قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام : أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - إملاء : إعلم بأن الله تعالى خلق الورى وفاوت بينهم في الحجى فجعل بعضهم أولي الرأى والنهي ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى وجعل بعضهم مبتلي ببعض أصحاب الردى فيما يرجع إلى معاملات الدنيا كالمجنون الذي هو عديم العقل والمعتوه الذي هو ناقص العقل فأثبت الحجر عليهما عن التصرفات نظرا من الشرع لهما واعتبارا بالحجر الثابت على الصغير في حال الطفولية بسبب عدم العقل بعد ما صار مميزا بسبب نقصان العقل وذلك منصوص عليه في الكتاب فيثبت الحجر في حق المعتوه والمجنون استدلالا بالنصوص بطريق التشبيه لأن حالهما دون حال الصبي فالصبي عديم العقل إلى الإصابة عادة والمجنون عديم العقل إلى الإصابة عادة ولهذا جاز إعتاق الصبي في الرقاب الواجبة دون المجنون فأما إذا بلغ عاقلا فلا حجر عليه بعد ذلك على ما قال أبو حنيفة - C - الحجر على الحر باطل ومراده إذا بلغ عاقلا وحكي عنه أنه كان يقول لا يجوز الحجر إلا على ثلاثة على المفتي الماجن وعلى المتطبب الجاهل وعلى المكاري المفلس لما فيه من الضرر الفاحش إذا لم يحجر عليهم فالمفتي الماجن يفسد على الناس دينهم والمتطبب الجاهل يفسد أبدانهم والمكاري المفلس يتلف أموالهم فيمتنعون من ذلك دفعا للضرر فإن الحجر في اللغة هو المنع والاختلاف بين العلماء - رحمهم الله - ورأى هذا في فصلين : .
أحدهما : الحجر على السفيه المبذر .
والآخر : الحجر على المديون بسبب الدين والسفه هو العمل بخلاف موجب الشرع وهو اتباع الهوى وترك ما يدل عليه العقل والحجى وأصل المسامحة في التصرفات والبر والإحسان مندوب إليه شرعا ولكن بطريق السفه والتبذير مذموم شرعا وعرفا ولهذا لا تنعدم الأهلية بسبب السفه ولا يجعل السفه عذرا في إسقاط الخطاب عنه بشيء من الشرائع ولا في إهدار عبارته فيما يقربه على نفسه من الأسباب الموجبة للعقوبة .
وقال أبو حنيفة - C - لا يجوز الحجر عليه عن التصرفات بسبب السفه أيضا .
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي - رحمهم الله - يجوز الحجر عليه بهذا السبب عن التصرفات المحتملة للفسخ إلا أن أبا يوسف ومحمدا - رحمهما الله - قالا : إن الحجر عليه على سبيل النظر له وقال الشافعي على سبيل الزجر . والعقوبة له ويتبين هذا الخلاف بينهم فيما إذا كان مفسدا في دينه مصلحا في ماله كالفاسق فعند الشافعي - C - يحجر عليه بهذا النوع من الفساد بطريق الزجر والعقوبة ولهذا لم يجعل الفاسق أهلا للولاية وعندهما لا يحجر عليه فالفاسق عند أصحابنا جميعا - رحمهم الله - أهل للولاية على نفسه على العموم وعلى غيره إذا وجد شرط تعدى ولايته لغيره أما من جوز الحجر على السفيه فقد احتج بقوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل } ( البقرة : 282 ) وهو تنصيص على أن إثبات الولاية على السفيه وأنه مولى عليه ولا يكون ذلك إلا بعد الحجر عليه وقال الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } ( النساء : 5 ) إلى أن قال : { واكسوهم } ( النساء : 5 ) وهذا أيضا تنصيص على إثبات الحجر عليه بطريق النظر له فإن الولي الذي يباشر التصرف في ماله على وجه النظر منه له وروي أن حبان بن منقذ الأنصاري - Bه - كان يغبن في البياعات لآمة أصابت رأسه فسأل أهله رسول الله - A - أن يحجر عليه فقال : إني لا أصبر عن البيع فقال E : ( إذا بايعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثة أيام ) فلو لم يكن الحجر بسبب التبذير في المال مشروعا عرفا لما سأل أهله ذلك ولما فعله رسول الله - A - ( وأن عبدالله بن جعفر - Bه - كان يفني ماله في اتخاذ الضيافات حتى اشترى دارا للضيافة بمائة ألف فبلغ ذلك علي ابن أبي طالب - Bه - فقالا لآتين عثمان ولأسألنه أن يحجر عليه فاهتم بذلك عبدالله - Bه - وجاء إلى الزبير - Bه - وأخبره بذلك فقال اشركني فيها فأشركه ثم جاء علي إلى عثمان - Bه - وسأله أن يحجر عليه فقال كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ) وإنما قال ذلك لأن الزبير - Bه - كان معروفا بالكياسة في التجارة فاستدل برغبته في الشركة على أنه لا غبن في تصرفه فهذا اتفاق منهم على جواز الحجر بسبب التبذير فإن عليا - Bه - سأل وعثمان - Bه - اشتغل ببيان العذر واهتم لذلك عبدالله - Bه - واحتال الزبير لدفع الحجر عنه بالشركة فيكون اتفاقا منهم على جواز الحجر بهذا السبب ( وأن عائشة - Bها - كانت تتصدق بمالها حتى روي أنها كان لها رباع فهمت ببيع رباعها لتتصدق بالثمن فبلغ ذلك عبدالله بن الزبير فقال لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها ) والمعنى فيه أنه مبذر في ماله فيكون محجورا عليه كالصبي بل أولى لأن الصبي إنما يكون محجورا عليه لتوهم التبذير منه وقد تحقق التبذير والإسراف هنا فلأن يكون محجورا عليه أولى .
