( قال - C - ) : ( ولو أن رجلا أكره بوعيد قتل على عتق عبده فأعتقه نفذ العتق عندنا ) لما بينا أنه في التكلم بالعتق لا يمكن أن يجعل آلة للمكره فيبقى تكلمه مقصورا عليه ويصير به معتقا لأن الإكراه وإن كان يفسد اختياره لكن لا يخرجه من أن يكون مخاطبا وفيما يمكن نسبته إلى المكره يجعل المكره آلة له فرجح الاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد وفيما لا يمكن نسبته إلى المكرة يبقى مضافا إلى المكره بما له من الاختيار الفاسد وعلى المكره ضمان قيمته لأن في حكم الإتلاف المكره يصلح آلة للمكره فيصير الإتلاف مضافا إلى المكره ترجيحا للاختيار الصحيح على الاختيار الفاسد .
ويستوي إن كان المكره موسرا أو معسرا لأن وجوب هذا الضمان باعتبار مباشرة الإتلاف فيكون جبرانا لحق المتلف عليه وذلك لا يختلف باليسارة والعسرة ولا سعاية على العبد لأنه نفذ العتق فيه من جهة مالكه ولا حق لأحد في ماله بخلاف المريض يعتق عبده وعليه دين فهناك يجب السعاية لحق الغرماء .
وكذلك إذا أعتق المرهون وهو معسر فإنه يجب السعاية على العبد لحق المرتهن والمحجور عليه للسفه إذا أعتق عبده تجب السعاية على العبد في قول محمد .
وهو قول أبي يوسف الأول - C - لأن بالحجر عليه صار هو في حكم التصرف ناقص الملك لوجوب النظر له شرعا وهنا بعذر الإكراه لم يصر ناقص الملك ومعنى النظر يتم بإيجاب الضمان على المكره ثم الولاء يكون للمكره لأنه هو المعتق والولاء لمن أعتق وثبوت الولاء له يبطل حقه في تضمين المكره كما لو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا بعد القضاء ضمنا قيمته .
والولاء ثابت للمولى وهذا لأن الولاء كالنسب ليس بمال متقوم وليس للمكره أن يرجع على العبد بشيء لأنه قام مقام المولى ولا سبيل للمولى على العبد في الاستسعاء ولأن المكره لم يصر مالكا للعبد بالضمان .
( ألا ترى ) أن الولاء للمكره فإن كان العبد بين رجلين فأكره أحدهما حتى أعتقه جاز عتقه .
ثم على قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - العتق لا يتجزأ فيعتق العبد كله والولاء للمعتق وعلى المكره إن كان موسرا ضمان جميع القيمة بينهما نصفين لأنه صار متلفا الملك عليهما .
وإن كان معسرا ضمن نصيب المكره لأنه باشر إتلاف نصيبه ويستسعى العبد في قيمة نصيب الشريك الآخر لأنه لم يوجد من المكره إتلاف نصيب الشريك قصدا ولكنه تعدى إليه التلف حكما فيكون هو بمنزلة شريك المعتق .
والمعتق إذا كان معسرا لا يجب عليه ضمان نصيب شريكه ولكن يجب على العبد السعاية في نصيب شريكه لأنه قد سلم له ذلك القدر من رقبته ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء أما على العبد فلأنه سعى في بدل ما سلم له وأما المكره فلأنه ضمن بمباشرة الإتلاف .
وأما في قياس قول أبي حنيفة - C - فالمكره ضامن لنصيب المكره موسرا كان أو معسرا وفي نصيب الساكت إن كان المكره موسرا فالساكت بالخيار إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء استسعاه في نصيبه وإن شاء ضمن المكره قيمة نصيبه فإن ضمنه يرجع المكره بهذا النصف من القيمة على العبد فاستسعاه فيه لأنه قام مقام الساكت في ذلك وصار متملكا لنصيبه بأداء الضمان والولاء بين المكره والمكره نصفان .
وإن كان المكره معسرا فللساكت حق الاستسعاء والإعتاق والولاء بينه وبين المكره نصفان لأنه عتق نصيب كل واحد منهما على ملكه .
( ولو أكره بوعيد تلف على أن يطلق امرأته ثلاثا ففعل ولم يدخل بها بانت منه ) لما قلنا وعلى الزوج نصف الصداق إن كان سمى لها مهرا والمتعة إن لم يكن سمى لها مهرا ويرجع بذلك على المكره لأنه هو الذي ألزمه ذلك المال حكما فإن وقوع الفرقة قبل الدخول في حال الحياة مسقط لجميع الصداق إلا إذا كان بسبب مضاف إلى الزوج فحينئذ يجب نصف الصداق بالنص والمكره هو الذي جعل الفرقة مضافة إلى الزوج بإكراهه فكأنه ألزم الزوج ذلك المال أو فوت يده من ذلك المال فيلزمه ضمانه كالغاصب وبهذا الطريق يضمن شاهدا الطلاق قبل الدخول ولو كان الزوج قد دخل بها لم يرجع على المكره بشيء لأن الصداق كله تقرر على الزوج بالدخول والمكره إنما أتلف عليه ملك النكاح وملك النكاح لا يتقوم بالإتلاف على الزوج عندنا ولهذا لا نوجب على شاهدي الطلاق بعد الدخول ضمانا عند الرجوع ولا على المرأة إن ارتدت بعد الدخول ولا على القاتل لمنكوحة الغير .
