( قال - C - ) ( وإذا باع العبد المأذون له في التجارة واشترى فلحقه دين أو لم يلحقه ثم أراد مولاه أن يحجر عليه فليس يكون الحجر عليه إلا في أهل سوقه عندنا ) .
وقال الشافعي : صحيح وإن لم يعلم به أحد من أهل سوقه وهو بناء على مسألة الوكالة أن عزل الوكيل لا يصح إلا بعلمه عندنا وعنده يصح بغير علمه فكذلك الحجر على العبد عنده يصح بغير علم العبد وبغير علم أهل السوق له لأن الإذن عنده إنابة كالتوكيل وهذا لأن المولى يتصرف في خالص حقه فلا يتوقف تصرفه على علم الغير به ولأن الإذن لا يتعلق به اللزوم فلو لم يملك الحجر عليه إلا في أهل سوقه لثبت به اللزوم من وجه ثم الإذن صحيح وإن لم يعلم به أهل سوقه فكذلك الحر الذي يرفعه وعزل الوكيل صحيح بعلمه وإن لم يعلم به من يعامله فكذلك الحجر على العبد .
ولكنا نشترط علم أهل السوق لدفع الضرر والغرور عنهم فإن الإذن عم وانتشر فيهم فهم يعاملونه بناء على ذلك فلو صح الحجر بغير علمهم تضرروا به لأن العبد إن اكتسب ربحا أخذه المولى وإن لحقه دين أقام البينة إن كان قد حجر عليه فتتأخر حقوقهم إلى ما بعد العتق ولا ندري أيعتق أم لا ؟ ومتى يعتق والمولى بتعميم الإذن يصير كالغار لهم فلدفع الضرر قلنا : لا يثبت الحجر ما لم يعلم به أهل سوقه ثم هو بالحجر يلزمهم التحرز عن معاملته والخطاب الملزم للغير لا يثبت حكمه في حقه ما لم يعلم به كخطاب الشرع .
( ألا ترى ) أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد الأمر باستقبال الكعبة وجوز لهم ذلك لأنهم لا يعلمون به وهذا لأنه لا يتمكن من الائتمار إلا بعد العلم به إلا أن في الوكالة شرطنا علم الوكيل لدفع الضرر عنه ولا يشترط علم أهل السوق لأنه لا ضرر عليهم في العزل فإن تصرفهم معه نافذ سواء كان وكيلا أو لم يكن ثم الحجر رفع الإذن وإنما يرفع الشيء ما هو مثله أو فوقه .
فإذا كان الإذن منتشرا لا يرفعه إلا حجر منتشر وكان ينبغي أن يشترط إعلام جميع الناس بذلك إلا أن ذلك ليس في وسع المولى والتكليف ثابت بقدر الوسع والذي في وسعه إشهارا لحجر بأن يكون في أهل سوقه لأن أكثر معاملاته مع أهل سوقه وما ينتشر فيهم يصل خبره إلى غيرهم عن قريب .
فإن حجر عليه في بيته ثم باع العبد أو اشترى ممن قد علم بذلك فبيعه وشراؤه جائز لأن شرط صحة الحجر التشهير ولم يوجد فلا يثبت حكمه في حق من علم به كما لا يثبت في حق من لم يعلم به وهذا لأن الحجر لا يقبل التخصيص كالإذن ولم يمكن إثباته في حق من لم يعلم به فلو ثبت في حق من علم به كان حجرا خاصا وذلك لا يكون .
( ألا ترى ) أنه لو أذن له في أن يشتري ويبيع من قوم بأعيانهم ونهاه عن آخرين فبايع الذين نهاه عنهم كان جائزا وهذا بخلاف خطاب الشرع فإن حكمه ثبت في حق من علم به لأن الخطاب مما يقبل التخصيص وكل واحد من المخاطبين الحكم في حقه كأنه ليس معه غيره .
وإذا أتى المولى بعبده إلى أهل سوقه فقال قد حجرت على هذا فلا تبايعوه كان هذا حجرا عليه لأن المولى أتى بما في وسعه وهو تشهير الحجر فيقام ذلك مقام علم جميع أهل السوق به بمنزلة الخطاب بالشرائع فإن الذمي إذا أسلم ولم يعلم بوجوب الصلاة عليه حتى مضى زمان يلزمه القضاء لإشهار حكم الخطاب في دار الإسلام .
والحربي إذا أسلم في دار الإسلام لا يلزمه القضاء ما لم يعلم لأن حكم الخطاب غير منتشر في دار الحرب ثم المولى قد أنذرهم بما أتى به من الحجر عليه في أهل سوقه وقد أعذر من أنذر فيخرج به من أن يكون غارا لهم أو مضرا بهم بعد ذلك ولكن هذا إذا كان بمحضر الأكثر من أهل سوقه فإن كان إنما حضر ذلك من أهل سوقه رجل أو رجلان لم يكن ذلك حجرا حتى يحضر الأكثر من أهل سوقه لأن المقصود ليس عين السوق .
( ألا ترى ) أنه لو أتى به إلى سوقه ليلا وجعل ينادي قد حجرت على هذا لم يكن ذلك معتبرا فعرفنا أن المقصود علم أهل السوق وليس في وسعه إعلام الكل فيقام الأكثر مقام الكل فإذا حضر ذلك الأكثر من أهل سوقه يجعل ذلك كحضور جماعتهم فثبت حكم الحجر في حق من علم به وفي حق من لم يعلم به .
وإن لم يحضر ذلك أكثر أهل السوق جعل كأنه لم يحضر أحد منهم .
( ألا ترى ) أنه لو دعا برجل من أهل سوقه إلى بيته وحجر عليه بمحضر منه لم يكن حجرا ولو دعا إلى منزله جماعة من أهل سوقه فأشهدهم أنه قد حجر عليه كان حجرا وهذا لأن ما يكون بمحضر من الجماعة قل ما يخفى فأما ما يكون بمحضر الواحد والمثنى فقد يخفى على الجماعة وشرط صحة الحجر تشهيره .
