المراد أن لا يجبر الولي على أخذ الدية شاء أو أبى لا أن له أن يجبر غيره على أداء الدية بدليل قصة الحديث فإنه روي أن رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل يوم فتح مكة بعد ما أمر رسول الله - A - بالكف عن القتل فخطب رسول الله - A - وقال : ( أما أنتم يا معاشر خزاعة فقد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقلته فوداه بمائة من الإبل من عند نفسه ثم قال فمن قتل له بعد اليوم قتيل فأهله بين خيرتين ) فقد أجبر الولي على أخذ الدية ثم تبين بهذا اللفظ أن الحكم قد انتسخ وأن الولي لا يجبر على أخذ الدية بعده وفي الحديث الآخر عرض الدية على الولي وهذا لا ينفى كون رضا القاتل مشروطا فيه ولكنه إما أن يكون قصد التبرع بأداء الدية من عنده ولم يعتبر رضا القاتل في هذه الحالة أو أراد أن يعلم رغبة المولى في أخذ الدية ثم يشتغل باسترضاء القاتل كمن سعى بالصلح بين اثنين يسترضي أحدهما .
فإذا تم له ذلك حينئذ استرضى الآخر والمعنى في المسألة أنه أتلف شيئا مضمونا فيتقدر ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال وتفويت حقوق الله تعالى من الصوم والصلاة والزكاة يكون الواجب فيها المثل إذا أمكن وهذا لأن ضمان المتلفات مقدر بالمثل بالنص قال الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ( البقرة : 194 ) ولأن الزيادة على المثل ظلم على المتعدي وفي النقصان يحسن بالمتعدى عليه والشرع إنما يأمر بالعدل وذلك بالمثل .
إذا ثبت هذا فنقول : الدية ليست بمال للمتلف والقصاص مثل أما بيان أن الدية ليست بمثل فلان المماثلة بين الشيئين تعرف صورة أو معنى ولا مماثلة بين المال والآدمي صورة ولا معنى والنفس مخلوقة لإماتة الله تعالى والاشتغال بطاعته ليكون خليفة في الأرض والمال مخلوق لإقامة مصالح الآدمي به ليكون مبتذلا في حوائجه فأما القصاص من حيث الصورة فلأنه قتل بإزاء قتل وإزهاق حياة بإزهاق حياة ومن حيث المعنى فالمقصود بالقتل ليس إلا الانتقام والثاني في معنى الانتقام كالأول وبهذا سمي قصاصا ثم المثل واجب بطريق الجبر ولا يجعل جبران الحياة بالمال وإنما جبران الحياة بحياة مثلها وذلك في القصاص .
فإن الله تعالى نص على أن في القصاص حياة فعلينا أن نعتقد هذا المعنى في القصاص عقلناه أو لم نعقله ثم هو معقول من الوجه الذي ذكرنا أنه حياة بطريق دفع سبب الهلاك ولكن للولي الذي هو قائم مقام المقتول كما أن المال في الموضع الذي يجب إنما ينتفع به الذي هو قائم مقام المقتول ولا حاجة بنا إلى إثبات المماثلة في القصاص لأن ذلك واجب بالقصاص وهو محض حق العبد ولا حق للعبد إلا في المثل فأما أجزية الأفعال المحرمة فتجب حقا لله تعالى وإنما حاجتنا إلى أن يثبت أن المال ليس بمثل للنفس وقد أثبتنا ذلك فقلنا لا يجب بمقابلة النفس المتلفة قتلا إلا في الموضع الذي يجب بتعذر إيجاب المثل فحينئذ يجب المال بالنص بخلاف القياس وهو في حالة الخطأ لأن المثل نهاية في العقوبات المعجلة في الدنيا والحاطئ معذور فتعذر إيجاب المثل عليه ونفس المقتول محرمة لا يسقط جزء منها بعذر الحاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في حالة الخطأ لصيانة النفس المحرمة عن الإهدار لا بطريق أنه مثل كما أوجب الفدية على الشيخ الفاني عند وقوع اليأس به عن الصوم وذلك لا يدل على أن الإطعام مثل الصوم .
