قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - تعالى إملاء : الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب لأن المكره مبتلي والابتلاء يقرر الخطاب ولا شك أنه مخاطب في غير ما أكره عليه وكذلك فيما أكره عليه حتى يتنوع الأمر عليه فتارة يلزمه الإقدام على ما طلب منه وتارة يباح له ذلك وتارة يرخص له في ذلك وتارة يحرم عليه ذلك فذلك آية الخطاب ولذلك لا ينعدم أصل القصد والاختيار بالإكراه كيف ينعدم ذلك وإنما طلب منه أن يختار أهون الأمرين عليه .
وزعم بعض مشايخنا - رحمهم الله - أن أثر الإكراه التام في الأفعال في نقل الفعل من المكره إلى المكره وهذا ليس بصحيح فإنه لا يتصور نقل الفعل الموجود من شخص إلى غيره والمسائل تشهد بخلاف هذا أيضا فإن البالغ إذا أكره صبيا على القتل يجب القود على المكره وهذا الفعل في محله غير موجب للقود فلا يصير موجبا بانتقاله إلى محل آخر .
ولكن الأصح أن تأثير الإكراه في جعل المكره آلة للمكره فيصير الفعل منسوبا إلى المكره بهذا الطريق وجعل المكره آلة لا باعتبار أن بالإكراه ينعدم الاختيار منه أصلا ولكن لأنه يفسد اختياره به لتحقق الإلجاء فالمرء مجبول على حب حياته وذا يحمله على الإقدام على ما أكره عليه فيفسد به اختياره من هذا الوجه والفاسد في معارضة الصحيح كالمعدوم فيصير الفعل منسوبا إلى المكره لوجود الاختيار الصحيح منه والمكره يصير كالآلة للمكره لانعدام اختياره حكما في معارضة الاختيار الصحيح ولهذا اقتصر على ما يصلح أن يكون آلة له فيه دون ما لا يصلح كالتصرفات قولا فإنه لا يتصور تكلم المرء بلسان غيره وتأثير الإكراه في هذه التصرفات في انعدام الرضا من المكره بحكم الشبه .
وشبهه بعض أصحابنا - رحمهم الله - بالهزل فإن الهزل عدم الرضا بحكم السبب مع وجود القصد . والاختيار في نفس السبب فالإكراه كذلك إلا أن الهازل غير محمول على التكلم والمكره محمول على ذلك وبذلك لا ينعدم اختياره كما بينا وشبهه بعضهم باشتراط الخيار فإن شرط الخيار يعدم الرضا بحكم السبب دون نفس السبب ثم في الإكراه يعتبر معنى في المكره ومعنى في المكره ومعنى فيما أكره عليه ومعنى فيما أكره به فالمعتبر في المكره تمكنه من إيقاع ما هدده به فإنه إذا لم يكن متمكنا من ذلك فإكراهه هذيان وفي المكره المعتبر أن يصير خائفا على نفسه من جهة المكره في إيقاع ما هدده به عاجلا لأنه لا يصير ملجأ محمولا طبعا إلا بذلك وفيما أكره به بأن يكون متلفا أو مزمنا أو متلفا عضوا أو موجبا عما ينعدم الرضا باعتباره وفيما أكره عليه أن يكون المكره ممتنعا منه قبل الإكراه إما لحقه أو لحق آدمي آخر أو لحق الشرع وبحسب اختلاف هذه الأحوال يختلف الحكم فالكتاب لتفصيل هذه الجملة .
