( قال C ) وإذا دفع الرجل إلى رجل مالا مضاربة بالنصف فعمل به في مصره أو في أهله فلا نفقة له في مال المضاربة ولا على رب المال لأن القياس أن لا يستحق المضارب النفقة في مال المضاربة بحال فإنه بمنزلة الوكيل أو المستبضع عامل لغيره بأمره أو بمنزلة الأجير لما شرط لنفسه من بعض الربح وواحد من هؤلاء لا يستحق النفقة في المال الذي يعمل فيه إلا أنا تركنا هذا القياس فيما إذا سافر بالمال لأجل الصرف فبقي ما قبل السفر على أصل القياس وهذا لأن مقامه في مصره أو في أهله لكون متوطنا فيه لا لأجل مال المضاربة ( ألا ترى ) أنه قبل عقد المضاربة كان متوطنا في هذا الموضع وكانت نفقته في مال نفسه فكذلك بعد المضاربة فأما إذا خرج بالمال إلى مصر يتجر فيه كانت نفقته في مال المضاربة في طريقه وفي المصر الذي يأتيه لأجل العادة وهذا لأن خروجه وسفره لأجل مال المضاربة والإنسان لا يتحمل هذه المشقة ثم ينفق من مال نفسه لأجل ربح موهوم عسى يحصل وعسى لا يحصل بل إنما رضي بتحمل هذه المشقة باعتبار منفعة تحصل له وليس ذلك إلا بالإنفاق من ماله الذي في يده فيما يرجع إلى كفايته بخلاف الوكيل والمستبضع فإنه متبرع في عمله لغيره غير طامع في شيء من ماله لأجله وبخلاف الأجير لأنه عامل له ببدل مضمون في ذمة المستأجر وذلك يحصل له بيقين فأما هذا فغير متبرع ولا هو مستوجب بدلا مضمونا بل حقه في ربح عسى يحصل وعسى لا يحصل فلا بد من أن يحصل له بإزاء ما تحمل من المشقة شيء معلوم وذلك نفقته في المال وهو بمنزلة الشريك والشريك إذا سافر بمال الشركة فنفقته في ذلك المال وهو مروي عن محمد C فالمضارب كذلك وهذا لأنه فرغ نفسه عن اشتغاله لأجل مال المضاربة فهو كالمرأة إذا فرغت نفسها لزوجها بالمقام في بيته فأما في المصر فما فرغ نفسه لمال المضاربة فلا يستوجب نفقته فيه ونفقته طعامه وكسوته ودهنه وغسل ثيابه وركوبه في سفره إلى المصر الذي أتاه بالمعروف على قدر نفقة مثله لأن هذا كله مما لا بد منه في السفر وفي النوادر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إن دهنه ليس من جملة النفقة وكأنهما أرادا به في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى استعمال الدهن عادة فتكون الحاجة إليه نادرة والثابت عرفا لا يثبت فيما هو نادر ومراد محمد C إذا سافر إلى المواضع التي يحتاج فيها إلى استعمال الدهن عادة وذلك في ديار الحجاز والعراق ثم المستحق نفقة المثل وهو المعروف كما في نفقة الزوجة فإن أنفق أكثر من ذلك حسب له من ذلك نفقة مثله وكان ما بقي عليه في ماله فإذا رجع إلى مثله وقد بقي معه ثياب أو طعام أو غيره رده في مال المضاربة لأن استحقاقه قد انتهى برجوعه إلى مصره فعليه رد ما بقي معه ثياب أو طعام أو غيره رده في مال المضاربة لأن مال المضاربة مدة سفره في حاجته كمال نفسه فكما إنه يصرف مال نفسه في هذه الأشياء كما يصرف في النفقة فكذلك مال المضاربة .