فإذا كان عند جماعة من أهل سوقه فقد وجد شرطه ولو خرج العبد إلى بلد للتجارة فأتى المولى أهل سوقه فأشهدهم أنه قد حجر عليه والعبد لا يعلم بذلك لم يكن هذا حجرا عليه لأنه إنما خرج ليعامل غير أهل سوقه فبإعلام أهل السوق لا يتم معنى دفع الضرر والغرور ولأن علم العبد بالحجر شرط لثبوت حكم الحجر في حقه كعلم الوكيل بالغرور وهذا لأن العبد يتضرر لصحة الحجر عليه قبل علمه لأنه يتصرف على أن يقضي ديونه من كسبه ورقبته .
فإذا لحقه دين وأقام المولى البينة أنه قد كان حجر عليه تأخر ديونه إلى عتقه وبعد العتق يلزمه أداؤها من خالص ماله وفيه من الضرر عليه ما لا يخفى .
وكذلك لو كان العبد في المصر ولكنه لم يعلم بالحجر فليس هذا بحجر عليه بل ينفذ تصرفه مع أهل سوقه ومع غيرهم ما لم يعلم بالحجر .
فإذا علم العبد بذلك بعد يوم أو يومين فهو محجور عليه حين علم وما اشترى وباع قبل أن يعلم فهو جائز لأن شرط صحة الحجر علمه به فكل تصرف سبق ما هو شرط الحجر فهو كالتصرف الذي سبق الحجر وكل تصرف كان بعد علمه بالحجر فهو باطل لأن دفع الضرر والغرور قد حصل بعلمه بالحجر .
فإن كان المولى يراه يشتري ويبيع بعد ما حجر عليه قبل أن يعلم به العبد فلم ينهه ثم علم به العبد فباع أو اشترى بعد علمه فالقياس في هذا أن يكون محجورا وأن لا تكون رؤيته إياه يبيع ويشتري إذنا مستقبلا لأنه كان مأذونا على حاله حين رآه يشتري ويبيع والسكوت عن النهي دليل الرضا فإنما يعتبر ذلك في حق من لا يكون مأذونا لرفع الحجر به فأما في حق من هو مأذون فسكوته عن النهي وجودا وعد ما بمنزلته .
ولكنه استحسن وجعل ذلك إذنا من المولى له في التجارة وإبطالا لما كان أشهد به من الحجر لأن الحجر كان موقوفا على علم العبد به والحجر الموقوف دون الحجر النافذ ثم رؤيته تصرف العبد وسكوته عن النهي لما كان رافعا للحجر النافذ الذي قد علمه العبد فلأن يكون رافعا للحجر الموقوف أولى وهذا لأن السكوت بمنزلة الإذن الصريح .
ولو قال بعد ذلك الحجر قد أذنت لك في التجارة كان هذا إذنا مبطلا لذلك الحجر الموقوف فكذلك إذا سكت عن النهي فإن ذلك الحجر كان لكراهة تصرفه والسكوت عن النهي بعد الرؤية دليل الرضا بتصرفه والرضا بعد الكراهة كامل .
وإذا أذن له في التجارة ولم يعلم بذلك أحد سوى العبد حتى حجر عليه بعلم منه بغير محضر من أهل سوقه فهو محجور عليه لوصول الحجر إلى من وصل إليه الإذن وهو العبد فبه تبين أن الحجر مثل الإذن والشيء يرفعه ما هو مثله ثم اشتراط علم أهل السوق بالحجر كان لدفع الضرر والغرور عنهم وذلك المعنى لا يوجد هنا لأنهم لم يعلموا بالإذن ليعاملوه بناء على ما علموه .
فإن علم بعد ذلك أهل سوقه بإذنه ولم يعلموا بالحجر عليه فالحجر صحيح لأنه لما كان الحجر قبل علمهم بالإذن فقد بطل به حكم ذلك الإذن وإنما علموا بعد ذلك بإذن باطل بخلاف ما لو علموا بالإذن قبل قول المولى حجرت عليه ولكنهم لم يعاملوه حتى كان الحجر من المولى عليه لأن الحجر ههنا باطل ما لم يعلم به أهل سوقه لأن الإذن قد انتشر فيهم حين علموا به فلا يبطله إلا حجر منتشر فيهم .
ولو لم يعلم بالإذن غير العبد ثم حجر عليه والعبد لا يعلم به فاشترى وباع كان مأذونا والحجر باطل لأنه ما وصل الحجر إلى من وصل إليه الإذن وهو العبد وهو نظير عزل الوكيل فإنه إذا علم بالوكالة ولم يعلم بالعزل لا يصير معزولا سواء كان الوكيل عبدا له أو حرا فكذلك حكم الحجر .
وإذا أذن العبد في التجارة فاشترى وباع وهو لا يعلم بإذن المولى ولم يعلم به أحد فليس هو بمأذون ولا يجوز شيء من تصرفاته لأن حكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب ما لم يعلم به خصوصا إذا كان ملزما إياه وهذا خطاب ملزم لأنه لا يطالب بعهدة تصرفاته قبل الإذن في الحال ويطالب بذلك بعد الآن فكما لا يثبت حكم الحجر في حقه ما لم يعلم به لدفع الضرر عنه فكذلك حكم الإذن .
فإن علم بعد ذلك فباع واشترى جاز ما فعله بعد العلم بالإذن ولم يجز ما قبله لأنه حين علم فإنما تم شرط الإذن في حقه الآن وكأنه أذن له في الحال فلا يؤثر هذا الإذن فيما كان سابقا عليه من تصرفاته .
ولو أمر المولى قوما أن يبايعوه فبايعوه والعبد لا يعلم بأمر المولى كان شراؤه وبيعه معهم جائزا هكذا ذكر هنا .
وفي الزيادات قال إذا قال الأب لقوم بايعوا ابني والابن لا يعلم بذلك فإن أخبروه بمقالة الأب قبل أن يبايعوه نفذ تصرفهم معه وإن لم يخبروه لم ينفذ .
