ومن أثبت التحريم في الكل قال : نص التحريم بصفة الخمرية والخمر ما خامر العقل وكل ما يكون مسكرا فهو مخامر للعقل فيكون النص متناولا له ولكنا نقول الاسم للتي من ماء العنب حقيقة ولسائر الأشربة مجازا ومتى كانت الحقيقة مرادة باللفظ تنحى المجاز وهبك أن الخمر يسمى لمعنى مخامرة العقل فذلك لا يدل على أن كل ما يخامر العقل يسمى خمرا .
( ألا ترى ) أن الفرس الذي يكون أحد شقيه أبيض والآخر أسود يسمى أبلق ثم الثوب الذي يجتمع فيه لون السواد والبياض لا يسمى بهذا الاسم وكذلك النجم يسمى نجما لظهوره قالوا : نجم أي ظهر ثم لا يدل ذلك على أن كل ما يظهر يسمى نجما وأمامنا فيما ذكرناه من إباحة شرب المثلث عمر - Bه - فقد روي عن جابر بن الحصين الأسدي - C - أن عمار بن ياسر - Bه - أتاه بكتاب عمر - Bه - يأمره أن يتخذ الشراب المثلث لاستمراء الطعام .
وكان عمار بن ياسر - Bه - يقول : لا أدع شربها بعدما رأيت عمر - Bه - يشربها ويسقيها الناس وقد كان عمر - Bه - هو الذي سأل تحريم الخمر فلا يظن به أنه كان يشرب أو يسقي الناس ما تناوله نص التحريم بوجه .
ولا يجوز أن يقال إنما كان يشرب الحلو منه دون المسكر بدليل قوله قد ذهب بالطبخ نصيب الشيطان وربح جنونه وهذا لأنه إنما كان يشرب ذلك لاستمراء الطعام وإنما يحصل هذا المقصود بالمشتد منه دون الحلو .
وقد دل على هذه الجملة الآثار التي بدأ محمد - C - بها الكتاب فمن ذلك حديث زياد قال : سقاني ابن عمر - Bه - شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت عليه من الغد فأخبرته بذلك فقال : ما زدناك على عجوة وزبيب وابن عمر - Bه - كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة - Bهم - فلا يظن به أنه كان يسقي غيره ما لا يشربه ولا أنه كان يشرب ما يتناوله نص التحريم وقد ذكرنا أن ما سقاه كان مشتدا حتى أثر فيه على وجه ما كان يهتدي إلى أهله وإنما قال هذا على طريق المبالغة في بيان التأثير فيه لا حقيقة السكر فإن ذلك لا يحل .
وفي قوله : ( ما زدناك على عجوة وزبيب ) دليل على أنه لا بأس بشرب القليل من المطبوخ من ماء الزبيب والتمر وإن كان مشتدا وأنه لا بأس بشراب الخليطين بخلاف ما يقوله المتقشفة أنه لا يحل شراب الخليطين وإن كان حلوا لما روي أن النبي - A - ( نهى عن شراب الخليطين ) .
وتأويل ذلك عندنا أن ذلك كان في زمان الجدب كره للأغنياء الجمع بين النعمتين وفي الحديث زيادة فإنه قال : ( وعن القران بين النعمتين وعن الجمع بين نعمتين ) .
والدليل على أنه لا بأس بذلك في غير زمان القحط حديث عائشة - Bها - قالت : ( كنت أنبذ لرسول الله - A - تمرا فلم يستمرئه فأمرني فألقيت فيه زبيبا ) ولما جاز اتخاذ الشراب من كل واحد منهما بانفراده جاز الجمع بينهما بمنزلة ماء السكر والفانيد وعن ابن عمر - Bه - أنه سئل عن المسكر فقال : الخمر ليس لها كنية وفيه دليل تحريم السكر فإن مراده من هذا الجواب أن السكر في الحرمة كالخمر وإن كان اسمه غير اسم الخمر فكأنه أشار إلى قوله - E - ( الخمر من هاتين الشجرتين ) قال : وسئل عن الفضيخ قال : مراده بذلك الفضوخ والفضيخ الشراب المتخذ من التمر بأن يفضخ التمر أي يشدخ ثم ينقع في الماء ليستخرج الماء حلاوته ثم يترك حتى يشتد وفيه دليل على أن التي من شراب التمر إذا اشتد فهو حرام سكرا كان أو فضيخا فإن السكر ما يسيل من التمر حين يكون رطبا .