وجه ظاهر الرواية إنه إنما يستوجب النفقة في مال المضاربة وثمن الدواء وأجرة الحجام وما يحتاج إليه من العلاج ليس من النفقة ( ألا ترى ) أن الزوجة لا تستحق شيئا من ذلك على زوجها بخلاف النفقة ثم الحاجة إلى هذه الأشياء غير معتادة بل هي نادرة والنادر لا يستحق بطريق العادة وكذلك جارية الوطء والخدمة لا يحتسب بثمنها في المضاربة لأن ذلك ليس من أصول حوائجه بل يكون للترفه وقضاء الشهوة ولأن ما قصد لشرائها لا ترجع منفعته إلى مال المضاربة ولو استأجر أجيرا يخدمه في سفره وفي مصره الذي أتاه ليخبز له ويطبخ ويغسل ثيابه ويعملله ما لا بد له منه احتسب بذلك على المضارب لأنه لو لم يستأجر احتاج إلى إقامة هذه الأعمال بنفسه فإنه ما لا بد له منه وإذا عمل له أجيره تفرغ هو للعمل في مال المضاربة فكان في هذا الاستئجار منفعة للمضاربة وكذلك لو كان معه غلمان له يعملون في المال كانوا بمنزلته ونفقتهم في مال المضاربة لأن نفقتهم كنفقته وهم يعملون له في المال كما يعمل وهو ومن يستحق نفقته على إنسان يستحق نفقة خادمه كالمرأة على زوجها إلا أنها لا تحتاج إلى الزيادة على خادم واحد في عملها للزوج في بيته وقد يحتاج المضارب إلى غلمان يعملون في المال معه فلهذا كانت نفقتهم في مال المضاربة وكذلك لو كان للمضارب دواب يحمل عليها متاع المضاربة إلى مصر من الأمصار كان علفها على المضاربة ما دامت في عملها لأنها بالعلف تتقوى على حمل المتاع ومنفعة ذلك راجعة إلى مال المضاربة وإذا أراد القسمة بدأ برأس المال فأخرج من المال وجعلت النفقة مما بقي فإن بقي من ذلك شيء فهو الربح يقسم بين المضارب ورب المال على ما اشترطا وكذلك لو كان أنفق في سفره من المال بعضه قبل أن يشتري به شيئا ثم اشترى بالباقي وباع وربح استوفى رب المال رأس ماله كاملا لأن ما أنفقه المضارب يجعل كالتاوي وقد بينا أن العقد يبقى في الكل بعد هلاك بعض رأس المال فيحصل جميع رأس المال وما بقي فهو بينهما على الشرط ولو دفع المال مضاربة إليه فخرج إلى السواد يشتري به الطعام وذلك مسيرة يوم أو يومين فأقام في ذلك المكان يشتري ويبيع فإنه ينفق في طريقه ومقامه في ذلك المكان من مال المضاربة وهذا ومسيرة ثلاثة أيام في المعنى سواء لأنه إنما فارق وطنه لعمله في ماله المضاربة وكذلك لو أقام في هذا الموضع أيضا فيستوجب النفقة في مال المضاربة ولو كان في المصر الذي فيه أهله إلا أن المصر عظم أهله في أقصاه والمقام الذي يتجر فيه في الجانب الآخر وكان يقيم هناك ليتجر ولا يرجع إلى أهله فلا نفقة له في مال المضاربة لأن نواحي المصر في حكم ناحية واحدة ( ألا ترى ) أن المقيم في ناحية من المصر يكون مقيما في جميع نواحيه وإذا خرج من أهله على قصد السفر لا يصير مسافرا ما لم ينفصل من عمران المصر وقد بينا أن مقامه في المصر لم يكن لأجل المضاربة وعلى هذا قيل لو كان يخرج للعمل إلى موضع قريب ويعود إلى أهله قبل الليل فإنه لا ينفق من مال المضاربة لأنه مقيم في أهله إذا كان خروجه إلى موضع لا يحتاج إلى أن يبيت في غير أهله ولو كان له أهل بالكوفة وأهل بالبصرة ووطنه فيهما جميعا فخرج بالمال من الكوفة ليتجر فيه بالبصرة فإنه ينفق من مال المضاربة في طريقه فإذا دخل البصرة كانت نفقته على نفسه ما دام بها فإذا خرج منها راجعا إلى الكوفة أنفق من مال المضاربة في سفره لأن سفره في الذهاب والرجوع لأجل المضاربة أما في البلدتين فهو مقيم في أهله وإقامته في أهله ليس لأجل المضاربة ففي البلدتين ينفق من مال نفسه ولو كان أهل المضارب بالكوفة وأهل رب المال بالبصرة فخرج بالمال إلى البصرة مع رب المال ليتجر فيه فنفقته في طريقه وبالبصرة وفي رجوعه إلى الكوفة من مال المضاربة لأن مقامه بالبصرة لأجل مال المضاربة إذ ليس له أهل بالبصرة لتكون البصرة وطن الإقامة له ويستوي إن نوى الإقامة بها خمسة عشر يوما أو أقل لأن التاجر في المال العظيم قد يحتاج إلى هذا القدر من المقام في بلده لأجل التصرف في المال وبهذه النية تصير البصرة وطنا مستعارا له بخلاف ما لو كان له بها أهل أو تأهل بها لأنه حينئذ تصير البصرة وطن إقامته ولو دفع إليه المال مضاربة وهما بالكوفة وليست الكوفة بوطن للمضارب لم ينفق على نفسه من المال ما دام بالكوفة لأن إقامته بالكوفة على أي وجه كان ليس لأجل المضاربة ( ألا ترى ) أنه قبل عقد المضاربة كان مقيما بها فلا يستوجب النفقة في مال المضاربة ما لم يخرج منها فإن خرج منها إلى وطنه ثم عاد إليها في تجارته أنفق بالكوفة من مال المضاربة لأنه حين سافر بعد عقد المضاربة استوجب النفقة في مال المضاربة وصارت الكوفة في حقه كسائر البلدان وذهابه إلى مصر آخر سواء فإن تزوج بها امرأة واتخذها وطنا زالت نفقته عن مال المضاربة لأن مقامه بها بعدما .