وإذا ثبت أن وجوب المال بهذا الطريق ففي الموضع الذي يتمكن فيه من استيفاء مثل حقه لا معنى لإيجاب المال وكما ثبت هذا المعنى في الخطأ قلنا في كل موضع من مواضع العمد بتحقق هذا المعنى نوجب هذا المال أيضا لأن المخصوص من القياس بالنص يلحق به ما يكون في معناه من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب المال لتعذر إيجاب القصاص لحرمة الأبوة .
وإذا عفى أحد الشريكين يجب للآخر المال لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص لمعنى في القاتل وهو أنه حتى يقص نفسه بعفو الشريك فكان ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للآخر ولا يجب للعافي لأنه إنما تعذر استيفاء القصاص عل العافي بإسقاطه من جهته لا بمعنى في القاتل ثم إقدام العافي على العفو يكون تعيينا منه لحقه في القصاص لأن العفو يعترف فيه بالإسقاط وذلك لا يكون إلا بعد تعيين حقه فيه ومع تعيين حقه في القصاص لا يجب له المال .
وإذا مات من عليه القصاص إنما لا نوجب المال لأن هذا ليس في معنى الحاطئ من كل وجه .
فإن تعذر إيجاب استيفاء القصاص بعد موته كان لفوات المحل فلو ألحقنا هذا بالحاطئ لمعنى التعذر كان قياسا والمخصوص من القياس لا يقاس عليه غيره وإذا كانت يد القاطع شلاء فالمجني عليه ها هنا عاجز عن استيفاء مثل حقه بصفته لا لفوات المحل بل لمعنى في الجاني .
فإن شاء تجوز بدون حقه وإن شاء مال إلى استيفاء الإرش بمنزلة من أتلف على آخر كر حنطة ولم يجد عنده إلا كرا رديئا فإنه يتخير بين أن يتجوز بدون حقه وبين أن يطالب بالقيمة لتعذر استيفاء المثل بصفته بخلاف ما إذا قطعت يد القاطع ظلما لأن تعذر الاستيفاء ها هنا لفوات المحل فلم يكن في المعنى الأول وهو بخلاف ما إذا قطعت يده في سرقة أو قصاص فإنه يجب الإرش لأن المحل هناك في معنى القائم حكما حين قضي به حقا مستحقا عليه فيكون كالسالم له حكما فمن هذا الوجه هو في معنى الخطأ .
وما قال : ( إن في النفس حرمتين ) فنقول : في نفس القاتل حرمتان كما في نفس المقتول فإذا أوجبنا القصاص يحصل به مراعاة الحرمتين جميعا ثم القصاص لا يجب إلا باعتبار الحرمتين جميعا وإذا اعتبرناهما لإيجاب القصاص لا يبقى حرمة أخرى تعتبر لإيجاب المال .
ولو كان المعنى الذي قاله صحيحا لوجب أن يجمع بينهما استيفاء كمن قتل صيدا مملوكا في الحرم يجمع بين وجوب الكفالة لحرمة حق الله تعالى ووجوب الضمان لحق المالك وفيما قررنا جواب عما قال أن القصاص واجب بخلاف القياس فإنه لما كان المثل صورة ومعنى هو القصاص علم أنه هو الموجب الأصلى .
والذي قال : ( إنه بالامتناع من أداء الدية ) يسلم نفسه في التهلكة : ضعيف فإن إلقاء النفس في التهلكة إنما كان بالقبيل السابق فأما بالامتناع من أداء الدية يسلم نفسه لإيفاء حق مستحق عليه ويمتنع من أداء ما ليس عليه فلا يكون به ملقيا نفسه في التهلكة وأما شبه العمد فهو ما تعمدت ضربه بالعصا أو السوط أو الحجر أو اليد فإن في هذا الفعل معنيين العمد باعتبار قصد الفاعل إلى الضرب ومعنى الخطأ باعتبار انعدام القصد منه إلى القتل لأن الآلة التي استعملها آلة الضرب للتأديب دون القتل والعاقل إنما يقصد كل فعل بآلته فاستعماله آلة التأديب دليل على أنه غير قاصد إلى القتل فكان في ذلك خطأ لشبه العمد صورة من حيث أنه كان قاصدا إلى الضرب وإلى ارتكاب ما هو محرم عليه .
وكان مالك - C - يقول لا أدري ما شبه العمد وإنما القتل نوعان عمد وخطأ .
