( قال C ) ( وإذا ادعى الرجل في دار حقا فصالحه ذو اليد على عبد إلى أجل فالصلح فاسد ) لأن تصحيح الصلح على الإنكار بطريق البناء على زعم المدعي وفي زعمه أنه يتملك العبد بغير عينه بعوض هو مال وذلك فاسد .
فإن قيل : الحيوان يثبت دينا في الذمة في العقود المبنية على التوسع في البدل كالنكاح والخلع والصلح على الإنكار بهذه الصفة .
قلنا : لا كذلك ولكن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بدلا عما هو مال وإنما يثبت بدلا عما ليس بمال .
( ألا ترى ) أن الغرة وجبت شرعا في جنين الحرة دون جنين الأمة وهذا لأن مقابلة ما ليس بمال لا يثبت ثبوتا صحيحا بل يردد بين الحيوان والقيمة وبمقابلة ما هو مال لا يمكن إثباته بهذه الصفة ثم الصلح على الإنكار في المصالح عليه غير مبني على التوسع .
( ألا ترى ) أنه لا يثبت في الذمة مع جهالة الصفة وأنه يرد بالعيب اليسير والفاحش فكذلك لا يثبت الحيوان فيه دينا فإن كان صالحه من حقه فقد أقر له بالحق ولكن لم يبين مقداره فالقول فيه قول المدعى عليه بعد أن يقر بشيء لإنكاره الزيادة بمنزلة ما لو قال لفلان علي حق وإن كان صالحه من دعواه لم يكن ذلك إقرارا لأن الدعوى قد تكون حقا وقد تكون باطلا .
( ألا ترى ) أنه لو قال لفلان علي دعوى لا يصير مقرا له بشيء بهذا اللفظ بخلاف قوله لفلان علي حق فكذلك لو صالحه على دراهم مسماة إلى الحصاد وما أشبهه لأن الصلح فيما يقع عليه الصلح كالبيع واشتراط هذه الآجال المجهولة مفسد للبيع .
ولو ادعى رجل في عبد رجل دعوى فصالحه على غلته شهرا فهذا فاسد بخلاف ما إذا صالحه على خدمته شهرا لأن الخدمة معلومة ببيان المدة وهي مقدورة التسليم لصاحب العبد فأما الغلة فمجهولة المقدار في نفسها غير مقدورة التسليم لصاحب العبد لأنه ما لم يؤاجره من غيره لا تحصل الغلة له وذلك لا يتم به وحده وبعدما أجره لا تجب الغلة إلا بسلامة العبد في الشهر ولعله يمرض أو يموت فلهذا بطل الصلح .
وكذلك الصلح على غلة الدار وثمرة النخل فاسد لأنه مجهول وهو على خطر الوجود بخلاف الوصية فإنها أخت الميراث فمثل هذه الجهالة لا تمنع صحتها أما الصلح فهو بمنزلة البيع والإجارة فيما يقع الصلح عليه ومثل هذه الجهالة تمنع الاستحقاق بالبيع والإجارة وعلى هذا لو صالح من دعواه على شرب يوم من هذا النهر في الشهر من غير أن يكون له حق في رقبته فإنه لا يجوز والوصية بمثله تجوز لما قلنا .
ولو ادعى قبل رجل ألف درهم دينا فصالحه منها على عشرة دنانير إلى أجل لم يجز مقرا كان أو جاحدا أما إذا كان مقرا فلأن هذا صرف بالنسيئة وكذلك لو صالحه منها على طعام موصوف مؤجل أو غير مؤجل وفارقه قبل القبض فهو باطل لأنه دين بدين والدين بعد المجلس حرام ( لنهي النبي - A - عن الكاليء بالكاليء ) .
وكذلك لو صالحه من غيره فهو في هذا المعنى وصلح المدعى عليه سواء ولو ادعى عليه ألف درهم سودا فصالحه منها بعد الإنكار على ألف درهم بخية إلى سنة لم يجز لأن البخية لها فضل فالبخية الجياد التي هي نقد بيت المال سميت بذلك لأنه يقال لمن يتملكها بخ بخ ثم جعل هذا الفضل عوضا عن الأجل ومعاوضة المال بالأجل لا يجوز وفي نظيره نزل قوله تعالى : { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } ( آل عمران : 130 ) .
ولو ادعى عليه بخية فصالحه على سود مثلها أو أقل حالا أو مؤجلا فهو جائز لأن صاحب الحق هو المحسن إليه من كل وجه حيث أبرأه عن فضل الجودة ولو أبرأه عن بعض المقدار وأجله فيما بقي جاز أيضا وإذا كان الإحسان كله من جهته لا يتحقق معنى المعاوضة بينهما .
