( قال C ) ذكر عن إبراهيم والحسن رحمهما الله قالا : لا تكون المضاربة بالعروض إنما تكون بالدراهم والدنانير وبه نأخذ وقال مالك C : المضاربة بالعروض صحيحة لأن العرض مال متقوم يستريح عليه بالتجارة عادة فيكون كالنقد فيما هو المقصود بالمضاربة وكما يجوز بقاء المضاربة بالعرض يجوز ابتداؤها بالعروض ولكنا نستدل بنهي النبي A عن ربح مال يضمن والمضاربة بالعروض تؤدي إلى ذلك لأنها أمانة في يد المضارب وربما ترتفع قيمتها بعد العقد فإذا باعها حصل الربح واستحق المضارب نصيبه من غير أن يدخل شيء في ضمانه بخلاف النقد فإنه يشتري بها وإنما يقع الشراء بثمن مضمون في ذمته فما يحصل له يكون ربح ما قد ضمن .
توضيحه إن الربح هنا لما كان يحصل بمجرد البيع يصير في المعنى كان استأجره لبيع هذه العروض بأجرة مجهولة وفي النقد الربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع جميعا فتكون شركة ولأن تقدير المضاربة بالعروض كأنه قال بع عرضي هذا على أن يكون بعض ثمنه لك ولو قال على أن جميع ثمنه لك لم يجز فكذلك البعض وإذا كان رأس المال نقدا يصير كأنه قال اشتر بهذه الألف وبع على أن يكون بعض ثمنه لك ولو قال على أن جميع ثمنه لك صح فكذلك البعض .
توضيحه إن الربح في المضاربة لا يظهر إلا بعد تحصيل رأس المال ورأس المال إذا كان عرضا فطريق تحصيله وطريق معرفة قيمته الحزر والظن فلا يتيقن بالربح في شيء ليقسم بينهما بخلاف النقود فإن كان رأس المال مكيلا أو موزونا من غير النقود فالمضاربة فاسدة أيضا عندنا وقال ابن أبي ليلى C : هي جائزة لأنها من ذوات الأمثال فيمكن تحصيل رأس المال بمثل المقبوض ثم قسمة الربح بينهما ولأن المكيل والموزون يجوز الشراء بهما ويثبت دينا في الذمة ثمنا فيكون ذلك بمنزلة النقود في أن المضارب إنما يستحق الربح بالضمان وحجتنا في ذلك أن المكيل والموزون يتعين في العقد كالعروض وأول التصرف بهما يكون بيعا وقد يحصل بهذا البيع ربح بأن يبيعه ثم يرخص سعره بعد ذلك فيظهر ربحه بدون الشراء فيكون هذا استئجارا للبيع بأجرة مجهولة وذلك باطل كما في العروض فإن اشترى وباع فربح أو وضع فالربح لرب المال والوضيعة عليه ولا ضمان على المضارب وله أجر مثله فيما عمل كما هو الحكم في المضاربة الفاسدة وقد بينا حكم المضاربة بالفلوس والنبهرجة والستوقة والزيوف والتبر زاد هنا فقال ( ألا ترى ) أن رجلا لو اشترى عبدا بذهب تبر بعينه أو بفضة تبر بعينها فهلك التبر قبل التسليم بطل البيع فقد أشار في كتاب الصرف إلى أن التبر لا يتعين في الشراء ولا ينتقض العقد بهلاكه وقد بينا هناك وجه الروايتين أن هذا يختلف باختلاف البلدان في رواج التبر نقدا أو عرضا وإذا دفع إلى رجل فلوسا مضاربة بالنصف فلم يشتر شيئا حتى كسدت تلك الفلوس وأحدثت فلوس غيرها فسدت المضاربة لأن على قول من يجيز المضاربة بالفلوس إنما يجيز باعتبار صفة الثمنية وهي ثمن ما دامت رائجة فإذا كسدت فهي