( قال - C - ) قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة فخر الإسلام أبو بكر محمد ابن أبي سهل السرخسي - C - : .
أعلم بأن الإذن في التجارة فك الحجر الثابت بالرق شرعا ورفع المانع من التصرف حكما وإثبات اليد للعبد في كسبه بمنزلة الكتابة إلا أن الكتابة لازمة لأنها بعوض والإذن لا يكون لازما فحلوه عن العوض بمنزلة الملك المستفاد بالهبة مع المستفاد بالبيع وهذا لأنه أهل للتصرف بعد حدوث الرق فيه كما كان قبله لأن ركن التصرف كلام معتبر شرعا وذلك يتحقق من الرقيق واعتبار الكلام بكونه صادرا عن مميز أو مخاطب ولا ينعدم ذلك بالرق ومحل التصرفات ذمة صالحة لالتزام الحقوق ولا ينعدم ذلك بالرق فإن صلاحية الذمة للالتزام من كرامات البشر وبالرق لا يخرج من أن يكون من البشر إلا أن الذمة تضعف بالرق فلا يجب المال فيها إلا شاغلا مالية الرقبة وذلك يسقط بوجود الرضا منه لتعلق الحق بمالية رقبته فكان الإذن فكا للحجر من هذا الوجه وهو نظير ملك الحل فإنه من كرامات البشر فلا ينعدم بالرق وإن كان ينتقص حتى أن الحل في حق الرقيق نصف ما هو في حق الحر بيناه في كتاب النكاح وإنما ينعدم بالرق الأهلية لمالكية المال لأنه يصير به مملوكا مالا وبين كونه مملوكا مالا وكونه مالكا للمال منافاة لا ولهذا ينعدم بالرق الأهلية للمالكية بالنكاح لأنه لا يصير به مملوكا نكاحا .
فإن قيل : ينبغي أن ينعدم بالرق الأهلية لملك التصرف لأنه صار مملوكا تصرفا فإن المولى يملك التصرفات عليه .
قلنا : إنما يصير مملوكا تصرفا بنفسه بيعا أو تزويجا فلا جرم تنعدم الأهلية لمالكية هذا التصرف ويكون نائبا فيه عن المولى متى باشر بأمره ولكنه ما صار مملوكا تصرفا في ذمته حتى أن المولى لا يملك الشراء بثمن يجب في ذمة عبده ابتداء فتبقى له الأهلية في ملك هذا التصرف كما أنه لم يصر مملوكا تصرفه عليه في الإقرار والحدود والقصاص بقي مالكا لهذا التصرف .
فإن قيل : انعدام الأهلية لخروجه بالرق من أن يكون أهلا لحكم التصرف وهو الملك المستفاد والتصرفات الشرعية لا تراد لعينها بل لحكمها وهو ليس بأهل لذلك .
قلنا : لا كذلك وحكم التصرف ملك اليد والرقيق أهل لذلك .
( ألا ترى ) أن استحقاق ملك اليد يثبت للمكاتب مع قيام الرق فيه وهذا لأنه مع الرق أهل للحاجة فيكون أهلا لقضائها وأدنى طريق الحاجة ملك اليد فهو الحكم الأصلي للتصرف وملك العتق مشروع للتوصل إليه فما هو الحكم الأصلي يثبت للعبد وما وراء ذلك يخلفه المولى فيه وهو نظير من اشترى شيئا على أن البائع بالخيار ثم مات فمتى اختار البائع البيع ثبت ملك العين للوارث على سبيل الخلافة عن المورث بتصرف باشره المورث بنفسه .
ثم الدليل على جواز الإذن للعبد في التجارة شرعا الآثار التي بدأ بها الكتاب فمن ذلك حديث إبراهيم أن رسول الله - A - ( كان يركب الحمار ويجيب دعوة المملوك ) وفيه دليل تواضع رسول الله - A - فإن ركوب الحمار من التواضع وقد كان يعتاده رسول الله - A - ( حتى روي أنه ركب الحمار معروريا وروي أنه ركب الحمار وأردف ) وذلك من التواضع قال عليه السلام : ( برئ من الكبر من ركب الحمار وسعى في مهنة أهله ) .
وفي لسان الناس ركوب الفرس عز وركوب الجمال كمال وركوب البغل مكرمة وركوب الحمار ذل ولا ذل كالترجل وكذلك إجابة دعوة المملوك من التواضع وقد فعله غير مرة على ما روي ( عن رسول الله - A - أنه أجاب دعوة عبد ) . وروى أنه كان يجيب دعوة الرجل الدون يعني المملوك والمملوك لا يتمكن من إيجاد الدعوة ما لم يكن له كسب وطريق الاكتساب التجارة وليس له أن يباشرها بدون إذن المولى .
فثبت بهذا الحديث جواز الإذن في التجارة وأن ما يكسبه العبد بعد الإذن حلال وأنه لا بأس للعبد المأذون بأن يتخذ الدعوة بعد أن لا يسرف في ذلك ولا بأس بإجابة دعوته اقتداء برسول الله - A - فإنه كان يجيب الدعوة وكان يقول : ( من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم ) .
وعن إبراهيم أنه كان يقول يجوز على العبد كل دين حتى يحجر عليه وكان يقول : ( إذا حجر الرجل على عبده في أهل سوقه فليس عليه دين ) ومعناه يلزمه كل دين يكتسب سبب وجوبه مما هو من صنيع التجار كالإقرار والاستئجار والشراء لأنه منفك الحجر عنه في التجارة فهو من التزام الدين بسببه كالحر .
وإذا حجر المولى عليه في أهل سوقه فليس عليه دين أي لا يلزمه الدين بمباشرة هذه الأسباب بعد الحجر في حق المولى ليس المراد أنه يسقط عنه وإنما لا يثبت في حق المولى لانعدام الرضا منه باستحقاق مالية رقبته بالدين بعد الحجر ولا يجب الدين في ذمته إلا شاغلا لمالية الرقبة فإذا كان لا يستحق مالية رقبته به بعد الحجر فكأنه لا دين عليه وفيه دليل أن الحجر ينبغي أن يكون عاما منتشرا وأن الانتشار فيه بكونه في أهل سوقه فإنه رفع الإذن الذي هو عام منتشر وفي تصحيحه بدون الانتشار معنى الإضرار والغرور كما نبينه إن شاء الله تعالى .