ولو باع عبدا بألف درهم سود ثم صالحه على ألف ومائة نبهرجة أو زيوفا حالة أو إلى أجل كان ذلك باطلا لأن ما شرط من زيادة القدر عوض عن الأجل أو عن صفة الجودة فإن الزيوف دون السود في الجودة ومثل هذه المعاوضة ربا شرعا وكذلك لو صالحه منها على شيء مما يكال أو يوزن بغير عينه لم يجز لأن المكيل والموزون إذا قابلته الدراهم يكون مبيعا وهو بيع ما ليس عند الإنسان وذلك باطل قبض في المجلس أو لم يقبض ولا يمكن تصحيحه سلما وإن ذكر شرائط السلم لأن رأس المال دين وعقد السلم برأس مال هو دين لا يجوز .
ولو كان لرجل قبل رجل ألف درهم غلة فصالحه منها على خمسمائة بخية نقدا ونقدها إياه فهو جائز في قول أبي يوسف - C - الأول باعتبار أنه يجعل كل واحد منهما محسنا إلى صاحبه بطريق الإسقاط فصاحب الحق أبرأه عن خمسمائة والمديون أعطى ما بقي أجود مما عليه وهذا منه إحسان في قضاء الدين وذلك مندوب إليه وإذا كان المقصود بالصلح قطع المنازعة فإذا أمكن تصحيحه لا يجوز إبطاله وهنا تصحيحه بطريق ممكن فلا يحل على المعاوضة .
وإن تفرقا قبل أن يقبض فله خمسمائة من غلة الكوفة لأنه أبرأه عما بقي وإنما تبقى الخمسمائة في ذمته بالصفة التي كانت قبل الإبراء والمجازاة على الإحسان مطلوبة بطريق ولكن غير مستحق دينا ثم رجع فقال الصلح باطل وهو قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لأنهما صرحا بالمعاوضة فإنه أبرأه عن الخمسمائة بشرط أن يسلم له بصفة الجودة فيما بقي ومعاوضة الدراهم بالجودة لا تجوز ومع التصريح بالمعاوضة لا يمكن حمله على البراءة المبتدأة كما إذا باع درهما بدرهمين لا يجعل أحد الدرهمين هبة ليحصل مقصودهما .
وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم على أن يبيعه بها هذا الثوب أو على أن يؤاجره بها هذه الدار أو صالحه منها على عبد بعينه على أن يشتريه منه فهذا فاسد لنهي ( النبي - A - عن صفقتين في صفقة ) وقد بينا أن الصلح في معنى البيع واشتراط بيع أو إجارة في البيع يكون مفسدا له .
وكذلك لو صالحه منها على دار وشرط أن يسكنها الذي عليه الدين سنة أو على عبد وشرط خدمته سنة فهو فاسد لأنه شرط الأجل في تسليم العين أو شرط أحد المتعاقدين منفعة لنفسه من ملك صاحبه وذلك مفسد للبيع والإجارة فكذلك يفسد الصلح .
ولو ادعى رجل في غنم رجل دعوى فصالحه منها على صوفها الذي على ظهرها أن يجزه من ساعته فهو جائز في قول أبي يوسف - C .
ولا يجوز في قول محمد - C - لأن المصالح عليه إذا كان معينا فهو كالمبيع وبيع الصوف على ظهر الغنم باطل فكذلك الصلح .
( ألا ترى ) أنه لو صالحه على صوف على ظهر شاة أخرى بعينها لم يجز لهذا المعنى وأبو يوسف - C - يقول : تصحيح هذا الصلح باعتبار زعم المدعي ممكن لأنه يزعم أن الصوف والشاة ملكه وأنه يترك للمدعي عليه بعض ملكه ويبقى في الصوف لا أن تملكه ابتداء وذلك جائز وقد بينا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وأن من أصل أبي يوسف - C - أنه إذا أمكن تصحيح الصلح بوجه ما يجب تصحيحه لقطع المنازعة بخلاف ما إذا صالحه على صوف على ظهر شاة أخرى .
ولو صالحه على ألبانها التي في ضروعها أو على ما في بطونها من الولد فهو باطل أما عند محمد - C - فلأن هذا بمنزلة البيع .