تزوج بها واتخذها دارا لأجل أهله لا لأجل مال المضاربة فهي بمنزلة وطنه الأصلي وإذا سافر المضارب بالمال فأعانه رب المال بغلمانه يعملون معه في المضاربة أو أعانه بدوابه لحمل المتاع الذي يشتري بالمضاربة عليها فإن المضاربة لا تفسد بهذا كما لو أعانه بنفسه في بعض الأعمال ونفقة الغلمان والدواب على رب المال دون مال المضاربة لأن نفقة غلمان رب المال وعلف دوابه كنفقة نفسه ورب المال لو سافر معه ليعينه على العمل في مال المضاربة لم يستوجب نفقة في مال المضاربة بهذا السبب فكذلك نفقة غلمانه ودوابه بخلاف غلمان المضارب ودوابه فإن نفقتهم كنفقته وهو يستوجب نفقة نفسه في مال المضاربة إذا سافر لأجله فكذلك نفقة غلمانه ودوابه فإن أنفق على غلمان رب المال ودوابه من مال المضاربة بغير أمر رب المال ضمنه من ماله بمنزلة ما ينفق على أجنبي آخر لأنه صرف مال المضاربة إلى وجه غير مستحق صرفه إليه بحكم المضاربة فيصير كالمستهلك لذلك المال وإن كان أنفقه بأمر رب المال حسب ذلك على رب المال لأنه صرف إلى ملكه بأمره بمنزلة صرفه إليه فيحسب ذلك على رب المال وفي الأصل أوضح هذا الفرق فقال : لو لم أجعل نفقة غلمان المضارب في المضاربة جعلتها على المضارب لا محالة وكل نفقة تلحق المضارب في سفره في المضاربة فذلك في مال المضاربة ونفقة غلمان رب المال لو لم أجعلها في مال المضاربة كان ذلك على رب المال وهذا في المعنى اعتبار نفقة هؤلاء بنفقة نفسه على ما بينا ولو دفع المضارب مال المضاربة إلى عبده ليخرج به إلى مصر فيشتري به ويبيع فخرج به كانت نفقته في مال المضاربة لأن نفقة عبده كنفقته وهو لو خرج بنفسه أنفق من مال المضاربة فكذلك عبده إذا خرج ( ألا ترى ) أني لو لم أجعل نفقته على المضاربة جعلتها على المضارب ولو كان ذلك عبد رب المال بإعانته وإذنه فنفقته على مولاه ولا تكون على المضاربة بمنزلة ما لو خرج رب المال بنفسه على وجه الإعانة للمضارب في عمله فإن كان العبد أنفق على نفسه بأمر رب المال فذلك محسوب على رب المال كما لو كان هو الذي أنفق على نفسه ولو أبضعه المضارب مع رجل لم يكن للمستبضع نفقة في مال المضاربة لأن المستبضع متبرع ولأنه لا يسافر عادة لأجل البضاعة بخلاف المضارب ولو أبضعه المضارب مع رب المال فعمل به فهو على المضاربة والربح بينهما على الشرط لأنه معين للمضارب متبرع فيما أقام من العمل فلا يفسد به عقد المضاربة بينهما كالشريكين في المال إذا عمل أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا ولا نفقة لرب المال على المضاربة لأنه بمنزلة المستبضع إذا كان أجنبيا وإذا دفع إلى رجل مالا مضاربة وأمره أن يعمل فيه برأيه فدفعه المضارب إلى آخر مضاربة فسافر الآخر بالمال إلى مصر ليشتري ويبيع فنفقته على المضاربة لأنه بمنزلة المضارب الأول فإن بعد قول رب المال اعمل فيه برأيك للمضارب أن يدفعه مضاربة ويقوم هو في ذلك مقام رب المال فكما أن نفقة المضارب الأول في سفره في مال المضاربة فكذلك نفقة المضارب الثاني وإذا دفع الرجل إلى رجل ألف درهم