وتحقيقه وهو أن للصبي ثلاثة أحوال : .
حال عدم العقل وحال نقصان العقل بعد ما صار مميزا وحال السفه والتبذير بعد ما كمل عقله بأن قارب أوان بلوغه ثم عدم العقل ونقصانه بعد البلوغ يساوي عدم العقل ونقصانه قبل البلوغ في استحقاق الحجر به فكذلك السفه والبلوغ يساوي السفه قبل البلوغ بعد كمال العقل في استحقاق الحجر به وكان هذا الحجر بطريق النظر له لأن التبذير وإن كان مذموما فهو مستحق النظر باعتبار أصل دينه .
( ألا ترى ) أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في الدنيا والآخرة وذلك يكون نظرا له والدليل عليه أن في حق منع المال يجعل السفه بعد البلوغ كالسفه قبل البلوغ بالقياس على عدم العقل ونقصان العقل وكان منع المال بطريق النظر له فكذلك الحجر عليه عن التصرف لأن منع المال غير مقصود لعينه بل لإبقاء ملكه ولا يحصل هذا المقصود ما لم يقطع لسانه عن ماله تصرفا فإذا كان هو مطلق التصرف لا يفيد منع المال شيئا وإنما يكون فيه زيادة مؤنة وتكلف على الولي في حفظ ماله إلى أن يتلفه بتصرفه وأما أبو حنيفة - C - فاستدل بقوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } ( النساء : 6 ) فقد نهى الولي عن الإسراف في ماله مخافة أن يكبر فلا يبقى له عليه ولاية والتنصيص على زوال ولايته عنه بعد الكبر يكون تنصيصا على زوال الحجر عنه بالكبر لأن الولاية عليه للحاجة وإنما تنعدم الحاجة إذا صار هو مطلق التصرف بنفسه .
ولما سئل أبو حنيفة - C - عن هذه المسألة استدل بآيات الكفارات من الظهار والقتل وغيرها ففي هذه العمومات بيان أن هذه الكفارات تجب على كل من يتحقق منه أسبابها شرعا سفيها كان أو غير سفيه وارتكاب هذه الأسباب اختيارا نوع من السفه فدل أنه مع السفه يتصور منه السبب الموجب لاستحقاق المال ومن ضرورته أن لا يمنع من أداء ما لزمه شرعا وبه يتبين أن الحجر عن التصرفات ليس فيه كثير فائدة لتمكنه من إتلاف جميع ماله بهذه الأسباب والمعنى فيه أنه حر مخاطب فيكون مطلق التصرف في ماله كالرشيد وفي هذين الوصفين إشارة إلى أهلية التصرف والمحلية فيه لأن بكونه مخاطبا تثبت أهلية التصرف فإن التصرف كلام ملزم وأهلية الكلام بكونه مميزا والكلام المميز بنفسه بكونه مخاطبا والمحلية تثبت بكونه خالص ملكه وذلك يثبت باعتبار حرية المالك وبعد ما صدر التصرف من أهله في محله لا يمتنع نفوذه إلا لمانع والسفه لا يصلح أن يكون معارضا للحرية والخطاب في المنع من نفوذ التصرف لأن بسبب السفه لا يظهر نقصان عقله ولكن السفيه يكابر عقله ويتابع هواه وهذا لا يكون معارضا في حق التصرف كما لا يكون معارضا في توجه الخطاب عليه بحقوق الشرع وكونه معاقبا على تركه أن زوال الحجر وتوجه الخطاب في الأصل ينبني على اعتدال الحال إلا أن اعتدال الحال باطنا لا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السبب الظاهر الدال عليه وهو البلوغ عن عقل مقامه تيسيرا على ما هو الأصل أنه متى تعذر الوقوف على المعاني الباطنة تقام الأسباب الظاهرة مقامها كما أقيم السير المديد مقام المشقة في جواز الترخص وأقيم حدوث ملك الحل بسبب ملك الرقبة مقام حقيقة استعمال الرحم بالماء . في وجوب الاستبراء ثم هذا السبب الظاهر يقوم مقام ذلك المعنى الخفي فيدور الحكم معه وجودا وعدما فكما لا يعتبر الرشد قبل البلوغ وإن علم أنه أصاب ذلك في زوال الحجر عنه فكذلك لا يعتبر السفه والتبذير بعد البلوغ في إثبات الحجر عليه .
( ألا ترى ) أن في حكم الخطاب اعتبر هذا المعنى فدار مع السبب الظاهر وهو البلوغ عن عقل وجودا وعدما فكذلك في حكم التصرفات بل أولى لأن توجه الخطاب عليه إنما يكون شرعا والله تعالى أعلم بحقيقة باطنه وحكم التصرف بينه وبين العباد لا طريق لهم إلى معرفة ما في باطنه حقيقة فلما أقيم هناك السبب الظاهر مقام المعنى الخفي فهنا أولى والدليل عليه جواز إقراره على نفسه بالأسباب الموجبة للعقوبة وإقامة ذلك عليه وتلك العقوبات تندرئ بالشبهات فلو بقي السفه معتبرا بعد البلوغ عن عقل لكان الأولى أن يعتبر ذلك فيما يندرئ بالشبهات ولو جاز الحجر عليه بطريق النظر له لكان الأولى أن يحجر عليه عن الإقرار بالأسباب الموجبة للعقوبة لأن الضرر في هذا أكثر فإن الضرر هنا يلحقه في نفسه والمال تابع للنفس فإذا لم ينظر له في دفع الضرر عن نفسه فعن ماله أولى .