وفي قوله : ( بذلك الفضوخ ) بيان أنه يفضخ شاربه في الدنيا والآخرة لارتكابه ما هو محرم . قال وسئل عن النبيذ والزبيب يعتق شهرا أو عشرا قال : الخمر اخبتها وفي رواية اجتنبها أي هي في الحرمة كالخمر فاجتنبها فظاهر هذا اللفظ دليل لما روي عن أبي يوسف قال : لا يحل ماء الزبيب ما لم يطبخ حتى يذهب منه الثلثان فإن قوله : ( الخمر اجتنبها ) إشارة إلى ذلك أي الزبيب إذا نقع في الماء عاد إلى ما كان عليه قبل أن يتزبب فكما أنه لا يحل قبل أن يتزبب بالطبخ ما لم يذهب منه الثلثان فكذلك الزبيب بخلاف ماء التمر ولكن في ظاهر الرواية نبيذ التمر وماء التمر سواء إذا طبخ أدنى طبخه يحل شربه مشتدا بعد ذلك ما لم يسكر منه ومراد ابن عمر - Bه - تشبيهه النيء منه بالخمر في حكم الحرمة وعن معاذ بن جبل - Bه - أن رسول الله - A - لما وجهه إلى اليمن قال : ( انههم عن نبيذ السكر ) . والمراد النيء من ماء التمر المشتد وقد عرف رسول الله - A - عادة أهل اليمن في شرب ذلك فلهذا خصه بالأمر بالنهي عنه وسماه نبيذ الحمرة في لونه .
وعن حصين بن عبدالرحمن قال : كان لأبي عبيدة كرم بزبالة كان يبيعه عنبا وإذا أدرك العصير باعه عصيرا وفي هذا دليل على أنه لا بأس ببيع العصير والعنب مطلقا ما دام حلوا كما لا بأس ببيع العنب وأخذ أبو حنيفة - C - بظاهره فقال : لا بأس ببيع العصير والعنب ممن يتخذه خمرا وهو قول إبراهيم - C - لأنه لا فساد في قصد البائع فإن قصده التجارة بالتصرف فيما هو حلال لاكتساب الربح وإنما المحرم قصد المشتري اتخاذ الخمر منه وهو كبيع الجارية ممن لا يستبرئها أو يأتيها في غير المأتي وكبيع الغلام ممن يصنع به ما لا يحل .
وعن الضحاك قال : قال رسول الله - A - : ( من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ) معناه فهو من الظالمين المجاوزين لحدود الله تعالى قال الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ( الطلاق : 1 ) وفيه دليل أنه لا يجوز أن يبلغ بالتعزير الحد الكامل لأن الحدود ثبتت شرعا جزاء على أفعال معلومة فتعديتها إلى غير تلك الأفعال يكون بالرأي ولا مدخل للرأي في الحدود لا في إثبات أصلها ولا في تعدية أحكامها عن مواضعها وعن إبراهيم - C - قال : لا بأس إذا كان للمسلم خمر أن يجعلها خلا وبه أخذ علماؤنا - رحمهم الله - وقالوا : تخليل الخمر جائز خلافا لما قاله الشافعي - C - وهذا لأن الآثار جاءت بإباحة خل الخمر على ما قال E ( خير خلكم خل خمركم ) .
وعن علي - Bه - أنه كان يصطبغ الخبز بخل خمر ويأكله وإذا كان بالاتفاق يحل تناول خل الخمر فالتخليل بالعلاج يكون إصلاحا للجوهر الفاسد وذلك من الحكمة فلا يكون موجبا للحرمة ويأتي بيان المسألة في موضعه .
وعن محمد بن الزبير - Bه - قال : استشار الناس عمر - Bه - في شراب مرقق فقال رجل من النصارى : إنا نصنع شرابا في صومنا فقال عمر - Bه - إئتني بشيء منه قال : فأتاه بشيء منه قال : ما أشبه هذا بطلاء الإبل كيف تصنعونه قال : نطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فصب عليه عمر - Bه - ماء وشرب منه ثم ناوله عبادة بن الصامت - Bه - وهو عن يمينه فقال عبادة : ما أرى النار تحل شيئا فقال عمر : يا أحمق أليس يكون خمرا ثم يصير خلا فنأكله وفي هذا دليل إباحة شرب المثلث وإن كان مشتدا فإن عمر - Bه - استشارهم في المشتد دون الحلو وهو مما يكون ممريا للطعام مقويا على الطاعة في ليالي الصيام وكان عمر - Bه - حسن النظر للمسلمين وكان أكثر الناس مشورة في أمور الدين خصوصا فيما يتصل بعامة المسلمين .
