( قال - C - ) : ( وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أكل الميتة أو لحم الخنزير أو شرب الخمر فلم يفعل حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما ) لأن حالة الضرورة مستثناة من التحريم والميتة والخمر في هذه الحالة كالطعام والشراب في غير حالة الضرورة ولا يسعه أن يمتنع من ذلك حتى يتلف .
( ألا ترى ) أن الذي يخاف الهلاك من الجوع والعطش إذا وجد ميتة أو لحم خنزير أو دما فلم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما وقد بينا هذا فيما سبق في الماء الذي خالطه الخمر التحرز عن قول من خالفنا في شرب الخمر عند العطش ( وفائده ) وذكره عن مسروق - C - قال : من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير أو دم فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا دليلنا على قول أبي يوسف وفيه دليل أنه لا بأس بإطلاق القول بدخول ( النار ) لمن يرتكب ما لا يحل له وإن كان المذهب أنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء عفى عنه حتى اشتغل بعضهم بالتأويل بهذا اللفظ قالوا : مراده الدخول الذي هو تحلة القسم قال الله تعالى : { وإن منكم إلا واردها } ( مريم : 71 ) أي داخلها وهو المذهب عند أهل السنة والجماعة ولكن هذا بعيد لأن مراده بيان الجزاء على ارتكاب ما لا يحل ولكن لا يظن أحد بمثله أنه يقصد بهذا اللفظ نفي المشيئة وقطع القول بالعذاب .
فإن كان لا يعلم أن ذلك يسعه رجوت أن لا يكون آثما لأنه قصد به التحرز عن ارتكاب الحرام في زعمه وهذا لأن انكشاف الحرمة عند تحقق الضرورة دليله خفي فيعذر فيه بالجهل كما أن عدم وصول الخطاب إليه قبل أن يشتهر يجعل عذرا له في ترك ما ثبت بخطاب الشرع يعني الصلاة في حق من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوبها عليه .
ثم ذكر في فصل الإكراه على الكفر : أنه إذا امتنع من ذلك حتى قتل لم يكن آثما وقد بينا أنه مأجور فيه كما جاء في الأثر : أن المجبر في نفسه في ظل العرش يوم القيامة إن أبى الكفر حتى قتل ( وحديث خبيب - Bه - فيه معروف ) وأشار إلى الأصل الذي بينا أن إجراء كلمة الشرك في هذه الحالة رخصة له والامتناع هو العزيمة فإن ترخص بالرخصة وسعه وإن تمسك بالعزيمة كان أفضل له لأن في تمسكه بالعزيمة إعزاز الدين وغيظ المشركين فيكون أفضل .
وعلى هذا إذا قيل له : لئن صليت لأقتلنك فخاف ذهاب الوقت فقام وصلى وهو يعلم أنه يسعه تركه فلما صلى قتل لم يكن آثما في ذلك لأنه تمسك بالعزيمة أيضا .
وكذلك صوم رمضان لو قيل له وهو مقيم : لئن لم تفطر لنقتلنك فأبى أن يفطر حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا لأنه متمسك بالعزيمة وفيما فعله إظهار الصلابة في الدين وإن أفطر وسعه ذلك لأن الفطر رخصة له عند الضرورة إلا أن يكون مريضا يخاف على نفسه إن لم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه فحينئذ يكون آثما وكذلك لو كان مسافرا فصام في شهر رمضان فقيل له : لنقتلنك أو لتفطرن فأبى أن يفطر حتى قتل كان آثما لأن الله تعالى أباح له الفطر في هذين الوجهين معتدا بقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } ( البقرة : 184 ) فعند خوف الهلاك شهر رمضان في حقهما أيامه كلياليه وكأيام شعبان في حق غيرهما فيكون في الامتناع حتى يموت بمنزلة المضطر في فصل الميتة بخلاف الصحيح المقيم فالأمر بالصوم في حقه عزيمة قال الله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ( البقرة : 185 ) والفطر عند الضرورة رخصة فإن ترخص بالرخصة فهو في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له وهذا كله بناء على مذهبنا أنه يصير مفطرا بالتناول مكرها وعند الشافعي - C - لا يصير مفطرا وقد بينا هذا في الصوم فإن الحاطئ والمكره عنده في الحكم سواء وقال : المكره مسلوب الفعل .
( ألا ترى ) أن الإتلاف الحاصل بفعله يصير منسوبا إلى المكره ولكنا نقول : المكره إنما يجعل آلة للمكره فيما يصلح أن يكون آلة له وهو في الجناية على صوم نفسه لا يصلح أن يكون آلة للغير فيقتصر حكم فعله في حق الإفطار عليه .