وعن أبي صالح قال : ( رأيت للعباس بن عبد المطلب عشرين عبدا كلهم يتجر بعشرة آلاف درهم ) ففيه دليل جواز الإذن وأنه لا بأس باكتساب الغنى والاستكثار من المال بعد أن يكون من حله كما قال النبي عليه السلام : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) وفي هذا الحديث دليل ظاهر على غنى العباس فإن من كان له عشرون عبدا رأس مال كل عبد عشرة آلاف فلا بد أن يكون ذلك من أموال التجارة وغيرها وكان سبب ثروته أنه أخذ منه دنانير في الفداء حين أسر فلما أسلم ويحسن إسلامه كان يتأسف على ذلك فأنزل الله تعالى : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم } ( الأنفال : 70 ) و ( كان العباس - Bه - يظهر السرور بغناه ويقول إن الله تعالى وعدني بشيئين الغنى في الدنيا والمغفرة في الآخرة وقد أنجز لي أحدهما وأنا أعلم أنه لا يحرمني من الآخرى إنه لا يخلف الميعاد ) .
وعن الشعبي قال : إذا أخذ الرجل من عبده الضريبة فهي تجارة وبه نأخذ فإن المولى استأدى عبده الضريبة فذلك إذن منه له في التجارة لأنه لا يتمكن من الأداء إلا بتحصيل المال ولتحصله طريقان التكدي والتجارة والظاهر أن المولى لا يقصد تحصيله المال بالتكدي فالسؤال يدني المرء ويبخسه قال عليه السلام : ( السؤال آخر كسب العبد ) أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة وإنما مراده الاكتساب بطريق التجارة ورضاه بالتجارة يتضمن الرضا منه بتعلق الدين الواجب بالتجارة بمالية رقبته ففيه دليل أن الإذن في التجارة ثبت بالدلالة كما ثبتت نصا وعن شريح في عبد تاجر لحقه دين أنه يباع فيه وبه نأخذ فإن كل دين ظهر وجوبه على العبد في حق المولى يباع فيه كدين الاستهلاك فإنه يظهر في حق المولى لأن سببه محسوس لا ينعدم بالحجر بسبب الرق فكذلك دين التجارة بعد الإذن يظهر في حق المولى فيباع فيه وفي الحديث ( أن النبي - A - باع رجلا في دينه يقال له سرف ) فحين كان بيع الحر جائزا باع الحر في دينه وبيع العبد جائز في الحال فيباع في كل دين يظهر وجوبه في حق المولى . وعن ابن سيرين أن رجلا ادعى على عبد رجل دينا فقال الرجل عبدي محجور عليه وقال شريح شاهدا عدل أنه كان يشتري في السوق ويبيع بعلمه أو يأمره ففيه دليل أن المولى إذا أنكر الإذن كان القول قوله وعلى من يدعي عليه الإذن أن يثبته بالبينة لأنه يدعي عليه أنه أسقط حقه عن مالية الرقبة .
وفيه دليل أن الإذن يثبته بالدلالة وأن من رأى عبده يبيع ويشتري فلم ينهه فإنه يصير به مأذونا بمنزلة التصريح بالإذن له في التجارة وذلك استحسان عندنا لدفع الضرر والغرور عن الناس .
وعن أبي عون الثقفي أن رجلا أذن لعبده أن يكون خياطا وأذن آخر لعبده أن يكون صباغا فأجاز شريح على الخياط ثمن الإبر والخيوط وأجاز على الصباغ ثمن الغلي والعصفر وما كان في عمله .
وفيه دليل أن مبنى الإذن على التعدي والانتشار وأن المولى وإن خص نوعا منه فإنه يتعدى إلى سائر الأنواع لاتصال بعض الأنواع بالبعض فيما يرجع إلى تحصيل مقصود المولى فإن الصباغ لا يتمكن من العمل إلا بشراء الصبغ والخياط لا يتمكن من العمل إلا بشراء السلك والإبرة والخيوط ثم قد لا يجد ما يحتاج إليه يباع بالنقد ليشتريه وإنما يباع ذلك بالطعام فيحتاج أن يشتري طعاما ليعطيه في ثمن ذلك وربما يشتري ذلك بالدنانير فيحتاج إلى مصارفة الدراهم بالدنانير ليحصل الثمن فعرفنا أن مبناه على التعدي والانتشار فيتعدى الإذن في نوع إلى سائر الأنواع .
وابن أبي ليلى - C - كان يأخذ بظاهر هذا الحديث فيقول يجوز عليه ما كان من توابع عمله خاصة .
وعندنا يجوز عليه ما كان من توابع عمله وما استدار في غيره على ما نبينه وعن ( ابن عباس - Bهما - قال : حدثني سلمان - Bه - أنه أهدى إلى رسول الله - A - وهو عبد قبل أن يكاتب فقبل رسول الله - A - هديته فأكل وأكل أصحابه وأتاه بصدقة فقبلها وأمر أصحابه فأكلوا ولم يأكل ) .
( قال الشيخ ) الإمام - Bه - واعلم ( أن سلمان كان من قوم يعبدون الخيل البلق فوقع عنده أنه ليس على شيء وجعل يتنقل من دين إلى دين يطلب الحق حتى قال له بعض أصحاب الصوامع لعلك تطلب الحنيفية وقد قرب أوانها وعليك بيثرب ومن علامته أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فتوجه نحو المدينة فاسترقه بعض العرب في الطريق وجاء به إلى المدينة فباعه من بعض اليهود وكان يعمل في نخيل مولاه بإذنه حتى هاجر رسول الله - A - إلى المدينة فأتاه سلمان بطبق فوضعه بين يديه فقال ما هذا يا سلمان فقال : صدقة فقال لأصحابه : كلوا ولم يأكل فقال سلمان في نفسه : هذه واحدة ثم أتاه من الغد بطبق فيه رطب فقال : ما هذا يا سلمان قال : هدية فجعل يأكل ويقول لأصحابه : كلوا فقال سلمان : هذه أخرى ثم تحول خلفه فعرف رسول الله - A - مراده فألقى الرداء عن كتفيه حتى نظر سلمان - Bه - إلى خاتم النبوة بين كتفيه فأسلم ) وفيه دليل أن للعبد المأذون أن يهدى فقد قبل رسول الله - A - هديته ولأجل هذا أورد هذا الحديث وذكر ( عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال : بنيت بأهلي وأنا عبد فدعوت رهطا من أصحاب رسول الله - A - فيهم أبو ذر فحضرت الصلاة فتقدم أبو ذر فقالوا له : أتتقدم وأنت في بيته فقدموني وصليت بهم ) وفيه دليل أن للعبد المأذون أن يتخذ الدعوة في العرس كما يتخذ الدعوة للمجاهدين إذا أتوه بتجارة فإن الصحابة - Bهم - أجابوا دعوته وأبو ذر مع زهده أجاب دعوته وهو عبد وفيه دليل أنه لا ينبغي للمرء أن يؤم غيره في بيته إلا بإذنه فإنهم أنكروا على أبي ذر التقدم عليه في بيته وبيانه في قوله - A - : ( لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ) وفيه دليل جواز الاقتداء بالعبد وأنه متى كان فقيها ورعا فلا بأس بإمامته .