وفيه دليل أنه لا بأس بإحضار بعض أهل الكتاب مجلس الشورى فإن النصراني الذي قال ما قاله . قد كان حضر مجلس عمر - Bه - للشورى ولم ينكر عليه وفيه دليل أن خبر النصراني لا بأس بأن يعتمد عليه في المعاملات إذا وقع في قلب السامع أنه صادق فيه وقد استوصفه عمر - Bه - فوصفه له واعتمد خبره حتى شرب منه .
وفيه دليل أن دلالة الإذن من حيث العرف كالتصريح بالإذن وأنه لا بأس بتناول طعامهم وشرابهم فإن عمر - Bه - لم يستأذنه في الشرب منه وإنما كان أمره أن يأني به لينظروا إليه ثم جوز الشرب منه بناء على الظاهر ومن يستقصي في هذا الباب يقول تأويله أنه أخذه منه جزية لبيت المال ثم شرب منه وفيه دليل أن المثلث إن كان غليظا لا بأس بأن يرقق بالماء ثم يشرب منه كما فعله عمر - Bه - والأصل فيه ما روي أن النبي - A - ( استسقى العباس في حجة الوداع فأتاه بشراب فلما قربه إلى فيه قطب وجهه ثم دعا بماء فصبه عليه ثم شربه وقال E : ( إذا رابكم شيء من هذه الأشربة فاكسروا متونها بالماء ) .
وعن عمر - Bه - أنه أتى بنبيذ الزبيب فدعا بماء وصبه عليه ثم شرب وقال : إن لنبيذ زبيب الطائف غراما وفي مناولته عبادة بن الصامت وكان عن يمينه دليل على أن من يكون من الجانب الأيمن فهو أحق بالتقديم .
والأصل فيه ما روي ( أن النبي - A - أتى بعس من لبن فشرب بعضه وكان عن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر - Bه - فقال للأعرابي : أنت على يميني وهذا أبو بكر فقال الأعرابي : ما أنا بالذي أوثر غيري على سؤرك فتله رسول الله - A - في يده وكان رسول الله - A - يقول : الأيمنون الأيمنون ) ومنه قول القائل : .
ثلاثة يمنة تدور .
الكأس والطست والبخور .
ثم أشكل على عبادة - Bه - فقال : ما أرى النار تحل شيئا يعني أن المشتد من هذا الشراب قبل أن يطبخ بالنار حرام فبعد الطبخ كذلك إذ النار لا تحل الحرام فقال له عمر - Bه - يا أحمق أي يا قليل النظر والتأمل أليس يكون خمرا ثم يكون خلا فنأكله يعني أن صفة الخمرية تزول بالتخليل فكذلك صفة الخمرية بالطبخ حتى يذهب منه الثلثان تزول .
ومعنى هذا الكلام أن النار لا تحل ولكن بالطبخ تنعدم صفة الخمرية كالذبح في الشاة عينه لا يكون محللا ولكنه منهر للدم والمحرم هو الدم المسفوح فتسييل الدم المسفوح يكون محللا لانعدام ما لأجله كان محرما وبهذا أخذنا وقلنا : يجوز التخليل لأنه إتلاف لصفة الخمرية وإتلاف صفة الخمرية لا يكون محرما .
وعن ابن عباس - Bه - قال : كل نبيذ يفسد عند إبانه فهو نبيذ ولا بأس به وكل نبيذ يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وإنما أراد به النيء من ماء الزبيب أو التمر أنه ما دام حلوا ولم يصر معتقا فهو بحيث يفسد عند إبانه فلا بأس بشربه وإذا صار معتقا بأن غلا واشتد وقذف بالزبد فهو يزداد جوره على طول الترك فلا خير فيه وبه كان يقول أبو يوسف - C - في الابتداء في المطبوخ من ماء الزبيب والتمر أنه إذا صار معتقا لا يحل شربه وإن كان بحيث يفسد إذا ترك عشرة فلا بأس بشربه ثم رجع عن ذلك فقال : قول ابن عباس - Bه - في النيء خاصة فهو النبيذ حقيقة مشتق من النبذ وهو الطرح أي ينبذ الزبيب والتمر في الماء ليستخرج حلاوته فأما إذا طبخ فالطبخ يغيره عن حاله فلا يتناوله اسم النبيذ حقيقة وإن كان قد يسمى به مجازا .