وقد ابتلى محمد - C - بسبب تصنيف هذا الكتاب على ما حكي عن ابن سماعة - C - قال : لما صنف محمد - C - هذا الكتاب سعى به بعض حساده إلى الخليفة فقال : إنه صنف كتابا سماك فيه لصا غاليا فاغتاظ لذلك وأمر بإحضاره وأتاه الشخص وأنا معه فأدخله على الوزير أولا في حجرته فجعل الوزير يعاتبه على ذلك فأنكره محمد أصلا فلما علمت السبب أسرعت الرجوع إلى داره وتسورت حائط بعض الجيران لأنهم كانوا سمروا على بابه فدخلت داره وفتشت الكتب حتى وجدت كتاب الإكراه فألقيته في جب في الدار لأن ( الشرطة ) أحاطوا بالدار قبل خروجي منها فلم يمكني أن أخرج واختفيت في موضع حتى دخلوا وحملوا جميع كتبه إلى دار الخليفة بأمر الوزير وفتشوها فلم يجدوا شيئا مما ذكره الساعي لهم فندم الخليفة على ما صنع به واعتذر إليه ورده بجميل فلما كان بعد أيام أراد محمد - C - أن يعيد تصنيف الكتاب فلم يجبه خاطره إلى مراده فجعل يتأسف على ما فاته من هذا الكتاب ثم أمر بعض وكلائه أن يأتي بعامل ينقي البئر لأن ماءها قد تغير فلما نزل العامل في البئر وجد الكتاب في آجرة أو حجر بناء من طي البئر لم يبتل فسر محمد - C - بذلك وكان يخفي الكتاب زمانا ثم أظهره فعد هذا من مناقب محمد وما يستدل به على صحة تفريعه لمسائل هذا الكتاب .
ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن إبراهيم - C - قال : في الرجل يجبره السلطان على الطلاق والعتاق فيطلق أو يعتق وهو كاره أنه جائز واقع ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا وهو يقع كيفما كان وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله - وقالوا : طلاق المكره واقع سواء كان المكره سلطانا أو غيره أكرهه بوعيد متلف أو غير متلف والخلاف في هذا الفصل كان مشهورا بين السلف من علماء التابعين - رحمهم الله - ولهذا استكثر من أقاويل السلف على موافقة قول إبراهيم وفي قوله ولو شاء الله لابتلاه بأشد من هذا إشاره إلى ما ذكرنا من بقاء الأهلية والخطاب مع الإكراه وأنه غير راض في ذلك ولكن عدم الرضا بحكم الطلاق لا يمنع الوقوع ولهذا وقع مع اشتراط الخيار عند الإيقاع ومع الهزل من الموقع وإن كان معلوما وكأنه أخذ هذا اللفظ مما ذكره علي - Bه - في امرأة المفقود أنها ابتليت فلتصبر ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا .
وعن عمر بن عبدالعزيز - C - أنه أجاز طلاق المكره وعن سعيد بن المسيب - Bه - أنه ذكر له أن رجلا ضرب غلامه حتى طلق امرأته فقال : بئس ما صنع وإنما فهموا منه بهذا الفتوى بوقوع الطلاق حتى قال يحيى بن سعيد راوي الحديث : أي هو جائر عليه في معنى قوله بئس ما صنع أي حين فرق بينه وبين امرأته بغير رضاه وإنما يكون ذلك إذا وقعت الفرقة ومن قال : لا يقع طلاق المكره يقول مراد سعيد - Bه - بئس ما صنع في اكتسابه بالإكراه وتضييعه وقت نفسه وقد رد عليه الشرع قصده وجعل طلاق المكره لغوا ولكن الأول أظهر .
وأصل هذا فيما إذا باع رجلا عينا من مال غيره بغير أمره ثم أخبر المالك به فقال : بئس ما صنعت وهذا اللفظ في رواية هشام عن محمد لا يكون إجازة للبيع بخلاف قوله نعم ما صنعت أو أحسنت أو أصبت فإن في اللفظ الأول إظهار الكراهة لصنعه وفي اللفظ الثاني إظهار الرضا به .