مضاربة فخرج المضارب فيها وفي عشرة آلاف من مال نفسه إلى مصر ليشتري بها ويبيع فإن نفقته على أحد عشر سهما جزء منها في مال المضاربة وعشرة أجزاء في مال نفسه لأنه يحتمل أن يكون خروجه لأجل مال المضاربة ويحتمل أن يكون خروجه لأجل مال نفسه احتمالا على السواء فينظر إلى منفعة خروجه وعمله وذلك يختلف بقلة المال وكثرته فيقسم النفقة على قدر ذلك لأن المغرم مقابل بالمغنم وكذلك لو قال له اعمل فيه برأيك فخلط ماله بمال المضاربة ثم خرج لأنه بعد هذا القول لا يصير ضامنا بالخلط فكان إخراجه المالين بعد الخلط كإخراجه قبل الخلط وكل مضاربة فاسدة فلا نفقة للمضارب فيها على مال المضاربة لأن بعد فساد المضاربة هو بمنزلة الأجير ( ألا ترى ) أنه يستوجب أجر المثل ربح أو لم يربح والإجارة الفاسدة معتبرة بالصحيحة فكما أن في الإجارة الصحيحة لا يستوجب النفقة على المال لأنه استوجب بدلا مضمونا بمقابلة عمله فكذلك في الإجارة الفاسدة فإن أنفق على نفسه من المال حسب من أجر مثل عمله وأخذ بما زاد عليه إن كان أنفق أكثر من أجر المثل لأنه صاحب دين ظفر بجنس حقه من مال مديونه وأخذ أكثر من حقه وفي هذا يلزمه رد الزيادة وإذا أنفق في المضاربة الصحيحة في سفره من مال المضاربة فلما انتهى إلى المصر الذي قصده لم يشتر شيئا حتى رجع بالمال إلى مصره فأخذ رب المال ما بقي منه لم يكن على المضارب ضمان ما أنفق لأنه أنفق بحق مستحق له فإن سفره كان لأجل المضاربة وبان لم يشتر شيئا لا يتبين أن سفره .
لا يكون لأجل المضاربة فالتاجر لا يشتري بالمال في كل موضع يأتيه للتجارة لا محالة ولكن إن وجد ما يربح عليه اشترى وإلا رجع بالمال وذلك أرفق الوجهين له فإن كان ما فعله من صنع التجار لا يخرج هو به من أن يكون مستحقا للنفقة على المال فلا يضمن ما أنفق وإذا مر المضارب على العاشر بمال المضاربة وأخبره به وأخذ منه العشر فلا ضمان على المضارب فيما أخذ منه العاشر وقد بينا في كتاب الزكاة أن على قول أبي حنيفة الأول C العاشر يأخذ منه الزكاة وعلى قوله الآخر وهو قولهما لا يأخذ منه شيئا فما أخذه العاشر أما أن يكون تاويا أو مأخوذا بحق فلا ضمان فيه على المضارب وإن كان هو الذي أعطى العاشر بغير إلزام من العاشر له فهو ضامن لما أعطى وكذلك إن صانعه بشيء من المال حتى كف عنه فهو ضامن لما أعطى لأنه أعطى باختياره إلى من لا حق له في أخذه منه فيكون هو مستهلكا لما أعطى كما لو وهبه من أجنبي آخر قال الشيخ الإمام الأجل C وكان شيخنا الإمام C يقول الجواب في زماننا بخلاف هذا ولا ضمان على المضارب فيما يعطي من مال المضاربة إلى سلطان طمع فيه وقصد أخذه بطريق الغصب وكذلك الوصي إذا صانع في مال اليتيم لأنهما يقصدان الإصلاح بهذه المصانعة فلو لم يفعل أخذ الطامع جميع المال فدفع البعض لإحراز ما بقي من جملة الحفظ في زماننا والأمين فيما يرجع إلى الحفظ يكون ضامنا كما لو وقع الحريق في بيت المودع فناول الوديعة أجنبيا فأما في زمانهم فكانت القوة لسلاطين العدل فكان الأمين متمكنا من دفع الأمر إليهم