( قال - C - ) : ( كان أبو حنيفة - C - يقول : أولا : لو أن سلطانا أو غيره أكره رجلا حتى زنا فعليه الحد وهو قول زفر - C - ثم رجع فقال : لا حد عليه إذا كان المكره سلطانا وهو قولهما ) وجه قوله الأول أن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بانتشار الآلة ولا تنتشر آلته إلا بلذة وذلك دليل الطواعية فمع الخوف لا يحصل انتشار الآلة وفرق على هذا القول بين الرجل والمرأة قال : المرأة في الزنا محل الفعل ومع الخوف يتحقق التمكين منها .
( ألا ترى ) أن فعل الزنا يتحقق وهي نائمة أو مغمى عليها لا تشعر بذلك بخلاف جانب الرجل وفرق على هذا القول بين الإكراه على الزنا وبين الإكراه على القتل .
قال : ( لا قود على المكره وعليه الحد ) ففي كل واحد من الموضعين الحرمة لا تنكشف بالإكراه ولكن القتل فعل يصلح أن يكون المكره فيه آلة للمكره فبسبب الإلجاء يصير الفعل منسوبا إلى المكره ولهذا لزمه القصاص وإذا صار منسوبا إلى المكره صار المكره آلة فأما الزنا ففعل لا يتصور أن يكون المكره فيه آلة للمكره لأن الزنا بآلة الغير لا يتحقق ولهذا لا يجب الحد على المكره فبقي الفعل مقصورا على المكره فيلزمه الحد .
ووجه قوله الآخر : أن الحد مشروع للزجر ولا حاجة إلى ذلك في حالة الإكراه لأن منزجر إلى أن يتحقق الإلجاء وخوف التلف على نفسه فإنما كان قصده بهذا الفعل دفع الهلاك عن نفسه لا اقتضاء الشهوة فيصير ذلك شبهة في إسقاط الحد عنه وانتشار الآلة لا يدل على انعدام الخوف فقد تنتشر الآلة طبعا بالفحولة التي ركبها الله تعالى في الرجال وقد يكون ذلك طوعا .
( ألا ترى ) أن النائم تنتشر آلته طبعا من غير اختيار له في ذلك ولا قصد .
ثم على القول الآخر قال أبو حنيفة - C - : إن كان المكره غير السلطان يجب الحد على المكره .
وقال أبو يوسف ومحمد إذا كان قادرا على إيقاع ما هدده به فلا حد على المكره سواء كان المكره سلطانا أو غيره .
قيل : هذا اختلاف عصر فقد كان السلطان مطاعا في عهد أبي حنيفة ولم يكن لغير السلطان من القوة ما يقدر على الإكراه فأجاب بناء على ما شاهد في زمانه ثم تغير حال الناس في عهدهما وظهر كل متغلب في موضع فأجابا بناء على ما عاينا وقيل : بل هو اختلاف حكم فوجه قولهما أن المعتبر في إسقاط الحد هو الإلجاء وذلك بأن يكون المكره قادرا على إيقاع ما هدد به لأن خوف التلف للمكره بذلك يحصل .
( ألا ترى ) أن السلطان لو هدده وهو يعلم أنه لا يفعل ذلك به لا يكون مكرها وخوف التلف يتحقق عند قدرة المكره على إيقاع ما هدده به بل خوف التلف بإكراه غير السلطان أظهر منه بإكراه السلطان فالسلطان ذو أناة في الأمور لعلمه أنه لا يفوته وغير السلطان ذو عجلة في ذلك لعلمه أنه يفوته ذلك بقوة السلطان ساعة فساعة .
وأبو حنيفة لا يقول الإلجاء لا يتحقق بإكراه غير السلطان وإنما يتحقق بإكراه السلطان لأنه لا يتمكن من دفع السلطان عن نفسه بالالتجاء إلى من هو أقوى منه ويتمكن من دفع اللص عن نفسه بالالتجاء بقوة السلطان فإن اتفق في موضع لا يتمكن من ذلك فهو نادر والحكم إنما ينبني على أصل السبب لا على الأحوال وباعتبار الأصل يمكن دفع إكراه غير السلطان بقوة السلطان ولا يمكن دفع إكراه السلطان بشيء ثم ما يكون مغيرا للحكم يعتبر فيه السلطان كتغير الفرائض من الأربع إلى الركعتين يوم الجمعة وإقامة الخطبة مقام الركعتين يعتبر فيه السلطان ولا يقوم في ذلك غيره مقامه وفي كل موضع وجب الحد على المكره لا يجب المهر لها وقد بينا هذا في الحدود إذ الحد والمهر لا يجتمعان عندنا بسبب فعل واحد خلافا للشافعي - C - وفي كل موضع سقط الحد وجب المهر لأن الواطئ في غير الملك لا ينفك عن حد أو مهر فإذا سقط الحد وجب المهر لإظهار خطر المحل فإنه مصون عن الابتذال محترم كاحترام النفوس ويستوي إن كانت أذنت له في ذلك أو استكرهها .