وفي الوكالة ذكر المسألة في الموضعين : .
إذا قال اذهب فاشتر عبدي هذا من فلان قال في أحد الموضعين إن أعلمه بمقالة الموكل صح شراؤه منه .
وقال في الموضع الآخر وإن لم يعلمه ذلك ولكنه اشتراه منه جاز شراؤه فقيل في الفصول كلها روايتان : .
في إحدى الروايتين : الإذن في الابتداء كالإجازة في الانتهاء وإجازته كاملة في نفوذ التصرف سواء علم به من باشر التصرف أو لم يعلم وكذلك أمره بالتصرف في الابتداء .
وفي الرواية الأخرى قال : هو ملزم في حق المتصرف والإلزام لا يثبت في حقه ما لم يعلم به وقيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع ففي الزيادات وضع المسألة في الحر وليس للأب ولاية إلزام الدين في ذمة أبيه فما لم يعلم الابن بإذن الأب لا ينفذ التصرف في حقه وللولي ولاية شغل مالية عبده بدينه .
( ألا ترى ) أنه يرهنه بالدين فيصح والحاجة إلى الإذن ههنا لتعلق الدين بمالية الرقبة لا لثبوته في العبد فالدين بالمعاملة يجب في ذمته وإن كان محجورا عليه حتى يؤاخذ به بعد العتق ولهذا صح تصرف من أمره المولى بالمعاملة معه وإن لم يعلم العبد بمقالة المولي وقد قررنا تمام هذا في الزيادات .
فإن اشترى العبد بعد ذلك من غيرهم وباع فهو جائز لأن من ضرورة الحكم بنفوذ تصرفه مع الذين أمرهم المولى بمبايعته الحكم بأنه مأذون والإذن لا يقبل التخصيص فإذا ثبت في حق البعض ثبت في حق الكل ولو كان الذين أمرهم المولى أن يبايعوه لم يفعلوا وبايعه غيرهم وهم لا يعلمون بإذن المولى والعبد لا يعلم به أيضا كانت مبايعتهم إياه باطلة وهو محجور عليه على حاله لأن بمجرد مقالة المولى لا يصير العبد مأذونا قبل أن يعلم به ولكن ثبت حكم الإذن في حق الذين أمرهم بمبايعته ضمنا لتصرفهم معه للحاجة إلى دفع الضرر والغرور عنهم وما ثبت ضمنا لشيء لا يثبت قبله وثبوت حكم الإذن في حق سائر الناس كان لضرورة الحكم بنفوذ تصرفه مع الذين أمرهم المولى بمبايعته فلا يثبت ذلك قبل تصرفه معهم .
فإن بايعه بعد ذلك الذين أمرهم المولى ثم بايع العبد بعدهم قوما آخرين جازت مبايعته مع الذين أمرهم الذين أمرهم المولى بها ومع من بايعهم بعدهم ولم تصح المبايعة التي كانت قبل ذلك أما نفوذ مبايعته مع الذين أمرهم المولى بها فللحاجة إلى دفع الضرر والغرور عنهم ونفوذه من بعدهم فلأن الإذن لا يقبل التخصيص ولا يوجد ذلك في حق الذين كان عاملهم قبل ذلك وكان الإذن في حق الذين أمرهم ثبت حكمه مقصودا وفي حق غيرهم تبع والتبع يتبع الأصل ولا يسبقه .
وإذا باع المولى العبد المأذون وعليه دين أو لا دين عليه وقبضه المشتري فهذا حجر عليه علم به أهل سوقه أو لم يعلموا لأن المشتري بالقبض قد ملكه فإن قيام الدين على العبد يمنع لزوم البيع بدون رضا الغرماء ولكن لا يمنع وقوع الملك للمشتري إذا قبضه لأن ذلك لا يزيل تمكن الغرماء من نقضه ولهذا لو أعتقه المشتري كان عتقه نافذا وانفكاك الحجر عنه كان في ملك المولى وملك المشتري ملك متجدد ثابت بسبب متجدد فلا يمكن إظهار حكم ذلك الإذن فيه فيثبت الحجر لفوات محل الإذن وذلك أمر حكمي فلا يتوقف على علم أهل السوق به كما لو أعتق العبد الذي كان وكل الوكيل ببيعه فإنه ينعزل الوكيل وإن لم يعلم به .
وكذلك لو وهبه لرجل وقبضه الموهوب له لأن الملك تجدد للموهوب له وكذلك لو مات المولى يصير العبد محجورا عليه علم بذلك أهل سوقه أو لم يعلموا لأن صحة الإذن باعتبار رأي المولى وقد انقطع رأيه بالموت وحكم الإذن هو الرضا من المولى بتعلق الدين بمالية رقبته وقد صار ملك المالية بموته حق ورثته وجدد لهم صفة المالية في مالية رقبته وإن كان الملك هو الذي كان للمولى ولكن رضا المولى غير معتبر في إبطال حق ورثته عن مالية الرقبة فلتحقق المنافي قلنا لا يبقى حكم الإذن بعد موت المولى .
وإذا أشهد المولى أهل سوقه أنه قد حجر على عبده وأرسل إلى العبد به رسولا أو كتب به إليه كتابا فبلغه الكتاب أو أخبره الرسول فهو محجور عليه حين بلغه ذلك لأن عبارة الرسول كعبارة المرسل والكتاب أحد اللسانين وهو ممن يأتي كالخطاب ممن دنا .
( ألا ترى ) ( أن النبي - A - كان مأمورا بالتبليغ إلى الناس كافة ثم كتب إلى ملوك الآفاق وأرسل إليهم من يدعوهم إلى دين الحق وكان ذلك تبليغا تاما منه - A - ) .
وإن أخبره بذلك رجل لم يرسله مولاه لم يكن حجرا في قياس قول أبي حنيفة - C - حتى يخبره به رجلان أو رجل عدل يعرفه العبد .