( ألا ترى ) أن أبا ذر - Bه - مع زهده قدمه واقتدى به لفقهه وورعه . وإذا قال الرجل لعبده قد أذنت لك في التجارة فهو مأذون له في التجارات كلها لا طلاق الإذن من المولى فلا حاجة في تصحيح الإذن إلى التنصيص على أنواع التجارة لأنه فك للحجر كالكتابة ولأن المقصود به المولى عادة أن يحصل العبد الربح بكسبه واعتبار إذنه شرعا ليتحقق به الرضا من المولى لتعلق الدين الواجب بالتجارة بمالية رقبته وهذا لا يختلف باختلاف أنواع التجارات واشتراط مالا يفيد لا يجوز بخلاف التوكيل فالمقصود هناك قيام الوكيل مقام الموكل في تحصيل مقصوده في العين التي يشتريها ولا يقدر الوكيل على تحصيل ذلك بمطلق التوكيل قبل التنصيص على جنس ما يشتريه له .
ثم للعبد أن يشتري ما بداله من أنواع التجارات لأنه صار منفك الحجر عنه وتم رضا المولى بتعلق الدين بمالية رقبته وهو في أصل الالتزام متصرف في ذمته هو حقه من تعامله وإنما نوجب الملك له في محل مملوك له فيكون صحيحا وله أن يستأجر الإجراء لأن الاستئجار من أنواع التجارات ولأن المأذون يحتاج إليه فإنه يعجز عن إقامة بعض الأعمال بنفسه وربما لا يجد من يعينه على ذلك حسبة فيحتاج إلى الاستئجار الإجراء لإقامة الأعمال التي بها يتم مقصوده .
وله أن يؤاجر نفسه فيما بداله من الأعمال عندنا .
وفي أحد قولي الشافعي - Bه - ليس له أن يؤاجر نفسه وله أن يؤاجر كسبه لأن عبده المأذون نائب عن المولى في التصرف وهو إنما جعله نائبا في التصرف في كسبه ومنافع بدنه ليس من كسبه وتصرفه فيه بعد الإذن كما قبله والدليل عليه أن رقبته ليست من كسبه بدليل أنه لا يملك بيعها ولا رهنها بدين عليه وما ليس من كسبه فهو لا يملك التصرف فيه بالإجازة كسائر مماليكه .
وأما عندنا فالإذن فك الحجر عن المأذون فكان كالكتابة ولا يقال الكتابة يتعلق بها اللزوم والإذن فيكون هذا بمنزلة الاستئجار والاستعارة .
وللمستأجر أن يؤاجر وليس للمستعير ذلك وهذا لأن محل التصرف لا يختلف لكونه لازما أو غير لازم كالبيع مع الهبة فإن محل التصرفين واحد وهو العين وإن كان أحدهما يلزم على وجه لا يملك الموجب الرجوع لكونه معاوضة والأجر لا يلزم ونحن إنما شبهنا الإذن بالكتابة من حيث إنه فك الحجر ثم انفكاك الحجر يثبت له اليد على منافعه فيملك الاعتياض عليها كما ملكه المكاتب ولما كان للمأذون أن يعين غيره لمنافعه فلا يكون له أن يؤاجر نفسه أولى لأن الإجارة أقرب إلى مقصود المولى من الإعانة وهو أليق بحال المأذون فإنه يملك المعاوضات دون التبرعات والمستعير إنما لا يؤاجر لما فيه من إلحاق الضرر بالغير من حيث استحقاق اليد عليه في العين وذلك لا يوجد ههنا .
ثم إجارة النفس نوع تجارة لأن رؤوس التجارة وهم الباعة يؤاجرون أنفسهم للعمل والمولى حين أذن له في التجارة مع علمه أنه لا يتمكن منها إلا برأس مال فالظاهر أنه جعل رأس ماله منافعه وطريق تحصيل المال مما جعل له من رأس المال الإجارة وإنما لا يبيع نفسه لما في ذلك من تفويت مقصود المولى ولأن حكمه ضد حكم الإذن فإن بيع الرقبة إذا صح أوجب الحجر عليه كما لو باعه المولى فكذلك لا يرهن نفسه لأن موجب الرهن ضد موجب الإذن فإن الرهن يوجب يدا مستحقة عليه للمرتهن على وجه يمنع من التصرف لأن موجب الرهن ضد موجب الإذن فإن الرهن يوجب يدا مستحقة عليه للمرتهن على وجه يمنع من التصرف ولا يستفاد ما ليس من موجب ضده موجبه .
وأما إجارة النفس فلا توجب الحجر عليه ولا تمنعه من التصرف بدليل أنه لو أجره المولى لم يصر محجورا فلهذا لا يملك أن يؤاجر كسبه وله أن يتقبل الأرض ويأخذها مزارعة كما يأخذ الحر لأنه إن كان البذر من قبل صاحب الأرض فالمأذون مؤاجر نفسه للعمل ببعض الخارج .
وإن كان البذر من قبله فهو مستأجر الأرض ببعض الخارج وذلك أنفع من الاستئجار بالدراهم فإن هناك الأجر دين في ذمته سواء حصل الخارج أو لم يخرج وهنا لا شيء عليه إذا لم يحصل الخارج .
