( قال - C - ) : ( ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف حتى أعطى رجلا ماله وأكره الآخر بمثل ذلك حتى قبضه منه ودفعه فهلك المال عنده فالضمان على الذي أكرههما دون القابض ) لأن الدافع والقابض كل واحد منهما ملجأ من جهة المكره فيصير الفعل في الدفع والقبض منسوبا إلى المكره والقابض مكره على قبضه بوعيد تلف فلا يبقى في جانبه فعل موجب للضمان عليه ولأنه قبضه ليرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يوجب الضمان على القابض .
وإن كان قبضه بغير أمر صاحبه كمن أخذ آبقا أو وجد لقطة وأشهد أنه أخذه ليرده على صاحبه لم يكن عليه ضمان إن هلك عنده .
وكذلك لو كان أكره القابض على قبضه ليدفعه إلى الذي أكرهه فقبضه وضاع عنده قبل أن يدفعه إليه فلا ضمان على القابض إذا حلف بالله ما أخذه إلا ليدفعه إليه طائعا وما أخذه إلا ليرده على صاحبه إلا أن يكره على دفعه لأن الظاهر يشهد له في ذلك فإن فعل المسلم محمول على ما يحل .
ويحل له الأخذ مكرها على قصد الرد على صاحبه ولا يحل له الأخذ على قصد الدفع إلى المكره طائعا ودينه وعقله يدعوانه إلى ما يحل دون ما لا يحل إلا أن في اللقطة لا يقبل قوله على هذا إذا لم يشهد في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لأنه متمكن من الإشهاد على ذلك وهنا هو غير متمكن من الإشهاد على ما في ضميره من قصد الرد على المالك لأنه إن أظهر ذلك عاقبه المكره فلهذا قبلنا قوله في ذلك مع اليمين .
ولو كان أكره صاحب المال على أن يهبه لصاحبه وأكره الآخر على أن يقبل الهبة منه ويقبضها بوعيد تلف فقبضها فضاعت عنده .
فإن قال القابض : أخذتها على أن تكون في يدي مثل الوديعة حتى أردها على صاحبها فالقول قوله مع يمينه لأن الإكراه شاهد له على أنه غير راغب في تمليكها فيكون الضمان على المكره خاصة وإن قال أخذتها على وجه الهبة لتسلم لي كان لرب المال أن يضمنه إن شاء وإن شاء المكره لأن الموهوب له قبض مال الغير على وجه التملك بغير رضا صاحبه وهو طائع في ذلك القبض على هذا القصد فيكون ضامنا للمال وأما المكره فلأن الدافع ملجأ من جهته فيجعل كأنه قبضه بنفسه ودفعه إليه .
فإن ضمن المكره رجع على الموهوب له لأنه قائم مقام من ضمنه لأن المكره ما قصد مباشرة الهبة من جهته فلا يمكن تنفيذ الهبة من جهته بملكه إياه وفي الأصل أشار إلى حرف آخر .
فقال : ( لأنه إنما ضمن المال بقبض الموهوب له وقد كانت الهبة قبل القبض فلا يجعل الذي أكرههما بمنزلة الواهب ) وما قلناه أوضح لأنا إذا جعلنا القابض مكرها وكان المكره ضامنا باعتبار نسبة القبض إليه لا يبقى في جانب القابض سبب موجب للضمان عليه والدليل عليه أنه .
قال : ( فإن ضمن الموهوب له لم يكن على الذي أكرهه شيء ) لأنه أخذه على أنه له ولو كان القبض منسوبا إلى المكره كان للقابض أن يرجع على المكره بما يلحقه من الضمان بسببه .
فإن كان الموهوب له بحيث يتمكن من الإشهاد عند الهبة أن يقبضه للرد فلم يفعل كان ضامنا بترك الإشهاد لأن القبض بحكم الهبة عمل منه لنفسه فلا يقبل قوله بخلاف ما صرح به إلا عند الضرورة وهو ما إذا لم يكن متمكنا من الإشهاد لأنا رأينا أن في موضع الضرورة يجعل القول قوله فيما في ضميره كالمكره على الكفر إذا قال بعد ما تكلم بالكفر : كنت مطمئن القلب بالإيمان قبل قوله ولم تبن منه امرأته فأما عند تمكنه من الإشهاد بلا ضرورة فلا يقبل قوله بمنزلة من وجد عبدا آبقا لرجل في يد غيره فلم يقدر على استرداده منه إلا بشراء أو هبة فطلب ذلك منه حتى وهب له أو اشتراه كان ضامنا له إلا أن يشهد عند ذلك أنه يأخذه ليرده على مولاه فإذا أشهد لم يضمن .