وهذا فاسد فإن شبه العمد ورد الشرع به على ما رواه النعمان بن بشير - Bه - أن النبي - A - قال ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا وفيه مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها .
والصحابة اتفقوا على شبه العمد حيث أوجبوا الدية فيه مغلظة مع اختلافهم في صفة التغليظ على ما نبينه .
وقال علي - Bه - شبه العمد الضربة بالعصا والعزقة بالحجر العظيم .
فأما بيان أحكام شبه العمد فنقول : إنه لا قصاص فيه لتمكن الشبهة والخطأ من حيث انعدام القصد إلى القتل والقصاص عقوبة تندرئ بالشبهات وهي تعمد المساواة ولا مساواة بين قتل مقصود وقتل غير مقصود ثم هذا القتل لما اجتمع فيه معنيان أحدهما يوجب القصاص والآخر يمنع ترجح المانع على الموجب لأن السعي في إبقاء النفس واجب ما أمكن فإن الإبقاء حياة حقيقة وفي القصاص حياة حكما فلهذا لا يوجب القود في شبه العمد وإذا تعذر إيجاب القود وجبت الدية وهي مغلظة كما أشار إليه رسول الله - A - في قوله : أربعون خلفة في بطونها أولادها وهو مروي عن ابن عمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة - Bهم - أنهم أوجبوا الدية مغلظة في شبه العمد وهذا التغليظ إنما يظهر في أسنان الإبل إذا وجبت الدية منها لا في شيء آخر وهذه الدية على عاقلة القاتل بمنزلة الدية في الخطأ وهو قول عامة العلماء .
وكان أبو بكر الأصم يقول : لا تجب الدية على العاقلة بحال لظاهر قوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ( الإسراء : 15 ) ولقول رسول الله - A - لأبي رمثة حين دخل عليه مع ابنه ( أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) أي لا يؤخذ بجنايتك ولا تؤخذ بجنايته ولأن ضمان الإتلاف يجب على النتلف دون غيره بمنزلة غرامات الأموال وهذا أولى لأن جناية المتلف في إتلاف النفس أعظم من جنايته في إتلاف الأموال .
ولكنا نستدل بما روي أن النبي - A - ( جعل عقل جناية كل بطن من الأنصار عليهم ) .
وفي حديث حمدان بن مالك بن نابغة قال : كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما بطن صاحبتها بعمود فسطاط أو بمسطح خيمة فألقت جنينا ميتا فاختصم أولياؤها إلى رسول الله - A - فقال - عليه السلام - لأولياء الضاربة ( دوه فقال أخوها عمران بن عويمر الأسلمي أيدي من لا صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه بطل فقال - E - أسجع كسجع الكهان ) وفي رواية دعني وأراجيز العرب قوموا فدوه الحديث ففيه تنصيص على إيجاب الدية على القاتل ثم هو معقول المعنى من أوجه : .
أحدها : أن مثل هذا الفعل إنما يقصده القاتل بزيادة قوة له وذلك إنما يكون بالتناصر الظاهر بين الناس ولهذا التناصر أسباب : .
منها : ما يكون بين أهل الديوان باجتماعهم في الديوان .
ومنها : ما يكون بين العشائر وأهل المحال وأهل الحرف فإنما يكون تمكن الفاعل من مباشرتهم بنصرتهم فيوجب المال عليه ليكون زجرا لهم عن غلبة سفهائهم وبعثا لهم على الأخذ على أيدي سفهائهم لكيلا تقع مثل هذه الحادثة هذا في شبه العمد وكذلك في الخطأ لأن مثل هذا الأمر العظيم قلما يبتلي به المرء من غير قصد إلا لضرب استهانة وقلة مبالاة تكون منه وذلك بنصره من ينصره ثم الدية مال عظيم وفي إيجاب الكل على القاتل إجحاف به فأوجب الشرع ذلك على العاقلة دفعا لضرر الإجحاف عن القاتل كما أوجب النفقة على الأقارب بطريق الصلة لدفع ضرر الحاجة ولهذا أوجب عليهم مؤجلا على وجه يقل ما يؤديه كل واحد منهم في كل نجم ليكون الاستيفاء في نهاية من التيسير عليهم ولأن كل واحد منهم يخاف على نفسه أن يبتلي بمثل ذلك فهذا يواسي ذلك إذا ابتلي به وذلك يواسي هذا فيدفع ضرر الإجحاف من كل واحد منهم ويحصل معنى صيانة دم المقتول عن الهدر ومعنى الإعسار لورثته بحسب الإمكان .