ليدفعوا الظالم عن الأمانة فلهذا قال إذا صانع بشيء من المال فهو ضامن لما أعطى وإذا اشترى المضارب بالمال متاعا أو لم يشتر به شيئا فنهاه رب المال أن يخرج من البلدة فليس له أن يخرجه من ذلك البلد أما قبل الشراء بالمال فالجواب صحيح واضح لأنه يملك نهيه عن التصرف أصلا ما بقي المال نقدا في يده فإذا قيد الأمر بشيء دون شيء كان أقرب إلى الصحة والحال قبل الشراء بعد العقد كحال العقد في انتفاء صفة اللزوم في حق كل واحد منهما وانعدام حق المضارب فكما أنه يملك التقييد عند العقد فكذلك بعد العقد قبل الشراء بالمال فأما بعد الشراء بالمال فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول إنما يستقيم الجواب على الرواية التي رويت إنه ليس للمضارب أن يسافر بالمال بمطلق المضاربة وموضوع هذه المسألة فيما إذا قال له اعمل برأيك فإنما يملك المسافرة باعتبار هذه الزيادة وهو يملك رفع هذه الزيادة بعد الشراء فكذلك يملك التقييد فيما هو مستفاد بهذه الزيادة فأما على الرواية التي قلنا بمطلق العقد له حق المسافرة بالمال لا يستقيم هذا الجواب لأنه بعد صيرورة المال عروضا لا يملك نهيه عما صار مستفادا له بمطلق العقد وهو حق التصرف فيه فكذلك لا يملك التقييد فيه بالنهي عن المسافرة بالمال والأصح أن نهيه عن المسافرة بالمال عامل على الإطلاق وإن كان بمطلق المسافرة لدلالة اسم العقد فالمضاربة مشتقة من الضرب في الأرض أو لمراعاة ما نص عليه رب المال من حفظه المال بنفسه عند خروجه مسافرا كما في الوديعة وهذا كله ينعدم بالنهي عن المسافرة بالمال بخلاف أصل التصرف فإن حق المضارب يثبت بالتصرف حين صار المال عرضا لأن ربحه لا يظهر إلا بالتصرف ورب المال لا يملك إبطال حقه أما بالنهي عن المسافرة بالمال فليس فيه إبطال حق المضارب لتمكنه من التصرف في البلدة وإنما فيه إيفاء حق المال في أن يكون ماله مصونا عن أسباب الهلاك وهذا مملوك له بعدما صار المال عروضا كما كان قبله فإن أخرجه ضمنه للخلاف والأمين متى خالف ما أمر به نصا كان ضامنا وما أنفق على نفسه أو على المال بعدما صار ضامنا له فهو في ماله خاصة بمنزلة الغاصب فإن لم يحدث فيه حدثا حتى رده إلى البلد فهو برئ من ضمانه لأنه عاد إلى الوفاق بعدما خالف والعقد قائم بينهما فيعود أمينا كما كان وكذلك لو لم ينهه ولكن رب المال مات والمضاربة في يد المضارب عين أو متاع فسافر به المضارب بعد موته لأن المال بالموت انتقل إلى الورثة ولم يوجد منهم الرضا بسفره به قط وما كان من رضا رب المال به قد انقطع بموته فذلك بمنزلة نهيه عن المسافرة بالمال إذا بلغه فالنهي لا يعمل في حقه ما لم يعلم به ولا فرق في الموت بين أن يعلم به أو لا يعلم لأنه عزل حكمي فلا يتوقف على العلم به كعزل الوكيل بموت الموكل وإذا سافر المضارب بالمال فاشترى به متاعا في بلد آخر فمات رب المال وهو لا يعلم بموته ثم سافر بالمتاع حتى أتى مصرا فنفقة المضارب بعد موت رب المال على نفسه دون المضاربة لأن حكم المضاربة في حق المسافرة بالمال قد انتهى بموت .