وما قالا من أن النظر له باعتبار أصل دينه يضعف بهذا الفصل ثم هذا النوع من النظر جائز لا واجب كما في العفو عن صاحب الكبيرة ومن أصلهم أن الحجر عليه يجب وإنما يجوز النظر له بطريق لا يؤدي إلى إلحاق الضرر به وهو أعظم من ذلك النظر وفي إهدار قوله في التصرفات إلحاق له بالبهائم والمجانين فيكون الضرر في هذا أعظم من النظر الذي يكون له في الحجر من التصرفات لأن الآدمي إنما باين سائر الحيوانات باعتبار قوله في التصرفات فأما منع المال منه فعلى طريق بعض مشايخنا - رحمهم الله - هو ثابت بطريق العقوبة عليه ليكون زجرا له عن التبذير والعقوبات مشروعة بالأسباب الحسية فأما إهدار القول في التصرفات فمعنى حكمي والعقوبات بهذا الطريق غير مشروعة كالحدود .
ولا يدخل عليه إسقاط شهادة القاذف فإنه متمم لحده عندنا ويكون تابعا لما هو حسي وهو إقامة الجلد لا مقصودا بنفسه ولئن ثبت جواز ذلك ولكن لا يمكن إثبات العقوبة بالقياس بل بالنص وقد ورد النص بمنع المال إلى أن يؤنس منه الرشد ولا نص في الحجر عليه عن التصرف بطريق العقوبة فلا تثبته بالقياس وهو نظير ما قال أصحابنا - رحمهم الله - أن البكر إذا كانت مخوفا عليها فللولي أن يضمها إلى نفسه .
وكذلك الغلام البالغ إذا كان مخوفا عليه فللولي أن يضمه إلى نفسه وبأن ثبت له حق الحيلولة بينه وبين نفسه في التفرد بالسكنى لمعنى الزجر لا يستدل به على أنه يسقط اعتبار قوله في التصرف في نفسه نكاحا أو منع المال منه باعتبار بقاء أثر الصبي لأن العادة أن أثر الصبي يبقى زمانا في أوائل البلوغ .
ولهذا لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال منه وبأن جعل أثر الصبي كنفس الصبا في منع المال منه فذلك لا يدل على أن يجعل كذلك في الحجر عليه كما أن العدة تعمل عمل النكاح في المنع من النكاح دون إيفاء الحل بعد البينونة وهذا لأن نعمة اليد على المال نعمة زائدة وإطلاق اللسان في التصرفات نعمة أصلية فبان جواز إلحاق ضرر يسير به في منع نعمة زائدة لتوفر النظر عليه لا يستدل على أنه يجوز إلحاق الضرر العظيم به بتفويت النعمة الأصلية لمعنى النظر له فأما الآيات فقيل المراد بالسفيه الصغير أو المجنون لأن السفه عبارة عن الخفة وذلك بانعدام العقل ونقصانه وعليه يحمل قوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا } ( البقرة : 282 ) أي صبيا أو مجنونا وكذلك قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } ( النساء : 5 ) إما أن يكون المراد الصبيان أو المجانين بدليل أنه لا يثبت ولاية الولي عليه ومن يوجب الحجر على السفيه يقول إن ولاية الولي تزول عنه بالبلوغ عن عقل على ما بينه أو المراد نهي الأزواج عن دفع المال إلى النساء وجعل التصرف إليهن كما كانت العرب تفعله .
( ألا ترى ) أنه قال وأموالكم وذلك يتناول أموال المخاطبين بهذا النهي لا أموال السفهاء و ( حديث حبان بن منقذ ) دليلنا ذكر أبو يوسف - C - في الأمالي أن رسول الله - A - لم يحجر عليه وعلى الرواية الأخرى أطلق عنه الحجر لقوله : ( لا أصبر عن البيع ) ومن يجعل السفه موجبا للحجر لا يقول يطلق عنه الحجر بهذا القول فعرفنا أن ذلك لم يكن حجرا لازما و ( حديث عبدالله بن جعفر - Bه - ) دليلنا أيضا لأن عثمان - Bه - امتنع من الحجر عليه مع سؤال علي - Bه - وأكثر ما فيه أنه لم يكن في التصرف غبن ذلك حين رغب الزبير - Bه - في الشركة ولكن المبذر وإن تصرف تصرفا واحدا على وجه لا غبن فيه فإنه يحجر عليه عند من يرى الحجر فلما لم يحجر عليه دل أن ذلك على سبيل التخويف و ( حديث عائشة - Bها - دليلنا ) فإنه لما بلغها قول ابن الزبير حلفت أن لا يكلم ابن الزبير أبدا فإن كان الحجر حكما شرعيا لما استجازت هذا الحلف من نفسها مجازة على قوله فيما هو حكم شرعي وبهذا يتبين أن ابن الزبير إنما قال ذلك كراهة أن يفني مالها فتبتلي بالفقر فتصير عيالا على غيرها بعد ما كان يعولها رسول الله - A - والمصير إلى هذا أولى ليكون أبعد عن نسبة السفه والتبذير إلى الصحابة - Bهم .
فإن بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس منه الرشد دفع المال إليه في قول أبي حنيفة - C .