أما إذا استكرهها فغير مشكل لأن المهر يجب عوضا عما أتلف عليه ولم يوجد الرضا منها بسقوط حقها وأما إذا أذنت له في ذلك فلأنه لا يحل لها شرعا أن تأذن في ذلك فيكون إذنها لغوا لكونها محجورة عن ذلك شرعا بمنزلة إذن الصبي والمجنون في إتلاف ماله أو هي متهمة في هذا الإذن لما لها في هذا الإذن من الحظ فجعل الشرع إذنها غير معتبر للتهمة ووجوب الضمان لصيانة المحل عن الابتذال والحاجة إلى الصيانة لا تنعدم بالإذن .
( ألا ترى ) أنها لو زوجت نفسها بغير مهر وجب المهر ولو مكنت نفسها بعقد فاسد حتى وطئها الزوج ولم يكن سمى لها مالا وجب المال فهذا مثله وهو واجب في الوجهين .
أما إذا استكرهها فإنه ظالم وحرمة الظلم حرمة باتة وكذلك إذا أذنت له في ذلك لأن إذنها لغو غير معتبر ثم حرمة الزنا حرم باتة لا استثناء فيها ولم يحل في شيء من الأديان بخلاف حرمة الميتة ولحم الخنزير فتلك الحرمة مقيدة بحالة الاختيار لوجود التنصيص على استثناء حالة الضرورة في قوله تعالى : { إلا ما اضطررتم إليه } ( الأنعام : 119 ) .
وإن امتنع من الزنا حتى قتل كان مأجورا في ذلك لأنه امتنع من ارتكاب الحرام وبذل نفسه ابتغاء مرضاة الله تعالى في الوقوف على حد الدين بالتحرز عن مجاوزته وفيما يرخص له فيه وهو إجراء كلمة الشرك وقد بينا أنه إذا امتنع حتى قتل كان مأجورا فما لا رخصة فيه أولى .
وإن كان الإكراه على الزنا بحبس ففعل ذلك كان عليه الحد لأن تمكن الشبهة باعتبار الإلجاء وبسبب الإكراه بالحبس لا يتحقق الإلجاء فوجوده وعدمه في حق الحكم سواء .
ولو قال له : لأقتلنك أو لتقطعن يد هذا الرجل فقال له ذلك الرجل قد أذنت لك في القطع فاقطعه وهو غير مكره لا يسع المكره أن يقطع يده لأن هذا من المظالم وليس المقصود بالفعل أن يأذن في ذلك شرعا لأنه يبذل طرفه لدفع الهلاك عن غيره وذلك لا يسعه كما لو رأى مضطرا فأراد أن يقطع يد نفسه ليدفعها إليه حتى يأكلها ولا يسعه ذلك فهذا مثله .
ولو لم يوجد الإذن لم يسعه الإقدام على القطع فكذلك بعد الإذن وإن قطعها فلا شيء عليه ولا على الذي أكرهه لأن القاطع لو لم يكن مكرها وقال له إنسان : اقطع يدي فقطعه لم يلزمه شيء فإذا كان القاطع مكرها أولى وهذا لأن الحق في الطرف لصاحب الطرف وقد أسقطه بالإذن في الابتداء .
ولو أسقطه بالعفو في الانتهاء لا يجب شيء فكذلك بالإذن في الابتداء والدليل عليه أن الطرف يسلك به مسلك الأموال من وجه وفى الأموال البدل مفيد عامل في الإباحة والبدل الذي هو سعته عامل في إسقاط الضمان حتى إذا قال له احرق ثوبي هذا لا يباح له أن يفعله ولكن لا يلزمه شيء إن فعله فكذلك في الطرف البذل المفيد عامل في الإباحة وهو إذا وقع في يده أكلة فأمر إنسانا أن يقطع يده فالبدل الذي هو سعته يكون مسقطا للضمان فيه أيضا فلهذا لا يجب على القاطع ولا على المكره شيء .
وإن كان صاحب اليد مكرها أيضا من ذلك المكره أو من غيره على الإذن في القطع بوعيد تلف فالقصاص على المكره لأن بسبب الإلجاء يلغو إذنه وفعل القطع منسوب إلى المكره لأن المكره يصلح أن يكون آلة في ذلك فلهذا كان عليه القود .
ولو قال له : لأقتلنك أو لتقتلنه فقال له المقصود : اقتلني فأنت في حل من ذلك وهو غير مكره فقتله بالسيف فعلى الآمر الدية في ماله لأن المباشر ملجأ إلى القتل فيصير الفعل منسوبا إلى الملجئ وصار هذا بمنزلة ما لو قتل إنسانا بإذنه وفي هذا تجب الدية عليه دون القصاص في ظاهر الرواية .
وعلى قول زفر - C - عليه القصاص .
وعلى قول أبي يوسف - C - لا شيء عليه أورده في اختلاف زفر ويعقوب - رحمهما الله - ألا أن هذا إنما يتحقق في حق من باشر القتل بنفسه لا في حق المكره فإن زفر لا يرى القود على المكره .
وأورد على هذا أيضا أنه إذا قال اقتل أبي أو ابني فقتله فعليه القصاص في قول زفر - C .