وروى ابن سماعة - C - على عكس هذا أن قوله نعم ما صنعت يكون على سبيل الاستهزاء به في العادة فيكون ردا لا إجازة وقوله بئس ما صنعت يكون إجازة لأنه إظهار للتأسف على ما فاته وذلك إنما يتحقق إذا نفذ البيع وزال ملكه فجعلناه إجازة لذلك ( وعن صفوان بن عمرو الطائي أن رجلا كان مع امرأته نائما فأخذت سكينا وجلست على صدره فوضعت السكين على حلقه وقالت : لتطلقني ثلاثا ألبتة أو لأذبحنك فناشدها الله فأبت عليه فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله - A - فقال E : ( لا قيلولة في الطلاق ) وفيه دليل وقوع طلاق المكره لأن لقوله E : ( لا قيلولة في الطلاق ) تأويلين : أحدهما : أنها بمعنى الإقالة والفسخ أي لا يحتمل الطلاق الفسخ بعد وقوعه وإنما لا يلزمه عند الإكراه ما يحتمل الإقالة أو يعتمد تمام الرضا والثاني أن المراد إنما ابتليت بهذا لأجل يوم القيلولة وذلك لا يمنع وقوع الطلاق .
وبطريق آخر يروي هذا الحديث أن رجلا خرج مع امرأته إلى الجبل ليمتاز العسل فلما تدلى من الجبل بحبل وضعت السكين على الحبل فقالت : لتطلقني ثلاثا أو لأقطعنه فطلقها ثلاثا ثم جاء إلى رسول الله - A - ليستفتي فقال E : ( لا قيلولة في الطلاق ) وأمضى طلاقه .
وذكر نظير هذا ( عن عمرو بن شرحبيل - Bه - أن امرأة كانت مبغضة لزوجها فراودته على الطلاق فأبى فلما رأته نائما قامت إلى سيفه فأخذته ثم وضعته على بطنه ثم حركته برجلها فلما استيقظ قالت له : والله لأنفذنك به أو لتطلقني ثلاثا فطلقها فأتى عمر بن الخطاب - Bه - فاستغاث به فشتمها وقال : ويحك ما حملك على ما صنعت فقالت : بغضي إياه ) فأمضى طلاقه .
وهو دليل لنا على أن طلاق المكره واقع ولا يقال في هذا كله أن هذا الإكراه كان من غير السلطان لأن الإكراه بهذه الصفة يتحقق بالاتفاق فإنه صار خائفا على نفسه لما كانت متمكنة من إيقاع ما خوفته به وإن كان ذلك يعارض قوله فشتمها أي نسبها إلى سوء العشرة والصحبة وإلى الظلم كما يليق بفعلها لا أن يكون ذكر ما ليس بموجود فيها لأن ذلك بهتان لا يظن به .
وعن أبي قلابة قال : طلاق المكره جائز وعن ( عمر - Bه - قال : أربع واجبات على من تكلم بهن : الطلاق والعتاق والنكاح والنذر ) يعني النذر المرسل إذ اليمين بالنذر يمين وبه نأخذ فنقول : هذا كله جائز لازم إن كان جادا فيه أو هازلا أكره عليه أو لم يكره لأنه لا يعتمد تمام الرضا ولا يحتمل الفسخ بعد وقوعه وعن ( علي - Bه - قال : ثلاث لا لعب فيهن : الطلاق والعتاق والصدقة ) يعني النذر بالصدقة ومراده أن الهزل والجد في هذه الثلاثة سواء فالهازل لاعب من حيث أنه يريد بالكلام غير ما وضع له الكلام .
وذكر نظيره ( عن أبي الدرداء - Bه - قال : ثلاث لا لعب بهن واللعب فيهن : النكاح والطلاق والعتاق ) .
وعن ( ابن المسيب - Bه - قال : ثلاث ليس فيهن لعب : الطلاق والنكاح والعتاق ) وأيد هذا كله حديث ( أبي هريرة - Bه - أن رسول الله - A - قال : ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق والرجعة والنكاح ) وإنما أورد هذه الآثار ليستدل بها على صحة هذه التصرفات من المكره فللوقوع حكم الجد من الكلام والهزل ضد الجد ثم لما لم يمتنع الوقوع مع وجود ما يضاد الجد فلأن لا يمتنع الوقوع بسبب الإكراه أولى لأن الإكراه لا يضاد الجد فإنه أكره على الجد وأجاب إلى ذلك وإنما ضد الاكراه الرضا فيثبت بطريق البينة لزوم هذه التصرفات مع الاكراه لأنه لما لم يمتنع لزومها بما هو ضد الجد فلأن لا يمتنع لزومها مع جد أقدم عليه عن إكراه أولى .