رب المال وإن لم يعلم به المضارب وباعتباره كان ينفق من مال المضاربة فنفقته بعد ذلك في سفره على نفسه وهو ضامن لما يهلك من المتاع في الطريق فإن سلم حتى يبيعه جاز بيعه لأن بالموت لا يمتنع عليه بيعه في أي موضع باعه كما لا يمتنع عليه ذلك بالنهي عن التصرف بعد علمه به لما في التصرف من حق المضارب وقد سبق ثبوت حقه بثبوت حق الورثة فلا يبطل لحقهم لو كان المضارب خرج المضارب خرج بالمتاع من ذلك المصر قبل موت رب المال لم يكن عليه ضمان وكانت نفقته في سفره حتى ينتهي إلى المصر ويبيع المتاع على المال لأنه لا يتمكن من المقام في المفازة أو في موضع لا يتمكن من بيع المتاع كما هو عادة التجار فهو في نفقته على السفر إلى أن ينتهي إلى المصر ويبيع المتاع موافق لا مخالف فتكون نفقته في المال ولو كان رب المال مات والمضارب بمصر من الأمصار غير مصر رب المال والمضاربة متاع في يده فخرج بها إلى مصر رب المال ففي القياس هو ضامن ولا يستوجب النفقة في المال لأنه ينشئ سفرا بالمال بعدما انعزل عنه بموت رب المال ولا حاجة به إلى ذلك فإنه في موضع أمن ويتمكن من التصرف في المال وهذا وسفره إلى مصر آخر سواء وفي الاستحسان لا ضمان عليه ونفقته حتى يبلغ مصر رب المال على المضاربة لأن هذا سفر لا يجد المضارب منه بدا فإنه لا بد من أن يسلم المال إلى الورثة ليسلم له نصيبه من الربح ولا يتأتى له ذلك إلا بالعود إلى مصر لأن ورثته فيه بخلاف سائر الأمصار والعقد يبقى لأجل الحاجة إليه كما إذا مات صاحب السفينة وهي في لجة البحر أو مات المكاري للدابة في طريق الحج بخلاف سفره إلى مصر آخر فإنه غير محتاج إلى ذلك وكذلك لو كان رب المال حيا فأرسل إليه رسولا ينهاه عن الشراء والبيع وفي يده متاع فخرج بها إلى مصر رب المال فإني لا أضمنه ما هلك من المتاع في سفره واجعل نفقته في المال استحسانا لأنه لا بد من أن يرجع بالمال إلى مصر رب المال كما لا بد له من أن يبيعه إذا نهاه في المصر فكما أن نهيه في ذلك لا يعمل إيفاء لحق المضارب في حصته من الربح فكذلك في هذا المقدار لا يعمل نهيه ولو كانت المضاربة في يده دراهم أو دنانير فمات رب المال والمضارب في مصر آخر وكان رب المال حيا فأرسل إليه ينهاه عن الشراء والبيع فأقبل المضارب بالمال إلى مصر رب المال فهلك في الطريق فلا ضمن عليه لأنه لا يجد بدا من رد المال عليه ولا يتمكن من ذلك ما لم يأت به مصره فيسلمه إليه أو إلى ورثته ( ألا ترى ) إنه لو تركه هناك عند غيره وخرج إلى مصر رب المال كان مخالفا ضامنا وهو بما صنع يتحرز عن الخلاف فلا يضمنه لانعدام السبب الموجب للضمان فإن سلم حتى قدم وقد أنفق منه على سفره فهو ضامن للنفقة لأن عقد المضاربة لا يبقى بعد موت رب المال أو نهيه إذا كان المال في يده نقدا فإن بقاء العقد ببقاء حق المضارب في المال ولا حق له في المال هنا فهذا المال بمنزلة الوديعة في يده والمودع لا يستوجب النفقة في مال الوديعة ( ألا ترى ) أنه ليس له أن يشتري به شيئا لرب المال ولو فعل ذلك كان ضامنا بخلاف ما إذا كان المال عروضا فقد بقي العقد هناك لبقاء حق المضارب .
( ألا ترى ) أنه يملك البيع على رب المال فكذلك يستوجب النفقة في سفر لا بد له منه وإذا اشترى المضارب بالمال وباع فصار المال دينا على الناس ثم أبى أن يتقاضاه فإن كان فيه فضل أجبر على أن يتقاضاه وإن لم يكن له فيه فضل لم يجبر على أن يتقاضاه لأنه إذا كان فيه فضل فقد استحق المضارب نصيبه من الربح بعمله فيجبر على إكمال العمل كالأجير وذلك بالتقاضي حتى يقبض المال وإن لم يكن فيه فضل فالمضارب كالوكيل في التصرف إذا لم يستوجب بإزاء تصرفه شيئا والوكيل بالبيع لا يجبر على تقاضي الثمن ولكن يؤمر بأن يحيل به الموكل على المشتري فكذلك هنا يؤمر بأن يحيل به رب المال على الغرماء لأنه لا يتمكن من مطالبتهم إذا لم يعاملهم وليس في امتناع المضارب من أن يحيله بالمال عليهم إلا التعنت والقصد إلى إتواء ماله فيمنع من ذلك .
