( قال - C - ) : ( ولو أكره بوعيد تلف حتى جعل على نفسه صدقة لله أو صوما أو حجا أو عمرة أو غزوة في سبيل الله أو بدنة أو شيئا يتقرب به إلى الله تعالى لزمه ذلك وكذلك لو أكرهه على اليمين بشيء من ذلك أو بغيره من الطاعات أو المعاصي ) والأصل فيه حديث ( حذيفة - Bه - أن المشركين لما أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله - A - في غزوة حلف مكرها ثم أخبر به رسول الله - A - فقال E : ( أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم ) وقد بينا أن اليمين بمنزلة الطلاق والعتاق في أن الهزل والجد فيه سواء وهذا لأن فيه منع نفسه عن شيء وإيجاب شيء على نفسه لحق الله تعالى فيكون في معنى الطلاق والعتاق الذي يتضمن تحريم الفرج حقا لله تعالى فيستوي فيه الكره والطوع والنذر بمنزلة اليمين في هذا المعنى وقال E : ( النذر يمين ) ولا ضمان على المكره في شيء من ذلك لأن التزامه لا يصير منسوبا إلى المكره وإنما ينسب إليه التلف الحاصل به ولا يتلف عليه شيء بهذا الالتزام ثم المكره إنما ألزمه شيئا يؤثر الوفاء به فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبر عليه في الحكم فلو ضمن له شيئا كان يجبر على إيفاء ما ضمن في الحكم فيؤدي إلى أن يلزمه أكثر مما يلزم المكره وهذا لا يجوز .
ولو كان أكرهه على أن يظاهر من امرأته كان مظاهرا لأن الظهار من أسباب التحريم ثم يستوي فيه الجد والهزل وقد كان طلاقا في الجاهلية فأوجب الشرع به حرمة مؤقتة بالكفارة فكما أن الإكراه لا يؤثر في الطلاق فكذلك في الظهار .
فإن أكرهه على أن يكفر ففعل لم يرجع بذلك على الذي أكرهه لأنه أمره بالخروج عن حق لزمه وذلك منه حسنة لا إتلاف شيء عليه بغير حق وإن أكرهه على عتق عبد بعينه عن ظهار ففعل عتق وعلى المكره قيمته لأنه صار متلفا عليه مالية العبد بإكراهه على إبطاله .
ولو لم يكن عتق هذا العبد بعينه مستحقا عليه بل المستحق كان واجبا في ذمته يؤمر بالخروج عنه فيما بينه وبين ربه وذلك في حكم العين كالمعدوم فلهذا ضمن المكره قيمته بخلاف الأول لأن هناك أمره بالخروج عما في ذمته من غير أن يقصد إبطال ملكه في شيء من أعيان ماله ثم لا يجزيه عن الكفارة هنا لأنه في معنى عتق بعوض ولو استحق العوض على العبد بالشرط لم يجز عن الكفارة فكذلك إذا استحق العوض على المكره .
فإن قال أنا أبرئه من القيمة حتى يجزيني من الكفارة لم يجز ذلك لأن العتق نفد غير مجزئ عن الكفارة والموجود بعده إبراء عن الدين وبالإبراء لا تتأدى الكفارة .
وإن قال أعتقته حين أكرهني وأردت به كفارة الظهار ولم أعتقه لإكراهه أجزأه عن كفارة الظهار ولم يكن له على المكره شيء لأنه أقر أنه كان طائعا في تصرفه قاصدا إلى إسقاط الواجب عن ذمته وإقراره حجة عليه .
وإن قال أردت العتق عن الظهار كما أمرني لم يخطر ببالي غير ذلك لم يجزه عن كفارة الظهار وله على المكره القيمة لأنه أجاب المكره إلى ما أكرهه عليه وهو العتق عن الظهار فلا يخرج به من أن يكون مكرها فإذا كان مكرها كان التلف منسوبا إلى المكره بخلاف الأول فإن هناك لو أقر أنه لم يعتق لإكراهه بل لاختياره إسقاط الواجب عن ذمته به طوعا .
وإن كان أكرهه بحبس أو قيد فلا ضمان على المكره لانعدام الإلجاء وجاز عن كفارته لأن العتق حصل بغير عوض واقترنت به نية الظهار .