فإذا ملك استئجاره ببعض الدراهم فببعض الخارج أولى وله أن يشتري طعاما ليزرعه في أرضه لأن الزراعة من التجارة قال - E - : ( الزارع يتاجر ربه ) والتجار يفعلون ذلك عادة .
قال : ( وليس له أن يدفع طعاما إلى رجل ليزرعه ذلك الرجل في أرضه بالنصف ) .
قال : ( لأنه يصير قرضا وليس للمأذون أن يقرض ) لأن القرض تبرع .
قال بعض مشايخنا - رحمهم الله - وهذا التعليل غلط إنما الصحيح من التعليل أن هذا دفع البذر مزارعة ودفع البذر مزارعة وحده لا يجوز لأن صاحب البذر مستأجر الأرض وشرط الإجارة التخلية بين المستأجر وبين ما استأجره وذلك ينعدم إذا كان العامل صاحب الأرض .
قال : ( ألا ترى ) أنه إذا دفع الطعام إلى رب الأرض مزارعة بالنصف فزرعة كان الخارج كله لرب الأرض وهو ضامن للعبد طعاما مثل طعامه هكذا ذكر في الكتاب . وفي كتاب المزارعة قال إذا دفع البذر مزارعة إلى صاحب الأرض فالخارج كله لصاحب البذر وللعامل أجر مثله وأجر مثل أرضه .
وقيل : في المسألة روايتان : أصحهما ما قال في المزارعة لأن الخارج نماء البذر .
( ألا ترى ) أنه من جنس البذر فيكون لصاحب البذر ووجه ما قال هنا أن صاحب البذر إنماء رضي بإلقاء البذر في الأرض بطريق المزارعة بالنصف فبدون ذلك الطريق لا يكون راضيا بل الزارع بمنزلة الغاصب لبذره ومن غصب من آخر بذرا وزرعه في أرضه كان الخارج للزارع وعليه مثل ما غصب وقيل إنما اختلف الجواب لاختلاف الوضع فهناك وضع المسألة في الحر وإذن الحر في استهلاك البذر صحيح معتبر والمزارعة وإن فسدت بقي إذنه معتبرا في استهلاك البذر بإلقائه في الأرض فكان الإلقاء بإذن صاحب البذر كإلقائه بنفسه فالخارج كله له .
وأما إذن العبد في استهلاك بذره لا على وجه المزارعة فغير معتبر فإنه لا يملك أن يأذن في إتلاف البذر ولا أن يقرض البذر فإذا لم يصح العقد وسقط اعتبار إذنه فكان الزارع بمنزلة الغاصب المستهلك للبذر بإلقائه في الأرض والخارج كله له وعليه ضمان مثل ذلك البذر للعبد .
( قال الشيخ ) الإمام - C - وقد وجدت في بعض النسخ زيادة في هذا المسألة أنه إذا دفع الطعام إلى رب الأرض ليزرعها لنفسه بالنصف فمع هذه الزيادة لا يبقى الإشكال ويصح التعليل لأن قوله ازرعها لنفسك يكون إقراضا للبذر ثم شرط عليه في بدل القرض نصف الخارج وذلك باطل والزارع في القاء البذر في الأرض عامل لنفسه فيكون الخارج كله له وليس على المولى أن يشهد الشهود حتى يأذن له في التجارة لأنه بمنزلة الكتابة والكتابة تصح من غير إشهاد إلا أن هناك يندب الإشهاد لما يتعلق بها من الحق اللازم كما يندب إلى الإشهاد على البيع بيانه في قوله تعالى : { وأشهدوا إذا تبايعتم } ( البقرة : 282 ) وذلك لا يوجد في الإذن لأنه في نفسه ليس بحق لازم ( ألا ترى ) أنه يحجر عليه متى شاء فلهذا لا يكون عليه الإشهاد في ذلك وإذا نظر الرجل إلى عبده يبيع ويشتري فلم ينهه عن ذلك فهو إذن منه له في التجارة بمنزلة قوله قد أذنت لك في التجارة وهذه مسئلتان : .
إحداهما : إذا أذن له في نوع خاص من التجارة فإنه يكون مأذونا في التجارات كلها عندنا .
وقال الشافعي - C - لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع خاصة وهو رواية عن زفر - C .
وعنه في رواية أخرى قال : إن سكت عن النهي عن سائر لأنواع فإن قال اعمل في البر فهو مأذون في التجارات كلها وإن صرح بالنهي عن التصرف في سائر الأنواع فليس له أن يتصرف إلا في النوع الذي أذن له فيه خاصة .
فالحجة للشافعي أنه يتصرف للمولى بإذنه فلا يملك التصرف إلا فيما أذن له فيه كالوكيل والمضارب والمستبضع والشريك شركة العنان . وبيان ذلك أن الرق موجب للحجر عليه عن التصرفات والرق بعد الإذن قائم كما كان قبله فيكون تصرفه بطريق النيابة عن المولى فيه .
( ألا ترى ) أن ما هو المقصود بالتصرف وهو الملك يحصل للمولى وأن العبد بسبب الرق يخرج من أن يكون أهلا للملك الذي هو المقصود فيه يبين أنه ليس بأهل للتصرف بنفسه بخلاف المكاتب فإن بالكتابة عندي يثبت للمكاتب حق ويصير بمنزلة الحر يدا ولهذا لا يملك المولى إعتاقه عن كفارته ولا يملك الحجر وإنما يصير أهلا للتصرف باعتبار ما ثبت له من الحرية يدا ثم المأذون عندي يرجع بالعهدة على المولى إلا أنه عين لرجوعه محلا وهو كسبه فلا يملك الرجوع في محل آخر وهكذا مذهبي في الوكيل إذا وكله بأن يشتري ويبيع على أن الربح كله للموكل فإن رجوعه بالعهدة فيما يشتري على الموكل دون غيره ويكون هو نائبا عن الموكل في التصرف فكذلك المأذن . والدليل عليه أنه لو أذن له في تزويج امرأة لا يملك أن يتزوج امرأتين .
ولو أذن له في نكاح امرأة بعينها لا يملك أن يتزوج غيرها فكذلك في التجارة بل أولى لأن مقصود ذلك التصرف يحصل للعبد ومقصود هذا التصرف يحصل للمولى فكذلك إذا أذن له في التجارة لا يملك النكاح .
