( قال C ) ( وإذا ادعى رجل دارا في يد رجل فأنكرها الذي هي في يديه ثم صالحه على دراهم أو دنانير مسماة فهو جائز ) .
واعلم بأن الصلح أنواع ثلاثة : .
صلح بعد الإقرار وصلح بعد الإنكار وصلح مع السكوت بأن لم يجب المدعى عليه بالإقرار ولا بالإنكار .
ويجوز مع الإنكار .
وقال الشافعي - C - يجوز الصلح مع الإقرار والسكوت ولا يجوز مع الإنكار وقال الشافعي - C - يجوز الصلح مع الإقرار ولا يجوز مع الإنكار والسكوت .
وكان الشيخ أبو منصور الماتريدي - C - يقول : لم يعمل الشيطان في إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين مثل من عمل في إبطال الصلح على الإنكار لما في ذلك من امتداد المنازعات بين الناس .
ولسنا نأخذ بهذا فمن أبطل ذلك إنما أبطله احتياطا للتحرز عن الحرام وللرشوة والأعمال بالبينات وإنما نقول كما قال أبو حنيفة - C - أجود ما يكون الصلح على الإنكار وأما الشافعي - C - فإنه استدل بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ( النساء : 29 ) والصلح على الإنكار لا يكون إلا بالتجارة عن تراض فذلك ينبني على ثبوت ملك المدعي على المدعي وبدعواه لا يثبت ذلك مع إنكار المدعى عليه فكان أكل المال بالباطل وهو المعنى في المسألة فإنه يأخذ المال بطريق الرشوة والرشوة حرام وبالصلح لا يحل ما هو حرام وقاس بصلح الشفيع مع المشتري بمال يأخذه ليسلم الشفعة أو يصلح القائل مع الإنكار ليقبضه منه الولي بمال يعطيه ويصلح معروف النسب مع مدعي الرق على مال ليسترقه .
وبيان الوصف أن بدل الصلح إما أن يكون عوضا عن المال أو عن الدعوى والخصومة أو عن اليمين ولا يجوز أن يجعل عوضا عن المدعي لأن بمجرد الدعوى لا يثبت الملك في المدعي للمدعي قال A : ( لو أعطى الناس بدعواهم ) الحديث .
والدليل عليه أنه لو استحق بدل الصلح لا يرجع بالمال المدعي ولكن يعود على رأس الدعوى ولو كان المال بدلا عن المدعي لكان يعود به عند الاستحقاق كما لو كان الصلح بعد الإقرار ولو كان المصالح عنه دارا لا يجب للشفيع فيها الشفعة أو كان المال بدلا عن المدعي والخصومة لأن ذلك ليس بمال فلا يجوز الاعتياض عنه بالمال ولأنه كما لا يستحق بنفس الدعوى أخذ المال المدعي فكذلك لا يستحق أخذ المال بطريق الصلح ولا جائز أن يكون بدلا عن اليمين لأن اليمين مشروعة لقطع الخصومة فلا يجوز الاعتياض عنها بالمال كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أو هلاكها كان القول قوله مع اليمين ولو صالح من هذه اليمين على ما كان باطلا فعرفنا أن المدعى عليه إنما يبذل المال ليدفع به أذى المدعي عن نفسه والمدعي يأخذ المال ليكف عن الخصومة معه بغير حجة وخصومته بغير حجة ظلم منه شرعا وأخذ المال ليكف عن الظلم رشوة فيكون حراما لقوله A : ( الراشي والمرتشي في النار ) ولقوله A : ( لعن الله الراشي والمرتشي والرائش ) وبنحو هذا يستدل ابن أبي ليلى - C - إلا أنه يقول المدعي بنفس الدعوى يصير حقا للمدعي ما لم يعارضه المدعى عليه بإنكاره .
( ألا ترى ) أنه لو لم بنازعه في ذلك لتمكن من أخذه وهذا لأن الدعوى خبر محتمل بين الصدق والكذب ولكن الصدق يترجح فيه من حيث إن دينه وعقله يدعوانه إلى الصدق ويمنعانه من الكذب إلا أن المدعى عليه إذا عارضه بإنكاره فإنكاره أيضا محتمل بين الصدق والكذب فلتحقق المعارضة تخرج دعواه من أن تكون موجبة للاستحقاق ما لم يظهر الترجيح في جانبه بالبينة وإذا كان المدعى عليه ساكتا فالمعارض لم يوجد فتبقى دعوى المدعى معتبرة في الاستحقاق فلهذا يجوز الصلح في هذه الحال فأما بعد المعارضة بالإنكار لم يبق للدعوى سبب الاستحقاق فلهذا يجوز الصلح في هذه الحال فأما بعد المعارضة بالإنكار لم يبق للدعوى سبب الاستحقاق فأخذ المال بطريق الصلح يكون رشوة .