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - : لم يدفع المال إليه ما لم يؤنس منه الرشد لقوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } ( النساء : 6 ) فهذه آية محكمة لم ينسخها شيء . فلا يجوز دفع المال إليه قبل إيناس الرشد منه .
( ألا ترى ) أن عند البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد لا يدفع المال إليه بهذه الآية فكذلك إذا بلغ خمسا وعشرين لأن السفه يستحكم بمطاولة المدة ولأن السفه في حكم منع المال منه بمنزلة الجنون والعته وذلك يمنع دفع المال إليه بعد خمس وعشرين سنة كما قبله فكذلك السفه .
وأبو حنيفة استدل بقوله تعالى : { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } ( النساء : 2 ) معناه أن يكبروا يلزمكم دفع المال إليهم وقال الله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } ( النساء : 6 ) والمراد البالغين فهذا تنصيص على وجوب دفع المال إليه بعد البلوغ إلا أنه قام الدليل على منع المال منه بعد البلوغ إذا لم يؤنس رشده وهو ما تلوا فإن الله تعالى قال : { حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا } ( النساء : 6 ) وحرف الفاء للوصل والتعقيب فيكون بين أن دفع المال إليه عقيب البلوغ بشرط إيناس الرشد وما يقرب من البلوغ في معنى حالة البلوغ فأما إذا بعد عن ذلك فوجوب دفع المال إليه مطلق بما تلونا غير معلق بشرط ومدة البلوغ بالسن ثمانية عشر سنة فقدرنا مدة القرب منه بسبع سنين اعتبارا بمدة التمييز في الابتداء على ما أشار إليه النبي - A - في قوله : ( مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ) ثم قد بينا أن أثر الصبا يبقى بعد البلوغ إلى أن يمضي عليه زمان وبقاء أثر الصبا كبقاء عينه في منع المال منه ولا يبقى أثر الصبا بعد ما بلغ خمسا وعشرين سنة لتطاول الزمان به منذ بلغ ولهذا قال أبو حنيفة - C - لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لم يمنع منه المال لأن هذا ليس بأثر الصبا فلا يعتبر في منع المال منه أو منع المال كان على سبيل التأديب له والاشتغال بالتأديب ما لم ينقطع رجاء التأديب .
فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة ولم يؤنس رشده فقد انقطع رجاء التأديب لأنه يتوهم أن يصير جدا لأن البلوغ بالإنزال بعد اثنتي عشرة سنة يتحقق فإذا أحبل جاريته وولدت لستة أشهر ثم إن ولده أحبل جاريته بعد أثنتي عشر سنة وولدت لستة أشهر صار الأول جدا بعد تمام خمس وعشرين سنة ومن صار فرعه أصلا فقد تناهى في الأصلية .
فإذا لم يؤنس رشده عرفنا أنه انقطع منه رجاء التأديب فلا معنى لمنع المال منه . بعد ذلك وإلى هذا أشار في الكتاب فقال : أرأيت لو بلغ ستين سنة ولم يؤنس منه الرشد وصار ولده قاضيا أو نافلته أكان يحجر على أبيه وحده ويمتنع المال منه هذا قبيح ثم يقول بعد تطاول الزمان به لا بد أن يستفيد رشدا إما بطريق التجربة أو الامتحان فإن كان منع المال عنه بطريق العقوبة فقد تمكنت شبهة بإصابة نوع من الرشد والعقوبة تسقط بالشبهة .
وإن كان هذا حكما ثابتا بالنص غير معقول المعنى فقوله : ( رشدا ) منكر في موضع الإثبات والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تعم فإذا وجد رشد ما فقد وجد الشرط فيجب دفع المال إليه .
وهذا معنى ما نقل عن مجاهد - C - في معنى قوله : { فإن آنستم منهم رشدا } ( النساء : 6 ) أي عقلا لأنه بالعقل يحصل له رشد ما وفي الكتاب تتبع على أبي حنيفة - C - بقوله : أي فائدة في منع المال منه مع إطلاق التصرف وفي منع المال منه زمانا ثم الدفع إليه قبل إيناس الرشد منه وقد أوضحنا الفرق لأبي حنيفة - C - بما ذكرنا ثم السفيه إنما يبذر ماله عادة في التصرف التي لا تتم إلا بإثبات اليد على المال من اتخاذ الضيافة أو الهبة أو الصدقة فإذا كانت يده مقصورة عن المال لا يتمكن من تنفيذ هذه التصرفات فيحصل المقصود بمنع المال منه وإن كان لا يحجر عليه ثم إذا بلغ سفيها عند محمد - C - يكون محجورا عليه بدون حجر القاضي وقال أبو يوسف - C - لا يصير محجورا عليه ما لم يحجر عليه القاضي وكذلك لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها فمحمد يقول : قد قامت الدلالة لنا على أن السفه في ثبوت الحجر به نظير الجنون والعته والحجر يثبت بهما من غير حاجة إلى قضاء القاضي فكذلك في السفه وقاس الحجر بسبب الصغر والرق وأبو يوسف يقول : الحجر على السفيه لمعنى النظر له وهو متردد بين النظر والضرر ففي إبقاء الملك له نظر وفي إهدار قوله ضرر وبمثل هذا لا يترجح أحد الجانبين منه إلا بقضاء القاضي .
توضيحه : أن السفه ليس بشيء محسوس وإنما يستدل عليه بأن يغبن في التصرفات وقد يكون ذلك للسفه وقد تكون جبلة لاستجلاب قلوب المجاهرين فإذا كان مختبلا مترددا لا يثبت حكمه إلا بقضاء القاضي بخلاف الصغر والجنون والعبد ولأن الحجر بهذا السبب مختلف فيه بين العلماء - رحمهم الله - فلا يثبت إلا بقضاء القاضي كالحجر بسبب الدين .