وبهذا يتبين أنا لا نجعل وزر أحد على غيره وإنما نوجب ما نوجبه على العاقلة بطريق الصلة في المواساة وبهذا لا نوجب ذلك إن كان المتلف مالا لأن الواجب قل ما يعظم هناك بل يتقدر بقدر المتلف فلا يؤدي إلى الإجحاف بالمتلف أن لو ضن به ( ولهذا ) لا نوجب القليل من الإرش وهو ما دون إرش الموضحة على العاقلة ومن موجب شبه العمد أيضا حرمان الميراث لأنه جزاء أصل الفعل وهو ما لا يندرئ بالشبهات ومن موجبه الكفارة أيضا باعتبار هذا المعنى لأنه جزاء أصل الفعل وهو مما لا يندرئ بالشبهات وبهذا ثبت في الخطأ المحض ففي شبه العمد أولى وأما الخطأ فهو ما أصبت مما كنت تعمدت غيره .
والخطأ نوعان : .
أحدهما : أن يقصد الرمي إلى صيد أو هدف أو كافر فيصيب مسلما فهذا خطأ من حيث أنه انعدم منه القصد إلى المحل الذي أصاب .
والثاني : أن يرمي شخصا يظنه حربيا فإذا هو مسلم أو يظنه صيدا فإذا هو مسلم فهذا خطأ باعتبار ما في قصده وإن كان هو قاصدا إلى المحل الذي أصابه وحكم الخطأ أنه لا يجب فيه القصاص لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع قال الله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } ( الأحزاب : 5 ) وقال : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ( البقرة : 286 ) وقال - عليه السلام - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا تعذر إيجاب القصاص وجبت الدية بالنص قال الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ( النساء : 92 ) وبينا المعنى فيه لصيانة دم المقتول عن الهدر فاستحقاق صيانة نفسه لا يسقط بعذر الحاطئ ومن موجبه الكفارة فإنها تثبت بهذا النص أيضا .
والمعنى فيه معقول فإن القتل أمر عظيم قلما يبتلي به المرء من غير قصد ما لم يكن به تهاون في التحرز وعلى كل أحد المبالغة في التحرز لكيلا يبتلى بمثل هذا الأمر العظيم فإذا ترك ذلك كان هو ملتزما بترك التحرز فنوجب عليه الكفارة جزاء على ذلك ولأن مثل هذا الأمر العظيم لا يبتلى به المرء إلا بنوع خذلان وهذا الخذلان لا يكون إلا عن ذنوب سبقت منه والحسنة تذهب السيئة قال الله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ( هود : 114 ) فنوجب عليه الكفارة لتكون ماحية للذنوب السابقة فلا يبتلي بمثل هذا الأمر العظيم بعدها وفي سيئة العمد معنى إيجاب الكفارة أظهر لما يلحقه من المأثم بالقصد إلى أصل الفعل .
وفيه حديث واثلة بن الأسقع حيث قال أتينا رسول الله - A - بصاحب لنا قد أوجب النار بالقتل فقال - عليه السلام - : ( اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو عضوا منه من النار ) وإيجاب النار لا يكون إلا بالإقدام على قتل محرم وقد قامت الدلالة على أن الكفارة لا تجب في العمد المحض فعرفنا أن المراد شبه العمد .
ثم قال الشافعي المعنى في وجوب الكفارة بالقتل أنه نقص من عدد المسلمين أحدهم ممن كان يحضر الجمع والجماعات فعليه إقامة نفس مقام ما أتلف ولا يمكنه ذلك إحياء فعليه إقامة مقام النفس المتلفة تحريرا لأن الحرية حياة والرق تلف وبهذا أوجب الكفارة على العامد وقلنا نحن إنما أوجب الكفارة عليه لأن الشرع سلم له نفسه شكرا لله وذلك في أن تحرر نفس منه لتشتغل بعبادة الله وإن عجز عن ذلك فعليه صوم شهرين متتابعين شكرا لله حيث سلم له نفسه وبهذا لا نوجب الكفارة على العامد لأن الشرع أوجب عليه القصاص ونوجبها في شبه العمد لأن الشرع سلم له نفسه تخفيفا عليه وترجيح أحد المعنيين على الآخر يبين في مسألة كفارة العمد إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى .
وليس في هذه الكفارة إطعام عندنا .
وفي أحد قولي الشافعي إذا عجز عن الصوم يطعم ستين مسكينا بالقياس على كفارة الظهار وهو بناء على أصله أن قياس المنصوص على المنصوص يجوز فإن المطلق والمقيد في حادثتين يحمل أحدهما على الآخر وذلك غير جائز عندنا وموضع بيانه أصول الفقه .
فأما ما أجري مجرى الخطأ على ما ذكره الرازي : فهو النائم إذا انقلب على إنسان فقتله وهذا ليس بعمد ولا خطأ لأنه لا تصور للقصد من النائم حتى يتصور منه ترك القصد أو ترك التحرز ولكن الانقلاب الموجب لتلف ما انقلب عليه يتحقق من النائم فيجري هذا مجرى الخطأ حتى تجب الدية على عاقلته والكفارة ويثبت به حرمان الميراث ليوهم أن يكون متهاونا ولم يكن نائما قصدا منه إلى استعجال الميراث وأظهر من نفسه القصد إلى محل آخر فأما ما ليس بعمد ولا خطأ ولا أجري مجرى الخطأ فهو حافر البئر وواضح الحجر في الطريق فليس بمباشر للقتل لأن مباشرة القتل بإيصال فعل من القاتل بالمقتول ولم يوجد وإنما اتصل فعله بالأرض فعرفنا أنه ليس بقاتل عمد ولا شبه عمد ولا خطأ ولا ما أجري مجرى الخطأ بل هو بسبب متعد فنوجب الدية على عاقلته للحاجة إلى صيانة النفس المتلفة عن الهدر ولا يجب عليه الكفارة ولا يحرم الميراث على ما يأتيك بيانه في بابه قال وفي النفس الدية معناه بسبب إتلاف النفس فإن حرف ( في ) للظرف حقيقة والنفس لا تكون ظرفا للدية بل قتلها سبب لوجوب الدية كما يقال في النكاح حل وفي الشراء ملك وهذا لقوله تعالى : { ودية مسلمة إلى أهله } ( النساء : 92 ) وقال - عليه السلام - في النفس مائة من الإبل . وقال علي - Bه - في النفس الدية وما لا يعرف بالرأي والمنقول عنه فيه كالمرفوع إلى رسول الله - A - : ( وفي الأنف الدية ) .
والحاصل : أن ما لا ثاني له في البدن من أعضاء أو معان مقصودة فإتلافها كإتلاف النفس في أنه يجب بها كمال الدية والأعضاء التي هي أفراد ثلاثة الأنف واللسان والذكر وذلك مروي في حديث سعيد بن المسيب أن النبي - عليه السلام - قال : ( في الأنف الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية ) وهكذا روي عن علي بن أبي طالب ثم قطع الأنف تفويت جمال كامل ومنفعة كاملة وامتياز الآدمي من بين سائر الحيوانات فات بهما فتفويتهما في معنى تفويت النفس فكما تجب الدية بقطع جميع الأنف بحيث يقطع المارن لأن تفويت الجمال به يحصل وكذلك تفويت المنفعة لأن المنفعة في الأنف اجتماع الروائح في قصبة الأنف لنقله منها إلى الدماغ وذلك تفويت بقطع المارن والمارن ما دون قصبة الأنف وهو ما لأن منه وكذلك في اللسان الدية لأن الآدمي قد امتاز من بين سائر الحيوان باللسان وقد من الله تعالى به على عباده فقال تعالى : { خلق الإنسان علمه البيان } ( الرحمن : 3 - 4 ) وذلك يفوت بقطع اللسان ففيه تفويت أعظم المقاصد في الآدمي وكذلك في قطع بعض اللسان إذا منع الكلام .