وأصحابنا - رحمهم الله - استدلوا في ذلك بظاهر قوله تعالى : { والصلح خير } ( النساء : 128 ) فالتقييد بحال الإقرار يكون زيادة على النص المغيا فيه أن المدعي أحد الخصمين في دعوى العين لنفسه فيجوز له أن يأخذ المال بطريق الصلح من صاحبه كالمدعى عليه فإنه لو وقع الصلح بينهما على أن يسلم العين إلى المدعي بمال يأخذه منه جاز ذلك بالاتفاق وتأثيره أن كل واحد منهما يدعي العين لنفسه وخبره في حقه محمول على الصدق وإنما لا يكون حجة على خصمه ثم المدعى عليه إنما يأخذ المال بطريق الصلح باعتبار قوله إن العين لي وإني أملكه من المدعي بما استوفى منه لا باعتبار يده .
( ألا ترى ) أن المودع باعتبار يده بدون هذا القول لا يأخذ العوض عن الوديعة من المودع والمدعي قد وجد منه القول مثل ما وجد من المدعى عليه فكما يجوز للمدعى عليه أن يأخذ المال صلحا باعتبار قوله فكذلك يجوز للمدعي وفي هذا بيان أن المال عوض من المدعي في حق من يأخذه .
فإن كانت قد انقطعت الخصومة في حق صاحبه ومثله جائز كمن اشترى عبدا أقر بحريته فما يعطي من الثمن بدل ملك الرقبة في حق البائع وهذا فداء في حق المشتري حتى يعتق العبد فهذا مثله ولأن الصلح مع الإنكار إبراء بعوض .
ولو أبرأه بغير عوض صح ذلك فكذلك إذا أبرأه بعوض كما لو صالح بعد الإقرار ومعنى ذلك أن المدعي يسقط حقه عن المال المدعي دينا كان أو عينا ثم إنكار المدعى عليه لا يمنع صحة إبرائه بغير عوض حتى لو أبرأه عن الدين ثم أقر المدعي عليه بأنه كان واجبا كان الإبراء صحيحا وهذا لأن الإبراء إسقاط والإسقاط يتم بالمسقط وحده وإنما يحتاج إلى مراعاة الجانب الآخر في التملكات فأما في الإسقاطات فلا كالطلاق والعتاق وهذا لأن المسقط يكون متلاشيا ولا يكون داخلا في ملك أحد ولهذا صح الإبراء عن الدين قبل قبول المديون .
وإن كان يرتد برده لتضمنه معنى التمليك ولكن ذاك تبع وإنما يعتبر ما هو المقصود وهو الإسقاط فشرط صحته ثبوت الحق في جانب المسقط وذاك ثابت بخبره وإنما لم يجعل الدعوى سببا للاستحقاق على الغير ثم بنفس الدعوى يستحق الجواب والحضور على المدعى عليه ويستحق اليمين بعد المعارضة بالإنكار حتى يستوفي بطلبه وإليه أشار رسول الله - A - بقوله : ( لك يمينه ) فعرفنا أن جانب الصدق ترجح في حقه قبل المعارضة بالإنكار وبعد المعارضة وإنما لا يعطي بنفس الدعوى المال المدعي لما قال A : ( لو أعطى الناس بدعواهم ) الحديث فإذا ترجح معنى الصدق في حقه ثبت الحق في جانبه فيملك التصرف فيه بالإسقاط وهذا النوع من الإسقاط مما يجوز أخذ العوض عنه كما بعد الإقرار فيأخذ المال بطريق الصلح عوضا عن إسقاط حق ثابت في حقه والمدعى عليه ليس يتملك شيئا فلا يشترط ظهور الحق في جانبه .
( ألا ترى ) أن الزوج إذا خالع امرأته على مال مع أجنبي ضمنه أو من له القصاص إذا صالح مع أجنبي على مال ضمنه يصح ذلك ويستحق المال عوضا عن الإسقاط .