والكلام في الحجر بسبب الدين في موضعين .
أحدهما : أن من ركبته الديون إذا خيف أن يلجئ ماله بطريق الإقرار فطلب الغرماء من القاضي أن يحجر عليه عند أبي حنيفة - C - لا يحجر عليه القاضي .
وعندهما يحجر عليه وبعد الحجر لا ينفذ تصرفه في المال الذي كان في يده عند الحجر وتنفذ تصرفاته فيما يكتسب من المال بعده وفي هذا الحجر نظر للمسلمين فإذا جاز عندهما الحجر عليه بطريق النظر فكذلك يحجر لأجل النظر للمسلمين .
وعند أبي حنيفة لا يحجر على المديون نظرا له فكذلك لا يحجر عليه نظرا للغرماء ولما في الحيلولة بينه وبين التصرف في ماله من الضرر عليه وإنما يجوز النظر لغرمائه بطريق لا يكون فيه إلحاق الضرر به إلا بقدر ما ورد الشرع به وهو الحبس في الدين لأجل ظلمه الذي تحقق بالامتناع من قضاء الدين مع تمكنه منه وخوف التلجئة ظلم موهوم منه فلا يجعل كالمتحقق ثم الضرر عليه في إهدار قوله فوق الضرر في حبسه ولا يستدل بثبوت الأدنى على ثبوت الأعلى كما في منع المال من السفيه مع الحجر عليه ثم هذا الحجر عندهما لا يثبت إلا بقضاء القاضي .
ومحمد - C - يفرق بين هذا وبين الأول فيقول هنا : الحجر لأجل النظر للغرماء فيتوقف على طلبهم وذلك لا يتم إلا بقضاء القاضي له والحجر على السفيه لأجل النظر له وهو غير موقوف على طلب أحد فيثبت حكمه بدون القضاء .
والفصل الثاني : أنه لا يباع على المديون ماله في قول أبي حنيفة - C - العروض والعقار في ذلك سواء لا مبادلة أحد النقدين بالآخر فللقاضي أن يفعل ذلك استحسانا لقضاء دينه وقال أبو يوسف ومحمد : يبيع عليه ماله فيقضي دينه ثمنه : ( لحديث معاذ - Bه - فإنه ركبته الديون فباع رسول الله - A - ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص ) وقال ( عمر بن الخطاب - Bه - في خطبته : أيها الناس إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حزن وأن أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأماته أن يقال سبق الحاج فأدان معرضا فأصبح وقد دين به ألا إني بائع عليه ماله فقاسم ثمنه بين غرمائه بالحصص فمن كان له عليه دين فليفد ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ) فكان هذا إتفاقا منهم على أنه يباع على المديون ماله والمعنى فيه أن بيع المال لقضاء الدين من ثمنه مستحق عليه بدليل أنه يحبس إذا امتنع منه وهو ما يجزي فيه النيابة والأصل إن امتنع عن إيفاء حق مستحق عليه وهو مما يجزي فيه النيابة ناب القاضي فيه منابه كالذي إذا أسلم عبده فأبى أن يبيعه باعه القاضي عليه بهذا والتعيين بعد مضي المدة إذا أبى أن يفارقها ناب القاضي منابه في التفريق بينهما وهذا بخلاف المديون إذا كان معسرا فإن القاضي لا يؤاجره ليقضي دينه من أجرته .
وكذلك لا يبيع ما عليه من ثياب بدنه لأن ذلك غير مستحق عليه بدليل أنه لا يحبسه لأجله وكذلك الدين إذا وجب على امرأة فإن القاضي لا يزوجها ليقضي الدين من صداقها لأن ذلك غير مستحق عليها بدليل أنها لا تحبس لتباشر ذلك بنفسها فلا ينوب القاضي فيه منابها وأبو حنيفة - C - استدل بقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ( النساء : 29 ) وبيع المال على المديون بغير رضاه ليس بتجارة عن تراض وقال - E - : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه ) ونفسه لا تطيب ببيع القاضي ماله عليه فلا ينبغي له أن يفعله لهذا الظاهر والمعنى فيه أن بيع المال غير مستحق عليه فلا يكون للقاضي أن يباشر ذلك عند امتناعه كالإجارة والتزويج .
وبيان الوصف : أن المستحق عليه قضاء الدين وجهة بيع المال غير متعين لقضاء الدين فقد يتمكن من قضاء الدين بالاستيهاب والاستقراض وسؤال الصدقة من الناس فلا يكون للقاضي تعيين هذه الجهة عليه بمباشرة بيع ماله .
والدليل عليه أنه يحبسه بالاتفاق وقد ورد الأثر به على ما روي ( أن رجلا من جهينة أعتق شقصا من عبد بينه وبين غيره فحبسه رسول الله - A - حتى باع غنيمة له وضمن نصيب شريكه ) ونحن نعلم أنه ما حبسه إلا بعد علمه بيساره لأن ضمان المعتق لا يجب إلا على الموسر ومع ذلك اشتغل رسول الله - A - بحبسه حتى باع بنفسه فعرفنا أن المديون يحبس لقضاء الدين .