وكذلك إن لم يكن متمكنا من الإشهاد يقبل قوله في ذلك ولو أكرهه على بيع عبده وأكره المشتري على شرائه وأكرههما على التقابض فهلك الثمن والعبد ثم اختصموا فضمان العبد للبائع وضمان الثمن للمشتري على الذي أكرههما لأن كل واحد منهما ملجأ على دفع ماله إلى الآخر من جهته .
فإن أراد أحدهما أن يضمن صاحبه سئل كل واحد منهما عما قبضه على وجه قبضه فإن قال : قبضته على البيع الذي أكرهنا عليه ليكون لي وقالا ذلك جميعا فالبيع جائز ولا ضمان على المكره فيه لأن قبض كل واحد منهما على هذا القصد دليل الرضا منه بالبيع ودليل الرضا كصريح الرضا .
( ألا ترى ) أنهما لو أكرها على البيع ثم تقابضا بغير إكراه تم البيع بينهما فكذلك إذا أقر كل واحد منهما أنه قبضه على وجه التملك .
وإن قال قبضته مكرها لأرده على صاحبه وآخذ منه ما أعطيت وحلف كل واحد منهما لصاحبه على ذلك لم يكن لواحد منهما على صاحبه ضمان لأن الإكراه دليل ظاهر لكل واحد منهما على ما يخبر به عن ضميره إلا أن صاحبه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه الضمان .
فإذا أنكر يحلف على ذلك فإن حلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف لم يضمن الذي حلف لأن يمينه قد انتفى عنه بسبب الضمان إلا أن يثبته صاحبه بالحجة ويضمن الذي لم يحلف ما قبض لأن نكوله كإقراره وذلك يثبت عليه سبب الضمان عند قضاء القاضي .
فإن كان الذي أبى اليمين هو الذي قبض العبد ضمن البائع قيمة العبد أيهما شاء لأن فعله بالدفع صار منسوبا إلى المكره والقابض كان طائعا حين قبضه لنفسه على وجه التملك .
فإن ضمنها المكره رجع بها على المشتري لأنه ملك بالضمان وما قصد تنفيذ البيع من جهته ولأنه إنما ضمنها بالإكراه على القبض وقد كان البيع قبل ذلك فلا يكون بمنزلة البائع وقد بينا أن الوجه الأول أصح .
وإن ضمنها المشتري لم يرجع بها على المكره لأنه أقر أنه لم يقبضه على وجه الإكراه وإنما قبضه على وجه الشراء ولم يرجع على البائع بالثمن أيضا لأن البائع قد حلف أنه قبض الثمن للرد عليه وقد هلك في يده فلا يضمن له شيئا من ذلك ولا يرجع بالثمن على المكره أيضا لأنه أقر أنه دفع الثمن طوعا وأنه كان راضيا بالبيع وإن كان المشتري حلف وأبى البائع اليمين فلا ضمان في العبد على من أخذه وأما الثمن فإن شاء المشتري ضمنه المكره وإن شاء ضمنه البائع لأن البائع بنكوله أقر أنه قبض الثمن لنفسه طائعا وفعل الدافع منسوب إلى المكره للإلجاء .
فإن ضمن البائع لم يرجع به على المكره لأنه ضمن بفعل كان عاملا فيه لنفسه طائعا وإن ضمنه المكره رجع به على البائع لأنه قام مقام من ضمنه ولأنه ملكه بالضمان والقابض كان طائعا في قبضه لنفسه فيضمن له ذلك .
ولو أكرههما على البيع والشراء ولم يذكر لهما قبضا فلما تبايعا لم يتقابضا حتى فارقا الذي أكرههما ثم تقابضا على ذلك البيع فهذا رضا منهما بالبيع وإجازة له لأن البيع مع الإكراه كان منعقدا ولم يكن نافذا جائزا لانعدام الرضا منهما فإذا وجد دليل الرضا نزل ذلك منزلة التصريح بالرضا بالإجارة طوعا وقد بينا الفرق بين الهبة وبين البيع لأن الإكراه على البيع لا يكون إكراها على التسليم والإكراه على الهبة يكون إكراها على التسليم .
ولو كان الإكراه في الوجه الأول على البيع والقبض بغير تلف بل بحبس أو قيد وتقابضا على ذلك مكرهين لم يجز البيع لأن نفوذ البيع يعتمد تمام الرضا وبالتهديد بالحبس ينعدم تمام الرضا .
فإن ضاع ذلك عندهما فلا ضمان لواحد منهما على المكره لأن فعلهما لم يصر منسوبا إلى المكره فإن نسبة الفعل إليه بالإلجاء والتهديد بالحبس لا يتحقق الإلجاء ولكن كل واحد منهما ضامن لما قبض من مال صاحبه لأنه قبضه بحكم عقد فاسد وفعل كل واحد منهما في القبض مقصور عليه وقد قبضه بغير رضا صاحبه ولو قبضه بحكم العقد الفاسد برضا صاحبه كان مضمونا عليه فهنا أولى أن يكون مضمونا عليه .