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - : من أخبره بذلك من رجل أو امرأة أو صبي صار محجورا عليه بعد أن يكون الخبر حقا .
وهذا الخلاف في فصول : .
منها : عزل الوكيل .
ومنها : سكوت البكر إذا أخبرها الفضولي بالنكاح .
ومنها : سكوت الشفيع عن الطلب إذا أخبره فضولي بالبيع .
ومنها : اختيار الفداء إذا أعتق المولى عبده الجاني بعد ما أخبره فضولي بجنايته فطريقهما في الكل أن هذا من باب المعاملات وخبر الواحد في المعاملات مقبول .
وإن لم يكن عدلا كما لو أخبر بالوكالة وبالإذن للعبد وهذا لأن في اشتراط العدالة في هذا الخبر ضرب حرج فكل أحد لا يتمكن من إحضار عدل عند كل معاملة ولهذا سقط اشتراط العدد فيه بخلاف الشهادات فلذلك يسقط اعتبار العدالة فيه ومتى كان الخبر حقا فالمخبر به كأنه رسول المولى لأن المولى حين حجر عليه بين يديه فكأنه أمره أن يبلغه الحجر دلالة والدلالة في بعض الأحكام كالصريح خصوصا فيما بنى على التوسع .
ولو أرسله لم يشترط فيه صفة العدالة فكذلك ههنا وأبو حنيفة - C - استدل بقوله تعالى : { يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ( الحجرات : 6 ) فقد أمر الله بالتوقف في خبر الفاسق وذلك منع من العمل بخبر الفاسق فلو أثبتنا الحجر والعزل بخبر الفاسق لكان ذلك حكما يخالف النص بخلاف الرسول فإنه ثابت عن المرسل فعبارة الرسول كعبارة المرسل فأما الفضولي فليس بنائب عن المولى لأنه ما أنابه مناب نفسه فيبقى حكم الخبر مقصورا عليه وهو فاسق فكان الواجب التوقف في خبره بالنص ثم هذا خبر ملزم لأنه يلزم العبد الكف عن التصرف والشفيع طلب المواثبة والبكر حكم النكاح والمولى حكم اختيار الفداء وخبر الفاسق لا يكون ملزما كخبره في الديانات بخلاف إخباره بالوكالة والإذن فإن ذلك غير ملزم لأنه بالخيار إن شاء تصرف وإن شاء لم يتصرف .
وتقرير هذه : أن لهذا الخبر شبهين شبه رواية الإخبار من حيث إلزام العمل به وشبه الإخبار بالوكالة من حيث إنه معاملة وما تردد بين أصلين يوفر حظه عليهما فلاعتبار معنى الإلزام شرطنا فيه العدالة ولشبهه بالمعاملات لا يشترط فيه العدد .
واختلف مشايخنا - رحمهم الله - فيما إذا أخبره بذلك فاسقان : .
فمنهم من يقول : لا يصير محجورا عليه أيضا لأن خبر الفاسقين كخبر فاسق واحد في أنه لا يكون ملزما وأنه يجب التوقف فيه ومن اختار هذا الطريق قال : .
معنى اللفظ المذكور في الكتاب حتى يخبره رجلان أو رجل عدل فإن قوله عدل يصلح نعتا للواحد والمثنى يقال رجل عدل ورجال عدل .
ومنهم من يقول : إذا أخبره بذلك فاسقان صار محجورا عليه فظاهر هذا اللفظ يدل عليه فإنه أطلق الرجلين وإنما قيد بالعدالة الواحد وهذا لأنه يشترط في الشهادة العدد والعدالة لوجوب القضاء بها وتأثير العدد فوق تأثير العدالة .
( ألا ترى ) أن قضاء القاضي بشهادة الواحد لا ينفذ وبشهادة الفاسقين ينفذ وإن كان مخالفا للسنة ثم إذا وجدت العدالة ههنا بدون العدد يثبت الحجر بالخبر فكذلك إذا وجد العدد دون العدالة وهذا لأن طمأنينة القلب تزداد بالعدد كما تزداد بالعدالة .
ويختلفون على قول أبي حنيفة في الذمي أسلم في دار الحرب إذا أخبره فاسق بوجوب الصلاة عليه هل يلزمه القضاء باعتبار خبره فمنهم من يقول ينبغي أن لا يجب القضاء عندهم جميعا لأن هذا من إخبار الدين والعدالة شرط بالاتفاق وأكثرهم على أنه على الخلاف كما في الحجر والعزل قال - Bه .
والأصح عندي أنه يلزمه القضاء ههنا لأن من أخبره فهو رسول رسول الله بالتبليغ قال عليه السلام : ( نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها ) وقد بينا في خبر الرسول أنه بمنزلة خبر المرسل ولا يعتبر في الإلزام أن يكون المرسل عدلا فكذلك ههنا ولا يدخل على هذا رواية الفاسق الإخبار لأن هناك لا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره وبذلك يتبين كون المخبر به حقا وههنا نحن نعلم أن ما أخبره به حق فيثبت حكمه في حق من أخبره الفاسق به حتى يلزم القضاء فيما يتركه بعد ذلك .
وإذا أبق العبد المأذون له في التجارة فإباقه حجر عليه .
وقال زفر - C - : لا يصير محجورا عليه بالإباق لأن صحة الإذن باعتبار ملك المولى وقيام رأيه ولم يختل ذلك بإباقه والدليل عليه أن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن فإن المحجور عليه إذا أبق فأذن له المولى في التجارة وعلم به العبد كان مأذونا وما لا يمنع ابتداء الإذن لا يمنع بقاءه بطريق الأولى .
ولكنا نقول : لما جعل دلالة الإذن كالتصريح به فكذلك دلالة الحجر كالتصريح بالحجر وقد وجدت دلالة الحجر بعد إباقه لأن الظاهر أن المولى إنما يرضى بتصرفه ما بقي تحت طاعته ولا يرضى بتصرفه بعد تمرده وإباقه ولهذا صح ابتداء الإذن بعد الإباق لأنه يسقط اعتبار الدلالة عند التصريح بخلافه .