وإن كان من يعطي المال لا يتملك به شيئا وأظهر من هذا كله صلح الفضولي فإنه لو قال للمدعي أن المدعى عليه قد أقر معي سرا وأنت محق في دعواك فصالحني على كذا من المال وضمن له ذلك فصالحه صح الصلح بالاتفاق ومعلوم أن بإقراره لا يثبت المال على المدعى عليه وإنما صح هذا الصلح بطريق الإسقاط لظهور الحق في جانب المدعي دون المدعى عليه فكذلك إذا صالح مع المدعى عليه بل أولى لأن المدعى عليه ينتفع بهذا الصلح والفضولي لا ينتفع به ووجوب المال عوضا عن الإسقاط على من ينتفع به أسرع ثبوتا منه على من لا ينتفع به .
( ألا ترى ) أنه لو خالع امرأته على مال وجب المال عليها وإن لم يضمن بخلاف ما لو كان الخلع مع أجنبي .
( يقرره ) : أن الفضولي لا يتملك بهذا الصلح شيئا ثم يلزمه دفع المال عوضا عن الإسقاط فكذلك المدعى عليه إذا كان منكرا فهو لا يتملك بهذا الصلح شيئا ولكن يلزمه دفع المال عوضا عن الإسقاط كما لو التزمه وقد قال بعض مشايخنا - رحمهم الله - أن بدل الصلح كالمقر به يكون عوضا عن المدعى عليه ويصير المدعى عليه بالإقدام على الصلح كالمقر به لأن القاضي يقول له أي ضرورة ألجأتك إلى الصلح وكان من حقك أن ترفع الأمر إلي لأمنع ظلمه عنك فلما اخترت الصلح صرت كالمقر لما ادعى ولكن هذا إقرار ثبت ضمنا للصلح فإذا بطل الصلح بالاستحقاق يبطل ما كان في ضمنه كالوصية بالمحاباة لما ثبت ضمنا للبيع يبطل ببطلان البيع فلهذا يعود على رأس الدعوى ولما كان هذا الإقرار في ضمن الصلح لا يظهر حكمه في غير عقد الصلح واستحقاق الدعوى بالشفعة حكم وراء ذلك فلا يظهر في حقه كما لو كان الصلح مع فضولي ومنهم من يقول المدعي يستحق المال عوضا في حقه عن المدعي فأما في حق المدعى عليه فإنه قد التمسه لأن اليمين حق للمدعي قبله مستحق الهلاك على ما بيناه في الدعوى فيكون بمنزلة القصاص والعفو عن القصاص على مال يأخذه صحيح فكذلك فداء المال باليمين صحيح نص عليه في الجامع الصغير .
قال ( ولو فدى يمينه بعشرة دراهم يجوز ) وذلك مروي عن ( حذيفة - B - أن رجلا ادعى عليه مالا وطلب يمينه وقال : لا تحلفني ولك عشرة فأبى فقال : لا تحلفني ولك عشرون فأبى فقال : لا تحلفني ولك ثلاثون فأبى فقال : لا تحلفني ولك أربعون : فأبى فحلف ) ومن هذا وقع في لسان العوام أن اليمين الصادقة يشتري بأربعين درهما .
فأما المودع إذا ادعى الرد فمحمد - C - يقول : بجواز الصلح هناك أيضا فداء لليمين .
وأبو يوسف - C - لا يجوز ذلك لأنه إنما استفاد البراءة بمجرد قوله رددت وهو تسلط على ذلك من جهة المودع وإنما اليمين لنفي التهمة .
( ألا ترى ) أنه لو مات قبل أن يحلف كان بريئا وهنا اليمين حق للمدعي قبل المدعى عليه لمعنى الإهلاك على ما قد قررنا فيجوز أخذ العوض عنها وبهذا يتبين أن هذا ليس بأكل المال بالباطل ولكنه بمنزلة التجارة عن تراض على أحد الطريقين وهو ثبوت الإقرار في ضمن الصلح وعلى الطريق الآخر هو ليس بتجارة عن تراض ولا أكل بالباطل ولكنه بذل مقيد بمنزلة الهبة والصدقة ونحوهما .
وفي الحقيقة الخلاف بيننا وبين الشافعي - C - ينبني على الإبراء عن الحقوق المجهولة بعوض وهو لا يجوز عنده لأن معنى التمليك يغلب في الصلح فيكون كالبيع وجهالة المبيع تمنع صحة البيع فكذلك جهالة المصالح عنه .