وأما عند أبي يوسف - C - فلأنه إنما يمكن تصحيح هذا الصلح بطريق إبقاء ملكه في بعض العين واللبن في الضرع والولد في البطن ليس بعين مال متقوم ووجوده على خطر فربما يكون انتفاخ البطن والضرع بالريح بخلاف الصوف على ظهر الغنم فهو مال متعين متقوم مملوك فتصحيح الصلح بطريق إبقاء الملك فيه ممكن ولو ادعى في أجمة في يدي رجل حقا فصالحه على أن يسلم صيدها للمدعي سنة فهذا فاسد لأنه مجهول ووجوده على خطر وكذلك لو صالحه على ما فيها من الصيد إذا كان ذلك لا يوجد إلا بصيد وإن كان محظورا لأنه غير مملوك لأحد وبيعه لا يجوز لنهي ( النبي - A - عن بيع ضرية القانص ) و ( نهى عمر وابن مسعود - Bهما - عن بيع السمك في الماء ) وإذا كان الصيد محظورا وهو يؤخذ بغير صيد كان الصلح جائزا وله الخيار إذا رآه بمنزلة البيع وقيل تأويله : إذا أخذتم السمك في الماء أو دخل الأجمة مع الماء ثم منع من الخروج بسد فوهة الأجمة فيكون ذلك بمنزلة الأخذ الموجب للملك ولكنه غير مرئي فأما إذا دخل الأجمة مع الماء ولم يسد فوهة الأجمة فلا يجوز بيعه لأنه لم يصر مملوكا لصاحب الأجمة بالدخول في أجمته ما لم يأخذه .
ولو ادعى في عبد دعوى فصالحه من ذلك على مخاتيم دقيق معلومة من دقيق هذه الحنطة أو على أرطال من لحم شاة حية لم يجز لأنه لا يجوز بيع شيء من ذلك إما لأنه معدوم في الحال أو لأنه يحتاج في تسليمه إلى بضع البنية وذلك مانع من جواز العقد وكذلك لو صالحه على عبد آبق فإن الآبق لا يجوز بيعه لأن ماليته تاوية بالإباق وهو غير مقدور التسليم فكذلك الصلح عليه .
ولو ادعى قبل رجل مائة درهم وكر خنطة سلما فصالحه من ذلك على عشرين دينارا لم يجز إذا كان رأس المال دراهم لأن في حصة الحنطة هنا استبدال بالمسلم فيه فيبطل لقوله A : ( لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك ) والعقد صفقة واحدة فإذا بطل بعضه بطل كله عند أبي حنيفة - C - ظاهر وأما عندهما فالصلح كذلك وقد بيناه في الكتاب وهذا لأن مبني الصلح على الحط والإغماض والتجوز بدون الحق وربما يكون ذلك في البعض دون البعض فبعد ما بطل في البعض لا يمكن تصحيحه فيما بقي .
وإن كان رأس المال خمسة دنانير فصالحه منها على عشرين دينارا خمسة منها رأس مال السلم جاز لأن في حق السلم هذا صلح على رأس المال وما وراء ذلك بمقابلة المائة وهو صرف مقبوض في المجلس فيكون جائزا وذكر عن أبي إسحاق الشيباني - C - قال : سألت عبدالله بن مغفل .
وفي رواية معقل عن رجل كان لي عليه عشرة أكرار حنطة فاشتريت بها منه أرضا فقال لي : خذ رأس مالك وإنما أورد هذا لبيان أن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز ثم عندنا يبقى عليه طعام السلم بحاله آن الشراء والصلح إذا بطل صار كالمعدوم وكأنه ذهب إلى أنهما قصدا إسقاط طعام المسلم إلى عوض فيعتبر قصدهما بحسب الإمكان ورد رأس المال متعين لذلك ولكن ما ذكرنا أقوى .
وعن طاوس - C - قال : أسلم رجل إلى رجل في حلل دق فأراد أن يعطيه حلل جل كل حلتين بحلة فسأل ابن عباس - Bهما - عن ذلك فكرهه وبه نأخذ فإن هذا استبدال بالمسلم فيه لأن الثياب من أنواع مختلفة وأجناس مختلفة وعن أبي سعيد الخدري - ( Bه - أن رسول الله - A - نهى عن بيع ما في بطون الأنعام وعن بيع ما في ضروعها إلا مكيلا يعني إلا مكيلا بعد الحلب وعن بيع العبد الآبق وعن بيع ضرية القانص وعن بيع الصدقة حتى تقبض وعن بيع المغنم حتى يقسم ) وبذلك كله نأخذ فإن بيع نصيبه قبل القسمة باطل لأنه بيع قبل الملك وكذلك بيع الصدقة قبل القبض وبيع ضرية القانص وبيع العبد الآبق باطل للعجز عن التسليم وبيع ما في بطون الأنعام وما في ضروعها باطل للغرر والجهالة .