يوضحه : أن حكم الإذن رضا المولى بتعلق الدين بمالية رقبته وقد توت المالية فيه بالاتفاق ولهذا لا يجوز فيه شيء من التصرفات التي تنبني على ملك المالية فكان هذا وزوال ملك المولى عنه في المعنى سواء .
يوضحه : أن المولى لو تمكن منه أوجعه عقوبة جزاء على فعله وحجر عليه فإذا لم يتمكن منه جعله الشرع محجورا عليه كالمرتد اللاحق بدار الحرب لو تمكن منه القاضي موته حقيقة بالقتل ويقسم ماله بين ورثته فإذا لم يتمكن من ذلك جعله الشرع كالميت حتى يقسم القاضي ماله بين ورثته .
فإن بايعه رجل بعد الإباق ثم اختلفا فقال المولى كان آبقا وقال من بايعه لم يكن آبقا لم يصدق المولى على إباقه إلا ببينة لأن كونه مأذونا معلوم وسبب الحجر الطارئ عليه متنازع فيه فالقول قول من ينكره .
( ألا ترى ) أن المولى لو ادعى أنه كان حجر عليه أو كان باعه من إنسان قبل مبايعة العبد مع هذا الرجل لا يصدق في ذلك إلا ببينة فكذلك إذا ادعى أنه كان آبقا أقام البينة على ذلك فقد أثبت الحجر العارض بالحجة .
وإن أقام المولى البينة أنه أبق منه إلى موضع كذا وأقام الذي بايع العبد البينة أن المولى أرسله إلى ذلك الموضع يشتري فيه ويبيع فالبينة بينة الذي بايع العبد أيضا لأنه يثبت ارسال المولى إياه وإذنه في الذهاب إلى ذلك الموضع وبينة المولى تنفي ذلك وفيما هو المقصود وهو تعلق الدين بمالية رقبته من بائع العبد يثبت لذلك بالبينة والمولى ينفي فكان المثبت أولى فإن ارتد العبد المأذون ثم تصرف .
فإن قتل على ردته أو مات بطل جميع ما صنع في قول أبي حنيفة - C - وإن أسلم جاز جميع ذلك .
وفي قول أبي يوسف ومحمد جميع ذلك جائز إن أسلم أو قتل على ردته لأن انفكاك الحجر عنه بالإذن كانفكاك الحجر عنه بالعتق ومن أصل أبي حنيفة أن تصرف المرتد لنفسه يوقف إذا كان حرا فكذلك إذا كان عبدا .
وإن كانت أمة جاز جميع ما صنعت في ردتها إن أسلمت أو لم تسلم بمنزلة الحرة المرتدة وهذا لأن الرجل يقتل بالردة حرا كان أو عبدا فكما يوقف نفسه يوقف تصرفه في كسبه والمرأة لا تقتل فلا يوقف تصرفها في كسبها كما لا توقف نفسها ثم المرتد هالك حكما لاستحقاق تله بسبب الردة والموت حقيقة يوجب الحجر عليه فكذلك إذا توقف حكم نفسه بالردة بتوقف حكم الحجر عليه أبدا وبه فارق المكاتب فإن تصرفه في كسبه بعد ردته نافذ لأن انفكاك الحجر عنه من حكم الكتابة وموته حقيقة لا ينافي بقاء الكتابة فإن المكاتب إذا مات عن وفاء أو عن ولد يسعى في بقية الكتابة فكذلك استحقاق نفسه بالردة لا يمنع بقاء الكتابة فلهذا ينفذ تصرفه بخلاف العبد .
وإذا أسر العدو عبدا مأذونا له وأحرزوه في دارهم فقد صار محجورا عليه لزوال ملك المولى عنه وثبوت ملكهم فيه بالإحراز فإن انفلت منهم أو أخذه المسلمون فردوه على صاحبه لم يعد مأذونا إلا بإذن جديد لأن الإذن بطل لفوات محل حكمه والإذن بعد بطل لا يعود إلا بالتجديد وإن كان أهل الحرب لم يحرزوه في دارهم حتى انفلت منهم فأخذه المسلمون فردوه على صاحبه فهو على إذنه لأنه بمنزلة المغصوب في يدهم ما لم يحرزوه والغصب لا يزيل ملك المولى ولا يوجب الحجر على المأذون .
( ألا ترى ) أن المولى لو أعتقه قبل أن يحرزوه نفذ عتقه بخلاف ما بعد الإحراز .
وإذا باع المولى عبده المأذون له بيعا فاسدا بخمر أو خنزير وسلمه إلى المشتري فباع واشترى في يده ثم رده إلى البائع فهو محجور عليه لأن المشتري قد ملكه بالقبض مع فساد البيع وذلك موجب للحجر عليه .
وكذلك لو قبضه المشتري بأمر البائع بحضرته أو بغير حضرته أو قبضه بحضرة البائع بغير أمره .
ولو قبضه بغير أمره بعد ما تفرقا لم يصر محجورا عليه لأن القبض في البيع الفاسد بمنزلة القبول في البيع الصحيح فكما أن إيجاب البيع يكون رضي بقبول المشتري في المجلس لا بعده فكذلك البيع الفاسد يكون رضي من البائع بقبضه في المجلس لا بعده فإذا قبضه بعد الافتراق لم يملكه لأنه قبضه بغير تسليط من البائع فلا يصير محجورا عليه وفي المجلس إنما يقبضه بتسليط البائع إياه على ذلك فيملكه ويصير محجورا عليه فأما إذا أمره بالقبض نصا فهذا أمر مطلق يتناول المجلس وما بعده فمتى قبضه كان قبضه بتسليط البائع فيملكه ويصير محجورا عليه .
ولو كان البيع بميتة أو دم لم يصر محجورا عليه في جميع هذه الوجوه فإن البيع بالميتة لا يكون منعقدا ولا يوجب الملك للمشتري وإن قبضه كان العبد على إذنه في يد المشتري ينفذ تصرفه .