وإذا أذن له في النكاح لا يملك التجارة ولئن كان الإذن إطلاقا وتمليكا لليد منه كما هو مذهبكم فذلك لا يدل على أنه لا يقبل التخصيص كتقليد القضاء فإنه إطلاق وإثبات للولاية ثم يقبل التخصيص والإعارة والإجارة تمليك المنفعة وإثبات اليد على العين ثم يقبل التخصيص بالإذن كذلك وهذا لأن التخصيص مفيد فمقصود المولى تحصيل الربح وذلك يحصل بتجارته في نوع لكثرة هدايته فيه ثم يفوت ذلك بتجارته في نوع آخر لقلة هدايته في ذلك فكان التقييد مفيدا فيما هو المقصود وزفر - C - على الرواية الأخرى يقول : إنما أثبتنا حكما عاما عند سكوته عن النهي لدلالة العرف وذلك يسقط عند التصريح بالنهي في سائر الأنواع .
( ألا ترى ) أن مطلق الإذن يوجب التعميم في الوقت ثم إذا صرح بالحجر عليه بعد أن مضى شهر أو يوم يرتفع ذلك الإذن فهذا مثله .
وحجتنا في ذلك طرق ثلاثة : .
أحدها : ما بينا أن الإذن في نوع يستدعي الإذن في سائر الأنواع لاتصال بعض التجارات بالبعض والمتصرف في البر ربما يشتري ذلك البر بالطعام فلا بد من أن يشتري الطعام ليؤدي ما عليه وربما يحتاج إلى بيع البر بالعبيد والإماء إذا لم يجد من يشتري ذلك منه بالنقد وإذا كان الإذن في نوع يتعدى إلى سائر أنواع التجارة لاتصال بعض التجارات بالبعض .
ولأن الإذن في التجارة فك للحجر عنه والعبد بعد الإذن متصرف لنفسه لانفكاك الحجر عنه كالمكاتب وكما أن في الكتابة لا يعتبر التقييد بنوع خاص فكذلك في الإذن .
وبيان الوصف : أن بمطلق الإذن يملك التصرف والإنابة لا تحصل بمطلق اللفظ من غير تنصيص على التصرف كما في حق الوكل .
والدليل عليه : أن المأذون لا يرجع بما يلحقه من العهدة على مولاه والمتصرف للغير يرجع عليه بما يلحقه من العهدة وأنه إذا قضى الدين من خالص ملكه بعد العتق لا يرجع به على المولى .
ولو كان هو بمنزلة الوكيل لكان يرجع على الموكل بما يؤدي من خالص ملكه كالوكيل وإنما يكون رجوع الوكيل فيما يحصل تصرفه إذا بقي ذلك فأما بعد الفوات فيكون رجوعه على الموكل وهنا .
وإن هلك كسبه لم يرجع على المولى بشيء ودل أنه متصرف لنفسه وقد بينا أن بالرق لم يخرج من أن يكون أهلا للتصرف ولا من أن يكون أهلا لثبوت اليد له على كسبه ولكنه ممنوع عن التصرف لحق المولى مع قيام الأهلية فالإذن لإزالة المنع كالكتابة ولا يجوز أن يدعي أن بالكتابة يثبت له حق العتق أو يجعل كالحر يدا لأن الكتابة تحتمل الفسخ والسبب الموجب لحق العتق متى ثبت لا يحتمل الفسخ كالاستيلاد فثبت أن الكتابة فك الحجر والإذن مثله ثم فك الحجر عنه بهذين السببين بمنزله الفك التام الذي يحصل بالعتق وذلك لا يختص بنوع دون نوع سواء أطلق أو صرح بالنهي عن سائر الأنواع لأن هذا التقييد منه تصرف في غير ملكه فكذلك ههنا .
والثالث : أن تصرف العبد يلاقي محلا هو ملكه والمتصرف في ملكه لا يكون نائبا عن غيره .
وبيانه : أن أول التصرفات بعد الإذن من العبد شراء لأنه ما لم يشتر لا يمكنه أن يبيع وهو بالشراء يلتزم الثمن في ذمته وقد بينا أن الذمة مملوكة بمنزلة ذمته فكما أنه يملك التصرف في ذمته بالإقرار على نفسه بالقود فكذلك يكون مالكا للتصرف في ذمته إلا أن الدين لا يجب في ذمته إلا شاغلا مالية رقبته فيحتاج إلى إذن المولى هنا لإسقاط حقه عن مالية الرقبة والرضي يصرفها إلى الدين وفي هذا لا يفترق الحال بين نوع من التجارة ونوع فتقييده بنوع غير مفيد في حقه فلا يعتبر كما إذا رضي المستأجر ببيع العين من زيد دون عمرو أو رضي الشفيع بيع المشتري من زيد دون عمرو .
ولو أسلم البائع المبيع إلى المشتري قبل نقد الثمن على أن يتصرف فيه نوعا من التصرف دون نوع لا يعتبر ذلك التقييد لأنه وجد من هؤلاء إسقاط حق المبيع فأهل التصرف يكون متصرفا لنفسه فتقييده بنوع دون نوع لا يكون مفيدا وهذا بخلاف النكاح فإن ذلك تصرف مملوك للمولى عليه لأن النكاح لا يجوز إلا بولي والرق يخرجه عن أن يكون أهلا للولاية فكان هو نائبا عن المولى في النكاح .
ولهذا قلنا المولى يجبره على النكاح فأما هذا التصرف فغير مملوك للمولى عليه فكان الإذن من المولى إسقاطا لحقه لا إنابة العبد منابه في التصرف وقد بينا أنه مع الرق أهل للحكم الأصلي وهو ملك اليد وأن ما وراء ذلك من ملك العين يثبت للمولى على سبيل الخلافة عنه وهذا بخلاف تقليد القضاء فالقاضي لا يعمل لنفسه فيما يقضي بل هو نائب عن المسلمين ولهذا يرجع بما يلحقه من العهدة في مال المسلمين وكيف يكون عاملا لنفسه وهو فيما يعمل لنفسه لا يصلح أن يكون قاضيا وهذا بخلاف المستعير والمستأجر لأنه يتصرف في محل هو ملك الغير بإيجاب صاحب الملك له وإيجابه في ملك نفسه يقبل التخصيص فأما العبد فلا يتصرف بإيجاب المولى له فقد بينا أن التصرف غير مملوك للمولى في ذمته فكيف يوجب له مالا يملكه .