وعن عمر - Bه - أربع مبهمات مقفلات ليس فيهن رد يدي الطلاق والعتاق والنكاح والنذر .
وقوله ( مبهمات ) : أي واقعات على صفة واحدة في اللزوم مكرها كان الموقع أو طائعا يقال : فرس بهيم إذا كان على لون واحد وقوله مقفلات : أي لازمات لا تحتمل الرد بسب العذر وقد بين ذلك بقوله : ليس فيهن رد يدي .
وعن الشعبي - Bه - قال : إذا أجبر السلطان على الطلاق فهو جائز وإن كان لصا فلا شيء وبه أخذ أبو حنيفة - C - قال : الإكراه يتحقق من السلطان ولا يتحقق من غيره ثم ظاهر هذا اللفظ يدل على أنه كان من مذهب الشعبي . أن المكره على الطلاق إذا كان سلطانا يقع ولا يقع طلاق المكره إذا كان المكره لصا .
ولكنا نقول : مراده بيان الوقوع بطريق التشبيه يعني أن المكره على الطلاق وإن كان سلطانا فالطلاق واقع جائز فإذا كان لصا أولى أن يكون واقعا لأن إكراه اللص ليس بشيء وعن علي وابن عباس - Bهم - قالا : كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه وإنما استدل بقولهما على وقوع طلاق المكره لأنهما حكما بلزوم كل طلاق إلا طلاق الصبي والمعتوه والمكره ليس بصبي ولا معتوه ولا هو في معناهما لبقاء الأهلية والخطاب مع الإكراه .
وعن الزهري - C - أن ( فتى أسود كان مع أبي بكر الصديق - Bه - وكان يقرأ القرآن فبعث أبو بكر - Bه - رجلا يسعى على الصدقة وقال له : اذهب بهذا الغلام معك يرع غنمك ويعنك فتعطيه من سهمك فذهب بالفتى فرجع وقد قطعت يده فقال : ويحك مالك قال : زعموا أني سرقت فريضة من فرائض الإبل فقطعني قال أبو بكر - Bه - والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه قال : فلبثوا ما لبثوا ثم أن متاعا لامرأة أبي بكر سرق وذلك الأسود قائم يصلي فرفع يده إلى السماء وقال اللهم أظهر على السارق اللهم أظهر على السارق فوجدوا ذلك المتاع عنده فقال أبو بكر - Bه - ويحك ما أجهلك بالله ثم أمر به فقطعت رجله ) فكان أول من قطعت رجله وقد بينا فوائد هذا الحديث في كتاب السرقة واختلاف الروايات أنه ذكر هناك أن الفتى كان أقطع اليد والرجل فقطعت يده اليسرى وهنا ذكر أنه كان أقطع اليد فقطع أبو بكر - Bه - رجله وإنما أورد الحديث هنا لحرف وهو قوله والله لئن وجدته قطعك بغير حق لأقيدنك منه وبه نأخذ فنقول إذا بعث الخليفة عاملا فأمر رجلا بقطع يد غيره أو قتله بغير حق فعله أن القصاص على العامل الذي أمر به لأن أمر مثله إكراه فإن من عادة العمال أنهم يأمرون بشيء ثم يعاقبون من امتنع من ذلك بالقتل وغيره والفعل يصير منسوبا إليه بمثل هذا الأمر قال الله تعالى : { يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم } ( القصص : 4 ) إنه كان من المفسدين واللعين ما كان يباشر حقيقته ولكنه كان مطاعا بأمره والأمر من مثله إكراه والكلام في الإكراه على القتل يأتي في موضعه وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر - Bه - قال : ( أخذ المشركون عمار بن ياسر - Bه - فلم يتركوه حتى سب الله ورسول الله - A - وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله - A - قال E : ( ما وراءك ؟ قال : شر ما تركوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال E : فكيف تجد قلبك ؟ قال : أجده مطمئنا بالإيمان قال E إن عادوا فعد ) ففيه دليل أنه لا بأس للمسلم أن يجري كلمة الشرك على اللسان مكرها بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان وأن ذلك لا يخرجه من الإيمان لأنه لم يترك اعتقاده بما أجراه على لسانه .