وإن كان المشتري ضامنا له في إحدى الروايتين كما لو غصبه غاصب ولو كان باعه بيعا صحيحا كان محجورا عليه قبضه المشتري أو لم يقبضه لأن الملك يثبت للمشتري بنفس العقد ههنا .
وكذلك إن كان المشتري منه بالخيار ثلاثة أيام : .
أما عندهما : فلأن المشتري ملكه مع ثبوت الخيار له .
وعند أبي حنيفة : فلأن زواله عن ملك البائع قد تم ولذلك يفوت محل حكم الإذن وإن كان الخيار للبائع لم يكن ذلك حجرا إلا أن يتم البيع فيه لأن خيار البائع يمنع زوال ملكه وما بقي الملك للبائع فيه يبقى محل حكم الإذن .
ولو لم يبعه المولى ولكنه وهبه فالهبة الصحيحة في حكم الملك نظير البيع الفاسد من حيث أن الملك يتأخر إلى وجود القبض لضعف السبب وقد بينا تفصيل حكم القبض في البيع الفاسد ففي الهبة الصحيحة الجواب كذلك .
وإذا غصب عبدا محجورا عليه وطلبه صاحبه فجحده الغاصب وحلف ولم يكن لصاحبه بينة ثم أذن له الغاصب في التجارة فباع واشترى والمغصوب منه يراه فلم ينهه ثم أقام رب العبد البينة أن العبد عبده فقضى له به فإن القاضي يبطل جميع ما باع واشتري لأنه تبين أن الآذن له كان غاصبا وإذن الغاصب لا يوجب انفكاك الحجر عنه ولا يسقط حق المولى عن مالية الرقبة .
وفي القياس : سكوت المولى عن النهي كالتصريح بالإذن ولو صرح بالإذن له في التجارة جاز ذلك لقيام ملكه .
وإن كان الغاصب جاحدا له ولكنه ترك هذا القياس فقال السكوت عن النهي مع التمكين من النهي دليل الرضا فأما بدون التمكن من النهي فلا يكون دليل الرضى .
( ألا ترى ) أن سكوت الشفيع عند عدم التمكن من الطلب لا يكون مسقطا لحقه وسكوت البكر كذلك وهو لم يكن متمكنا من النهي ههنا لأنه ما كان يلتفت إلى نهيه لو نهاه عن التصرف بل يستخف به فلصيانة نفسه سكت عن النهي .
( ألا ترى ) أن العبد لو ادعي أنه حر فجعل القاضي القول قوله فاشترى وباع والمولى ينظر إليه ولا ينهاه ثم أقام البينة أنه عبده لم يجز شراؤه ولا بيعه لأن سكوته عن النهي كان لصيانة نفسه .
وإذا دبر عبده المأذون فهو على إذنه لأن التدبير لا يمنع صحة الإذن ابتداء فلا يمنع بقاءه بطريق الأولى وهذا لأن بالتدبير يثبت للمدبر حق العتق وحق العتق إن كان لا يزيد في انفكاك الحجر عنه فلا يؤثر في الحجر عليه .
ولو كانت أمة فاستولدها المولى لم يكن ذلك حجرا عليها في القياس وهذا قول زفر - C - لما بينا في التدبير .
ولكنه استحسن فقال : استيلاد المولى حجر عليها لأن العادة الظاهرة أن الإنسان يحصن أم ولده ولا يرضى بخروجها واختلاطها بالناس في المعاملة والتجارة وهذا لأنها تصير فراشا له فلا يأمن من أن يلحق به نسبا ليس منه ودليل الحجر كصريح الحجر ولا توجد مثل هذه العادة في المدبر وهذا بخلاف ما إذا أذن لأم ولده في التجارة لأنه صرح هناك بخلاف المعتاد وإنما تعتبر العادة عند عدم التصريح بخلافها فأما مع التصريح بخلاف العادة فلا كتقديم المائدة بين يدي إنسان يجعل إذنا في التناول بطريق العرف .
فإن قال : لا تأكل لم يكن ذلك إذنا وإذا أذن العبد التاجر لعبده في التجارة فباع واشترى فلحقه دين ثم أن المولى حجر على عبده الأول في أهل سوقه بحضرته والعبد الآخر يعلم بذلك أو لا يعلم فإن كان على الأول دين فحجره عليه حجر عليهما جميعا .
وإن لم يكن عليه دين لم يكن حجره عليه حجرا على الباقي لأنه إذا لم يكن على الأول دين فالعبد الثاني خالص ملك المولى وهو يملك الإذن له في التجارة ابتداء فجعل الثاني مأذونا من جهة المولى لا باعتبار العبد كان نائبا عنه في الإذن ولكن باعتبار أن تخصيص المولى الأول بالحجر عليه دليل الرضى منه بتصرف الثاني وهذا الرضا يثبت الإذن من جهته ابتداء فكذلك يبقى .
وأما إذا كان على الأول دين فالمولى لا يملك الإذن للثاني لأنه تصرف منه في كسب عبده المستغرق بالدين فلا يمكن أن يجعل الثاني مأذونا من جهة المولى إنما كان مأذونا من جهة الأول بالحجر عليه وقد انقطع رأيه فيه وإنما كان الثاني مأذونا من جهته دون المولى وإن لم يكن عليه دين فالثاني على إذنه لأنه مأذون من جهة المولى والمولى باق على حاله .
وإن مات المولى كان حجرا عليهما جميعا كان على الأول دين أو لم يكن لأنه إن لم يكن عليه دين فالثاني كان مأذونا من جهة الأول وقد صار الأول محجورا عليه بموت المولى فكذلك الثاني .
وإذا أذن المكاتب لعبده في التجارة ثم عجز وعليه دين أو ليس عليه دين فهو حجر على العبد لأن الإذن للعبد كان من قبل المكاتب فإن المولى من كسب المكاتب أبعد منه من كسب المأذون المديون وقد بينا هناك أن عبده يكون مأذونا من جهة المولى فهنا أولى .