والمسألة الثانية : إذا رآه يبيع ويشتري فسكت عن النهي فهذا إذن له في التجارة عندنا .
وعند الشافعي لا يكون إذنا قبل هذا بناء على المسألة الأولى فإن عنده لو أذن له نصا في نوع لا يملك التصرف في سائر الأنواع فكذلك إذا رآه يتصرف في نوع فسكوته عن النهي لا يكون إذنا له في التصرف في سائر الأنواع وعندنا لما كان إذنه في نوع يوجب الإذن في سائر الأنواع لدفع الغرور والضرر عن الناس فكذلك سكوته عن النهي عند رؤيته تصرفا منه يكون بمنزلة الإذن دفعا للضرر والغرور عن الناس .
وحجته في هذه المسألة : أن سكوته عن النهي محتمل قد يكون للرضي بتصرفه وقد يكون لفرط وقلة الالتفات إلى تصرفه لعلمه أنه محجور عن ذلك شرعا والمحتمل لا يكون حجة فهو بمنزلة من رأى إنسانا يبيع ماله فسكت ولم ينهه لا ينفذ ذلك التصرف بسكوته ولأن الحاجة إلى الإذن من المولى والسكوت ليس بإذن فالإذن ما يقع في الإذن .
ولو أذن له ولم يسمع لم يكن ذلك إذنا فمجرد السكوت كيف يكون إذنا . والدليل عليه أن هذا التصرف الذي يباشره لا ينفذ بسكوت المولى وأنه إذا رآه يبيع شيئا من ملكه فسكت لا ينفذ هذا التصرف فكيف يصير مأذونا له في التصرفات فالجاجة إلى رضى مسقط لحق المولى عن مالية رقبته وذلك لا يحصل بالسكوت كمن رأى إنسانا يتلف ماله فسكت فلا يسقط الضمان بسكوته وهذا بخلاف سكوت البكر إذا زوجها الولي فإن ذلك محتمل ولكن قام الدليل الموجب لترجيح الرضا فيه وهو أن لها عند تزويج الولي كلامين لا أو نعم والحياء يحول بينها وبين نعم لما فيه من إظهار الرغبة في الرجال وهي تستقبح منها لا يحول الحياء بينها وبين لا فسكوتها دليل على الجواب الذي يحول الحياء بينها وبين ذلك الجواب ولا يوجد مثل ذلك ههنا فلا يترجح جانب الرضا .
وكذلك سكوت الشفيع عن الطلب لأنه لا حق للشفيع قبل الطلب وإنما له أن يثبت حقه بالطلب فإذا لم يطلب لم يثبت حقه وههنا حق المولى في مالية الرقبة ثابت وإنما الحاجة إلى الرضا المسقط لحقه .
يوضحه : أن حق الشفعة قبل الطلب ضعيف وإنما يتأكد بالطلب فإعراضه عن الطلب المؤكد لحقه يجعل دليل الرضا لدفع الضرر عن المشتري فإنه إذا بقي حق الشفيع يتمكن به من نقض تصرف المشتري وفيه من الضرر عليه ما لا يخفى فأما هنا فحق المولى في مالية الرقبة متأكد وفي إسقاطه إلحاق الضرر به عند سكوته لدفع الضرر عمن يعمل العبد معه .
وحجتنا في ذلك قوله عليه السلام ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) وقال : ( ألا من غشنا فليس منا ) .
ولو لم تتعين جهة الرضا عند سكوت المولى عن النهي أدى إلى الضرر والغرور فالناس يعاملون العبد ولا يمتنعون من ذلك عند محضر المولى إذا كان ساكتا وإذا لحقته ديون ثم قال المولى كان عبدي محجورا عليه فتتأخر الديون إلى وقت عتقه ولا يدري متى يعتق وهل يعتق أو لا يعتق فيكون فيه إنواء حقهم ويلحقهم فيه من الضرر ما لا يخفى ويصير المولى غار الهم فلرفع الضرر والغرور جعلنا سكوته بمنزلة الإذن له في التجارة والسكوت محتمل كما قال .
ولكن دليل العرف يرجح جانب الرضا فالعادة أن من لا يرضى بتصرف عبده يظهر النهي إذا رآه يتصرف ويؤدبه على ذلك وإنما يستحق عليه ذلك شرعا لدفع الضرر والغرور فبهذا الدليل رجحنا جانب الرضى في سكوت البكر كما في سكوت الشفيع يرجح جانب الرضى لدفع الضرر عن المشتري .
وفيه دليل أن مبنى الإذن على التعدي والانتشار وأن المولى وإن خص نوعا منه فإنه يتعدى إلى سائر الأنواع لاتصال بعض الأنواع بالبعض فيما يرجع إلى تحصيل مقصود المولى فإن الصباغ لا يتمكن من العمل إلا بشراء الصبغ والخياط لا يتمكن من العمل إلا بشراء السلك والإبرة والخيوط ثم قد لا يجد ما يحتاج إليه يباع بالنقد ليشتريه وإنما يباع ذلك بالطعام فيحتاج أن يشتري طعاما ليعطيه في ثمن ذلك وربما يشتري ذلك بالدنانير فيحتاج إلى مصارفة الدراهم بالدنانير ليحصل الثمن فعرفنا أن مبناه على التعدي والانتشار فيتعدى الإذن في نوع إلى سائر الأنواع .
وفيه دليل أن مبنى الإذن على التعدي والانتشار وأن المولى وإن خص نوعا منه فإنه يتعدى إلى سائر الأنواع لاتصال بعض الأنواع بالبعض فيما يرجع إلى تحصيل مقصود المولى فإن الصباغ لا يتمكن من العمل إلا بشراء الصبغ والخياط لا يتمكن من العمل إلا بشراء السلك والإبرة والخيوط ثم قد لا يجد ما يحتاج إليه يباع بالنقد ليشتريه وإنما يباع ذلك بالطعام فيحتاج أن يشتري طعاما ليعطيه في ثمن ذلك وربما يشتري ذلك بالدنانير فيحتاج إلى مصارفة الدراهم بالدنانير ليحصل الثمن فعرفنا أن مبناه على التعدي والانتشار فيتعدى الإذن في نوع إلى سائر الأنواع .