وعن ابن عباس - Bه - قال : حرمت الخمرة لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب وفيه دليل أن المحرم هو الأخير الذي يكون منه السكر كالمؤلم اسم لما يتولد الألم منه وأن الخمر حرام لعينها والقليل والكثير في الحكم سواء وفي المثلث والمطبوخ من الزبيب والتمر يفصل بين القليل والكثير فلا بأس بشرب القليل منه وإنما يحرم منه ما يتعقبه السكر وهو القدح الأخير قال ابن عباس - Bه - الكأس المسكرة هي الحرام .
قال أبو يوسف - C - وأما مثل ذلك دم في ثوب فلا بأس بالصلاة فيه إن كان قليلا فإذا كثر لم تحل الصلاة فيه ومثله رجل ينفق على نفسه . وأهله من كسبه فلا بأس بذلك فإذا أسرف في النفقة لم يصلح له ذلك ولا ينبغي وكذلك النبيذ لا بأس بأن يشربه على طعام ولا خير في المسكر منه لأنه إسراف فإذا جاء السكر فليدع الشرب .
( ألا ترى ) أن اللبن وما أشبهه من الشراب حلال ولا ينبغي له إن كان يسكر أن يستكثر منه .
( ألا ترى ) أن البنج لا بأس بأن يتداوى به الإنسان فإذا كاد أن يذهب عقله منه فلا ينبغي أن يفعل ذلك وفي هذا كله بيان أن المحرم هو السكر إلا أن في الخمر القليل يدعو إلى الكثير كما قررنا فيحرم شرب القليل منها لأنها داعية إلى الكثير وذلك في المثلث لا يوجد فإنه غليظ لا يدعو قليله إلى كثيره بل بالقليل يستمرئ طعامه ويتقوى على الطاعة والكثير يصدع رأسه .
( ألا ترى ) أن الذين يعتادون شرب المسكر لا يرغبون في المثلث أصلا .
ولا يقال : القدح الأخير مسكر بما تقدمه لأن المسكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه ويقوي بدنه حلال وما يتخمه وهو الأكل فوق الشبع حرام ثم المحرم منه المتخم وهو ما زاد على الشبع وإن كان هذا لا يكون متخما إلا باعتبار ما تقدمه فكذلك في الشراب .
وعن ابن مسعود - Bه - أن إنسانا أتاه وفي بطنه صفراء فقال وصف لي السكر فقال عبدالله : إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم وبه نأخذ فنقول كل شراب محرم فلا يباح شربه للتداوي حتى روي عن محمد أن رجلا أتى يستأذنه في شرب الخمر للتداوي قال : إن كان في بطنك صفراء فعليك بماء السكر وإن كان بك رطوبة فعليك بماء العسل فهو أنفع لك ففي هذا إشارة إلى أنه لا تتحقق الضرورة في الإصابة من الحرام فإنه يوجد من جنسه ما يكون حلالا والمقصود يحصل به وقد دل عليه قول النبي - A - : ( إن الله لم يجعل في رجس شفاء ) ولم يرد به نفي الشفاء أصلا فقد يشاهد ذلك ولا يجوز أن يقع الخلف في خبر الشرع E ولكن المراد أنه لم يعين رجسا للشفاء على وجه لا يوجد من الحلال ما يعمل عمله أو يكون أقوى منه وعن بريدة أن رسول الله - A - قال : ( نهيتكم عن ثلاث : عن زيارة القبور فزوروها فقد أذن لمحمد في زيادة قبر أمه ولا تقولوا هجرا وعن لحم الأضاحي أن تمسكوه فوق ثلاثة أيام فأمسكوه ما بدا لكم وتزودوا فإنما نهيتكم ليتسع به موسركم على معسركم وعن النبيذ في الدباء والحنتم والمزفت فاشربوا في كل ظرف فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا مسكرا ) وفي رواية ابن مسعود - Bه - قال : ( وعن الشرب في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فاشربوا في الظروف ولا تشربوا مسكرا ) وهذا اللفظ رواه أبو بردة بن نيار أيضا وفي الحديث دليل نسخ السنة بالسنة فقد أذن في هذه الأشياء الثلاثة بعدما كان نهى عنها وبالإذن ينسخ حكم النهي وقيل المراد النهي عن زيارة قبور المشركين فإنهم ما منعوا عن زيارة قبور المسلمين قط .