وكذلك إن مات المكاتب عن وفاء أو عن غير وفاء أو عن ولد مولود في الكتابة لأنه إن مات عن غير وفاء فقد مات عاجزا وعجزه في حياته يكون حجرا على عبده فموته عاجزا أولى وإن مات عن وفاء فهو كالحر وموت الحر حجر على عبده بانقطاع رأيه فيه .
فإن أذن الولد للعبد بعد موت المكاتب في التجارة لم يجز إذنه لأن كسب المكاتب مشغول بدينه فلا يصير شيء منه ميراثا للولد مع قيام دينه وكما لا ينفذ منه سائر التصرفات فيه فكذلك الإذن .
وكذلك الحر إذا مات وعليه دين وله عبد فأذن له وارثه في التجارة فإذنه باطل لأن الوارث لا يملك التركة المستغرقة بالدين ولا ينفذ شيء من تصرفاته فيها ما لم يسقط الدين كما لا ينفذ تصرفه في حال حياة مورثه .
فإن قضى الوارث الدين من ماله لم ينفذ اذنه أيضا لأنه غير متبرع فيما قضى من الدين وإنما قصد به استخلاص التركة فيستوجب الرجوع بما أدى ويقوم دينه مقام دين الغريم فلا ينفذ إذنه لبقاء المانع .
فإن أبرأ أباه من المال الذي قضى عنه بعد إذنه للعبد نفذ إذنه وجاز ما اشترى قبل قضاء الدين وبعده لأن المانع زال حين سقط دينه بالإبراء وصار هو ملكا للتركة من وقت الموت .
( ألا ترى ) أنه ينفذ سائر تصرفاته في العبد فكذلك إذنه له في التجارة .
ولو لم يكن على الميت دين وكان الدين على العبد فإن أذن الوارث له في التجارة جاز لأن دين العبد لا يملك ملك الوارث في التركة فإنه مع تعلقه في مالية رقبته ما كان يمنع ملك المولى في حياته فكذلك لا يمنع ملك وارثه بخلاف دين المولى فإنه في حياته كان في ذمته وإنما يتعلق بالتركة بموته وحق الغريم مقدم على حق الوارث .
وكذلك ابن المكاتب لو أذن للعبد الذي تركه أبوه في التجارة ثم استقرض مالا من إنسان فقضى به الكتابة لم يكن إذنه له في التجارة صحيحا لأنه يستوجب الرجوع بما أدى ليقضي به ما عليه من الدين فقيام دينه بمنزلة قيام دين المولى في أنه يمنع ملكه فلهذا لا ينفذ إذنه .
ولو وهب رجل لابن المكاتب مالا فقضى به الكتابة جاز إذنه للعبد في التجارة لأن ما وهب له بمنزلة سائر أكسابه والمكاتب أحق بإكساب ولده المولود في الكتابة ليقضي به مال الكتابة فكان قضاء بدل الكتابة من هذا الكسب كقضائه من شيء آخر للمكاتب ولا يستوجب الولد الرجوع عليه بذلك فتبين به زوال المانع من صحة إذنه .
وإذا أذن الرجل لعبده في التجارة ثم جن المولى فإن كان جنونه مطبقا دائما فهو حجر على العبد لأن المولى صار مولى عليه في التصرف وانقطع رأيه بما أعرض فكان ذلك حجرا عليه وإن كان غير مطبق فالعبد على إذنه لأن المولى لم يصر مولى عليه بهذا القدر من الجنون فهو بمنزلة الإغماء والمرض فلا يوجب الحجر على العبد لبقاء ملك المولى وبقاء ولايته والفرق بين المطبق من الجنون وغير المطبق بيناه في الوكالة .
ولو ارتد المولى ثم باع العبد واشترى فإن قتل أو مات أو لحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه فجميع ما صنع العبد بعد ردة المولى باطل وإن أسلم قبل أن يلحق بها أو بعد ما لحق بها قبل قضاء القاضي ورجع فذلك كله جائز في قول أبي حنيفة .
وقال أبو يوسف ومحمد جميع ذلك جائز إلا ما صنع العبد بعد لحاق المولى بدار الحرب فإن ذلك يبطل إذا لم يرجع حتى يقضي القاضي بلحاقه وإن رجع قبل ذلك جاز وهذا لأن استدامة الإذن بعد الردة كإنشائه وتصرف المأذون معتبر بتصرف الآذن .
ومن أصل أبي حنيفة - C - أن تصرفات المرتد توقف لتوقف نفسه ويوقف ماله على حق ورثته فكذلك تصرف المأذون من جهته وعندهما تصرف المرتد قبل لحاقه بدار الحرب نافذ وبعد لحاقه يتوقف بين أن يبطل القضاء القاضي بلحاقه وكون المال لوارثه من حين لحقه بدار الحرب وبين أن ينفذ برجوعه مسلما فكذلك تصرف المأذون من جهته .
ولو كان المولى امرأة فارتدت ثم صنع العبد شيئا من ذلك فهو جائز لأن ابتداء الإذن منها صحيح بعد ردتها ولأن تصرف المأذون كتصرف الآذن وتصرفها بعد الردة نافذ كما كان قبله فإن نفسها لم تتوقف بالردة .
ولو لحقت بدار الحرب ثم باع العبد أو اشترى فإن رجعت قبل أن يقضي بلحاقها فذلك جائز وإن لم ترجع حتى قضى القاضي بلحاقها وقسم ميراثها وأبطل ما صنع العبد من ذلك ثم رجعت مسلمة لم يجز للعبد ما صنع بعد لحاقها بدار الحرب لأن نفسها باللحاق بدار الحرب توقفت على أن تسلم لها بالإسلام أو يفوت عليها بالاسترقاق فيتوقف تصرفها أيضا وكما يتوقف تصرفها يتوقف تصرف المأذون من جهتها ولأن القاضي إذا قضى بلحاقها جعل المال لوارثها من وقت لحاقها بدار الحرب كما في حق الرجل ولهذا يعتبر من يكون وارثا لها وقت اللحاق بدار الحرب فتبين أن ملكها زال من ذلك الوقت وذلك مبطل لتصرفات العبد وكما أن إذن أحد الشريكين في المفاوضة والعنان للعبد المشترك في التجارة يجعل كإذنهما فكذلك حجر أحدهما عليه كحجرهما لأن كلاهما من التجارة وكل واحد منهما نائب عن صاحبه في التصرف في المال المشترك بطريق التجارة .