وإن كان بحيث يمنع بعض الكلام دون البعض فالجواب الظاهر أن فيه حكومة عدل لأنه لم يتم تفويت المقصود بهذا القدر وإنما تمكن فيه نقصان فيجب باعتباره حكومة عدل .
وقد قال بعض مشايخنا - رحمهم الله - : إن الدية تقسم على الحروف فحصة ما يمكنه أن يصححه من الحروف تسقط عنه وحصة ما لا يمكنه أن يصححه من الحروف تجب عليه ولكن على هذا القول لا يعتبر في القسمة إلا الحروف التي تكون باللسان فأما الهاء والحاء والعين لا عمل للسان فيها فلا يعتبر ذلك في القسمة .
وفي الكتاب روي أن النبي - A - قضى في اللسان بالدية وفي الأنف بالدية قال وفي الذكر دية لأن في الذكر تفويت منفعة مقصودة من الآدمي وهي منفعة النسل ومنفعة استمساك البول والرمي به عند الحاجة وكذلك في الحشفة الدية كاملة لأن تفويت المقصود يحصل بقطع الحشفة كما يحصل بقطع جميع الذكر ووجوب الدية الكاملة باعتباره والمعاني التي هي أفراد في البدن العقل والسمع والبصر والذوق والشم ففي كل واحد منها دية كاملة هكذا روي عن عمر - Bه - أنه قضى لرجل على رجل بأربع ديات بضربة واحدة كان ضرب على رأسه فأذهب عقله وسمعه وبصره ومنفعة ذكره .
وكان المعنى فيه أن العقل من أعظم ما يختص به الآدمي وبه ينتفع بنفسه في الدنيا والآخرة وبه يمتاز من البهائم فالمفوت له كالمبدل لنفسه الملحق له بالبهائم وكذلك منفعة السمع فإنها منفعة مقصودة بها ينتفع المرء بنفسه وكذلك منفعة البصر فإنها مقصودة .
( ألا ترى ) أن الناس يقولون للذي لا بصر له بمنزلة الميت الذي لم يدفن وكذلك منفعة الشم منفعة مقصودة في البدن ومنفعة الذوق كذلك فتفويتها من وجه استهلاك باعتبار أن فيه منفعة مقصودة فيوجب كمال الدية وكذلك في الصلب الدية كاملة إذا منع الجماع لما فيه من تفويت منفعة مقصودة وهي منفعة النسل .
وكذلك إذا حدث فإن فيه تفويت جمال كامل لأن الجمال للآدمي في كونه منتصب القامة قيل في معنى قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } ( التين : 4 ) منتصب القامة وذلك يفوت إذا حدب والجمال للآدمي مطلوب كالمنفعة فتفويت الجمال الكامل يوجب دية كاملة فإن عاد إلى حاله ولم ينقصه ذلك شيئا إلا أن فيه أثر الضربة ففيه حكومة عدل لأنه نفى بعض الشيئين ببقاء أثر الضربة فيجب باعتباره حكم عدل ومن هذه الجملة الإفضاء في المرآة إذا كانت بحيث لا تستمسك البول فإنه يوجب كمال الدية لأن فيه تفويت منفعة كاملة لا ثاني لها في البدن وهي منفعة استمساك البول وذكر المبرد أن النبي - عليه السلام - قال : ( في الصعر الدية ) وفسر المبرد ذلك بتعويج الوجه وفيه تفويت جمال كامل وأما ما يكون زوجا في البدن ففي قطعهما كمال الدية وفي أحدهما نصف الدية وأصل ذلك في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - عليه السلام - قال : ( في العينين الدية وفي إحداهما نصف الدية ) ( وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية ) وهكذا روي عن علي - Bه - قال الأعضاء التي هي أزواج في البدن العينان والأذنان الشاخصتان والحاجبان والشفتان واليدان وثديا المرأة والأنثيان والرجلان .
أما في العينين إذا فقئا الدية كاملة بتفويت الجمال والمنفعة المقصودة وأما في الأذنين الشاخصتين فالدية كاملة لأن في قطعهما تفويت الجمال الكامل وتفويت المنفعة أيضا فإن الأصوات تجتمع فيها وتنفذ إلى الدماغ وبهما تقي الأذى عن الدماغ ففيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية .
وكذلك في الحاجبين إذا حلقهما على وجه أفسد المنبت أو نتفهما فأفسد المنبت لأن فيه تفويت جمال كامل فيجب فيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية عندنا خلافا للشافعي - Bه - على ما نبينه في فصول الشعر إن شاء الله .
وفي الشفتين معنى الجمال الكامل والمنفعة الكاملة فبقطعهما تجب الدية كاملة وبقطع إحداهما نصف الدية والعليا والسفلى في ذلك سواء .
وعن زيد بن ثابت - Bه - قال في السفلى ثلثا دية وفي العليا ثلث الدية لأن في العليا جمالا فقط وفي السفلى جمالا ومنفعة وهي استمساك الريق بها وكذلك في اليدين فإن منفعة البطش في الآدمي منفعة مقصودة ففي قطعهما تفويت هذه المنفعة وفي قطع إحداهما تنقيصه .
وكذلك في ثديي المرأة منفعة مقصودة كاملة وهي منفعة رضاع الولد وكما تجب الدية بقطع ثدييها تجب بقطع حلمتيها لأن تفويت المنفعة يحصل بقطع الحلمة كما يحصل بقطع جميع الثدي فهو نظير ما ذكرنا في الحشفة مع الذكر والمارن مع الأنف وفي الأنثيين منفعة مقصودة وهي منفعة الأمناء والنسل ففيهما الدية وفي إحداهما نصف الدية .
وفي الرجلين منفعة مقصودة وهي منفعة المشي وانتفاع المرء بنفسه إنما يكون إذا تمكن المرء من المشي فقطع الرجلين بمنزلة استهلاكه حكما وأما ما يكون أرباعا في البدن فهو أشفار العينين يجب في كل شفر ربع الدية ويستوى إن نتف الأهداب فأفسد المنبت أو قطع الجفون كلها بالإشفار لأن تفويت الجمال يتم بذلك وكذلك تفويت المنفعة لأن الأهداب والجفون تقي الأذى عن العينين وتفويت ذلك ينقص من البصر ويكون آخره العمى فيجب فيها كمال الدية وهي أرباع في البدن فتوزع الدية عليها في كل واحدة منها ربع الدية فأما ما يكون أعشارا في البدن كالأصابع يعني أصابع اليدين أو الرجلين فإن قطع أصابع اليد يوجب كمال الدية لما فيها من تفويت منفعة البطش والبطش بدون الأصابع لا يتحقق وفي كل أصبع عشر الدية هكذا روي في حديث سعيد بن المسيب أن النبي - عليه السلام - قال ( وفي كل أصبع عشر من الإبل ) وجميع ما ذكرنا مذكور فيما كتب رسول الله - A - لعمرو بن حزم وفيها : ( وفي كل أصبع عشر من الإبل وفي كل سن خمس من الإبل ) وهكذا رواه عبدالله بن عمر - Bه - عن رسول الله - A .
وكان عمر - Bه - في الابتداء يقول في الخنصر ست من الإبل وفي البنصر تسع من الإبل وفي الوسطى عشر وفي السبابة والإبهام خمس وعشرون ثم لما بلغه حديث رسول الله - A - رجع إلى الحديث فقال الأصابع كلها سواء .
والذي تبيناه في أصابع اليد كذلك في أصابع الرجل لأن في قطعها تفويت منفعة المشي ومنفعة المشي كمنفعة البطش والصغير والكبير في جميع ما ذكرنا سواء لأن في أعضائه عرضة لهذه المنافع ما لم يصبها آفة ففي تفويتها تفويت المنفعة كما في حق الكبير وأما ما يزيد على ذلك في البدن فهي الأسنان يجب في كل سن نصف عشر الدية لما روينا من الحديث ويستوي في ذلك الأنياب والنواجذ والضواحك والطواحين .
ومن الناس من فضل الطواحين على الضواحك لما فيها من زيادة المنفعة ولسنا نأخذ بذلك لأن النبي - E - قال : ( في كل سن خمس من الإبل ) من غير تفصيل ثم إن كان في بعضها زيادة منفعة ففي بعضها زيادة جمال والجمال في الآدمي كالمنفعة حتى قيل إذا قلع جميع أسنانه فعليه ستة عشر ألفا لأن الأسنان اثنان وثلاثون سنا فإذا الواجب في كل نصف عشر الدية خمسمائة بلغت الجملة ستة عشر ألفا وليس في البدن جنس يجب بتفويته أكثر من مقدار الدية سوى الأسنان .
