( قال - C - ) : ( ولو أن لصا أكره رجلا بالحبس على أن يودع ماله هذا الرجل فأودعه فهلك عند المستودع وهو غير مكره لم يضمن المستودع ولا المكره شيئا ) أما المكره فلأن التهديد بالحبس لا يجعل الدفع من صاحب المال منسوبا إليه وأما المستودع فلأنه قبض المال بتسليم صاحبه إليه ليرده عليه وذلك غير موجب للضمان وهذا لأن فعل التسليم مقصور على المالك فإنه لم يكن ملجأ إليه وإنما هو غير راض به فهو كمن أودع ماله غيره عند خوفه من اللصوص أو عند وقوع الحريق في داره وهناك لا يضمن المودع إذا هلك في يده بغير صنعه .
وإن كان أكرهه بوعيد تلف فلرب المال أن يضمن المستودع وإن شاء المكره لأن فعله في التسليم صار منسوبا إلى المكره للإلجاء فكأن المكره هو الذي باشر الدفع إليه فيكون كل واحد منهما جانيا في حق صاحب المال وأيهما ضمن لم يرجع على صاحبه بشيء لأن المكره إن ضمن فإنما يضمن بكون الدفع منسوبا إليه .
ولو كان هو الذي دفعه إليه وديعة لم يرجع على المودع بشيء وإن شاء ضمن المودع فلأنه كان في القبض طائعا وبه صار ضامنا وهو لم يكن في هذا القبض عاملا للإكراه لأنه لم يقبض ليسلمه إلى المكره ولو أكره بتلف أو حبس على أن يأمر رجلا بقبض المال فأمر بقبضه والمأمور غير مكره فضاع في يده فالقابض ضامن للمال لأن الأمر قول منه والإكراه بالحبس يبطل قوله في مثله .
( ألا ترى ) : أنه يبطل شراؤه وبيعه فكان كالقابض بغير أمره بخلاف الأول فهناك صاحب المال هو الدافع والإكراه بالحبس لا يعدم فعله في الدفع .
( ألا ترى ) أنه لو أكرهه بالحبس على أن يطرح ماله في ماء أو نار ففعل لم يضمن المكره شيئا .
ولو أكرهه بالحبس على أن يأمر إنسانا بأن يطرح ماله في ماء أو نار فأمره بذلك ففعله المأمور كان المكره ضامنا ولا شيء على المكره إلا أن يكون الطارح مكرها من جهته بوعيد تلف فحينئذ يكون الضمان على المكره .
وكذلك لو أكرهه بالحبس على أن يأذن له في أن يأخذ ماله فيهبه أو يأكله أو يستهلكه ففعل ذلك كان المستهلك ضامنا لأن أمره بالتهديد بالحبس لغو فكأنه فعله بغير أمره ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في أن يقتل عبده عمدا فأذن له في ذلك فقتله كان للمولى أن يقتله به لأنه لا معتبر بإذنه بعد الإكراه التام .
ولو أكرهه على ذلك بالحبس كان كذلك في القياس لأن الإذن كان باطلا فإن التهديد بالحبس يسقط اعتبار ما يحتمل الإبطال من أقاويله والإذن إنما كان مؤثرا باعتبار أنه دليل الرضا ومع الإكراه بالحبس الإذن لا يكون دليل الرضا .
ولكنه استحسن في هذا فقال : لا يلزمه القود ولكنه ضامن له قيمة عبده لأن الإكراه بالحبس يؤثر في إبطال بعض الأقاويل دون البعض .
( ألا ترى ) أنه لا يؤثر في إبطال قوله في الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص ويؤثر في البيع والشراء فإن اعتبرناه بما يؤثر فيه يجب القصاص على المكره وإن اعتبرناه بما لا يؤثر فيه لا يجب القصاص على المكره والقصاص مما يندرئ بالشبهات فلهذا سقط القود .
فإن قيل : هذا في الإكراه بوعيد التلف موجود .
قلنا : لا كذلك فالإكراه بوعيد التلف مؤثر في جميع الأقاويل فيما يحصل بها من الإتلاف حتى يكون موجبا للضمان على المكره بخلاف الإكراه بالحبس ثم الإذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء والعفو مع الإكراه بالحبس صحيح على أن يكون مقصورا على العافي من كل وجه بخلاف الإكراه بالقتل فالعفو هناك صحيح على أن يكون ما يتلف به مما هو متقوم منسوبا إلى المكره فكذلك الإذن في الابتداء مع الإكراه بالحبس .