وعندنا ذلك جائز بعوض وبغير عوض واعتمادنا فيه ما روي أن النبي - A - ( لما بعث خالدا إلى بني جذيمة داعيا لا مقاتلا وبلغه ما صنع خالد أعطى عليا - Bه - مالا وقال ائت هؤلاء القوم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك وأدهم كل نفس ذا مال فأتاهم علي - Bه - ووداهم حتى ميلغة الكلب فبقي في يده مال فقال : هذا لكم مما لا تعلمونه أنتم ولا يعلمه رسول الله - A - ثم أتى رسول الله - A - فأخبره بذلك فقال صلوات الله عليه وسلامه ( أصبت وأحسنت ) فذلك تنصيص على جواز الإبراء عن الحقوق المجهولة بعوض .
وقال رسول الله - A - ( للرجلين اللذين اختصما إليه إذهبا تحريا وأقرعا وتوخيا واستهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه ) وهذا إبراء عن الحق المجهول .
والدليل عليه أن الجهالة إنما تؤثر لأنها لا تمنع التسليم والمصالح عنه لا يحتاج فيه إلى التسليم فالجهالة فيه لا تمنع صحة الصلح ففي بيان قول أبي حنيفة - C - أجوز ما يكون الصلح على الإنكار قد طعن في هذا اللفظ بعض الناس وقال الاختلاف في الصلح على الإنكار اختلاف ظاهر فكيف يكون المختلف فيه أجوز من المتفق عليه ولكنا نقول مراده أنه أنفذ وألزم فالصلح مع الإقرار يفسد بأسباب لا يفسد الصلح مع الإنكار بذلك السبب أو مراده أنه أكثر ما يكون بين الناس لأنه إذا وقع الإقرار استوفى المدعي حقه فلا حاجة إلى الصلح وإنما الحاجة إلى ذلك عند الإنكار ليتوصل به المدعي إلى بعض حقه أو مراده أن ثمرة الصلح قطع المنازعة وذلك عند الإنكار أظهر لأن مع الإقرار لا تمتد المنازعة بينهما والعقد الذي يفيد ثمرته يكون أقرب إلى الجواز مما لا يكون مفيدا ثمرته ثم الصلح على الإقرار تمليك مال بمال فيكون بيعا وهذا العقد اختص باسم فلا بد لاختصاصه بالاسم من أن يكون مختصا بحكم وذلك الحكم لا يكون إلا جوازه مع الإنكار فهو معنى كلام أبي حنيفة - C - ثم اعلم بأن ما وقع عليه الصلح يكون عوضا من المدعي في حق المدعي بمنزلة العوض في البيع فكل ما يصلح أن يكون عوضا في البيع يصلح أن يكون عوضا في الصلح وقد بينا ذلك في البيوع والمصالح عليه يحتاج إلى قبضه فلا بد من إعلامه على وجه لا تبقى فيه منازعة بينهما ولهذا لا يثبت الحيوان فيه دينا في الذمة ولا يثبت الثياب فيه دينا إلا موصوفا مؤجلا كما في البيع والمصالح عليه إذا كان عينا لا يجوز التأجيل فيه كما في البيع لا يجوز التأجيل في العين ثم الصلح عقد هو فرع فيعتبر بنظائره مما هو أصل حتى إذا كان على دين في الذمة فحكمه حكم اليمين في البيع وإن كان على غير دين فحكمه حكم البيع .
وإذا كان على منفعة فحكمه حكم الإجارة وكل منفعة يجوز استحقاقها بعقد الإجارة يجوز استحقاقها بالصلح وما لا فلا حتى إذا صالح على سكنى ثبت بعينه إلى مدة معلومة يجوز .
وإن قال أبدا أو حتى يموت لم يجز وكذلك إن صالح على أن يزرع له أرضا بعينها سنين مسماة يجوز وبدون بيان المدة لا يجوز كما في الإجارة .
ولو كان لرجل ظلة أو كتف شارع على طريق نافذ فخاصمه رجل فيه وأراد طرحه فصالحه من ذلك على عشرة دراهم كان الصلح باطلا ويخاصمه في طرحه متى شاء لأن هذا الطريق النافذ حق جماعة المسلمين فلا يمكن واحدا منهم أن يعتاض عنه شيئا فصاحب الظلة لا يستفيد بهذا الصلح حق الإقرار لأن لكل مسلم أن يخاصمه في طرحه والذي خاصمه كان محتسبا في ذلك فارتشى لترك الحسبة وذلك حرام وهذا لأن من أصل أبي حنيفة - C - أن لكل مسلم أن يمنع من وضع الظلة على طريق المسلمين وأن يطالب الرفع بعد الوضع سواء كان فيه ضرر أو لا ضرر فيه .