ولو أكرهه بالحبس على أن يودع ماله هذا الرجل وأكره الآخر بالحبس على قبوله وديعة فقبله وضاع عنده فلا ضمان على المكره ولا على القابض : أما على المكره فلانعدام الإلجاء من جهته وأما على القابض فلأنه ما قبض لنفسه وإنما قبضه ليحفظه وديعة ويرده على صاحبه إذا تمكن منه ومثل هذا القبض لا يكون موجبا للضمان عليه وإن انعدم الرضا من صاحبه كما لو هبت الريح بثوب إنسان وألقته في حجر غيره فأخذه ليرده على صاحبه فهلك لم يكن ضامنا شيئا ولو أكرهه بالحبس على أن يهب ماله لهذا أو يدفعه إليه وأكره الآخر بالحبس على قبوله وقبضه فهلك فالضمان على القابض لأنه قبضه على وجه التملك وفعله في القبض مقصور عليه فإنه غير ملجأ من جهة المكره فلهذا كان الضمان عليه دون المكره ولو كان أكره القابض بوعيد تلف على ذلك لم يضمن القابض ولا المكره شيئا أما القابض فلأنه ملجأ إلى القبض وذلك بعدم الفعل الموجب للضمان في حقه وأما المكره فلأن الدافع لم يكن ملجأ في دفع المال إليه لأنه كان مكرها بالحبس فبقي حكم الدفع مقصورا على الدافع قاله أبو حازم - C .
وهذا غلط لأن فعل الدافع إن لم يكن منسوبا إلى المكره ففعل القابض صار منسوبا إليه وإنما قبضه بغير رضا المالك فكأن المكره قبضه بنفسه فينبغي أن يكون المكره ضامنا من هذا الوجه .
وما قاله في الكتاب أصح لأن هذا القبض متمم للهبة وفي مثله لا يصلح المكره آلة للمكره .
( ألا ترى ) أن المكره لو قبضه بنفسه لا تتم الهبة به ثم الموجب للضمان على المكره تفويت اليد على المالك وذلك بالدفع والإخراج من يدهما لا بالقبض لأن الأموال محفوظة بالأيدي وفعل الدافع لم يصر منسوبا إلى المكره .
ولو أكره الواهب بتلف وأكره الموهوب له بحبس كان لصاحب المال أن يضمن إن شاء المكره وإن شاء القابض لأن فعل الدافع منسوب إلى المكره لكونه ملجأ من جهته فيكون المكره ضامنا له وفعل القابض مقصور عليه لأنه كان مكرها على القبض بالحبس وقد قبضه على وجه التملك فكان للدافع أن يضمن أيهما شاء فإن ضمن المكره رجع به على القابض لما قلنا .
وكذلك في البيع إذا أكره البائع بوعيد تلف على البيع والتقابض وأكره المشتري على ذلك بالحبس فتقابضا وضاع المال فلا ضمان على البائع فيما قبض بعد أن يحلف ما قبضه إلا ليرده على صاحبه لأنه ملجأ قبل القبض فيكون مقبول القول في أنه قبضه للرد مع يمينه وللبائع أن يضمن المكره قيمة عبده لأنه كان ملجأ إلى تسليم العبد من جهته ثم يرجع بها المكره على المشتري لما بينا أن البيع لم ينفذ من جهة المكره وقد ملكه بالضمان فإن شاء البائع ضمنها المشتري لأن فعله في القبض مقصور عليه وقد قبضه على وجه التملك وإن لم يكن راضيا بسببه .
ثم لا يرجع المشتري على المكره بالقيمة ولا بالثمن أما القيمة فلأنه إنما ضمنها بقبض كان هو فيه عاملا لنفسه وأما الثمن فلأنه كان مكرها على دفع الثمن بالحبس وذلك لا يوجب نسبة الفعل إلى المكره في حكم الضمان وفي هذا طعن أبو حازم - C - أيضا كما في الهبة .
ولو كان أكره البائع بالحبس وأكره المشتري بالقتل فلا ضمان للبائع في العبد على المشتري ولا على المكره لأن المشتري ملجأ إلى القبض فلا يكون ضامنا شيئا والبائع ما كان ملجأ إلى الدفع من جهة المكره فيقتصر حكم الدفع عليه فلهذا لا ضمان على المكره وللمشتري أن يضمن الثمن إن شاء البائع وإن شاء المكره لأنه كان ملجأ إلى دفع الثمن من جهة المكره وكان البائع غير ملجأ إلى قبضه فاقتصر حكم فعله بالقبض عليه وللمشتري الخيار .
فإن ضمن المكره رجع به على البائع لأنه قام مقام من ضمنه ولأنه ملك المضمون بالضمان ولم ينفذ البيع من جهة من تملك الثمن فرجع على البائع بالثمن والله أعلم بالصواب