خلافا للشافعي - C - فإنه يجعل البضع مضمونا بمهر المثل عند الإتلاف على الزوج كما هو مضمون بمهر المثل عند دخوله في ملك الزوج ولكنا نقول البضع ليس بمال متقوم فلا يجوز أن يكون مضمونا بالمال لأنه لا مماثلة بين ما هو مال وبين ما ليس بمال وتقومه عند النكاح لإظهار خطر المملوك وهذا الخطر للمملوك لا للملك الوارد عليه .
( ألا ترى ) أن إزالة الملك بغير شهود وبغير ولي صحيح فلا حاجة إلى إظهار الخطر عند الإتلاف فلهذا لا يضمن المتلف شيئا ولو أن رجلا أكره امرأة أبيه فجامعها يريد به الفساد على أبيه ولم يدخل بها أبوه كان لها على الزوج نصف المهر لأن الفرقة وقعت بسبب مضاف إلى الأب وهو حرمة المصاهرة ويرجع بذلك على ابنه لأنه هو الذي ألزمه ذلك حكما .
وإن كان الأب قد دخل بها لم يرجع على الابن بشيء لما قلنا وهذا الفصل أورده لإيضاح ما سبق وقوله يريد به الفساد أي يكون قصده إفساد النكاح فأما الزنا فلا يكون إفسادا .
ولو أكره بوعيد قتل أو حبس حتى تزوج امرأة على عشرة آلاف درهم ومهر مثلها ألف درهم جاز النكاح لما بينا أن الجسد والهزل في النكاح والطلاق والعتاق سواء فكذلك الإكراه والطواعية وللمرأة مقدار مهر مثلها لأن التزام المال يعتمد تمام الرضا ويختلف بالجد والهزل فيختلف أيضا بالإكراه والطوع فلا يصح من الزوج التزام المال مكرها إلا أن مقدار مهر المثل يجب لصحة النكاح لا محالة .
( ألا ترى ) أن بدون التسمية يجب فعند قبول التسمية فيه مكرها أولى أن يجب وما زاد على ذلك يبطل لانعدام الرضا من الزوج بالتزامه .
ولو أن المرأة هي التي أكرهت ببعض ما ذكرنا على أن تزوج نفسها منه بألف ومهر مثلها عشرة ألاف فزوجها أولياؤها مكرهين فالنكاح جائز ولا ضمان على المكره فيه لأن البضع ليس بمال متقوم وتقومه على المتملك باعتبار ثبوت الملك . فيما هو مصون عن الابتذال وهذا المعنى لا يوجد في حق المكره ثم يقول القاضي للزوج إن شئت فأتمم لها مهر مثلها وهي امرأتك إن كان كفؤا لها فإن أبى فرق بينهما ولا شيء لها .
والحاصل : أن الزوج إن كان كفؤا لها ثبت لها الخيار لما يلحقها من الضرر بنقصان حقها عن صداق مثلها والزوج متمكن من إزالة هذا الضرر بأن يلتزم لها كمال مهر مثلها فإن التزم ذلك فالنكاح بينهما لازم وإن أبى فرق بينهما ولا شيء لها إن لم يكن دخل بها .
وإن كان دخل بها مكرهة فلها تمام مهر مثلها لانعدام الرضا منها بالنقصان ولا خيار لها بعد ذلك لأن الضرر اندفع حين استحقت كمال مهر مثلها .
وإن دخل بها وهي طائعة أو رضيت بما سمي لها فعند أبي حنيفة للأولياء حق الاعتراض .
وعندهما ليس لهم ذلك وأصله فيما إذا زوجت المرأة نفسها من كفؤ بدون صداق مثلها وقد بيناه في كتاب النكاح .
وإن لم يكن الزوج كفؤا لها فلها أن لا ترضى بالمقام معه سواء التزم الزوج لها كمال مهر المثل أو لم يلتزم دخل بها أو لم يدخل بها لما يلحقها من الضرر من استفراش من لا يكافئها فإن دخل بها وهي طائعة أو رضيت فللأولياء أن يفرقوا بينهما لأن للأولياء حق طلب الكفاءة .
( ألا ترى ) أنها لو زوجت نفسها طائعة من غير كفؤ كان للأولياء حق الاعتراض فهنا أيضا لم يوجد من الأولياء الرضا بسقوط حقهم في الكفاءة والزوج لا يتمكن من إزالة عدم الكفاءة فيكون للأولياء أن يفرقوا بينهما سواء رضي بأن يتم لها مهر مثلها أو لم يرض بذلك .
