( قال - C - ) : ( ولو أكره الرجل على أن يهب نصف داره غير مقسوم أو لم يسم له مقسوما ولا غيره وأكره على التسليم فوهب الدار كلها وسلمها فهو جائز ) لأنه أتى بغير ما أكره عليه فالجميع غير النصف وهبة نصف الدار غير مقسوم هبة فاسدة وهو قد أتى بهبة صحيحة عرفنا أن ما أتى به غير ما أكره عليه فكان طائعا فيه وكذلك لو أمر بهبة الدار فتصدق بها عليه أو بصدقتها عليه فوهبها له وهو ذو رحم محرم منه أو أجنبي لأن الهبة غير الصدقة فالهبة تمليك المال من الموهوب له والمقصود به العوض والصدقة جعل المتصدق به لله تعالى خالصا ثم الصرف إلى الفقراء لتكون كفاية من الله تعالى .
والدليل عليه أن صرف الصدقة الواجبة إلى بني هاشم لا تجوز والهبة لهم حسن وأنه لا رجوع في الصدقة وحق الرجوع ثابت للواهب وفي الهبة من ذي الرحم المحرم إنما لا يرجع لصيانة الرحم عن القطيعة أو لحصول المقصود بالهبة وهو صلة الرحم لأنه بمنزلة الصدقة إذا ثبت أن ما أتى به غير ما أكره عليه حقيقة وحكما كان طائعا فيه .
ولو أمره بالهبة فنحلها أو أعمرها كان باطلا لأن النحلة والعمرى هبة فهذه ألفاظ مختلفة والمقصود بالكل واحد وفي الإكراه يعتبر المقصود دل على الفرق أن اختلاف الشاهدين في لفظة الهبة والنحلة والعمرى لا يمنع قبول الشهادة .
واختلافهما في الهبة والصدقة يمنع قبول الشهادة سواء كان الموهوب له ذا رحم محرم أو أجنبيا .
ولو أكره على الهبة والدفع فوهب على عوض وتقابضا كان جائزا لأنه أتى بغير ما أمر به فالهبة بشرط العوض بعد التقابض بيع فكأنه أكرهه على الهبة فباع ولأن مقصود المكره الإضرار بإتلاف ملكه بغير عوض ولم يحصل ذلك إذا وهبه على عوض وقد يكون المرء ممتنعا من الهبة بغير عوض ولا يمتنع من الهبة بعوض .
ولو أكرهه على أن يهبه على عوض ويدفعه فباعه بذلك وتقابضا كان باطلا .
وكذلك لو أكره على البيع والتقابض فوهبه على عوض وتقابضا كان بعد التقابض والهبة بشرط العوض بمنزلة البيع حتى يثبت فيه جميع أحكام البيع فيكون هو مجيبا إلى ما طلب المكره في المعنى وإن خالفه في اللفظ ولأن قصد المكره الإضرار به وذلك لا يختلف باختلاف لفظ البيع والهبة بشرط العوض .
ولو أكره على أن يهبه ويدفعه ففعل فعوضه الآخر من الهبة بغير إكراه فقبله كان هذا إجازة منه بهبته حين رضي بالعوض لأن العوض إما يكون عن هبة صحيحة فرضاه بالعوض يكون دليل الرضا منه بصحة الهبة ودليل الرضا كصريح الرضا فإن سلم له العوض فإن قبضه بتسليم العوض فهو جائز ولا رجوع لواحد منهما على صاحبه كما لو كانت الهبة بغير كره فعوضه وكما في الهبة بشرط العوض .
وإن أبى أن يسلم العوض وقال قد سلمت الهبة حين رضيت بالعوض فلا أدفع إليك العوض ولا سبيل لك على الهبة لم يكن له ذلك لأن الرضا كان في ضمن العوض وإنما يكون راضيا بشرط سلامة العوض له وإذا لم يسلم له كان له أن يرجع في الهبة كما لو وهبه بشرط العوض .
( ألا ترى ) أنه لو قال قد سلمته على أن يعوضني كذا فأبى لم يكن هذا تسليما منه للهبة .
( ألا ترى ) أن رجلا لو وهب جارية رجل بغير أمره لرجل وقبضها الموهوب له فقال له رب الجارية : عوضني منها فعوضه عوضا وقبضه كان هذا إجازة منه للهبة وإن أبى أن يعوضه لم يكن هذا إجازة منه للهبة فكذلك ما سبق .
وكذلك لو أجبره على بيع عبده بألف درهم وعلى دفعه وقبض الثمن ففعل ذلك ثم قال للمشتري زدني في الثمن ألف درهم لم يكن هذا إجازة للبيع الأول إلا أن يزيده فإن زاده جاز البيع وإن لم يزده فله أن يبطله .
وكذلك لو قال قد أجزت ذلك البيع على أن تزيدني ألف درهم والمعنى في الكل واحد وهو إنما رضي بشرط أن يسلم له العوض والزيادة فإذا لم يسلم لم يكن راضيا به .
ولو أكرهه بوعيد تلف أو حبس على أن يبيع عبده من هذا بألف درهم ولم يأمره بالدفع فباعه ودفعه لم يكن على الذي أكرهه شيء وينبغي أن يجوز البيع إذا كان هو الدافع بغير إكراه بمنزلة ما لو دفعه بعد ما افترقا من موضع الإكراه وقد بينا فيما تقدم أن الإكراه على البيع لا يكون إكراها على التسليم بخلاف الهبة .