( ألا ترى ) أنه - E - قال : قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه وكانت قد ماتت مشركة وروي أنه زار قبرها في أربعمائة فارس فوقفوا بالبعد ودنا هو من قبرها فبكى حتى سمع نشيجه وقيل : إنما نهوا عن زيارة القبور في الابتداء على الإطلاق لما كان من عادة أهل الجاهلية أنه كانوا يندبون الموتى عند قبورهم وربما يتكلمون بما هو كذب أو محال ولهذا قال E : ( ولا تقولوا هجرا ) أي لغوا من الكلام ففيه بيان أن الممنوع هو التكلم باللغو فذلك موضع ينبغي للمرء أن يتعظ به ويتأمل في حال نفسه وهذا قائم لم ينسخ إلا أنه في الابتداء نهاهم عن زيارة القبور لتحقيق الزجر عن لهجر من الكلام ثم أذن لهم في الزيارة بشرط أن لا يقولوا هجرا ومن العلماء من يقول الإذن للرجال دون النساء والنساء يمنعن من الخروج إلى المقابر لما روي أن فاطمة - Bها - خرجت في تعزية لبعض الأنصار فلما رجعت قال لها رسول الله - A - : ( لعلك أتيت المقابر قالت : لا فقال E : لو أتيت ما فارقت جدتك يوم القيامة ) أي كنت معها في النار والأصح عندنا أن الرخصة ثابتة في حق الرجال والنساء جميعا فقد روي أن عائشة - Bها - كانت تزور قبر رسول الله - A - في كل وقت وأنها لما خرجت حاجة زارت قبر أخيها عبدالرحمن - Bه - وأنشدت عند القبر قول القائل : .
كنا كندماني جذيمة حقبة .
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا .
فلما تفرقنا كأني ومالكا .
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا .
والنهي عن إمساك لحوم الأضاحي فوق ثلاثة أيام قد انتسخ بقوله - E - : ( فأمسكوا ما بدا لكم وتزودوا ) فإن القربة تنادي بإراقة الدم والتدبير في اللحم بعد ذلك من الأكل والإمساك والإطعام إلى صاحبه إلا أنه للضيق والشدة في الابتداء نهاهم عن الإمساك على وجه النظر والشفقة ليتسع موسرهم على معسرهم ولما انعدم ذلك التضييق أذن لهم في الإمساك فأما النهي عن الشرب في الأواني فقد كان في الابتداء نهاهم عن الشرب في الأواني المتثلمة تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ولهذا أمر بكسر الدنان وشق الروايا فلما تم انزجارهم عن ذلك أذن لهم في الشرب في الأواني وبين لهم أن المحرم شرب المسكر وأن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه وقد بينا أن المسكر ما يتعقبه السكر وهو الكأس الأخير .
وعن إبراهيم - C - قال : أتى عمر - Bه - بأعرابي سكران معه إداوة من نبيذ مثلث فأراد عمر - Bه - أن يجعل له مخرجا فما أعياه إلا ذهاب عقله فأمر به فحبس حتى صحا ثم ضربه الحد ودعا بإداوته وبها نبيذ فذاقه فقال : أوه هذا فعل به هذا الفعل فصب منه في إناء ثم صب عليه الماء فشرب وسقى أصحابه وقال : إذا رابكم شرابكم فاكسروه بالماء .
وفيه دليل أنه ينبغي للإمام أن يحتال لإسقاط الحد بشبهة يظهرها كما قال E : ( ادرؤوا الحدود بالشبهات ) وقد كانوا يفعلون ذلك في الحدود كلها وفي حديث الشرب على الخصوص لضعف في سببه على ما روي عن علي - Bه - قال : ما من أحد أقيم عليه حدا فيموت فآخذ في نفسي من ذلك شيئا إلا حد الخمر فإنه يثبت بآرائنا فلهذا طلب عمر - Bه - مخرجا له وفيه دليل على أن السكران يحبس حتى يصحو ثم يقام عليه الحد لأن المقصود هو الزجر وذلك لا يتم بالإقامة عليه حال سكره فإنه لاختلاط عقله ربما يتوهم أن الضارب يمازحه بما يضربه والمقصود إيصال الألم إليه ولا يتم ذلك ما لم يصح وتأخير إقامة الحد بعذر جائز كالمرأة إذا لزمها حد الزنا بالرجم وهي حبلى لا يقام عليها حتى تضع وفيه دليل أنه لا بأس بشرب نبيذ الزبيب إذا كان مطبوخا وإن كان مشتدا فإن عمر - Bه - قد شرب منه بعد ما صب عليه الماء . وسقى أصحابه ثم لم يبين أن الأعرابي أذن له في الشرب من إداوته ولكن الظاهر أنه شرب ذلك بإذنه حتى روي أنه قال : أتضربني فيما شربته فقال عمر - Bه - إنما حددتك لسكرك فهو دليل أنه إذا سكر من النبيذ الذي يجوز شرب القليل منه يلزمه الحد .