( ألا ترى ) أن المكره لو كان صائما لم يصر مفطرا بهذا فلو جعلنا الفعل عدما في حكم المكره في حق الصوم رجع إلى الإهدار وليس للإكراه تأثير في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وبه فارق حكم الضمان لأنا لو جعلنا الفعل منسوبا إلى المكره لا يؤدي إلى الإهدار ولا إلى تبديل محل الجناية .
ولو قال له : لأقتلنك أو لتأخذن مال هذا الرجل فتعطينيه فأبى أن يفعل ذلك حتى قتل وهو يعلم أن ذلك يسعه كان مأجورا إن شاء الله لأن الأخذ عند الضرورة مباح له بطريق الرخصة وقيام الحرمة والتقوى حقا للمالك يوجب أن تكون العزيمة في ترك الأخذ فإن تمسك بالعزيمة كان مأجورا وقيده بالاستثناء لأنه لم يجعل هذا بعينه نصا بعينه وإنما قاله بالقياس على ما تقدم وليس هذا في معنى ما تقدم من كل وجه لأن الامتناع من الأخذ هنا لا يرجع إلى إعزاز الدين فلهذا قيده بالاستثناء .
ولو أن محرما قيل له لنقتلنك أو لتقتلن هذا الصيد فأبى أن يفعل حتى قتل كان مأجورا إن شاء الله لأن حرمة قتل الصيد على المحرم حرمة مطلقة قال الله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ( المائدة : 95 ) فكان الامتناع عزيمة وإباحة قتل الصيد رخصة عند الضرورة فإن ترخص بالرخصة كان في سعة من ذلك وإن تمسك بالعزيمة فهو أفضل له فإن قتل الصيد فلا شيء عليه في القياس ولا على الذي أمره .
وفي الاستحسان : على القاتل الكفارة أما الآمر فلا شيء عليه لأنه حلال لو باشر قتل الصيد بيده لم يلزمه شيء فكذلك إذا أكره عليه غيره وأما المحرم ففي القياس لا شيء عليه لأنه صار آلة للمكره بالإلجاء التام فينعدم الفعل في جانبه .
( ألا ترى ) أن في قتل المسلم لا يكون هو ضامنا شيئا لهذا المعنى وإن كان لا يسعه الإقدام على القتل ففي قتل الصيد أولى ووجه الاستحسان أن قتل الصيد منه جناية على إحرامه وهو بالجناية على إحرام نفسه لا يصلح أن يكون آلة لغيره فأما قتل المسلم فجناية على المحل وهو يصلح أن يكون آلة للمكره في ذلك حتى أن في حق الإثم لما كان ذلك جناية على حق دينه وهو لا يصلح آلة لغيره في ذلك اقتصر الفعل عليه في حق الإثم .
توضيحه : أنه لما لم يجب على الآمر هنا شيء فلو لم توجب الكفارة على القاتل كان تأثير الإكراه في الإهدار وقد بينا أنه لا تأثير للإكراه في الإهدار ولا في تبديل محل الجناية وإن كانا محرمين جميعا فعلى كل واحد منهما كفارة أما على المكره فلأنه لو باشر قتل الصيد بيده لزمته الكفارة فكذلك إذا باشر بالإكراه وأما المكره فلأنه في الجناية على إحرام نفسه لا يصلح آلة لغيره .
يوضحه : أنه لا حاجة هنا إلى نسبة أصل الفعل إلى المكره في إيجاب الكفارة عليه فكفارة الصيد تجب على المحرم بالدلالة والإشارة وإن لم يصر أصل الفعل منسوبا إليه فكذلك هنا وبه فارق كفارة القتل إذا كان خطأ أو شبه عمد فإنه يكون على المكره دون المكره بمنزلة ضمان الدية والقصاص لأن تلك الكفارة لا تجب إلا بمباشرة القتل ومن ضرورة نسبة المباشرة إلى المكره أن لا يبقى فعل في جانب المكره وهنا وجوب الكفارة لا يعتمد مباشرة القتل فيجوز إيجابه على المكره بالمباشرة وعلى المكره بالتسبيب ولأن السبب هنا الجناية على الإحرام وكل واحد منهما جان على إحرام نفسه فأما هناك فالسبب هو الجناية على المحل والمحل واحد فإذا أوجبنا الكفارة باعتبارها على المكره .
قلنا : لا يجب على المكره .
ولو توعده بالحبس وهما محرمان ففي القياس تجب الكفارة على القاتل دون الآمر لأن قتل الصيد فعل ولا أثر للإكراه بالحبس في الأفعال .
وفي الاستحسان : على كل واحد منهما الجزاء أما على القاتل فلا يشكل وأما على المكره فلأن تأثير الإكراه بالحبس أكثر من تأثير الدلالة والإشارة وإذا كان الجزاء يجب على المحرم بالدلالة والإشارة فبالإكراه بالحبس أولى .