فإن قلع جميع أسنان الكوسج ... فعليه أربعة عشر ألفا لأن أسنانه ثمانية وعشرون هكذا حكي أن امرأة قالت لزوجها يا كوسج فقال إن كنت كوسجا فأنت طالق فسئل أبو حنيفة - C - عن ذلك فقال تعد أسنانه فإن كانت اثنين وثلاثين فليس بكوسج وإن كانت ثمانية وعشرين فهو كوسج .
قال : ( وبلغنا عن علي - Bه - قال في الرأس إذا حلق ولم ينبت الدية كاملة ) وبهذا أخذ علماؤنا - رحمهم الله - وقال إذا حلق شعر رأس إنسان حتى أفسد المنبت فعليه كمال الدية الرجل والمرأة في ذلك سواء .
وقال الشافعي في شعر الرأس حكومة عدل .
وكذلك في اللحية إذا حلقت فلم تنبت كمال الدية عندنا وقال الشافعي - Bه - حكومة عدل لأنه شعر مستمد من البدن بعد كمال الخلقة فلا يتعلق بحلقه كمال الدية كشعر الصدر والساق وهذا لأنه ليس في حلق الشعر تفويت منفعة كاملة إنما فيه فقط تفويت بعض الجمال فإنه يلحقه نوع شين على الوجه الذي لغير الكوسج بقلة شعره ووجوب كمال الدية يعتبر بتفويت منفعة كاملة والدليل عليه أن ما يوجب في الحر كمال الدية يوجب في العبد كمال القيمة وبالاتفاق لو حلق لحية عبد إنسان لا يلزمه كمال القيمة وإن أفسد المنبت وإنما يلزمه النقصان فكذلك في حق الحر .
وحجتنا في ذلك : حديث علي - Bه - فإن ما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله - A - لأن ذلك لا يستدرك بالرأي .
والمعنى فيه : أنه فوت عليه جمالا كاملا فيلزمه كمال الدية كما لو قطع الأذنين الشاخصتين وبيان ذلك أن في اللحية جمالا كاملا في أوانه وكذلك في شعر الرأس جمال كامل .
( ألا ترى ) أن من عدم ذلك خلقة تكلف لستره وإخفائه ولا شك أن في شعر الرأس جمالا كاملا وبعض المنفعة أيضا فما يحصل لها بالجمال من المنفعة أعظم وجوه المنفعة وكذلك في اللحية والأصل فيه ما روي عن النبي - A - أنه قال : ( إن لله تعالى ملائكة تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى والنساء بالقرون والذوائب ) ثم تفويت المنفعة يوجب كمال الدية كما إذا ضرب على ظهره حتى انقطع ماؤه فكذلك تفويت الجمال الكامل يوجب كمال الدية لأن الغرض لعقلاء في الجمال أكثر مما هو في المنفعة بخلاف شعر الصدر والساق فليس في حلقه تفويت جمال كامل فلهذا لم يؤثر ذلك في النقصان فلا يجب شيء .
فأما في لحية العبد فروايتان : .
روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجب كمال القيمة .
وفي ظاهر الرواية : يجب نقصان القيمة وهو نظير الروايتين في قطع الأذنين الشاخصتين من العبد .
ففي رواية الحسن قال : القيمة في العبد كالدية في الحر فما يجب بتفويته كمال الدية في الحر يجب بتفويته كمال القيمة في العبد .
وفي ظاهر الرواية قال : الجمال غير مقصود للمولى من عبده وإنما المقصود منفعة الاستخدام وبحلق لحيته أو قطع الأذنين الشاخصتين منه لا يفوت هذا المقصود فلهذا لا يجب به كمال القيمة فأما الجمال فمقصود في الأحرار وبتفويته يجب كمال الدية وتكلموا في حلق لحية الكوسج .
والأصح في ذلك ما فصله أبو جعفر الهندواني - C - : إن كان النابت على ذقنه شعرات معدودة فليس في حلق ذلك شيء لأن وجود ذلك لا