( قال - C - ) : ( وإذا أكره الرجل بوعيد تلف على أن يكفر يمينا قد حنث فيها فكفر بعتق أو صدقة أو كسوة أجزأه ذلك ولم يرجع على المكره بشيء ) لأنه أمره بإسقاط ما هو واجب عليه شرعا وذلك من باب الحسبة فلا يكون موجبا للضمان على المكره وكأنه يعوضه ما جبره عليه من التكفير بسقوط التبعة عنه في الآخرة وأما الجواز عن الكفارة فلأن الفعل في التكفير مقصور عليه لما لم يرجع على المكره بشيء ومجرد الخوف لا يمنع جواز التكفير .
( ألا ترى ) أن كل مكفر يقدم على التكفير خوفا من العذاب ولا يمنع ذلك جوازه .
ولو أكرهه على أن يعتق عبده هذا عنها ففعل لم يجزه لأن المستحق عليه شرعا الكفالة لا إبطال الملك في هذا العبد بعينه فالمكره في إكراهه على إعتاق هذا العبد بعينه ظالم فيصير فعله في الإتلاف منسوبا إلى المكره ويجب عليه ضمان قيمته وإذا لزمه قيمته لم يجز عن الكفارة لانعدام التكفير في حق المكره حين صار منسوبا إلى غيره ولأن هذا في معنى عتق بعوض والكفارة لا تتأتى بمثله .
ولو كان أكرهه بالحبس أجزأه عن الكفارة لأن الفعل منسوب إليه دون المكره ولم يستوجب الضمان على المكره بهذا الإكراه فتتأدى به الكفارة لاقتران النية بفعل الإعتاق .
ولو أكرهه بوعيد تلف على الصدقة في الكفارة ففعل ذلك نظر فيما تصدق به فإن كانت قيمته أقل من قيمة الرقاب ومن أدنى الكسوة التي تجزئ لم يضمن المكره شيئا لتيقننا بوجوب هذا المقدار من المال عليه في التكفير فيكون المكره مكتسبا سبب إسقاط الواجب عنه .
وإن كان أكثر قيمة من غيرها ضمنه الذي أكرهه لأنه لا يغبن في وجوب هذا المقدار عليه ولا هذا النوع بل هو مخير شرعا بين الأنواع الثلاثة ويخرج عن الكفارة باختياره أقلها فيكون المكره متلفا عليه هذا النوع بغير حق فيضمنه له ولا يجزئه عن الكفارة .
وإن قدر على الذي أخذه منه كان له أن يسترده لأنه كان مكرها على التسليم إليه وتمليكه إياه مع الإكراه فاسد فيتمكن من استرداده .
وإن كان أكرهه بالحبس لم يضمن المكره شيئا لأن الفعل لا يصير منسوبا إليه بهذا الإكراه ولكنه يرجع به على الذي أخذ منه لأنه ما كان راضيا بالتسليم إليه والتمليك مع الإكراه بالحبس فإن أمضاه له بعد ذلك بغير إكراه أجزأه إن كان قائما وإن كان مستهلكا لم يجزه لأنه إذا كان قائما في يده فإمضاؤه بمنزلة ابتداء التصدق عليه .
وإن كان مستهلكا فهو دين عليه والتصدق بالدين على من هو عليه لا يجزئ عن الكفارة وكذلك هذا في كفارة الظهار .
وقد قال بعض مشايخنا - رحمهم الله - : أنه إذا أكرهه في كفارة الظهار على عتق عبد بعينه وذلك أدنى ما يجزئ في الكفارة لا يكون على المكره فيه ضمان ويجزيه عن الكفارة لأنا تيقنا أن ذلك القدر واجب عليه فالتكفير بالعتق عين في الظهار والأصح أن ذلك لا يجزيه وعلى المكره قيمته لأنه وإن لم يكن ظالما له في القدر فهو ظالم له في العين إذ ليس عليه إعتاق هذا بعينه وللناس في الإعتاق أغراض فيلزم المكره الضمان بهذا الطريق وإذا لزمه الضمان لم يجزه عن الكفارة .
قال : ( وكذلك كل شيء وجب لله تعالى عليه من بدنة أو هدي أو صدقة أو حج فأكره على أن يمضيه ففعل ولم يأمره المكره بشيء بعينه فلا ضمان على المكره ويجزي عن الرجل ما أمضاه ) ولأن المكره محتسب حين لم يزد على أمره بإسقاط الواجب والوفاء بما التزمه وقد قال الله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ( النحل : 91 ) فإن أوجب شيئا بعينه على نفسه صدقة في المساكين فأكره بحبس أو قيد على أن يتصدق بذلك جاز ما صنع منه ولم يرجع على المكره بشيء لأن الوفاء بما التزمه مستحق عليه شرعا كما التزمه فإذا التزم التصدق بالعين كان عليه الوفاء به في ذلك العين والمكره ما زاد في أمره على ذلك فلا يرجع عليه بشيء .
وكذلك الأضحية وصدقة الفطر لو أكره عليهما رجل حتى فعلهما أجزآه ولم يرجع على المكره بشيء لأن ذلك واجب عليه شرعا وهذا الجواب في الأضحية بناء على ظاهر الرواية . أنها واجبة ومقصوده أن يبين أن الواجب الذي يثبت للإمام فيه ولاية الأخذ والذي لا يثبت له في ذلك ولكن من عليه يقضي بأدائه في حكم الإكراه سواء .