وإذا أذن المضارب لعبد من المضاربة في التجارة فهو جائز على رب المال .
وفي رواية هشام عن محمد - رحمهما الله - لا يجوز لأن الإذن أعم من المضاربة فإنه فك للحجر ولا يستفاد بالشيء ما هو فوقه وفي ظاهر الرواية قال المضارب مفوض إليه وجوه التجارة في مال المضاربة والإذن في التجارة من التجارة فإن حجر عليه رب المال محجره باطل لأن المضارب أحق به حتى يبيعه فيوفي رأس المال .
( ألا ترى ) أن رب المال لو نهى المضارب لم يعتبر نهيه ونفسه أقرب إلى رب المال من كسبه فإذا كان لا يعمل نهيه منه في منع المضارب عن التصرف في نفسه فلأن لا يعمل نهيه في منع المأذون من جهته عن التصرف في كسبه كان أولى .
وإذا اشترى العبد المأذون عبدا فأذن له في التجارة فحجر المولى على العبد الآخر فحجره باطل كان على الأول دين أو لم يكن لأن هذا حجر خاص في إذن عام وهو باطل .
( ألا ترى ) أنه عند ابتداء الإذن لو قال لا تأذن لعبدك في التجارة لم يعتبر نهيه وكذلك بعد الإذن لو نهاه عن بيع هذا العبد لا يعمل نهيه .
وكذلك لو كان العبد الأول أمر رجلا ببيع عبده فنهاه المولى كان نهيه باطلا فكذلك إذا حجر عليه .
ولو كان المولى حجر على العبد الآخر وقبضه من الأول فإن كان على العبد الأول دين فهذا والأول سواء لأن قبض المولى إياه من الأول باطل ولا يخرج به الثاني من أن يكون كسبا للأول فإن حق غرماء الأول فيه مقدم على حق المولى .
فأما إذا لم يكن على الأول دين فقبض المولى العبد الآخر وحجر عليه جاز لأن كسب الأول خالص حق المولى فبقبضه منه يخرج من أن يكون كسبا للأول وصار الأول بحيث لا يملك التصرف فيه بعد ذلك حتى لو باع لم يجر بيعه فلهذا صار محجورا عليه بحجر المولى .
وإذا دفع المولى إلى عبده المأذون مالا وأمره أن يشتري به عبدا ويأذن له في التجارة ففعل ثم حجر المولى على المولى وعليه دين أو لا دين عليه فليس ذلك بحجر على الآخر لأن الأول في شراء الثاني والإذن له في التجارة نائب عن المولى حتى إذا لحقه عهدة يرجع به على المولى ولا يثبت فيه حق غرمائه فيكون الثاني مأذونا من جهة المولى فلا يصير الثاني محجورا عليه بحجر المولى على الأول .
وإن حجر المولى على الآخر كان حجره عليه جائزا على كل حال لأنه كان مأذونا من جهة المولى كالأول وحجر الأب أو وصيه على الصبي الحر المأذون له في التجارة مثل الحجر على العبد لأنه من جهة المولى كالأول وحجر الأب أو وصيه على الصبي الحر استفاد الإذن من جهته وولايته قائمة عليه بعد الإذن فكما ملك الإذن بولايته يملك الحجر وهذا لأنه قد يؤنس منه رشدا فيأذن له في التصرف ثم يتبين له أن الحجر عليه أنفع فيحجر عليه ولأن الابتداء بهذا يحصل أن يأذن له تارة ويحجر عليه تارة حتى تتم هدايته في التصرفات وكذلك حجر القاضي عليه لأن الولاية ثابتة له حسب ما كان للأب أو للوصي .
وكذلك حجر هؤلاء على عبد الصبي بعد ما أذنوا له في التجارة لأنهم بالولاية على الصبي قاموا مقامه في التصرف في ماله فيما يرجع إلى النظر والحجر من باب النظر كالإذن فكما صح منهم الإذن لعبده في التجارة يصح الحجر وموت الأب أو الوصي حجر على الصبي وعلى عبده لأن تصرفهما كان باعتبار رأيه على ما بينا أن توفر النظر بانضمام رأي الأب والوصي إلى رأي الصبي وقد انقطع رأيهما بموتهما فيكون ذلك حجرا على الصبي .
وكذلك عبد الصبي إنما كان يتصرف برأي الأب والوصي وقيام ولايتهما عليه وقد انقطع ذلك بموتهما وكذلك جنونهما جنونا مطبقا فإنه كالموت في قطع ولايتهما عنه وفوات رأيهما في النظر له .
وكذلك عزل القاضي الوصي عن الوصية فإن ذلك يزيل ولايته ويقطع تدبيره في النظر له فيكون حجرا على من كان يتصرف باعتبار رأيه وهو الصبي أو عبده .
ولو كان القاضي أذن للصبي أو المعتوه في التجارة ثم عزل القاضي كان الصبي والمعتوه على إذنهما لأن إذن القاضي يكون قضاء منه فإنه ليس له ولاية غير ولاية القاضي وبعزل القاضي لا يبطل شيء من قضاياه ولأنه كالنائب عن المسلمين في النظر لهذا الصبي والتصرف في ماله بالإذن وغيره لعجز المسلمين عن الاجتماع على ذلك وبعد ما عزل القاضي لم يتبدل حال عامة المسلمين في الولاية ولهذا لم ينعزل وصيه وقيمه