ولو جاز للقاضي بيع ماله لم يشتغل بحبسه لما في الحبس من الإضرار به وبالغرماء في تأخير وصول حقهم إليهم فلا معنى للمصير إليه بدون الحاجة وفي اتفاق العلماء - رحمهم الله - على حبسه في الدين دليل على أنه ليس للقاضي ولاية بيع ماله في دينه وهذا بخلاف عبد الذمي إذا أسلم لأن عند إصرار المولى على الشرك إخراج العبد عن ملكه مستحق عليه بعينه فينوب القاضي منابه .
وكذلك في حق العنين لما تحقق عجزه عن الإمساك بالمعروف فالتسريح مستحق عليه بعينه فأما مبادلة أحد النقدين بالآخر بأن كان الدين عليه دراهم وماله دنانير ففي القياس ليس للقاضي أن يباشر هذه المصارفة لما بينا أن هذا الطريق غير متعين لما هو مستحق عليه وهو قضاء الدين .
وفي الاستحسان يفعل ذلك لأن الدراهم والدنانير جنسان صورة وجنس واحد معنى ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر في حكم الزكاة ولو كان ماله من جنس الدين صورة كان للقاضي أن يقضي دينه به فكذلك إذا كان ماله من جنس الدين معنى .
فإن قيل : فعلى هذا ينبغي أن يكون لصاحب الدين ولاية الأخذ من غير قضاء كما لو ظفر بحبس حقه وبالإجماع ليس له ذلك .
قلنا : لأنهما جنسان صورة وإن كانا جنسا واحدا حكما فلانعدام المجانسة صورة لا ينفرد صاحب الدين أخذه لأن فيه معنى المبادلة من وجه ولوجود المجانسة معنى قلنا : للقاضي أن يقضي دينه به يوضحه أن من العلماء من يقول لصاحب الدين أن يأخذ أحد النقدين بالآخر من غير قضاء ولا رضا وهو قول ابن أبي ليلى - C - والقاضي مجتهد فجعلنا له ولاية الاجتهاد هنا في مبادلة أحد النقدين بالآخر لقضاء الدين منه ولا يوجد هذا المعنى في سائر الأموال وفيه إضرار بالمديون من حيث إبطال حقه عن عين ملكه وللناس في الأعيان أغراض ولا يجوز للقاضي أن ينظر لغرمائه على وجه يلحق الضرر به فوق ما هو مستحق عليه ثم هذا المعنى لا يوجد في النقود لأن المقصود هناك المالية دون العين وأما تأويل معاذ - Bه - فنقول : إنما باع رسول الله - A - ماله بسؤاله لأنه لم يكن في ماله وفاء بدينه فسأل رسول الله - A - أن يتولى بيع ماله لينال ماله بركة رسول الله - A - فيصير فيه وفاء بديونه وهذا لأن عندهما يأمر القاضي المديون ببيع ماله أولا فإذا امتنع فحينئذ يبيع ماله ولا يظن بمعاذ - Bه - أنه كان يأبى أمر رسول الله - A - إياه ببيع ماله حتى يحتج ببيعه عليه بغير رضاه فإنه كان سمحا جوادا لا يمنع أحدا شيئا ولأجله ركبته الديون فكيف يمتنع من قضاء دينه بماله بعد أمر رسول الله - A - والمشهور في حديث أسيفع - Bه - أن عمر - Bه - قال : إني قاسم ماله بين غرمائه فيحمل على أنه كان ماله من جنس الدين وإن ثبت البيع فإنما كان ذلك برضاه .
( ألا ترى ) أن عندهما القاضي لا يبيعه إلا عند طلب الغرماء ولم ينقل أن الغرماء طالبوه بذلك وإنما المنقول أنه ابتدأهم بذلك وأمرهم أن يفدوا إليه فدل أنه كان ذلك برضاه ثم قد تم الكتاب على قول أبي حنيفة - C - وإنما التفريع بعد هذا على قول من يرى الحجر فنقول بين من يرى الحجر بسبب السفه اختلاف في صفة الحجر فعلى قول الشافعي - C - الحجر به بمنزلة الحجر بسبب الرق حتى لا ينفذ بعد الحجر شيء من تصرفاته سوى الطلاق لأن السفه لا يزيل الخطاب ولا يخرجه من أن يكون أهلا لالتزام العقوبة باللسان باكتساب سببها أو بالإقرار بها بمنزلة الرق فكما أن بعد الرق لا ينفذ شيء من تصرفاته سوى الطلاق فكذلك بعد الحجر بسبب السفه .
وأبو يوسف ومحمد قالا : المحجور عليه بسبب السفه في التصرفات كالهازل يخرج كلامه على غير نهج كلام العقلاء لقصده اللعب به دون ما وضع الكلام له لا لنقصان في عقله فكذلك السفيه يخرج كلامه في التصرفات على غير نهج كلام العقلاء لاتباع الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله وكل تصرف لا يؤثر فيه الهزل كالنكاح والطلاق والعتاق لا يؤثر فيه السفه ولا يجوز أن يجعل هذا نظير الحجر بسبب الرق لأن ذلك الحجر لحق الغير في المحل الذي يلاقيه تصرفه حتى فيما لا حق للغير فيه يكون تصرفه نافذا وهنا لا حق لأحد في المحل الذي يلاقيه تصرفه ثم على مذهبهما القاضي ينظر فيما باع واشترى هذا السفيه .
فإن رأى إجازته أجازه وكان جائزا لانعدام الحجر قبل القضاء عند أبي يوسف - C - ولإجازة القاضي عند محمد - C - فإن حاله لا يكون دون حال الذي لم يبلغ إذا كان عاقلا وهناك إذا باع واشترى وأجازه القاضي جاز وهذا لأن الحجر عليه لمعنى النظر وربما يكون النظر له في إجازة هذا التصرف فلهذا نفذ بإجازة القاضي سواء باشره السفيه أو الصبي العاقل .