وعن حماد - Bه - قال : دخلت على إبراهيم - C - وهو يتغدى فدعا بنبيذ فشرب وسقاني فرأى في الكراهة فحدثني عن علقمة - C - أنه كان يدخل على عبدالله بن مسعود - Bه - فيتغدى عنده ويشرب عنده النبيذ يعني نبيذ الجر .
وقد روي أن ابن مسعود - Bه - كان يعتاد شربه حتى ذكر عن أبي عبيدة أنه أراهم الجر الأخضر الذي كان ينبذ فيه لابن مسعود - Bه - وعن نعيم بن حماد - Bه - قال : كنا عند يحيى بن سعيد القطان - C - وكان يحدثنا بحرمة النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش - C - فقال : أسكت يا صبي حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة - C - أنه شرب عبدالله بن مسعود - Bه - نبيذا مشتدا صلبا وكذلك علي بن أبي طالب - Bه - نبيذا مشتدا كان يعتاد شربه .
وقد روي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : سقاني علي - Bه - نبيذا فلما رأى ما بي من التغير بعث معي قنبرا يهديني .
وعن عبدالرحمن بن أبي ليلى أن عليا - Bه - قال : إن القوم ليجتمعون على الشراب وهو لهم حلال فلا يزالون يشربون حتى يحرم عليهم يعني إذا بلغوا حد السكر وكذلك عمر - Bه - كان يشرب المثلث ويأمر باتخاذه للناس حتى روي عن داود بن أبي هند قال : قلت لسعيد بن المسيب : الطلاء الذي يأمر عمر - Bه - باتخاذه للناس ويسقيهم منه كيف كان ؟ قال : كان يطبخ العصير حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه والمراد أنه كان يسقيهم بعد ما يشتد لما ذكر عن عمر - Bه - قال : إنا ننحر جزورا للمسلمين والعنق منها لآل عمر ثم يشرب عليه من هذا النبيذ فيقطعه في بطوننا ولكثرة ما روي من الآثار في إباحة شرب المثلث ذكر أبو حنيفة - C - فيما عد من خصال مذهب أهل السنة . وأن لا يحرم نبيذ الجر .
وعن بعض السلف قال : لأن أخر من السماء فانقطع نصفين أحب إلي من أن أحرم نبيذ الجر وإنما قال ذلك لما في التحريم من رد الآثار المشهورة وإساءة القول في الكبار من الصحابة - Bهم - وذلك لا يحل فأما مع الإباحة فقد لا يعجب المرء الإصابة من بعض المباحات للاحتياط أو لأنه لا يوافق طبعه وهذه الرخصة تثبت بعد التحريم فقد كانوا في الابتداء نهوا عن ذلك كله لتحقيق الزجر هكذا روي عن ابن مسعود - Bه - قال : شهدت تحريمه كما شهدتم ثم شهدت تحليله فحفظت ذلك ونسيتم فبهذا تبين أن ما يروى من الآثار في حرمته قد انتسخ بالرخصة فيه بعد الحرمة .
وعن إبراهيم - C - قال : إنما كره التمر والزبيب لشدة الغش في ذلك الزمان كما كره اللحم والتمر وكما كره أن يقرن الرجل بين التمرتين فأما اليوم فلا بأس به وهذا منه بيان تأويل النهي عن شراب الخليطين وإنه لا بأس به اليوم وعن إبراهيم قال : قول الناس ما أسكر كثيره فقليله حرام خطأ منهم إنما أراد السكر حرام فأخطؤوا وسنبين تأويل هذا اللفظ بعد هذا وعن علي بن الحسين - Bه - ( أن رسول الله - A - غزا غزوة تبوك فمر بقوم يزفتون فقال : ما هؤلاء ؟ فقيل : أصابوا من شراب لهم فنهاهم أن يشربوا في الدباء والحنتم والمزفت فلما مر بهم راجعا من غزاتهم شكوا إليه ما لقوا من التخمة فأذن لهم أن يشربوا منها ونهاهم عن المسكر ) وفيه دليل أن الرخصة كانت بعد النهي وأنه - E - نهاهم في الابتداء لتحقق الزجر عن شرب المسكر ثم أذن لهم في شرب القليل منه بعد أن لا يبلغوا حد المسكر والزبيب المعتق إذا لم يطبخ فلا بأس بشربه ما لم يغل فإذا غلا واشتد فلا خير فيه .