قطاع صفر كسائر الموزونات ولو اقترن كسادها بعقد المضاربة لم تصح المضاربة فكذلك إذا كسدت بعد العقد قبل حصول المقصود به وقد بينا في كتاب الشركة أن الطارئ بعد العقد قبل حصول المقصود به كالمقارن للعقد فهذا مثله فإن اشترى بهذا المضارب بعد ذلك فربح أو وضع فهو لرب المال وللمضارب أجر مثل عمله فيما عمل هو الحكم في المضاربة الفاسدة ولا فرق فيه بين الفساد الطارئ والفساد المقارن ( ألا ترى ) إنه لو اشترى بهذه الفلوس الكاسدة شيئا فضاعت قبل أن ينقدها انتقض البيع فعرفنا أنها بالكساد صارت كالعروض ولو لم تكسد حتى اشترى بها المضارب ثوبا ودفعها وقبض الثوب ثم كسدت فالمضاربة جائزة على حالها لأن بالشراء حكم المضاربة ثوبا ودفعها وقبض الثوب ثم كسدت فالمضاربة جائزة على حالها لأن بالشراء حكم المضاربة تحول إلى الثوب وصار مال المضاربة الثوب دون الفلوس فلا يتغير الحكم بكساد الفلوس بعد ذلك ولكن المقصود قد حصل بالشراء وما يعرض بعد حصول المقصود لا يجعل كالمقترن بالسبب فإذا باع الثوب بدراهم أو عرض فهو على المضاربة فإن ربح ربحا وأرادوا القسمة أخذ رب المال قيمة فلوسه يوم كسدت لأنه لا بد من رد رأس المال إليه ليظهر الربح ورأس المال كان فلوسا رائجة وهي للحال كاسدة فقد تعذر رد مثل رأس المال وهذا التعذر إنما يتحقق يوم الكساد فيعتبر قيمتها في ذلك الوقت وفرق بين هذا وبين ما إذا غصب شيئا من ذوات الأمثال فانقطع المثل من أيدي الناس إن عند أبي حنيفة C تعتبر قيمته يوم الخصومة لأن المثل هناك باق في الذمة والقدرة على تسليمه متعذرة أو إنه حاصل وإنما يتحول الحق إلى القيمة عند الخصومة فتعتبر قيمته يومئذ وهنا الوقت في تحصيل المثل غير منتظر لأن ما كسد من الفلوس قد لا يروج بعد ذلك قط ولا يدري متى يروج فإنما يتحول الحق إلى القيمة عند تحقق فوات مثل تلك الفلوس وذلك وقت الكساد فتعتبر قيمته عند ذلك ثم الباقي بينهما ربح على الشرط وإذا دفع إلى رجل شبكة ليصيد بها السمك على أن ما صادتها من شيء فهو بينهما فصاد بها سمكا كثيرا فجميع ذلك للذي صاد لقوله A : ( الصيد لمن أخذ ) ولأن الآخذ هو المكتسب دون الآلة فيكون الكسب له وقد استعمل فيه آلة الغير بشرط العوض لصاحب الآلة وهو مجهول فيكون له أجر مثله على الصياد وكذلك لو دفع إليه دابة يستقي عليها الماء ويبيع عليها أو لينقل عليها الطين ليبيعه أو ما أشبه ذلك بخلاف ما إذا أمره أن يؤاجر الدابة فالغلة هناك لصاحب الدابة وللعامل أجر مثله وقد تقدم بيان هذا في الإجارة إنه إذا آجر الدابة فالأجر بمقابلة منافعها والعامل وكيل صاحبها وإذا استعمل العامل في نقل شيء عليها وبيع ذلك فهو لنفسه ولو دفع إلى حائك غزلا على أن يحوكه سبعة في أربعة ثوبا وسطا على أن الثوب بينهما نصفان فهذا فاسد وهو في معنى قفيز الطحان وقد بينا ما فيه من اختيار بعض المتأخرين رحمهم الله باعتبار العرف في ذلك في بعض البلدان في كتاب .