توضيح الفرق إنه إذا كان في المال فضل فلا بد للمضارب من أن يتقاضى نصيبه من الربح ويقبض فإذا قبض سلم له ذلك ولكنه يؤمر بتسليمه إلى رب المال بحساب رأس المال لأنه ما لم يصل رأس المال لا يسلم شيء من الربح للمضارب ثم يقبض ثانيا مثله فيسلمه إليه فلا يزال هكذا حتى يقبض جميع المال فإنه إذا لم يكن في المال فضل فلا حاجة بالمضارب إلى تقاضي شيء منه إذ لا نصيب له في المال فيؤمر أن يحيل به رب المال على الغرماء كما يؤمر به الوكيل وإن كان فيه فضل وهو في مصره فأنفق في تقاضيه وخصومة أصحابه وطعامه وركوبه نفقة لم يرجع بها في مال المضاربة لأن هذا كله بمنزلة تصرفه في المال وقد بينا إنه ما دام يتصرف في مصره لا يستوجب النفقة في مال المضاربة ولأنه بما صنع يحيى حصة من الربح فهو كبيعه العروض في مصره وإن كان الدين غائبا عن مصر المضارب فأنفق في سفره وتقاضيه ما لا بد له منه حسب ذلك من مال المضاربة لأن سفره وسعيه كان لأجل مال المضاربة فتكون نفقته في المال كما لو سافر للتصرف في المال وبهذا يتبين أن المضارب إذا أنفق في السفر من مال نفسه استوجب الرجوع به في مال المضاربة لأنه قد لا يجد بدا من ذلك بأن لا تصل يده إلى مال المضاربة عند كل حاجة إلى نفقة فلا يكون متبرعا فيما ينفق من مال نفسه كالوصي يشتري لليتيم ويؤدي الثمن من مال نفسه كان له أن يرجع به في مال اليتيم إلا أن تزيد نفقة المضارب على الدين فلا يرجع بالزيادة على رب المال لأن نفقته في مال المضاربة لا في ذمة رب المال فلو استوجب الزيادة إنما يستوجبها في ذمة رب المال ولأنه إنما يستوجب النفقة لأن سعيه لإصلاح مال المضاربة ولمنفعة رب المال وهذا المعنى ينعدم في الزيادة على المال وإذا سافر المضارب بمال المضاربة فاشترى طعامه وكسوته واستأجر ما يركب عليه من ماله ليرجع به في مال المضاربة فلم يرجع به حتى توى مال المضاربة لم يرجع على رب المال بتلك النفقة لأن حقه كان في المال لا في ذمة رب المال وبهلاك المال فات محل حقه فيبطل حقه كالعبد الجاني أو المديون إذا مات ومال الزكاة إذا هلك لا تبقى الزكاة واجبة بعد هلاك المال وكذلك لو لم يكن نقد ماله في ذلك فكان ثمن الطعام والكسوة وأجرة الدابة دينا عليه لأنه التزمه بمباشرة سبب الالتزام فلا يستوجب شيئا من ذلك في ذمة رب المال وهذا بخلاف ما إذا استأجر دابة ليحمل عليها متاع المضاربة أو اشترى طعاما للمضاربة فضاع المال قبل أن ينفذ فإنه يرجع بذلك على رب المال لأنه فيما يشتري للمضاربة عامل لرب المال بأمره فعليه أن يخلصه من عهدة عمله وذلك في رجوعه عليه بالثمن في الأجرة فيما تعذر إيفاؤه من المال الذي في يده فإما فيما يشتري أو يستأجر لحاجة نفسه هو عامل لنفسه وهو فيما هو عامل لنفسه لا يستوجب الرجوع على رب المال بما يلحقه من العهدة وإنما كان يرجع في مال المضاربة لأن سعيه لأجل مال المضاربة وهذا لا يوجد في مال آخر لرب المال فلا يستوجب الرجوع في ذلك بعد هلاك مال المضاربة وإذا ادان المضارب مال المضاربة في غير مصره وربح فيه فأراد أن يتقاضاه وتكون نفقته منه وقال رب المال بل أتقاضاه ولا أريد أن تكون أنت المتقاضي فإن رب المال يجبر على ترك التقاضي للمضارب وتكون نفقته على المال لأن حق المضارب ثابت في نصيبه من الربح فلا بد من أن يتقاضى حصة من الربح وإذا أخذ ذلك أخذه رب المال منه بحساب رأس المال ثانيا أو ثالثا فتبين أن المضارب متقاض لرب المال وإن نفقته في المال فرب المال فيما يسأل يقصد إسقاط حق المضارب وهو لا يتمكن من ذلك وإن لم يكن فيه فضل فقال المضارب : أنا أتقاضاه وتكون نفقتي منه حتى أقبضه وقال رب المال : أحلني به أجبر المضارب على أن يحيل به رب المال لأنه لا حصة للمضارب في المال هنا ولا حق فهو بمطالبته يريد أن يلزمه نفقة نفسه في مال غيره فلصاحب المال أن يأبى ذلك ويتقاضى بنفسه وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة متاعا وفيه فضل أولا فضل فيه فأراد المضارب أن يمسكه حتى يجد به ربحا كثيرا وأراد رب المال أن يبيعه فإن كان لا فضل فيه أجبر المضارب على أن يبيعه أو يعطيه رب المال برأس ماله لأنه لا حق للمضارب في المال في الحال فهو يريد أن يحول بين رب المال وبين ماله بحق موهوم عسى يحصل له وعسى لا يحصل وفيه إضرار برب المال والضرر مدفوع وإن كان فيه فضل وكان رأس المال ألفا والمتاع يساوي ألفين فالمضارب يجبر على بيعه لأن في تأخيره حيلولة بين رب المال وبين ماله وهو لم يرض بذلك حين عاقده عقد المضاربة إلا أن للمضارب هنا أن يعطي رب المال ثلاثة أرباع المتاع برأس ماله وحصته من الربح ويمسك ربع المتاع وحصته من الربح وليس لرب المال أن يأبى ذلك عليه لأن الربح حق والإنسان لا يجبر على بيع ملك نفسه .