( ألا ترى ) أن النبي - A - سأل عمار بن ياسر - Bه - عن حال قلبه فلما أخبر أنه مطمئن بالإيمان لم يعاتبه على ما كان منه وبعض العلماء - رحمهم الله - يحملون قوله - E - ( فإن عادوا فعد ) على ظاهره يعني إن عادوا إلى الإكراه فعد إلى ما كان منك من النيل مني وذكر آلهتهم بخير وهو غلط فإنه لا يظن برسول الله - A - أنه يأمر أحدا بالتكلم بكلمة الشرك ولكن مراده - E - : فإن عادوا إلى الإكراه فعد إلى طمأنينة القلب بالإيمان وهذا لأن التكلم وإن كان يرخص له فيه فالامتناع منه أفضل .
( ألا ترى ) : ( أن حبيب بن عدي - Bه - لما امتنع حتى قتل سماه رسول الله - A - أفضل الشهداء وقال هو رفيقي في الجنة ( وقصته ) أن المشركين أخذوه وباعوه من أهل مكة فجعلوا يعاقبونه على أن يذكر آلهتهم بخير ويسب محمدا - A - وهو يسب ألهتهم ويذكر رسول الله - A - بخير فأجمعوا على قتله فلما أيقن أنهم قاتلوه سألهم أن يدعوه ليصلي ركعتين فأوجز صلاته ثم قال : إنما أوجزت لكيلا تظنوا أني أخاف القتل ثم سألهم أن يلقوه على وجهه ليكون هو ساجدا لله حين يقتلونه فأبوا عليه ذلك فرفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إني لا أرى هنا إلا وجه عدو فأقرئ رسول الله - A - مني السلام اللهم احص هؤلاء عددا واجعلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم أنشأ يقول : .
ولست أبالي حين أقتل مسلما .
على أي جنب كان لله مصرعي .
فلما قتلوه وصلبوه تحول وجهه إلى القبلة وجاء جبريل - E - إلى رسول الله - A - يقرئه سلام حبيب - Bه - فدعا رسول الله - A - له وقال ( هو أفضل الشهداء وهو رفيقي في الجنة ) فبهذا تبين أن الامتناع أفضل وعن أبي عبيدة أيضا في قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه } ( النحل : 106 ) قال ذلك عمار بن ياسر - Bه - { ولكن من شرح بالكفر صدرا } ( النحل : 106 ) ( عبيدالله بن أبي سرح فإنه كان يكتب الوحي لرسول الله - A - فلما أخذه المشركون وأكرهوه على ما أكرهوا عليه عمار بن ياسر - Bه - أجابهم إلى ذلك معتقدا فأكرموه وكان معهم إلى أن فتح رسول الله - A - مكة فجاء به عثمان إلى رسول الله - A - فسأله أن يبايعه وفيه قصة ) وهو المراد بقوله تعالى : { ولكن من شرح بالكفر صدرا } ( النحل : 106 ) فعرفنا أنه إذا بدل الاعتقاد يحكم بكفره مكرها كان أو طائعا وهذا لأنه لا ضرورة إلى تبديل الاعتقاد فإنه لا اطلاع لأحد من العباد على اعتقاده وهو المراد أيضا من قوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه } ( النحل : 106 ) فأما قوله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ( النحل : 106 ) فهو عمار بن ياسر - Bه - وقد ذكرنا قصته وعن جابر الجعفي أنه سأل الشعبي - C - عن الرجل يأمر عبده أن يقتل رجلا قال : فيها ثلاثة أقاويل قائل يقتل العبد وآخر قال : يقتل المولى والعبد وآخر قال : يقتل المولى والمراد بيان حكم القصاص عند القتل مكرها أنه على من يجب فإن أمر المولى عبده بمنزلة الإكراه لأنه يخاف على نفسه إن خالف أمره كأمر السلطان في حق رعيته ثم لم يذكر القول الرابع وهو الذي ذهب إليه أبو يوسف : أنه لا يقتل واحد منهما وكأن هذا القول لم يكن في السلف وإنما سبق به أبو يوسف - C - واستحسنه وبيان المسألة يأتي في موضعه .