وعن محمد بن زيد قال : سألت ( ابن عمر - Bهما - فقلت : إني أسلمت إلى رجل ألف درهم وقال إن أعطيتني برا فبكذا وإن أعطيتني شعيرا فبكذا فقال : سم في كل نوع وزنا فإن أعطاك فذاك وإلا فخذ رأس مالك ) وبه نقول إذ مثل هذه الجهالة والتردد يمنع صحة السلم وإنه لا يأخذ بطريق الصلح إلا سلمه أو رأس ماله وعن ابن عباس - Bهما - أنه نهى عن بيع اللبن في الضرع والحمل في البطن .
وإن صالحه عن سلمه على رأس ماله ثم صالحه من رأس المال على شيء آخر يدا بيد لم يجز ذلك لأن حال رب السلم مع المسلم إليه بعد الإقالة كحال المسلم إليه مع رب السلم قبل قبض رأس المال وكما أن الاستبدال برأس المال قبل القبض لا يجوز فكذلك بعد الإقالة قبل الرد إلا أنهما يفترقان من حيث أن قبض رأس المال واجب في المجلس وبعد الإقالة لا يجب قبض رأس المال في المجلس وكان ذلك بمعنى الدينية فإن الدين بالدين حرام أو لمقتضى لفظ السلم فهو أخذ عاجل بآجل وذلك غير موجود في الإقالة وليس من ضرورة كونه غير مستحق القبض في المجلس جواز الاستبدال به كالمسلم فيه .
وعن زفر - C - الاستبدال بعد الإقالة جائز لأنه دين سبب وجوبه القبض فيجوز الاستبدال به كبدل القرض والغصب وهذا هو القياس ولكنا تركناه لما بينا ولقوله A : ( لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك ) فلو جوزنا الاستبدال برأس المال بعد الإقالة كان آخذا غير سلمه وغير رأس ماله وذلك ممتنع شرعا .
ولو أسلم رجل إلى رجل دراهم في شيء سلما فاسدا وتفرقا كان له أن يأخذ بدراهمه ما بدا له يدا بيد لأنه دين سبب وجوبه القبض وعقد السلم كان باطلا في الأصل وإنما يلزمه رد المقبوض باعتبار القبض والاستبدال ببدل القرض فإن جعله في شيء من الوزن إلى أجل مسمى فهو فاسد لأنه دين بدين فالمقبوض صار مملوكا له مع فساد العقد بالقبض ومثله صار دينا في ذمته فالسلم يضاف إلى ذلك الدين .
ولو ادعى عبدا في يد رجل ثم صالحه منه على دراهم أو دنانير مؤجلة والعبد قائم أو هالك فهو جائز لأنه إن كان قائما بعينه فهو بيع العبد بثمن مؤجل في زعم المدعي .
وإن كان هالكا فالواجب هو القيمة والقيمة دراهم أو دنانير فهذا تأجيل في بدل المغصوب وذلك جائز وقد بيناه في الصرف .
وإن صالحه على طعام مؤجل جاز إن كان العبد قائما بعينه لأن الطعام متى كان دينا بمقابلة العبد يكون ثمنا ولم يجز إن كان هالكا .
أما عند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فظاهر لأن الواجب هو القيمة فيكون بائعا ما ليس عنده لأن الطعام إذا قوبل بالدراهم والدنانير يكون مبيعا .
وعند أبي حنيفة - C - ما يقع الصلح عليه يكون بدلا عن العبد على ما بيناه في الصلح عن المغصوب الهالك على أكثر من قيمته أنه جائز عنده ولكن العبد الهالك في معنى الدين لأن ما لا يمكن الوقوف على عينه فهو دين فيكون ذلك دينا بدين فلهذا كان فاسدا ولو لم يكن فيه أجل جاز إن كان بعينه أو بغير عينه فدفعه إليه قبل أن يتفرقا عن عين بدين وذلك جائز وهو دليل لأبي حنيفة - C - فإنه لو كان ما يقع عليه الصلح بدلا عن القيمة لم يجز .
وإن قبض في المجلس إذا كان دينا عند العقد لأنه بيع ما ليس عند الإنسان وإن فارقه قبل أن يقبضه ولم يكن بعينه والعبد هالك بطل لأنهما افترقا عن دين بدين .
وكذلك إن صالحه على ثياب مؤجلة والعبد هالك لم يجز لأنه دين بدين وهو فاسد شرعا والله أعلم بالصواب