قلنا : يجعل معتبرا في إسقاط القود الذي يندرئ بالشبهات ولا يجعل معتبرا في إسقاط الضمان الذي يثبت مع الشبهات وكذلك إن كان المأمور بالقتل غير المكره فإن المعنى في الكل سواء .
ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يوكل ببيع أو شراء ففعل كان ذلك باطلا لأن التوكيل قول وإنما يعتبر ليتحقق به الرضا من الموكل بتصرف الوكيل على سبيل النيابة عنه وذلك ينعدم إذا كان مكرها على التوكيل ثم الإكراه بالقتل والحبس يمنع صحة البيع والشراء فكذلك يمنع صحة التوكيل بالبيع والشراء .
ولو أكرهه بالحبس على أن يوكل هذا بعتق عبده فأعتقه الوكيل والوكيل غير مكره كان العبد حرا عن مولاه ولم يضمن المكره شيئا لأن الإكراه بالحبس لا يجعل الفعل منسوبا إلى المكره في معنى الإتلاف ولا يمنع صحة الإعتاق فكذلك لا يمنع صحة التسليط على الإعتاق والتوكيل في الابتداء كالإجازة في الانتهاء ولو أن أجنبيا أعتق عبد رجل بغير أمره فأكره بالحبس على أن يجيزه بعد العتق لم يضمن المكره شيئا فهذا مثله .
ولو أكرهه على ذلك بوعيد تلف كان الضمان على المكره دون الذي ولى العتق أما نفوذ العتق فلأن الإكراه على التوكيل بالعتق بمنزلة الإكراه على الإعتاق وأما وجوب الضمان على المكره فلأن الإتلاف منسوب إليه بسبب الإلجاء وحصول التلف بالأمر الصادر من المولى عند إعتاق المأمور لا بإعتاق المأمور .
( ألا ترى ) أنه لو لم يسبق الأمر كان إعتاقه لغوا وبه فارق القتل والقطع فالإتلاف هناك يحصل بمباشرة المأمور دون الأمر به .
( ألا ترى ) أنه يتحقق وإن لم يسبقه أمر فإذا كان المباشر طائعا كان الصمان عليه .
( ألا ترى ) أن المشتري لو أمر رجلا بأن يقتل المبيع قبل القبض فقتله كان القاتل ضامنا قيمته للبائع حتى يحبسه بالثمن ولو أمر رجلا فأعتقه كان العبد حرا ولا ضمان على المعتق .
والفرق بينهما بما أشرنا إليه : أن الإعتاق بدون أمر المشتري لغو فيكون إعتاق المأمور كإعتاق المشتري والقتل بدون أمر المشتري يتحقق فيكون موجب الضمان على القاتل .
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأذن له في عتقه فأذن له فيه فأعتقه عتق والولاء للمولى ويضمن المكره قيمته لا باعتبار أنه أعتقه بل باعتبار أنه ألجأه إلى الأمر بالعتق حتى لو كان أكرهه على ذلك بحبس لم يضمن له شيئا فهذا يبين لك ما سبق أن الإكراه على الأمر بالعتق بمنزلة الإكراه على العتق في حكم الضمان .
وكل إكراه بوعيد تلف على الأمر لا يمكن رده بعد وقوعه نحو العتق والطلاق والقتل واستهلاك المال فإكراهه فيه بمنزلة جنايته بيده لأن المكره في حكم الإتلاف صار آلة للمكره .
وإن كان أكرهه على ذلك بقيد أو حبس لم يلزمه ضمانه وإنما الإكراه بالحبس بمنزلة الإكراه بالقتل في البيع والشراء والإقرار بالأشياء كلها والوكالة بذلك والأمر به لأن صحة هذا كله تعتمد الرضا ومع الإكراه بالحبس ينعدم الرضا ثم أوضح الفرق بين الفعل وبين الأمر به عند الإكراه بالحبس بفعل العبد المحجور عليه فإنه لو غصب مالا فدفعه إلى عبد آخر محجور عليه فهلك عنده كان لصاحب المال أن يضمن الثاني ثم يرجع مولاه بما ضمن في رقبة الأول ولو لم يدفعه ولكنه أمره أن يأخذه والمسألة بحالها لم يكن لمولى الآخر أن يضمن الأول .
( ألا ترى ) أن الحجر عليه أسقط اعتبار أمره ولم يسقط اعتبار دفعه فكذلك الإكراه بالحبس يسقط اعتبار أمره ولا يسقط اعتبار دفعه والله أعلم بالصواب