وقال أبو يوسف - C - أستحسن أن يكون عليه الدية في ماله إذا كان هو الوارث .
وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة - C - في قوله اقتل ابني كقول زفر وفي قوله اقتلني كقول أبي يوسف أنه لا شيء عليه .
وجه تلك الرواية : أن الإذن في الابتداء كالعفو في الانتهاء وبعد ما جرحه لو عفى عن الجناية ومات لم يجب شيء .
فكذلك إذا أذن في الابتداء وهذا لأن الحق في بدل نفسه له حتى يقضي منه ديونه فيسقط بإسقاطه كما في الطرف .
وجه قول زفر : أن بدل النفس إنما يجب بعد زهوق الروح والحق عند ذلك للوارث فإذنه في القتل صادف محلا هو حق الغير فكان لغوا وعليه القصاص بخلاف بدل الطرف فإن الحق له بعد تمام الفعل فيعتبر إسقاطه وهذا بخلاف العفو فإن العفو إسقاط بعد وجود السبب والإسقاط بعد وجود السبب وقبل الوجوب يصح فأما الإذن فلا يمكن أن يجعل إسقاطا لأن السبب لم يوجد بعد وباعتبار عينه الإذن لاقى حق الغير فلا يصح ووجه ظاهر الرواية أن إذنه في القتل باعتبار ابتدائه صادف حقه وباعتبار مآله صادف حق الوارث فلاعتبار الابتداء يمكن شبهة والقصاص يسقط بالشبهة ولاعتبار المال تجب عليه الدية في ماله ولهذا قال أبو يوسف في الآذن في قتل أبيه أو ابنه أنه باعتبار الابتداء لاقى حق الغير وباعتبار المآل لاقى حقه فيصير المال شبهة في إسقاط القود ويجب عليه الدية ولو قطع يده بإذنه فمات منه لم يكن على القاطع ولا على الآمر في ذلك شيء لأن أصل الفعل صار هدرا فلو سرى إلى النفس كان كذلك كما لو قطع يد مرتد فأسلم ثم سرى إلى النفس .
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تجب الدية هنا لأن القطع إذا اتصلت به السراية كان قتلا فإذا لم يتناوله الإذن فلا شك أنه يجب الضمان به وإن تناوله الإذن فهو بمنزلة قوله اقتلني فيكون موجبا للدية ولو أكرهه على أن يصنع به شيئا لا يخاف منه تلف من ضرب سوط أو نحوه ففعل ذلك به رجوت أن لا يأثم فيه لأنه يدفع الهلاك عن نفسه بما يلحق الهم والحزن بغيره وقد رخص له الشرع في ذلك فإن المضطر يباح له أن يأخذ مال الغير فيتناوله بغير رضاه .
فإن أبى عليه ذلك فمات منه كانت ديته على عاقلة المكره لأن فعل المكره صار منسوبا إلى المكره فكأنه فعل ذلك بنفسه وهذا بمنزلة الخطأ وهو يوجب الدية على عاقلته وهذا إذا لم يكن المقتول أذن له في ذلك فإن كان أذن له في ذلك طوعا فلا ضمان فيه على أحد لأن فعل الغير به بإذنه كفعله بنفسه .
ولو أكرهه بوعيد تلف على أن يأخذ مال رجل فيرمي به في مهلكة فأذن له صاحبه فيه ففعله فلا شيء على واحد منهما لأن صاحب الحق أسقط حقه بالإذن له في الإتلاف طوعا .
ولو كان أكره صاحب المال بوعيد تلف أيضا على أن أمره بذلك فإذنه مع الإكراه لغو والضمان على المكره لأن المكره آلة في ذلك الفعل والفعل صار منسوبا إلى المكره ولا ضمان على الفاعل إن علم أن صاحب المال مكره على الإذن أو لم يعلم لأنه بالإلجاء يصير كالآلة ولا يختلف ذلك باختلاف صاحب المال في الإذن طوعا أو كرها .
ولو كان الفاعل أكره على ذلك بحبس أو قيد لم يحل له أن يستهلك مالا لأن هذا من مظالم العباد فلا يرخص له في الإقدام عليه بدون الإلجاء وبالحبس والقيد لا يتحقق الإلجاء إلا أن يأمره به صاحبه بغير إكراه فحينئذ لا شيء عليه من إثم ولا ضمان لأن صاحب المال صار باذلا ماله بالإذن والمال مبتذل وإنما كان ممنوعا من إتلافه لمراعاة حق صاحب المال .
فإذا رضي به طوعا كان له الإقدام عليه والعبد والأمة فيما يأذن فيه مولاهما في جميع ما وصفنا بمنزلة الحر والحرة إلا في خصلة واحدة أن القاتل لا يغرم نفس المملوك إذا أذن المولى في قتله بغير إكراه لأن الحق في بدل نفسه له باعتبار الحال والمآل فيعتبر إذنه في إسقاط الضمان كما يعتبر إذن صاحب اليد في إسقاطه حقه في بدله عن القاطع والله أعلم بالصواب