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - إن كان فيه ضرر فكذلك الجواب وإن لم يكن فيه ضرر فلكل مسلم حق المنع في الابتداء وليس له أن يخاصم في الرفع بعد الوضع لأنه قاصد إلى الإضرار بصاحب الظلة غير دافع الضرر عن المسلمين وقد روي عن أبي يوسف - C - لا يمنع في الابتداء إذا لم يكن فيه ضرر كما لا يرفع بعد الوضع وأبو حنيفة - C - يقول : الطريق مشترك بين جميع الناس وكل واحد منهم بمنزلة الشريك في الطريق الخاص فكما لا يعتبر هناك الضرر في ثبوت حق المنع والرفع فكذلك هنا .
ولو كان على طريق غير نافذ فخاصمه رجل من أهل الطريق وصالحه على دراهم مسماة كان جائزا لأن شركة أصحاب الطريق شركة ملك ولهذا يستحقون به الشفعة فهذا المصالح ملك نصيبه من صاحب الظلة وتمليك ما هو مملوك له بعوض صحيح .
فإن قيل : صاحب الظلة لا يستفيد بهذا الصلح شيئا لأن لسائر الشركاء أن يخاصموه في الطريق .
قلنا : لا كذلك بل يستفيد من حيث إن سائر الشركاء لو صالحوه أيضا لم يكن له أن يخاصمه في الطريق وهذا لأنه بالصلح يتملك نصيبه فيصير كأحد الشركاء في وضع الظلة على هذه الطريق حتى إذا رضي شركاؤه بذلك كان له حق قرار الظلة وبعض المتقدمين من أصحابنا - رحمهم الله - كان يقول تأويل هذه المسألة أن الظلة على ما هي على الطريق فالمصالح يصير مملكا نصيبه من وضع أصل البناء وذلك جائز فأما إذا لم يكن كذلك فينبغي أن لا يجوز لأنه يصير مملكا نصيبه من هواء الطريق وتمليك الأهواء بعوض لا يجوز والأصح هو الأول لأن هواء الطريق الخاص مشترك بينهم كأصل الطريق وإسقاط الحق عن نصيبه من هواء الطريق بعوض صحيح كما يصح إسقاط الحق فيه بغير عوض .
ولو صالحه على مائة درهم على أن يطرح الظلة عن هذا الطريق كان جائزا لأن فيه منفعة . لأهل الطريق فكأن المفيد للمال صالح عن نفسه ليوصل المنفعة إليهم بإزالة الشاغل عن هواء طريقهم وذلك جائز وتأويل هذا أن الظلة كانت على بناء مبني على الطريق وصاحب الظلة يدعي ملك ذلك الوضع لنفسه أو يدعي حق قرار الظلة بسبب صحيح فسقط حقه بما يأخذ من المال بطريق الصلح على الإنكار وذلك جائز من أحد الشركاء عن نفسه وعن أصحابه بطريق التبرع كصلح الفضولي .
ولو ادعى حقا في دار في يدي رجل فصالحه من ذلك على خدمة عبد بعينه شهرا فهو جائز لأن المصالح عليه مقدور التسليم معلوم فإن مات العبد قبل أن يخدمه بطل الصلح لتحقق فوات المعقود عليه لا على عوض فيعود على رأس الدعوى .
وإن مات بعد ما خدمه نصف الشهر كان على دعواه في النصف اعتبارا للبعض بالكل .
ولو قتله أجنبي فعلى قول أبي يوسف - C - لا يبطل الصلح ولكن للمدعي الخيار إن شاء أبطل الصلح وعاد على رأس الدعوى وإن شاء أمضى الصلح واشترى له بالقيمة عبدا آخر ليخدمه .
وقال محمد - C - الصلح باطل وجه قوله : أن الصلح على المنفعة بمنزلة الإجارة .
ولو قتل العبد المستأجر بطل عقد الإجارة فكذلك إذا قتل العبد الذي وقع الصلح على خدمته وهذا لأن حق المصالح في المنفعة والقيمة الواجبة على القاتل بدل العين لا بدل المنفعة فقد فات المعقود عليه لا إلى عوض وهو نظير موت العبد ولأن الصلح عقد محتمل للفسخ ودفع الضرر عن المدعي ممكن بالإعادة إلى رأس الدعوى فلا حاجة بنا إلى أن نقيم بدل العين مقام بدل المنفعة في إيفاء هذا العقد بخلاف الوصية فإن العبد الموصى بخدمته إذا قتل لا تبطل الوصية لأن دفع الضرر عن الموصى له هناك غير ممكن بإعادة عوضه إليه فلأجل الضرورة أقمنا بدل العين مقام بدل المنفعة ولأن العبد من وجه كأنه موصى به ولهذا يعتبر خروجه من الثلث .