وابن أبي ليلى - C - كان يأخذ بظاهر هذا الحديث فيقول يجوز عليه ما كان من توابع عمله خاصة .
وفيه دليل أن مبنى الإذن على التعدي والانتشار وأن المولى وإن خص نوعا منه فإنه يتعدى إلى سائر الأنواع لاتصال بعض الأنواع بالبعض فيما يرجع إلى تحصيل مقصود المولى فإن الصباغ لا يتمكن من العمل إلا بشراء الصبغ والخياط لا يتمكن من العمل إلا بشراء السلك والإبرة والخيوط ثم قد لا يجد ما يحتاج إليه يباع بالنقد ليشتريه وإنما يباع ذلك بالطعام فيحتاج أن يشتري طعاما ليعطيه في ثمن ذلك وربما يشتري ذلك بالدنانير فيحتاج إلى مصارفة الدراهم بالدنانير ليحصل الثمن فعرفنا أن مبناه على التعدي والانتشار فيتعدى الإذن في نوع إلى سائر الأنواع .
والدليل عليه : أنه بعد ما أذن له في أهل سوقه لو حجر عليه في بيته لم يصح حجة لدفع الضرر والغرور فلما سقط اعتبار حجره نصا لدفع الضرر فلأن يسقط اعتبار احتمال عدم الرضى من سكوته لدفع الضرر عن الناس كان أولى .
ولئن منع الشافعي هذا فالكلام في المسألة يبنى على الكلام في تلك المسألة فإن الكلام فيها أوضح على ما نبينه وهذا بخلاف الوكيل لأنه لا ضرر على من يعامل الوكيل إذا لم يجعل سكوت الموكل رضي فإن تصرف الوكيل نافذ على نفسه ومن يعامله لا يطالب الموكل بشيء وإنما يطالب الوكيل سواء كان تصرفه لنفسه أو لغيره وقوله هذا التصرف بسكوت المولى لا ينفذ قلنا لأن في هذا التصرف إزالة ملك المولى عما يبيعه وفي إزالة ملكه ضرر متحقق لحال فلا يثبت بسكوته وليس في ثبوت الإذن ضرر على المولى متحقق في الحال فقد يلحقه الدين وقد لا يلحقه .
ولو لم يثبت الإذن به تضرر الناس الذين يعاملون العبد .
يوضحه أن في ذلك التصرف العبد نائب عن المولى بدليل أنه إذا لحقه عهدة يرجع بها عليه فيكون بمنزلة الوكيل في ذلك وقد بينا أن الوكالة لا تثبت بالسكوت وأما في سائر التصرفات فهو متصرف لنفسه كما قررنا والحاجة إلى إذن المولى لأجل الرضا تصرف مالية رقبته إل الدين فيثبت ذلك بمجرد سكوته لخلوه عن الضرر في الحال بخلاف ما إذا أتلف إنسان ماله وهو ساكت لأن الضرر هناك يتحقق في الحال وسكوته لا يكون دليل التزام الضرر حقيقة ولأنه لا حاجة إلى تعيين جانب الرضا هناك لدفع الضرر والغرور عن المتلف وهو ملتزم الضرر بإقدامه على إتلاف المال بخلاف ما نحن فيه على ما قررناه .
ولو قال لعبده : أد إلي الغلة كل شهر خمسة دراهم فهذا إذن منه له في التجارة لأنه استئداء المال مع علمه أنه لا يتمكن من ذلك إلا بالاكتساب يكون أمرا له بالاكتساب ضرورة وقد علمنا أنه لم يطلب منه الاكتساب بالتكدي فعرفنا أن مراده الاكتساب بالتجارة ودليل الرضا في الحكم كصريح الرضا .
وكذلك لو قال : إذا أديت إلي ألفا فأنت حر لأنه حثه على أداء المال بما أوجب له بإزاء المال من العتق عند الأداء ولا يتمكن من الأداء إلا بالاكتساب وقد علمنا أنه لم يرد أداء الألف إليه من مال المولى لأن ذلك غير مفيد في حق المولى وإنما المفيد في حقه أداء الألف إليه من كسب يكتسبه بعد هذه المقالة .
وكذلك لو قال : أد إلي ألفا وأنت حر فإنه لا يعتق ما لم يؤد .
ولو قال إن أديت ألفا فأنت حر عتق في الحال أدى أو لم يؤد .
ولو قال إذا أديت إلي ألفا وأنت حر عتق في الحال أيضا بخلاف قوله فأنت حر فإنه لا يعتق فيه إلا بالأداء لأن جواب الشرط بالفاء دون الواو فإن الجزاء يتصل بالشرط على أن يتعقب نزوله بوجود الشرط وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيتصل فيه الجزاء بالشرط فأما حرف الواو فللعطف لا للوصل وعطف الجزاء على الشرط لا يوجب تعليقه بالشرط فكان تنجيزا وأما جواب الأمر بحرف الواو على معنى أنه بمعنى الحال أي وأنت حر في حال أدائك وأما صفة الأمر يكون بمعنى التعليل يقول الرجل أبشر فقد أتاك الغوث يعني لأنه أتاك الغوث .
فإذا قال أد إلي ألفا فأنت حر معناه لأنك حر فلهذا يتنجز به العتق في الحال وعلى هذا ذكر في السير الكبير إذا قال : افتحوا الباب وأنتم آمنون فما لم يفتحوا لا يأمنوا .
ولو قال فأنتم آمنون كانوا آمنين فتحوا أو لم يفتحوا .
ولو قال إذا فتحتم الباب فأنتم آمنون لا يأمنون ما لم يفتحوا .
ولو قال وأنتم آمنون كانوا آمنين في الحال . ولو قال لعبده اذهب فأجر نفسك من فلان لم يكن هذا إذنا منه له في التجارة بخلاف قوله أقعد قصارا وصباغا فإن هناك لما لم يعتق من يعامله فقد فوض الأمر إلى رأيه في ذلك النوع من التجارة وههنا عين من يؤاجر العبد نفسه منه ولم يفوض الأمر إلى رأيه فيه ولكنه جعله رسولا قائما مقام نفسه في مباشرة العقد فلا يكون ذلك دليل الرضا بتجارته .