قال : ( وهما سواء في جميع الأشياء إلا في خصال أربع : أحدها : لا يجوز لوصي الأب أن يبيع شيئا من مال هذا الذي بلغ وهو سفيه إلا بأمر الحاكم ويجوز له البيع والشراء على الذي لم يبلغ ) لأن ولاية الوصي عليه ثابتة إلى وقت البلوغ .
( ألا ترى ) أنه ينفرد بالإذن له والحجر عليه وأنه قائم مقام الأب في ذلك وللأب ولاية على ولده ما لم يبلغ فأما بعد ما بلغ عاقلا لا يبقى للوصي عليه ولاية أما عند أبي يوسف فلأنه صار ولي نفسه ما لم يحجر عليه القاضي ومن ضرورة كونه ولي نفسه انتفاء ولاية الوصي عنه .
وأما عند محمد فلأن البلوغ عن عقل مخرج له من أن يكون مولى عليه ويثبت له الولاية على نفسه .
( ألا ترى ) أن لمعنى النظر له امتنع ثبوت أحد الحكمين وهو ثبوت الولاية له في التصرفات بنفسه ولا يتحقق مثل ذلك النظر في إبقاء ولاية الولي عليه ثم قد بينا أن تأثير السفه كتأثير الهزل ولا أثر للهزل في إثبات الولاية عليه للوصي وللهزل تأثير في إبطال تصرفه فلهذا لا يجوز تصرف الوصي عليه إلا أن يأمره الحاكم بذلك فحينئذ يقوم هو في التصرف له مقام القاضي ومعلوم أن القاضي إذا حجر عليه لا يتركه ليموت جوعا ولكن يتصرف له فيما يحتاج إليه وربما لا يتمكن من مباشرة ذلك بنفسه لكثرة أشغاله فلا بد من أن يقيم غيره فيه مقامه .
( والثاني : أن السفيه إذا أعتق مملوكا له نفذ عتقه بخلاف الذي لم يبلغ ) لما بينا أن تأثير السفه كتأثير الهزل ثم في قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول : على العبد أن يسعى في قيمته وفي قول أبي يوسف الآخر : ليس عليه السعاية في قيمته لأنه لو سعى إنما يسعى لمعتقه والمعتق لا تلزمه السعاية قط لحق معتقه بحال إنما تلزمه السعاية لحق غيره والثاني أن تأثير السفه كتأثير الهزل ومن أعتق مملوكه هازلا لا تلزمه السعاية في قيمته فهذا قياسه .
وجه قول محمد - C - أن الحجر على السفيه لمعنى النظر له فيكون بمنزلة الحجر على المريض لأجل النظر لغرمائه وورثته ثم هناك إذا أعتق عبدا وجب عليه السعاية لغرمائه أو في ثلثي قيمته لورثته إذا لم يكن عليه دين ولا مال سواه لأن رد العتق واجب لمعنى النظر وقد تعذر رده عليه فيكون الرد بإيجاب السعاية فهنا أيضا واجب لمعنى النظر له وقد تعذر رد عينه فيكون الرد بإيجاب السعاية فهنا أيضا رد العتق واجب لمعنى النظر له وقد تعذر رده فكان الرد بإيجاب السعاية وقد بينا أن معنى النظر له في حكم الحجر بمنزلة النظر للمسلمين في الحجر بسبب الدين فكذلك في حكم السعاية .
( والثالث : أن الذي لم يبلغ إذا دبر عبده لا يصح تدبيره وهذا السفيه إذا دبر عبده جاز تدبيره ) لأن التدبير يوجب حق العتق للمدبر فيعتبر بحقيقة العتق إلا أن هناك تجب عليه السعاية في قيمته وهنا لا تجب إلا بعد صحة التدبير في مال مملوك له يستخدمه ولا يمكن إيجاب نقصان التدبير عليه لأنه لما بقي على ملكه والمولى لا يستوجب على مملوكه دينا تعذر إيجاب النقصان عليه .
( ألا ترى ) أنه لو دبر عبده بمال وقبله العبد كان التدبير صحيحا ولا يجب المال بخلاف ما إذا كاتبه أو أعتقه على مال فإن مات المولى قبل أن يؤنس منه لرشد سعى الغلام في قيمته مدبرا لأن بموت المولى عتق فكأنه أعتقه في حياته فعليه السعاية في قيمته وإنما لاقاه المعتق وهو مدبر فيسعى في قيمته مدبرا .
( ألا ترى ) أن مصلحا لو دبر عبدا له في صحته ثم مات وعليه دين يحيط بقيمته أن على العبد أن يسعى في قيمته مدبرا لغرمائه فهذا مثله وكذا لو أعتقه بعد التدبير نفذ عتقه وعليه السعاية في قيمته لما قلنا .
( والرابع : أن وصايا الذي لم يبلغ لا تكون صحيحة والذي بلغ مفسدا إذا أوصى بوصايا فالقياس فيه كذلك أنها باطلة بمنزلة تبرعاته في حياته ) ولكنا نستحسن أن ما وافق الحق وما يتقرب به إلى الله تعالى وما يكون على وجه الفسق من الوصية للقرابات ولم يأت بذلك سرف ولا أمر يستقبحه المسلمون أنه ينفذ ذلك كله من ثلث ماله لأن الحجر عليه لمعنى النظر له حتى لا يتلف ماله فيبتلي بالفقر الذي هو الموت الأحمر وهذا المعنى لا يوجد في وصاياه لأن أوان وجوبها بعد موته وبعدما وقع الاستغناء عن المال في أمر دنياه .