لتحصيل مقصود شريكه وكما يجب دفع الضرر عن رب المال يجب دفعه عن المضارب في حصته والطريق الذي يعتدل فيه النظر من الجانبين ما ذكرنا وإذا دفع مالا مضاربة وأمر المضارب أن يعمل في ذلك برأيه أو لم يأمره فاستأجر المضارب ببعضه أرضا بيضاء واشترى ببعضه طعاما فزرعه في الأرض فهو جائز على المضاربة بمنزلة التجارة لأن عمل الزراعة من صنع التجار يقصدون به تحصيل النماء وإليه أشار صاحب الشرع A الزارع يتاجر ربه وما كان من عمل التجار يملكه المضارب بمطلق العقد ولو استأجر أرضا بيضاء على أن يغرس فيها شجرا أو أرطابا فقال ذلك من المضاربة فهو جائز والوضيعة على رب المال والربح على ما اشترطا لأنه من صنيع التجار يقصدون به استنماء المال ولو كان دفع إليه مضاربة بالنصف وقال له اعمل فيه برأيك فأخذ المضارب نخلا وشجرا وأرطابا معاملة على أن ما أخرج الله بعد من ذلك فنصفه لصاحب النخل ونصف المضارب على المضارب فعمل وأنفق مال المضاربة عليه فإن ما خرج من ذلك بين صاحب النخل والمضارب نصفين ولا يكون لرب المال شيء من ذلك لأنه إنما استحق النصف بعقد المعاملة وفي عقد المعاملة العامل يؤاجر نفسه وصاحب المال إنما فوض الأمر إلى رأيه في المضاربة لأن منافع يده فيما يستوجب بإقامته العمل بمنافعه تكون له خاصة والنفقة التي أنفقها من ماله خاصة وهو ضامن لما أنفق من ذلك من مال المضاربة لأنه صرف إلى حاجة نفسه على وجه لم يأذن له رب المال فيه ولو كان المضارب أخذ من رجل أرضا بيضاء على أن تزرعها طعاما فما خرج منها فنصفه لصاحب الأرض ونصفه على المضاربة فاشترى طعاما ببعض المال فزرعه في الأرض ثم أنفق ما بقي من المضاربة عليه حتى بلغ فهذا جائز لأنه مستأجر الأرض بنصف الخارج منها ولو استأجرها بدراهم جازت المضاربة فكذلك إذا استأجرها بنصف الخارج منها ولو استأجرها بدراهم جاز على المضاربة لذلك وتصرفه هنا في المال فإن استحقاقه للخارج باعتبار أنه بما بذره والبذر من مال المضاربة فلهذا كان نصف الخارج لصاحب الأرض ونصفه يباع يستوفي رب المال رأس ماله والباقي بينه وبين المضارب على الشرط وإن لم يكن قال له اعمل فيه برأيك فالمضارب ضامن للمضاربة لأنه أشرك غيره في مال المضاربة وقد بينا أن بمطلق العقد لا يملك المضارب الإشراك وهو بمنزلة دفعه بعض المال مضاربة إلى غيره وإذا صار مخالفا بتصرفه ضمن مال المضاربة وهو ملك المضمون به فما خرج من الزرع بين المضارب ورب المال نصفين على الشرط والله أعلم