ولو قال لله تعالى : علي هدي أهديه إلى بيت الله فأكره بالقتل على أن يهدي بعيرا أو بدنة ينحرها ويتصدق بها ففعل كان المكره ضامنا قيمتها ولا يجزيه ما أوجبه على نفسه لأن بلفظ الهدي لا يتعين عليه البعير ولا البقرة ولكن يخرج عنه بالشاة فالمكره ظالم له في تعيين البدنة فيلزمه ضمان قيمتها ولا يجزيه عما أوجبه لحصول العوض أو لأن الفعل صار منسوبا إلى المكره .
ولو أكرهه على أدنى ما يكون من الهدي في القيمة وغيرها فأمضاه لم يغرم المكره شيئا لأنه ما زاد على ما هو الواجب عليه شرعا ولو قال لله : علي عتق رقبة فأكرهه على أن يعتق عبدا بعينه بقتل فأعتقه ضمن المكره قيمته ولم يجزه عن النذر لأنه التزم بعتق رقبة بغير عينها والمكره في أمر بعتق عبد بعينه ظالم فيكون ضامنا قيمته وإن كان يعلم الذي أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يكون من التسمية لم يكن على المكره ضمان وأجزأ عن المعتق لتيقننا بوجوب هذا المقدار عليه .
ومن قال من أصحابنا في مسألة كفارة الظهار أن المكره لا يضمن إذا أكرهه على عتق عبد هو أدنى ما يجزي إنما أخذ جوابه من هذا الفصل وعلى ما قلنا من الجواب المختار هذه لا تشبه تلك لأن الناذر إنما يلتزم الوفاء بالمنذور من أعيان ملكه فيصير كالمعتق للأدنى عن نذره فأما في الكفارة فالواجب دين في ذمته ولا يتناول أعيان ملكه .
( ألا ترى ) أن في الكفارات قد يخرج بغير الإعتاق عند العجز عن الإعتاق وفي النذر لا يخرج بدون الإعتاق ولا يكون الإعتاق إلا في ملكه فمن هذا الوجه يقع الفرق .
ولو قال لله علي أن أتصدق بثوب هروي أو مروي فأكرهه على أن يتصدق بثوب بعينه فإنه ينظر إلى الذي تصدق به فإن كان العلم محيطا بأنه أدنى ما يكون من ذلك الجنس في القيمة وغيرها أجزأه ذلك ولا ضمان على المكره لأنه ما ألزمه ما يكون من ذلك الجنس في القيمة وغيرها أجزأه ذلك ولا ضمان على المكره لأنه ما ألزمه بالإكراه إلا ما يعلم أنه مستحق عليه بنذره شرعا .
وإن كان غيره أقل من قيمته نظر إلى فضل ما بين القيمتين فغرم المكره ذلك لأنه في الزيادة على الأدنى يلزمه ذلك بالإكراه من غير أن كان واجبا عليه وهذا بخلاف الهدي والأضحية والعتق لأن ذلك مما لا ينتقض فإذا ضمن المكره بعضه صار ناقضا ما وجب عليه فلا يجزيه عن الواجب فلهذا يغرم المكره جميع القيمة والتصدق بالثوب مما يحتمل التجزي فإنه لو تصدق بنصف ثوب جيد يساوي ثوبا كما لزمه أجزأه عن الواجب فنحن وإن أوجبنا ضمان الزيادة على المكره وقع المؤدى في مقدار الأدنى مجزيا عن الواجب يوضحه أن في التصدق تعتبر المالية .
( ألا ترى ) أن له أن يتصدق بقيمة الثوب مكان الثوب وعند النظر إلى القيمة يظهر الفضل وفي الهدايا والضحايا وعتق الرقاب لا تعتبر المالية حتى لا يتأدى الواجب بالقيمة فلهذا قلنا : إذا صار ضامنا للبعض ضمن الكل .
وإذا قال لله علي أن أتصدق بعشرة أقفزة حنطة على المساكين فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق بخمسة أقفزة حنطة جيدة تساوي عشرة أقفزة حنطة رديئة فالمكره ضامن لطعام مثله لأن المؤدى لا يخرج عن جميع الواجب فإنه لا معتبر بالجودة في الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها ولا يمكن تجويزها عن خمسة أقفزة حنطة لأن في ذلك ضررا على الناذر فالمكره ظالم له في التزام الزيادة على الأدنى فلهذا يضمن له طعاما مثل طعامه وعلى الناذر أن يتصدق بعشرة أقفزة رديئة .
ولو أن رجلا له خمس وعشرون بنت مخاض فحال عليها الحول فوجب فيها ابنة مخاض وسط فأكره بوعيد قتل على أن يتصدق على المساكين بابنة مخاض جيدة غرم المكره فضل قيمتها على قيمة الوسط لأنه ظالم له في إلزام هذه الزيادة وقد جاءت الصدقة عن المتصدق في مقدار الوسط فلا يغرم المكره ذلك لأن هذا ليس بمال الربا فيمكن تجويز بعضه عن كله .
( ألا ترى ) أنه لو تصدق بنصف ابنة مخاض جيدة فبلغ قيمته قيمة ابنة مخاض وسط أجزأه عن الواجب فلهذا لا يوجب على المكره إلا ضمان الفضل بينهما والله أعلم