فإذا حصلت وصاياه على وجه يكون فيه نظر منه لأمر أضربه أو لاكتساب الثناء الحسن بعد موته لنفسه وجب تنفيذه لأن النظر له في تنفيذ هذه الوصايا والتدبير من هذه الجملة فيعتق به بعد الموت لهذا وكان ينبغي أن لا يجب على المدبر السعاية ولكنه أوجب السعاية لما فيه من معنى إبطال المالية فكلام أبي يوسف يتضح في هذا الفصل ثم العلماء - رحمهم الله - اختلفوا في وصية الذي لم يبلغ بأهل المدينة - رحمهم الله - يجوزون من وصاياه ما وافق الحق وبه أخذ الشافعي - C - على ما سنبينه في كتاب الوصايا وقد جاءت فيه الأثار حتى روي أن عمر بن الخطاب - Bه - أجاز وصية غلام يفاع وفي رواية يافع وهو المراهق وأن شريحا - C - سئل عن وصية غلام لم يبلغ فقال : إن أصاب الوصية فهو جائز وهكذا نقل عن الشعبي - C - فحال هذا الذي بلغ وصار مخاطبا بالأحكام أقوى من حال الذي لم يبلغ فاختلاف العلماء في وصية الذي لم يبلغ يكون اتفاقا منهم في وصية السفيه أنه إذا وافق الحق وجب تنفيذه فهذا وجه آخر للاستحسان .
ثم الحاصل أن السفه لا يجعل كالهزل في جميع التصرفات ولا كالصبا ولا كالمرض ولكن الحجر به لمعنى النظر له فالمعتبر فيه توفر النظر عليه وبحثه يلحق ببعض هذه الأصول في كل حادثة فإن جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكان الولد حرا لا سبيل عليه والجارية أم ولد له فإن مات كانت حرة لا سبيل عليها لأن توفر النظر في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد فإنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله وصيانة مائه ويلحق في هذا الحكم بالمريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته . كان هو في ذلك كالصحيح حتى أنها تعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى هي ولا ولدها في شيء لأن حقه مقدم على حق غرمائه بخلاف ما لو أعتقها .
ولو لم يكن معها ولد .
وقال : هذه أم ولد كانت بمنزلة أم الولد يقدر على بيعها فإن مات سعت في جميع قيمتها بمنزلة المريض إذا قال لجاريته وليس معها ولد هذه أم ولدي وهذا لأنه إذا كان معها ولد فثبوت نسب الولد بمنزلة الشاهد لها في إبطال حق الغير فكذلك في دفع حكم الحجر عن تصرفه بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد فإنه لا شاهد له هنا فإقراره لها بحق العتق بمنزلة إقراره بحقيقة الحرية فلا يقدر على بيعها بعد ذلك ويسعى في قيمتها بعد موته كما لو أعتقها ولو كان له عبد لم يولد في ملكه فقال : هذا ابني ومثله يولد لمثله فهو ابنه يعتق ويسعى في قيمته لأنه أصل العلوق ولما لم يكن في ملكه كانت دعواه دعوى تحرير فيكون كالإعتاق .
( ألا ترى ) أن المريض المديون إذا قال لعبد لم يولد في ملكه هذا ابني عتق وسعى في قيمته ولو اشترى هذا المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره فيثبت له الملك بالقبض ويعتق عليه لأنه ملك ابنه ثم يسعى في قيمته للبائع ولا يكون للبائع في مال المشتري شيء من ذلك لأنه وإن ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي وإذا لم يجب على المحجور شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع .
ولو وهب له ابنه المعروف أو وهب له غلام فقبضه وادعى أنه ابنه فإنه يعتق ويلزمه السعاية في قيمته بمنزلة ما لو أعتقه .
( ألا ترى ) أن المريض المديون لو وهب له ابنه المعروف أو وهب له غلام في مرضه فادعى أنه ابنه ثم مات سعى الغلام في قيمته لغرمائه ولو أن هذا الذي بلغ مفسدا تزوج امرأة جاز نكاحه وينظر إلى ما تزوجها عليه وإلى مهر مثلها فيلزمه أقلهما ويبطل الفضل عن مهر مثلها مما سمى وهو في ذلك كالمريض المديون فإن التزوج من حوائجه ومن ضرورة صحة النكاح وجوب مقدار مهر المثل فأما الزيادة على ذلك فالتزام بالتسمية ولا نظر له في هذا الالتزام فلا تثبت هذه الزيادة كالمريض إذا تزوج امرأة بأكثر من صداق مثلها يلزمه من المسمى مقدار مهر مثلها فإذا طلقها قبل الدخول وجب لها نصف المهر في ماله لأن التسمية صحيحة في مقدار مهر المثل وتنصف المفروض بالطلاق قبل الدخول حكم ثابت بالنص .
وكذلك لو تزوج أربع نسوة أو تزوج كل يوم واحد ثم طلقها وبهذا يحتج أبو حنيفة - C - أنه لا فائدة في الحجر عليه لأنه لا ينسد باب إتلاف المال عليه وأنه يتلف ماله بهذا الطريق إذا اعجز عن إتلافه بطريق البيع والهبة وهو يكتسب المحمدة في البر والإحسان والمذمة في التزوج والطلاق قال - E - : ( لعن الله كل ذواق مطلاق ) .
ولو حلف بال