يوضحه أنه أمره بأن يعقد على منافعه ههنا ومنافعه مملوكة للمولى فلا يكون ذلك على وجه الرضا بتجارته لا على وجه الاستخدام له وفي الأول أمره بتقبل العمل في ذمته وذلك من نوع التجارة .
( ألا ترى ) أن إجارة نفس العبد مملوكة للمولى فلا يكون ذلك على وجه الرضا بتجارته لا على وجه الاستخدام له وفي الأول أمره بتقبل العمل في ذمته وذلك من نوع التجارة .
( ألا ترى ) أن إجارة نفس العبد مملوكة للمولى عليه وأن يقبل العمل في ذمة العبد غير مملوك للمولى عليه واستشهد بما لو أرسل عبدا له يؤاجر عبدا له آخر لم يكن هذا إذنا لواحد من العبدين في التجارة .
ولو قال اعمل في النقالين أو في الحناطين .
أو قال أجر نفسك في النقالين أو الحناطين فهذا منه إذن في التجارة لأنه فوض ذلك النوع من التجارة إلى رأيه لأنه لم يعين له من يعامله بل جعل تعيينه موكولا إلى رأيه النقالون الذين ينقلون الخشب من الشطء إلى البيوت والحناطون ينقلون الحنطة من موضع السفينة إلى البيوت وإنما يعمل ذلك منهم العبد والأقوياء .
ولو أرسل عبده يشتري له ثوبا أو لحما بدراهم لم يكن هذا إذنا له في التجارة استحسانا .
وفي القياس : هو إذن له في التجارة لأنه جعل اختيار من يعامله مفوضا إلى رأيه .
وفي الاستحسان : لا يكون إذنا له في التجارة فإنه في عادة الناس هذا استخدام . ولو جعلناه إذنا في التجارة يتعذر على المولى استخدام المماليك فإن الاستخدام يكون في حوائج المولى وهذا النوع من العقد من حوائجه .
يوضحه : أن المولى لا يقصد التجارة بهذا الشراء إنما يقصد كفاية الوقت من الكسوة والطعام والتجارة ما يقصد به المال والاسترباح وكذلك لو أمره بأن يشتري ثوب كسوة للمولى أو لبعض أهله أو طعاما رزقا لأهله أو للمولى أو للعبد نفسه لا يكون شيء من ذلك إذنا له في التجارة أرأيت لو أمره أن يشتري نقلا بفلسين أكان يصير به مأذونا .
وكذلك لو قال اشتر من فلان ثوبا فاقطعه قميصا أو اشتر من فلان طعاما فكله أو دفع إليه رواية وحمارا وأمره أن يستقي عليه الماء لمولاه ولعياله ولجيرانه بغير ثمن فشيء من هذا لا يكون إذنا له في التجارة لما قلنا .
ولو قال استق على هذا الحمار الماء وبعه كان هذا إذنا له في التجارات كلها لأنه فوض إلى رأيه نوعا من التجارة وقصد به تحصيل المال والربح .
ولو أن طحانا دفع إلى عبده حمارا لينقل عليه طعاما له فيأتيه به ليطحنه لم يكن هذا إذنا منه في التجارة لأنه استخدمه في نقل الطعام إليه وما أمره بشيء من عقود التجارات ولا باكتساب المال .
( ألا ترى ) أن المضاربة باعتبار هذا العمل لا تصح حتى لو أمره أن ينقل الطعام إليه ليبيعه صاحب الطعام بنفسه على أن الربح بينهما نصفان لا يجوز ولو أمره أن يتقبل الطعام من الناس بأجر وينقله على الحمار كان هذا إذنا له في التجارة لأنه فوض نوعا من التجارة إلى رأيه وأمره باكتساب المال له .
وأما إذا كان الرجل تاجرا وله غلمان يبيعون متاعه بأمره فهذا إذن منه لهم في التجارة لأن سكوته عن النهي عند رؤية تصرف العبد جعل إذنا فتمكينه إياهم من بيع أمتعته في حانوته أو أمره إياهم بذلك أولى أن يجعل إذنا .
ولذلك لو أمرهم أن يبيعوا لغيره متاعه فإنه فوض نوعا من التجارة إلى رأيهم ورضي بالتزامهم العهدة فيما يبيعونه لغيرهم .
( ألا ترى ) أنه لو أمرهم أن يشتروا له متاعا أو يشتروا ذلك لغيره فاشتروه لزمهم الثمن وهم تجار في تلك التجارة وغيرها فكذلك إذا أمرهم بالبيع لأن في الموضعين جميعا قد صار راضيا باستحقاق مالية رقبته بما يلحقه من العهدة في ذلك التصرف .
( ألا ترى ) أنهم إذا باعوا فوجد المشتري بالمبيع عيبا كان له أن يرده عليهم ويطالبهم بالثمن .
ولو رأى عبده يبيع في حانوته متاعه لغيره فلم ينهه كان مأذونا لسكوت المولى عن النهي بعد علمه بتصرفه ولكن لا يجوز ما باع من متاع المولى لأن جواز البيع في ذلك المتاع يعتمد التوكيل وذلك يحصل بالأمر في الابتداء والإجازة في الانتهاء والسكوت لا يكون أمرا ولا إجازة فلا يثبت به التوكيل .
( ألا ترى ) أن فيما يبيع من متاع المولى بأمره إذا لحقه عهدة يرجع على المولى وأن الضرر يتحقق في حق المولى بزوال ملكه عن المتاع في الحال فلهذا لا يثبت ذلك بالسكوت بخلاف صيرورته مأذونا فإن ذلك يعتمد الرضى لا التوكيل حتى لا يرجع بما يلحقه من العهدة في سائر التصرفات على المولى ولا يتحقق الضرر في حق المولى بمجرد صيرورته مأذونا .
وكذلك عبد دفع إليه رجل متاعا ليبيعه فباعه بغير أمر المولى والمولى يراه ببيع ولا ينهاه فهو إذن من المولى له في التجارة والبيع في المتاع جائز بأمر صاحبه لا بسكوت المولى عن النهي حتى أن المولى وإن نهاه أو لم يره أصلا كان البيع جائزا لأنه وكيل صاحب المتاع في البيع إلا أن تأثر صيرورته مأذونا في هذا التصرف من حيث إن العهدة تكون على العبد ولو نهاه المولى أو لم يره كانت