ولو أن رجلا وجب له على رجل قصاص في نفس أو فيما دونها فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى عفا فالعفو جائز لأن العفو عن القصاص نظير الطلاق في أن الهزل والجد فيه سواء فإنه إبطال ملك الاستيفاء وليس فيه من معنى الملك شيء ولا ضمان له على الجاني لأن الجاني لم يلتزم له عوضا ولم يتملك عليه شيئا وتقوم النفس بالمال عند الخطأ لصيانة النفس عن الإهدار وهذا لا يوجد عند الإسقاط بالعفو لأنه مندوب إليه في الشرع والبدل فيه صحيح ولا ضمان على المكره لأنه لم يستهلك عليه مالا متقوما فإن التمكن من استيفاء القصاص ليس بمال متقوم ولهذا لا يضمن شهود العفو إذا رجعوا .
ومن عليه القصاص إذا قتله إنسان لا يضمن لمن له القصاص شيئا وكذلك إذا مات من عليه القصاص لا يكون ضامنا لمن له القصاص شيئا فكذلك المكره ولو وجب لرجل على رجل حق من مال أو كفالة بنفس أو غير ذلك فأكره بوعيد قتل أو حبس حتى أبرأ من ذلك الحق كان باطلا لأن صحة الإبراء تعتمد تمام الرضا وبسبب الاكراه ينعدم الرضا وهذا لأن الإبراء عن الدين وإن كان إسقاطا ولكن فيه معنى التمليك ولهذا يرتد برد المديون وإبراء الكفيل فرع لإبراء الأصيل والكفالة بالنفس من حقوق المال لأن صحتها باعتبار دعوى المال فلهذا لا تصح البراءة في هذه الفصول مع الإكراه كما لا تصح مع الهزل .
وكذلك لو أكره على تسليم الشفعة بعد ما طلبها لأن تسليم الشفعة من باب التجارة كالأخذ بالشفعة ولهذا ملكه الأب والوصي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - والتجارة تعتمد تمام الرضا وذلك يعتمد بالإكراه .
ولو كان الشفيع حين علم بها أراد أن يتكلم بطلبها فأكره حتى سد فمه ولم يتركه ينطق يوما أو أكثر من ذلك كان على شفعته إذا خلى عنه فإن طلب عند ذلك وإلا بطلت شفعته لأن المسقط للشفعة ترك الطلب بعد التمكن منه .
( ألا ترى ) أن ترك الطلب قبل العلم بالبيع لا يبطل الشفعة لانعدام تمكنه من الطلب وهو لم يكن متمكنا من الطلب هنا حين سد فمه أو قيل له لئن تكلمت بطلب شفعتك لنقتلنك أو لنحبسنك فهذا لا يبطل شفعته فأما بعد زوال الإكراه إذا لم يطلب بطلت شفعته لترك الطلب بعد التمكن .
فإن قيل : أليس أن الإكراه بمنزلة الهزل والهازل بتسليم الشفعة تبطل شفعته فكذلك المكره على تسليم الشفعة .
قلنا : إذا هزل بتسليم الشفعة قبل الطلب بطلت شفعته لترك الطلب مع الإمكان لا بالهزل بالتسليم فأما إذا طلب الشفعة ثم سلمها هازلا واتفقا أنه كان هازلا في التسليم لم تبطل شفعته لما بينا أنه بمنزلة التجارة يعتمد تمام الرضا .
فإن قال المشتري : أنه لم يكف عن الطلب للإكراه ولكنه لم يرد أخذها بالشفعة وقال الشفيع : ما كففت إلا للإكراه فالقول قول الشفيع لأن قيام السيف على رأسه دليل ظاهر على أنه إنما كف عن الطلب للإكراه ولكنه يحلف بالله ما منعه من طلب الشفعة إلا الإكراه لأن المشتري ادعى عليه ما لو أقر به لزمه فإذا أنكره استحلف عليه .
ولو أن رجلا أكرهه أهل الشرك على أن يكفر بالله وله امرأة مسلمة ففعل ثم خلى سبيله فقالت : قد كفرت بالله تعالى وبنت منك وقال الرجل : إنما أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان ففي القياس القول قولها ويفرق بينهما لأنه لا طريق لنا إلى معرفة سره فوجب بناء الحكم على ظاهر ما نسمعه منه وهذا لأن الشرع أقام الظاهر الذي يوقف عليه مقام الخفي الذي لا يمكن الوقوف عليه للتيسير على الناس فباعتبار الظاهر قد سمع منه كلمة الردة فتبين منه امرأته .
ولكنه استحسن فقال : القول قوله مع يمينه ( لأن النبي - E - قبل قول عمار - Bه - ولم يجدد النكاح بينه وبين امرأته ) ولأن الظاهر شاهد له فإن امتناعه من إجراء كلمة الشرك حتى تحقق الإكراه دليل على أنه مطمئن القلب بالإيمان وأنه ما قصد بالتكلم إلا دفع الشر عن نفسه وهذا بخلاف ما إذا أكره على الإسلام فإنه يحكم بإسلامه لأن الإسلام مما يجب اعتقاده فذلك دليل على أنه قال ما قال معتقدا وهو معارض للإكراه فعند تعارض الدليلين يصار إلى ظاهر ما سمع منه فأما الشرك مما لا يجوز اعتقاده والإكراه فدليل على أنه معتقد فلهذا لا يحكم بردته إذا أجرى كلمة الشرك مكرها والله أعلم