ولو أكرهه بوعيد تلف حتى آلى من امرأته فهو مول لأن الإيلاء طلاق مؤجل أو هو يمين في الحال والإكراه لا يمنع كل واحد منهما فإن تركها أربعة أشهر فبانت منه ولم يكن دخل بها وجب عليه نصف المهر ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان متمكنا من أن يقربها في المدة فإذا لم يفعل فهو كالراضي بما لزمه من نصف الصداق .
وإن قربها كانت عليه الكفارة ولم يرجع على المكره بشيء لأنه ما جرى على سنن إكراهه فإنه بالإكراه منعه من القربان وقد أتى بضده ولأنه لزمه كفارة يعني بها فلا يرجع عليه بضمان يحبس به ولو أكرهه على أن قال إن قربتها فهي طالق ثلاثا ولم يدخل بها فقربها فطلقت ولزمه مهرها لم يرجع على المكره بشيء لأنه خالف ما أكرهه عليه ولأن المهر لزمه بالدخول فإنما أتلف عليه بإكراهه ملك النكاح وذلك ليس بمتقوم فلا يضمن المكره له قيمته .
وإن لم يقربها حتى بانت بمضي أربعة أشهر فعليه نصف الصداق ولم يرجع به على الذي أكرهه لأنه كان يقدر على أن يجامعها فيجب المهر بجماعه إياها لا بما ألجأه إليه المكره وأكثر ما فيه أنه بمنزلة الإكراه على الجماع وذلك لا يوجب الضمان على المكره .
وكذلك لو أكرهه على أن يقول إن قربتها فعبدي هذا حر فإن قربها عتق عبده ولا ضمان على المكره لأنه ما جرى على سنن إكراهه .
وإن تركها فبانت بالإيلاء قبل الدخول غرم نصف الصداق ولا يرجع على المكره بشيء لأنه كان يقدر على أن يبيع عبده في الأربعة الأشهر ثم يقربها فيسقط الإيلاء ولا يلزمه شيء .
فإن قيل : البيع لا يتم به وحده وإنما يتم به وبالمشتري وقد بينا قبل هذا أن تمكنه من البيع غير معتبر في إزالة معنى الإكراه .
قلنا : هناك كان الوقت ضيقا لأن العبد يعتق بدخول الدار وبمشيئة العتق ولا يتفق وجود مشتر في ذلك القدر من المدة وهنا الوقت أربعة أشهر والظاهر أنه في هذه المدة يجد مشتريا يرغب في شراء العبد منه .
وإن كان مدبرا لا يقدر على بيعه وإن كانت جارية هي أم ولد فإن قرب المرأة عتق هذا ولا ضمان على الذي أكرهه لأنه خالف ما أكرهه عليه .
وإن تركها حتى بانت بالإيلاء وقد دخل بها لم يرجع على الذي أكرهه أيضا بشيء لأنه أتلف عليه النكاح وإن لم يكن دخل بها لزمه نصف المهر .
وفي القياس لا يرجع على المكره بشيء لأنه كان متمكنا من قربانها في المدة ليسقط به الإيلاء فإذا لم يفعل كان في معنى ما لزمه من نصف المهر .
وفي الاستحسان يرجع على المكره بالأقل من نصف الصداق ومن قيمة الذي التي استحلفه على عتقه لأنه ملجأ في التزام الأقل فإنه إما أن يدخل بها فيبطل ملكه عن المدبر أو لا يدخل بها فيلزمه نصف المهر بوقوع الطلاق قبل الدخول فكان ملجأ مضطرا في أقلهما والمكره هو الذي ألجأه إلى ذلك فلهذا رجع عليه بالأقل وجمع في السؤال بين المدبر وأم الولد .
وقيل : في أم الولد الجواب قولهما فأما عند تحقيقه فلا يرجع بشيء لأن رق أم الولد عنده فليس بمال متقوم وإنما له عليها ملك المتعة بمنزلة ملك النكاح وذلك لا يكون مضمونا على المكره بالإتلاف .
ولو أكرهه على أن قال إن قربتها فمالي صدقة في المساكين فتركها أربعة أشهر فبانت ولم يدخل بها أو قربها في الأربعة الأشهر فلزمته الصدقة لم يرجع على المكره بشيء لأنه إن قر بها فقد خالف ما أمر به المكره .
وإن لم يقربها فقد كان هو متمكنا من أن يقربها في المدة ويلزمه بالقربان صدقة فيما بينه وبين ربه من غير أن يجبره السلطان عليها ولهذا لا يرجع على المكره بشيء وهو في المعنى نظير ما لو أكرهه على النذر بصدقة ماله في المساكين والله أعلم