الإجارة والثوب لصاحب الغزل وللحائك أجر مثله وإذا دفع إلى رجل أرضا بيضاء على أن يبني فيها كذا كذا بيتا وسمى طولها وعرضها وكذا كذا حجرة على أن ما بنى من ذلك فهو بينهما نصفان وعلى أن أصل الدار بينهما نصفان فبنى فيها كما شرط فهو فاسد لأنه أمر بأن يجعل أرضه مساكن بآلات نفسه فيكون مشتريا بالآلات وهي مجهولة وقد جعل العوض نصف ما يعمل لنفسه من المساكن وذلك فاسد وقد قررنا في الإجارات أن هذا المعنى في الأرض يدفعها إليه لغيرسها أشجارا على أن تكون الأرض والشجر بينهما نصفين فهو في البناء كذلك ثم جميع ذلك لرب الأرض وعليه للثاني قيمة ما بنى لأنه يصير قابضا له بحكم العقد الفاسد فإن بناء الغير له بأمره كبنائه بنفسه فعليه ضمان القيمة لما تعذر رد العين باعتبار إنه صار وصفا من أوصاف ملكه وللعامل أجر مثله فيما عمل لأنه أقام العمل له وقد ابتغى من عمله عوضا فإذا لم ينل ذلك استوجب أجر المثل ولو دفع إليه أرضا على أن يبني فيها دسكرة ويؤاجرها على إن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فبناها كما أمره فأجرها فأصاب مالا فجميع ما أصاب من ذلك فهو للباني والبناء له لأن صاحب الأرض هنا شرط البناء لنفسه فيكون الثاني عاملا لنفسه في البناء وإذا كان البناء ملكا له فعليه البناء أيضا وإنما يستأجر البيوت للسكنى وذلك باعتبار البناء ولهذا لو انهدم جميع البناء لم يكن على المؤاجر للمستأجر أجر بعد ذلك فلهذا كان الأجر كله لصاحب البناء ولرب الأرض أجر مثل أرضه على الباني لأنه أجر الأرض بنصف ما يحصل من غلة البناء وهي مجهولة وقد استوفى منفعة الأرض بهذا العقد الفاسد فيلزمه أجر مثلها وينقل الثاني بناءه عن أرض رب الأرض لأن الأرض باقية على ملك صاحبها فعلى الثاني أن يفرغها ويردها على صاحبها لفساد عقد الإجارة بينهما في الأرض ولو كان اشترط مع ذلك أن الأرض والبناء بينهما نصفان كان ذلك كله مع ما أجرها به لرب الأرض لأنه صار مشتريا لما بنى به هنا بنصف الأرض أو أمره بأن يجعل أرضه دسكرة بآلات نفسه على أن له بعض ما يحصل بعمله وذلك فاسد ولكنه صار قابضا مستهلكا بشراء فاسد فعليه قيمته يوم بنى الباني وأجر مثله فيما عمل وأجر مثله فيما أجر من الدسكرة لأنه في كل ذلك عامل لصاحب الأرض بأجرة مجهولة بخلاف الأول فهناك صاحب الأرض ما شرط لنفسه شيئا من البناء فيكون الثاني عاملا لنفسه وهنا أضاف البناء إلى نفسه حين شرط لنفسه نصف البناء وجعل النصف الآخر أجرة للباني فلهذا كان البناء كله لصاحب الأرض هنا وإذا دفع إلى رجل بيتا على أن يبيع فيه البر على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فقبض البيت فباع فيه وأصاب مالا فالمال كله لصاحب البر لأنه ثمن ملكه وهو في البيع كان عاملا لنفسه ولرب البيت أجر مثل بيته لأنه أجر البيت بأجرة مجهولة ولو كان رب البيت دفع إليه البيت ليؤجره ليباع فيه البر على أن ما رزق الله تعالى في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فهذا فاسد فإن أجر البيت فالأجر لرب البيت لأن الأجر عوض منفعة البيت هنا والعامل كالوكيل لصاحب البيت في إجارته ولكنه ابتغى عن عمله له عوضا لم يسلم له فيستوجب أجر مثله فيما عمل وإذا قال خذ هذا العبد مضاربة وقيمته ألف درهم على أن رأس مالي قيمته على أن يبيعه ويشتري بثمنه ويبيع فما رزق الله تعالى في ذلك من شيء أخذت منه مالي قيمة العلام وما بقي فهو بينهما نصفان فهذه مضاربة فاسدة لأن رأس المال فيها العبد وهو متعين كسائر العروض ولا يمكن أن يجعل قيمة رأس المال لأن القيمة تختلف باختلاف المقومين ولا يمكن تحصيلها يقينا ليظهر الربح بعدها وإذا فسد العقد فجميع ذلك ما باع واشترى لرب العبد وللمضارب أجر مثله ولو قال : بع عبدي هذا واقبض ثمنه واعمل فيه مضاربة على أن ما رزق الله تعالى في ثمنه من شيء فهو بيننا نصفان فهو جائز على ما اشترطا لأنه وكله ببيع العبد أولا فكان بيع الوكيل له كبيعه لنفسه ثم عقد المضاربة على الثمن المقبوض من دراهم أو دنانير وهو أمانة في يد الوكيل فقد وجد شرط صحة المضاربة وأكثر ما فيه أنه أضاف عقد المضاربة إلى ما بعد البيع وقبض الثمن وذلك لا يفسد المضاربة غير أني أكره أن يقول بعه وخذ الثمن مضاربة على أن الربح بيننا نصفان لأن بيع العبد ليس من المضاربة وقد صار كأنه شرط فيها فلهذا كره فإن شبهة الشيء كحقيقته في وجوب التحرز عنه قال A : ( من اتقى الشبهات سلم له دينه ) ولو شرط على المضارب في المضاربة منفعة له سوى ما يحصل به الربح .