ولو كانا حلالين في الحرم وقد توعده بقتل كانت الكفارة على المكره لأن جزاء الصيد في حكم ضمان المال ولهذا لا يتأدى بالصوم فلا تجب بالدلالة ولا تتعدد بتعدد الفاعلين وهذا لأن وجوبها باعتبار حرمة المحل فيكون بمنزلة ضمان المال وذلك على المكره دون المكره عند التهديد بالقتل وإن توعده بالحبس كانت الكفارة على القاتل خاصة بمنزلة ضمان المال وبمنزلة الكفارة في قتل الآدمي خطأ ولو أن رجلا وجب عليه أمر بمعروف أو نهى عن منكر فخاف إن فعل أن يقتل وسعه أن لا يفعل وإن فعل فقتل كان مأجورا لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض مطلقا قال الله تعالى : { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } ( لقمان : 17 ) الآية والترك عند خوف الهلاك رخصة قال الله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } ( آل عمران : 28 ) فإن ترخص بالرخصة كان في سعة وإن تمسك بالعزيمة كان مأجورا .
وذكر في السير الكبير أن المسلم إذا أراد أن يحمل على جمع من المشركين وهو يعلم أنه لا ينكى فيهم وأنه يقتل لم يسعه ذلك لأنه يكون ملقيا نفسه في التهلكة من غير فائدة ولو أراد أن يمنع قوما من فسقة المسلمين عن منكر اجتمعوا عليه وهو يعلم أنهم لا يمتنعون بسببه وأنهم يقتلونه فإنه يسعه الإقدام على ذلك لأن هؤلاء يعتقدون الإسلام فزجره إياهم يؤثر فيهم اعتقادا لا محالة وأولئك غير معتقدين فالشرط أن ينكى فعله فيهم حسا فإذا علم أنه لا يتمكن من ذلك لا يسعه الإقدام .
ولو أكره بالقتل على أن يزني لم يسعه أن يفعل فإن فعل وكان محرما فسد إحرامه وعليه الكفارة دون الذي أكرهه لما بينا أن فعله جناية على إحرامه وهو في الجناية على إحرامه لا يصلح أن يكون آلة لغيره .
ولو أكرهت امرأة محرمة بالقتل على الزنا وسعها أن تمكن من نفسها وقد بينا الفرق بين جانبها وجانب الرجل في حكم الإثم فأما فساد الإحرام فلا فرق حتى يفسد إحرامها ويجب عليها الكفارة دون المكره لأن تمكنها من نفسها جناية على إحرامها وهي لا تصلح في ذلك آلة للمكره .
وإن لم تفعل حتى تقتل فهي في سعة من ذلك لأن حرمة الزنا والجماع في حالة الإحرام حرمة مطلقة فهي في الامتناع تتمسك بالعزيمة وفي كل موضع من هذه المواضع أوجبنا الكفارة على المكره لا يرجع به على المكره لأنه ألزمه كفارة يفي بها .
ولو رجع بها عليه يقضي بها عليه ولا يجوز أن يرجع عليه بأكثر مما التزمه وكل أمر أحله الله تعالى مثل ما أحل في الضرورة من الميتة وغيرها والفطر في المرض والسفر فلم يفعل حتى مات أو قتل فهو آثم وكل أمر حرمه الله تعالى ولم يجئ فيه إحلال إلا أن فيه رخصة فأبى أن يأخذ بالرخصة حتى قتل فهو في سعة لأن هذا إغرار بالدين وليس في الأول إغرار بالدين .
( ألا ترى ) أن محرما لو اضطر إلى ميتة وإلى ذبح صيد حل له عندنا أكل الميتة ولم يحل له ذبح الصيد ما دام يجد الميتة لأن الميتة حلال في حال الضرورة والصيد جاء تحريمه على المحرم جملة ولأنه لو ذبح الصيد صار ميتة أيضا فيصير هو جامعا بين ذبح الصيد وتناول الميتة وإذا تناول الميتة كان ممتنعا من الجناية على إحرامه بقتل الصيد والحل لأجل الضرورة فإن كانت الضرورة ترتفع بأحدهما لم يكن له أن يجمع بينهما .
ولو قيل لرجل دلنا على مالك أو لنقتلنك فلم يفعل حتى قتل لم يكن آثما لأنه قصد الدفع عن ماله وذلك عزيمة قال E : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) ولأن في دلالته إياهم عليه إعانة لهم على معصية الله تعالى وقد قال الله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ( المائدة : 2 ) فلهذا يسعه أن لا يدلهم وإن دلهم حتى أخذوه ضمنوا له لأن بدلالته لا يخرجون من أن يكونوا غاصبين لماله متلفين فعليهم الضمان والله أعلم بالصواب