والكلام هنا في فصول : .
أحدها : في الخمر وقد بيناه وإنما بقي الكلام فيه في فصل واحد وهو أن عند أبي حنيفة العصير وإن اشتد فلا بأس بشربه ما لم يغل ويقذف بالزبد فإذا غلا وقذف بالزبد فهو خمر حينئذ .
وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - : إذا اشتد فهو خمر لأن صفة الخمرية فيه لكونه مسكرا مخامرا للعقل وذلك باعتبار صفة الشدة فيه .
يوضحه : أن حرمة الخمر لما في شربها من إيقاع العداوة والصد عن ذكر الله تعالى وذلك باعتبار اللذة المطربة والقوة المسكرة فيها فأما بالغليان والقذف بالزبد فيرق ويصفو ولا تأثير لذلك في إحداث السكر فبعد ما صار مشتدا فهو خمر سواء غلا وقذف بالزبد أو لم يغل .
يوضحه : أنه قد يحتال بإلقاء شيء عليه ويحتال للمنع من الغليان حتى لا يكون له غليان ولا قذف بالزبد أصلا ولكنه لا بد من أن يشتد ليكون مسكرا فعرفنا أن المعتبر فيه الشدة ولأبي حنيفة - C - أن المسكر صفة العصير وهو أصل لما يعصر من العنب وما بقي أثر من آثار الأصل فالحكم له .
( ألا ترى ) أن مع بقاء واحد من أصحاب الحطة في المحلة لا يعتبر السكان ثم حكم الصحة والحد لا يمكن إثباته بالرأي ولكن طريق معرفته النص والنص إنما ورد بتحريم الخمر والخمر مغاير للعصير ولا تتم المغايرة مع بقاء شيء من آثار العصير وقد كان الحل ثابتا فيه وما عرف ثبوته بيقين لا يزال إلا بيقين مثله وذلك بعد الغليان والقذف بالزبد والأصل في الحدود اعتبار نهاية الكمال في سببها كحد الزنا والسرقة لا يجب إلا بعد كمال الفعل اسما وصورة ومعنى من كل وجه لما في النقصان من شبهة العدم والحدود تندرئ بالشبهات فلهذا استقصى أبو حنيفة - C - وقال : لا تتوفر أحكام الخمر على العصير بمجرد الشدة إلا بعد الغليان . والقذف بالزبد فأما نبيذ التمر ونبيذ الزبيب .
فإن لم يطبخ حتى غلا واشتد وقذف بالزبد فهو حرام لما روينا من الآثار فيه وبعد الطبخ يحل شربه وإن اشتد واتفقت الروايات في التمر أن المعتبر فيه أدنى الطبخ وهو أن ينضج وفي الزبيب المعتق كذلك وهو أن يكسر بشيء ثم تستخرج حلاوته بالماء كما في التمر وأما إذا نقع في الماء فقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - أنه يعتبر فيه الطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه كما في العصير .
والوجه فيه ما حكي عن السلف - رحمهم الله - أن ما يكون منه العصير ابتداء إذا أعيد إلى ما كان عليه في الابتداء فحكم ما يعصر منه حكم العصير وما لا يكون منه العصير في الابتداء لا يثبت فيه حكم العصير في الانتهاء فما يسيل من الرطب في الابتداء يحل بأدنى الطبخ فكذلك في الانتهاء وما يسيل من العنب في الابتداء لا يحل ما لم يذهب بالطبخ ثلثاه فكذلك في الانتهاء .
فأما في ظاهر المذهب فالزبيب والتمر سواء وإذا طبخ أدنى طبخه فإنه يحل شرب القليل منه وإن اشتد لأن العصير الذي كان في العنب قد ذهب حين زبب والزبيب عين آخر سوى العنب .
( ألا ترى ) إن غصب عنبا فجعله زبيبا انقطع حق المغصوب منه في الاسترداد فإذا تعتبر حاله على هذه الصفة وعلى هذه الصفة هو والتمر سواء في الحكم ثم التي من نبيذ التمر والزبيب وإن كان لا يحل شربه فهو ليس نظير الخمر في الحكم حتى يجوز بيعه في قول أبي حنيفة - C .
وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - لا يجوز بيعه ولا يجب الحد بالشرب منه ما لم يسكر وإذا أصاب الثوب منه أكثر من قدر الدرهم تجوز الصلاة فيه وكذلك المنصف وهو الذي ذهب بالطبخ نصفه إذا غلا واشتد لا يحل شربه ولكن يجوز بيعه عند أبي حنيفة ولا يجب الحد على من شرب منه ما لم يسكر وتجوز الصلاة فيه إذا أصاب الثوب منه ما لم يكن كثيرا فاحشا وفي النادق وهو ما طبخ أدنى طبخه وكان دون النصف فأظهر الروايتين عن أبي حنيفة - C - أنه بمنزلة المنصف في حكم البيع والحد وعنه في رواية أخرى أنه ألحق بالخمر في أنه لا يجوز بيعه وأما حكم النجاسة فيه فلأنه مختلف بين العلماء - رحمهم الله - في حرمته ويتحقق فيه معنى البلوى أيضا وباعتبار هذين المعنيين يخف حكم النجاسة كما في بول ما يؤكل لحمه وأما في حكم الحد فلأن العلماء - رحمهم الله - لما اختلفوا في حرمته فالاختلاف المعتبر يورث شبهة والحد مما يندرئ بالشبهات وأما حكم البيع فهما يقولان أن عينه محرمة التناول فلا يجوز بيعه كالخمر وهذا لأن البيع باعتبار صفة المالية والتقوم باعتبار كونه منتفعا به شرعا ولا منفعة في هذا المشروب سوى الشرب وإذا كان محرم الشرب شرعا كان فاسدا لماليته والتقوم شرعا فلا يجوز بيعه كالخمر ولأن صاحب الشرع - A - سوى في الخمر بين البيع والشرب حين لعن بائعها ومشتريها كما لعن شاربها وهذا لأن البيع يكون تسليطا للمشتري على الشرب عادة فإذا كان الشرب حراما حرم البيع أيضا وهذا المعنى موجود في هذه الأشربة .
وأبو حنيفة - C - يقول : هذا شراب مختلف في إباحة شربه بين العلماء - رحمهم الله - فيجوز بيعه كالمثلث وهذا لأنه ليس من ضرورة حرمة التناول حرمة البيع فإن الدهن النجس لا يحل تناوله ويجوز بيعه وكذلك بيع السرقين جائز وإن كان تناوله حراما والسرقين محرم العين ومع ذلك كان بيعه جائزا فكذلك المنصف وما أشبهه وبطلان بيع الخمر عرفناه بالنص الوارد فيه وما عرف بالنص لا يلحق به إلا ما يكون في معناه من كل وجه وهذه الأشربة ليست في معنى الخمر من كل وجه بدليل حكم الحد وحكم النجاسة فجاز بيعها باعتبار الأصل .
فأما المثلث على قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - فلا بأس بشربه والمسكر منه حرام وهو رواية عن محمد - C - أيضا وعنه أنه كره شربه .
وعنه : أنه حرم شربه وهو قول مالك والشافعي - رحمهما الله - احتجوا في ذلك بما روي أن النبي - A - قال : ( كل مسكر حرام ) وفي رواية قال : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) وفي رواية ( ما أسكرت الجرعة منه فالجرعة منه حرام ) وفي رواية ( فملء الكف منه حرام ) ولأن المثلث بعد ما اشتد خمر لأن الخمر إنما يسمى بهذا الاسم لا لكونه ماء .
( ألا ترى ) أن العصير الحلو لا يسمى خمرا وإنما تسميته بالخمر لمعنى مخامرته العقل وذلك موجود في سائر الأشربة المسكرة وقد جاء عن رسول الله - A - أنه قال : ( كل مسكر خمر ) ولو سماه أحد من أهل اللغة خمرا لكان مستدلا بقوله على إثبات هذا الاسم له فإذا سماه صاحب الشرع - E - به وهو أفصح العرب أولى .
يوضحه : أن الكثير من هذه الأشربة مساو للكثير من الخمر في حكم الحرمة ووجوب الحد فكذلك القليل .
وبهذا تبين أن القليل في الحرمة كالكثير لأن شرب القليل منه لو كان مباحا لما وجب الحد وإن سكر منه لأن السكر إنما حصل بشرب الحلال والحرام جميعا فباعتبار جانب الحلال يمنع وجوب الحد عليه وإذا اجتمع الموجب للحد والمسقط له ترجح المسقط على الموجب .
وأبو حنيفة وأبو يوسف استدلا بما روينا من الآثار عن النبي - A - وعن الصحابة