وفي الحديث دليل أن المفتي لا يقطع الجواب على شيء ولكن يذكر أقاويل العلماء في الحادثة كما فعلها الشعبي - C - ولكن هذا إذا كان المستفتي ممن يمكنه التمييز بين الأقاويل ويرجح بعضها على البعض فإن كان بحيث لا يمكنه ذلك فلا يحصل مقصوده ببيان أقاويل العلماء - رحمهم الله - فلا بد للمفتي من أن يبين له أصح الأقاويل عنده للأخذ به .
وعن ( الحسن البصري - C - التقية جائزة للمؤمن إلى يوم القيامة ) إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية وبه نأخذ والتقية أن يقي نفسه من العقوبة بما يظهره وإن كان يضمر خلافه وقد كان بعض الناس يأبى ذلك ويقول : إنه من النفاق والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة } ( آل عمران : 28 ) وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالإيمان من باب التقية .
وقد بينا أن رسول الله - A - رخص فيه لعمار بن ياسر - Bه - إلا أن هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - فأما في حق المرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين - فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحق وقد جوزه بعض الروافض - لعنهم الله - ولكن تجويز ذلك محال لأنه يؤدي إلى أن لا يقطع القول بما هو شريعة لاحتمال أن يكون قال ذلك أو فعله تقية والقول بهذا محال وقوله إلا أنه كان لا يجعل في القتل تقية يعني إذا أكره على قتل مسلم ليس له أن يقتله لما فيه من طاعة المخلوق في معصية الخالق وإيثار روحه على روح من هو مثله في الحرمة وذلك لا يجوز وبهذا يتبين عظم حرمة المؤمن لأن الشرك بالله أعظم الأشياء وزرا وأشدها تحريما قال الله تعالى : { تكاد السموات يتفطرن منه } ( مريم : 90 ) إلى قوله D : { أن دعوا للرحمن ولدا } ( مريم : 91 ) ثم يباح له إجراء كلمة الكفر في حالة الإكراه ولا يباح الإقدام على القتل في حالة الإكراه فيه يتبين عظم حرمة المؤمن عند الله تعالى وهو مراد ابن عباس - Bه - إنما التقية باللسان ليس باليد يعني القتل والتقية باللسان هو إجراء كلمة الكفر مكرها وعن ( حذيفة - Bه - قال : فتنة السوط أشد من فتنة السيف قالوا له : وكيف ذلك ؟ قال : إن الرجل ليضرب بالسوط حتى يركب الخشب يعني الذي يراد صلبه يضرب بالسوط حتى يصعد السلم وإن كان يعلم ما يراد به إذا صعد ) وفيه دليل أن الإكراه كما يتحقق بالتهديد بالقتل يتحقق بالتهديد بالضرب الذي يخاف منه التلف والمراد بالفتنة العذاب قال الله تعالى : { ذوقوا فتنتكم } ( الذاريات : 14 ) وقال الله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } ( البروج : 10 ) أي عذبوهم فمعناه عذاب السوط أشد من عذاب السيف لأن الألم في القتل بالسيف يكون في ساعته وتوالي الألم في الضرب بالسوط إلى أن يكون آخره الموت .
وقد كان حذيفة - Bه - ممن يستعمل التقية على ما روي أنه يداري رجلا فقيل له : إنك منافق فقال : لا ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله وقد ابتلى ( ببعض ذلك في زمن رسول الله - A - على ما روي أن المشركين أخذوه واستحلفوه على أن لا ينصر رسول الله في غزوة فلما تخلص منهم جاء إلى رسول الله - A - وأخبره بذلك فقال - E - : ( أوف لهم بعهدهم ونحن نستعين بالله عليهم ) .
