قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام : أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - إملاء : اعلم أن الخمر حرام بالكتاب والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } ( المائدة : 90 ) إلى أن قال : { فهل أنتم منتهون } ( المائدة : 91 ) . وسبب نزول هذه الآية سؤال عمر - Bه - على ما روي أنه قال لرسول الله - A - ( الخمر مهلكة للمال مذهبة للعقل فادع الله تعالى يبينها لنا فجعل يقول : اللهم بين لنا بيانا شافيا ) فنزل قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } ( البقرة : 219 ) . فامتنع منها بعض الناس وقال بعضهم نصيب من منافعها وندع المأثم فقال عمر - Bه - اللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ( النساء : 43 ) فامتنع بعضهم وقالوا : لا خير لنا فيما يمنعنا من الصلاة وقال بعضهم : بل نصيب منها في غير وقت الصلاة فقال عمر : اللهم زدنا في البيان فنزل قوله تعالى : { إنما الخمر والميسر } ( المائدة : 90 ) الآية فقال عمر - Bه - انتهينا ربنا والخمر هو النيء من ماء العنب المشتد بعد ما غلى وقذف بالزبد اتفق العلماء - رحمهم الله - على هذا ودل عليه قوله تعالى : { إني أراني أعصر خمرا } ( يوسف : 36 ) أي عنبا يصير خمرا بعد العصر والميسر : القمار والأنصاب : ذبائحهم باسم آلهتهم في أعيادهم والأزلام : القداح وأحدها زلم كقولك قلم وأقلام وهذا شيء كانوا يعتادونه في الجاهلية إذا أراد أحدهم أمرا أخذ سهمين مكتوب على أحدهما أمرني ربي والآخر نهاني ربي فجعلهما في وعاء ثم أخرج أحدهما فإن خرج الأمر وجب عليه مباشرة ذلك الأمر وإن خرج النهي حرم عليه مباشرته وبين الله تعالى أن كل ذلك رجس والرجس ما هو محرم العين وأنه من عمل الشيطان يعني أن من لا ينتهي عنه متابع للشيطان مجانب لما فيه رضا الرحمن وفي قوله D : { فاجتنبوه } ( المائدة : 90 ) أمر بالاجتناب منه وهو نص في التحريم ثم بين المعنى فيه بقوله D : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة } ( المائدة : 91 ) وكان هذا إشارة إلى الإثم الذي بينه الله تعالى في الآية الأولى بقوله D : { وإثمهما أكبر من نفعهما } ( البقرة : 219 ) وفي قوله : { فهل أنتم منتهون } ( المائدة : 91 ) أبلغ ما يكون من الأمر بالاجتناب عنه وقال تعالى : { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } ( الأعراف : 33 ) والإثم من أسماء الخمر قال القائل : .
شربت الإثم حتى ضل عقلي .
كذاك الإثم يذهب بالعقول .
وقيل هذا إشارة إلى قوله : { وإثمهما أكبر من نفعهما } ( البقرة : 219 ) والسنة ما روي عن النبي - A - أنه قال : ( لعن الله في الخمر عشرا ) الحديث وذلك دليل نهاية التحريم وقال E : ( شارب الخمر كعابد الوثن ) وقال E : ( الخمر أم الخبائث ) وقال E : ( إذا وضع الرجل قدحا في خمر على يده لعنته ملائكة السموات والأرض فإن شربها لم تقبل صلاته أربعين ليلة وإن داوم عليها فهو كعابد الوثن ) .
وكان جعفر الطيار - C - يتحرز عن هذا في الجاهلية والإسلام ويقول : العاقل يتكلف ليزيد في عقله فأنا لا أكتسب شيئا يزيل عقلي والأمة أجمعت على تحريمها وكفى بالإجماع حجة هذه حرمة قوية باتة حتى يكفر مستحلها ويفسق شاربها ويجب الحد بشرب القليل والكثير منها وهي نجسة نجاسة غليظة لا يعفى عن أكثر من قدر الدرهم منها .