( ألا ترى ) لو أن لصا قال له : لأقتلنك أو لتبيعنه عبدك هذا فإني قد حلفت لتبيعنه إياه فباعه خرج المكره من يمينه وهذا إشارة إلى الجواب عن إشكال يقال في هذه المسألة أن قصد المكره الإضرار وذلك إنما يكون تمامه بالإخراج من يده لأن زوال الملك في بيع المكره لا يكون إلا به كما في الهبة فتبين أنه قد يكون للمكره مقصود في نفس البيع ولكن هذا الذي أشار إليه يتأتى في الهبة أيضا والمعتمد هو الفرق الذي تقدم بيانه .
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يهبه له فوهبه ودفعه فقال قد وهبته لك فخذه فأخذه الموهوب له فهلك عنده كان للمكره إن شاء ضمن المكره القيمة لأن إكراهه على الهبة إكراه على التسلم وإن شاء ضمن القابض لأن قبضه على سبيل التملك لنفسه بغير رضاه .
( ألا ترى ) أن رجلا لو أمر رجلا أن يهب جاريته هذه لفلان فأخذها المأمور فوهبها ودفعها إلى الموهوب له جاز ذلك فلما جعل التوكيل بالهبة توكيلا بالتسلم كان المقصود بالهبة لا يحصل إلا بالتسليم فكذلك الإكراه على الهبة يكون إكراها على التسليم ثم بين في الأصل ما يوضح هذا الفرق وهو أن إيجاب الهبة للموهوب له يكون إذنا في القبض إذا كان بمحضر منهما وإيجاب البيع لا يكون إذنا في القبض وإن كان المبيع حاضرا حتى لو قبضه بغير أمر البائع كان للبائع أن يأخذه منه حتى يعطيه الثمن والبيع الفاسد بمنزلة الهبة في هذا الحكم .
وكان الطحاوي - C - يقول : في البيع الصحيح أيضا للمشتري أن يقبضه بمحضر منهما ما لم ينهه البائع عن ذلك وقال : إيجاب البيع الصحيح أقوى من إيجاب البيع الفاسد .
ولكن ما ذكره محمد في الكتاب أصح لأن القبض في البيع الفاسد والهبة نظير القبول في البيع الصحيح من حيث أن الملك يحصل به فأما قبض المشتري في البيع الصحيح فيكون مسقطا حق البائع في الحبس وإيجاب البيع لا يكون إسقاطا لحقه في الحبس فلا بد من الأمر بالقبض ليسقط به حقه .
ولو أكرهه على أن يبيعه منه بيعا فاسدا فباعه بيعا جائزا جاز البيع لأنه أتى بغير ما أمره به فالبيع الفاسد لا يزيل الملك بنفسه والبيع الجائز يزيل الملك بنفسه وكذلك الممتنع من البيع الفاسد لا يكون ممتنعا من البيع الجائز فهو طائع فيما أتى به من التصرف ولو أكره على أن يبيعه منة بيعا جائزا ويدفعه إليه فباعه بيعا فاسدا ودفعه إليه فهلك عنده فللبائع أن يضمن المكره إن شاء وإن شاء المشتري لأنه لم يخالف ما أمر به فإنه وإن أتى به على الوجه الذي أمره به يكون البيع فاسدا لكونه مكرها عليه وإنه أتى بدون ما أمره به والممتنع من البيع الجائز يكون ممتنعا من البيع الفاسد وإنما هذا بمنزلة رجل أمره أن يبيع بألف درهم نقد بيت المال فباعه بألف درهم عليه جاز .
ولو أمره أن يبيعه بألف فباعه بألفين جاز ولم يكن مكرها فكذلك فيما سبق ولو أكرهه على أن يهب له نصف هذه الدار مقسوما ويدفعه إلى الموهوب له فوهب له الدار كلها ودفعها إليه جازت الهبة في القياس لأنه أمره أن يقسم ثم يهب له فحين وهب الدار كلها قبل أن يقسم فقد خالف ما أمره وكذلك هذا القياس في البيع لو أمره أن يبيعه نصف الدار مقسوما فباعه الدار كلها لأنه أمره بالبيع بعد القسمة فهو في البيع قبل القسمة لا يكون مطيعا له فيما أمره به ولأنا لو جعلناه مخالفا لم يكن بد من القسمة وفي البيع قبل القسمة لا ندري أي شيء يضمنه لأن بين نصفي الدار مقسوما تفاوتا في المالية ومع الجهالة لا يمكن إيجاب الضمان .
ولكنه استحسن فقال : لا أجيز هبته ولا بيعه في شيء مما أكرهه عليه : لأنه مكره على بعض ذلك فلا بد من أن تبطل هبته فما كان مكرها عليه وذلك يبطل هبته فكذلك في البيع الصفقة واحدة فإذا بطلت في البعض بطلت في الكل وكذلك لو أكرهه على أن يهب له أو يبيعه بيتا من هذه البيوت فباعه البيوت كلها أو وهبها كان ذلك باطلا في الاستحسان لأنه قد بطل في بعض البيوت للإكراه فيبطل فيما بقي لاتحاد الصفقة وجهالة ما ينفذ فيه العقد والله أعلم