وذكر عن مسروق - C - قال : بعث معاوية - Bه - بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند فمر بها على مسروق - C - قال : والله لو أني أعلم أنه يقتلني لغرقتها ولكني أخاف أن يعذبني فيفتنني والله لا أدري أي الرجلين معاوية رجل قد زين له سوء عمله أو رجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتع في الدنيا وقيل : هذه تماثيل كانت أصيبت في الغنيمة فأمر معاوية - Bه - ببيعها بأرض الهند ليتخذ بها الأسلحة والكراع للغزاة فيكون دليلا لأبي حنيفة - C - في جواز بيع الصنم . والصليب ممن يعبده كما هو طريقة القياس .
وقد استعظم ذلك مسروق - C - كما هو طريق الاستحسان الذي ذهب إليه أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - في كراهة ذلك .
ومسروق من علماء التابعين وكان يزاحم الصحابة - Bهم - في الفتوى وقد رجع ابن عباس إلى قوله في مسألة النذر بذبح الولد ولكن مع هذا قول معاوية - Bه - مقدم على قوله وقد كانوا في المجتهدات يلحق بعضهم الوعيد بالبعض ( كما قال علي - Bه - من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الحد ) يعني بقول زيد - Bه .
وإنما قلنا : هذا لأنه لا يظن بمسروق - C - أنه قال في معاوية - Bه - ما قال عن اعتقاد وقد كان هو من كبار الصحابة - Bهم - وكان كاتب الوحي وكان أمير المؤمنين وقد أخبره رسول الله - A - بالملك بعده فقال له عليه السلام يوما : ( إذا ملكت أمر أمتي فأحسن إليهم ) إلا أن نوبته كانت بعد انتهاء نوبة علي - Bه - ومضي مدة الخلافة فكان هو مخطئا في مزاحمة علي - Bه - تاركا لما هو واجب عليه من الانقياد له لا يجوز أن يقال فيه أكثر من هذا .
ويحكى أن أبا بكر محمد بن الفضل - C - كان ينال منه في الابتداء فرأى في منامه كأن شعرة تدلت من لسانه إلى موضع قدمه فهو يطؤها ويتألم من ذلك ويقطر الدم من لسانه فسأل المعبر عن ذلك فقال : إنك تنال من واحد من كبار الصحابة - Bه - فإياك ثم إياك .
وقد قيل في تأويل الحديث أيضا : إن تلك التماثيل كانت صغارا لا تبدو للناظر من بعد ولا بأس باتخاذ مثل ذلك على ما روي أنه وجد خاتم دانيال - عليه السلام - في زمن عمر - Bه - كان عليه نقش رجل بين أسدين يلحسانه وكان على خاتم أبي هريرة ذبابتان فعرفنا أنه لا بأس باتخاذ ما صغر من ذلك ولكن مسروقا - C - كان يبالغ في الاحتياط فلا يجوز اتخاذ شيء من ذلك ولا بيعه ثم كان تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده وقد ترك ذلك مخافة على نفسه وفيه تبين أنه لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ومقصوده من إيراد الحديث أن يبين أن التعذيب بالسوط يتحقق فيه الإكراه كما يتحقق في القتل لأنه قال : لو علمت أنه يقتلني لغرقتها ولكن أخاف أن يعذبني فيفتنني فتبين بهذا أن فتنة السوط أشد من فتنة السيف .
وعن جابر بن عبدالله - Bه - قال : لا جناح علي في طاعة الظالم إذا أكرهني عليها وإنما أراد بيان جواز التقية في إجراء كلمة الكفر إذا أكرهه المشرك عليها فالظالم هو الكافر قال الله تعالى : { والكافرون هم الظالمون } ( البقرة : 254 ) ولم يرد به طاعة الظالم في القتل لأن الإثم على المكره في القتل لا يندفع بعذر الإكراه بل إذا قدم على القتل كان آثما إثم القتل على ما بينه والله أعلم