كان ذلك الشرط فاسدا فكذلك شرط بيع العبد لما صار في معنى ذلك ولكنه ينبغي أن يأمره ببيعه ولا يذكر المضاربة فإذا قبض الثمن أمره أن يعمل به مضاربة وكذلك هنا الحكم في جميع العروض من المكيلات والموزونات ولو باع المضارب العبد بعشرة إكرار حنطة وعمل بها فهذا في قياس قول أبي حنيفة C مضاربة فاسدة لأنه وكيل بالبيع مطلقا ومن أصل أبي حنيفة إن الوكيل بالبيع يملك البيع بالمكيل والموزون فلا يصير هو ضامنا ولكنه يصير كأنه دفع إليه الحنطة مضاربة فتكون المضاربة فاسدة وجميع ما ربح لرب المال وللمضارب أجر مثله فيما عمل بالثمن لأنه في بيع العبد معين وإنما يصير أجيرا باعتبار المضاربة وأوان ذلك بعد قبض الثمن وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المضارب ضامن لقيمة العبد وجميع ما ربح له لأن عندهما الوكيل بالبيع لا يملك البيع إلا بالنقود فإذا باع بالحنطة كان مخالفا ضامنا لقيمة العبد كالغاصب فإذا ضمن القيمة بعد البيع من جهته والحنطة التي قبضها له بمقابلة العبد فإنما ربح على مال نفسه ولا يتصدق بالفضل لأنه ربح ما قد ضمن فإن قيل عند أبي حنيفة ينبغي أن يكون الجواب كذلك لأنه قال اعمل بثمنه مضاربة فبهذا اللفظ ينبغي أن تنقذ الوكالة بالبيع بما يصلح أن يكون رأس المال في المضاربة وهو النقد قلنا لا كذلك فكون المضاربة بالعروض والمكيل فاسدة من الدقائق قد خفي ذلك على بعض العلماء فلعله خفي ذلك على صاحب المال أيضا أو كان ممن يعتقد جواز المضاربة بها فمطلق الوكالة لا يتقيد بمثل هذا الكلام المحتمل ولو باعه بمائة درهم وقيمته ألف درهم وعمل بها فهي مضاربة جائزة في المائة عند أبي حنيفة C وعندهما المضارب ضامن قيمة العبد لرب المال بناء على اختلافهم في الوكيل بالبيع مطلقا يبيع بالغبن الفاحش وإذا كان للرجل دراهم ودنانير وإكرار حنطة ودقيق فقال : خذ أي أصناف ما لي شئت واعمل به مضاربة بالنصف فأخذ المضارب أحد الأصناف فعمل به فإن كان أخذ الدنانير والدراهم فعمل بهما فهو جائز على الشرط وإن أخذ غيرهما فهو فاسد فإذا اشترى وباع فهو لرب المال وعليه وضيعته وللمضارب أجر مثله لأن تعيين الضارب صنفا بأمر من رب المال كتعيين رب المال ذلك بنفسه فإن كان المعين من النقود انعقد العقد صحيحا وإلا فالمضاربة فاسدة ولو قال : خذ أي مالي شئت فبعه ثم اعمل بثمنه مضاربة فأخذ عبدا فباعه بدراهم أو دنانير ثم عمل به مضاربة فهو جائز كما لو كان رب المال دفع العبد إليه وأمره بذلك ولو قال : اشتر لي عبدا بألف درهم نسيئة سنة ثم بعه واعمل بثمنه مضاربة فاشترى به كما أمره وقبضه ثم باعه بدراهم أو دنانير ثم عمل بالثمن فهذه مضاربة جائزة لأنه في شراء العبد وبيعه وكيل للآمر معين فكان الآمر فعل ذلك بنفسه ثم إنما عقد المضاربة بعد قبض الثمن على المقبوض وهو تعد فكانت المضاربة جائزة ورأس المال ثمن العبد الذي باعه به المضارب فأما الثمن الذي اشترى به المضارب فليس من المضاربة بل هو دين له على رب المال كما هو الحكم في الوكالة أن البائع يستوجب الثمن على الوكيل والوكيل على الموكل والله أعلم