ولا يجوز بيعها بين المسلمين لقوله E : ( إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها ) . وبعض المعتزلة يفصلون بين القليل والكثير منها في حكم الحرمة ويقولون المحرم ما هو سبب لوقوع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وذلك الكثير دون القليل وعند أهل السنة والجماعة : القليل منها والكثير في الحرمة وجميع ما ذكرنا من الأحكام سواء لقوله E : ( حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب ) ثم تناول القليل منها معنى العداوة والصد عن ذكر الله تعالى فالقليل يدعو إلى الكثير على ما قيل : ما من طعام وشراب إلا ولذته في الابتداء تزيد على اللذة في الانتهاء إلا الخمر فإن اللذة لشاربها تزداد بالاستكثار منها ولهذا يزداد حرصه على شربها إذا أصاب منها شيئا فكان القليل منها داعيا إلى الكثير منها فيكون محرما كالكثير .
( ألا ترى ) أن الربا لما حرم شرعا حرم دواعيه أيضا وإن المشي على قصد المعصية معصية وأما السكر فهو النيء من ماء التمر المشتد وهو حرام عندنا وقال شريك بن عبدالله هو حلال لقوله تعالى : { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } ( النحل : 67 ) والرزق الحسن شرعا ما هو حلال وحكم المعطوف والمعطوف عليه سواء ولأن هذه الأشربة كانت مباحة قبل نزول تحريم الخمر فيبقى ما سوى الخمر بعد نزول تحريم الخمر على ما كان من قبل .
( ألا ترى ) أن في الآيات بيان حكم الخمر وما كان يكثر وجود الخمر فيهم بالمدينة فإنها كانت تحمل من الشام وإنما كان شرابهم من التمر وفي ذلك ورد الحديث نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ منها شيء فلو كان تحريم سائر الأشربة مرادا بالآية لكان الأولى التنصيص على حرمة ما كان موجودا في أيديهم لأن حاجتهم إلى معرفة ذلك .
وحجتنا في ذلك ما روي عن رسول الله - A - أنه قال : ( الخمر من هاتين الشجرتين : الكرم النخل ) ولم يرد به بيان الاسم لغة لأنه ما بعث مبينا لذلك وبين أهل اللغة اتفاق أن الاسم حقيقة للتي من ماء العنب وواضع اللغة خص كل عين باسم هو حقيقة فيه وإن كان قد يسمى الغير به مجازا لما في الاشتراك من اتهام غفلة الواضع والضرورة الداعية إلى ذلك وذلك غير متوهم هنا فعرفنا أن المراد حكم الحرمة أن ما يكون من هاتين الشجرتين سواء في حكم الحرمة ولما سئل ابن مسعود - Bه - عن شرب المسكر لأجل الصفر قال : إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم فأما قوله تعالى : { تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } ( النحل : 67 ) فقد قيل كان هذا قبل نزول آية التحريم وقيل في الآية إضمار وهو مذكور على سبيل التوبيخ أي تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا .
فإن طبخ من العنب أدنى طبخه أو ذهب منه بالطبخ أقل من الثلثين ثم اشتد وغلا وقذف بالزبد فهو حرام عندنا .
وقال حماد بن أبي سلمة - C - إذا طبخ حتى نضج حل شربه .
وكان بشر المريسي يقول : إذا طبخ أدنى طبخه فلا بأس بشربه .
وكان أبو يوسف - C - يقول : أولا إذا طبخ حتى ذهب منه النصف فلا بأس بشربه ثم رجع فقال : ما لم يذهب منه الثلثان بالطبخ لا يحل شربه إذا اشتد وهو قول أبي حنيفة - C .
وعن محمد - C - أنه كره الثلث أيضا .
وعنه : أنه توقف فيه .
وعنه : أنه حرم ذلك كله إذا كان مسكرا وهو قول مالك والشافعي وطريق من توسع في هذه الأشربة ما ذكرنا أن قبل نزول التحريم كان الكل مباحا ثم نزل تحريم الخمر وما عرفنا هذه الحرمة إلا بالنص فبقي سائر الأشربة بعد نزول تحريم الخمر على ما كان عليه قبل نزوله