وأبو يوسف - C - يقول : المصالح ملك المنفعة بعقد يجوز أن يملك به العين فإذا هلكت العين وأخلفت بدلا لا يبطل الصلح كالعبد الموصى بخدمته إذا قتل لا تبطل الوصية ولكن يشتري بقيمته عبدا آخر ليخدم الموصى له بخلاف الإجارة وهي ملك المنفعة بعقد لا يجوز أن تملك به العين فلا يمكن إقامة بدل العين هناك مقام بدل المنفعة في الاستحقاق بحكم ذلك العقد .
وإذا كان العقد بحيث يجوز أن يملك به العين يمكن إقامة بدل العين فيه مقام بدل المنفعة في إيفاء العقد ثم الصلح على الإنكار في معنى الوصية لأنه ليس بإزاء المنفعة بدل يستقر وجوبه باستيفاء المنفعة كما في الوصية بخلاف الإجارة .
فإن قيل : كيف يستقيم هذا والمصالح هناك له أن يؤاجر العبد من غيره وفي الوصية الموصى له بالخدمة لا يملك أن يؤاجره من غيره .
قلنا : إنما ملك ذلك لأن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وهو يزعم أنه ملك المنفعة بعوض فالصلح على الإنكار بمنزلة عقد المفاوضة فإذا تملك المنفعة به ملك أن يؤاجره من غيره وإن كان لا يستقر وجوب البدل باستيفاء المنفعة كما إذا ملك المنفعة بالخلع أو النكاح أو الصلح عن القود .
توضيحه : أن هذا العقد من وجه يشبه الإجارة وهو أن المنفعة تملك بعوض ومن وجه يشبه الوصية وهو أن باستيفاء المنفعة لا يستقر وجوب عوض فلشبهه بالإجارة قلنا يملك أن يؤاجره من غيره ولشبهه بالوصية قلنا : لا يبطل بالقتل وتقوم قيمته مقام عينه لأن المقصود بهذا العقد قطع المنازعة بينهما وذلك واجب بحسب الإمكان ابتداء وبقاء لما في امتدادها من الفساد وإنما أثبت الخيار للمدعي لحصول التغير لا في ضمانه فالمنفعة لا تدخل في ضمانه قبل الاستيفاء .
وعلى هذا لو كان القاتل هو المدعى عليه تجب القيمة أيضا لأنه وإن كان مالكا للعبد فالمصالح قد صار أحق به منه فهو في وجوب القيمة عليه بالقتل كأجنبي آخر عند أبي يوسف - C - كالراهن إذا قتل المرهون أو الوارث إذا قتل العبد الموصى بخدمته وإن كان المصالح هو الذي قتل العبد فهو على الخلاف أيضا لأنه أجنبي من الرقبة فيلزمه من القيمة بالقتل ما يلزم غيره واختلف مشايخنا - رحمهم الله - في ثبوت الخيار للمصالح في هذا الفصل عند أبي يوسف - C - فمنهم من يقول يثبت كما إذا قتله أجنبي آخر والأوجه أن لا يثبت لأن التغيير حصل بفعله هنا وهو راض بفعله لا محالة وهذا على أصل أبي يوسف - C - مستقيم فقد قال إذا جنى البائع على المبيع وهو في يد المشتري فهو غير ثابت لا محالة وهذا على أصل أبي يوسف - C - لا يسقط به خيار المشتري بخلاف ما إذا جنى عليه غيره وعلى هذا لو صالحه على لبس هذا الثوب شهرا أو على أن يركب دابته هذه إلى بغداد فإن هذه منفعة يجوز استحقاقها بالإجارة والوصية فكذلك بالصلح .
فإن مات المدعي أو المدعى عليه وقد استوفى نصف المنفعة فإنه يبطل الصلح بقدر ما بقي ويرجع في دعواه بقدره وهذا في قول محمد - C - بناء على أصله أن الصلح على المنفعة كالإجارة والإجارة تبطل بموت أحد المتعاقدين وهذا لأنه إن مات المدعي فلو أبقينا الصلح أدى إلى توريث المنفعة والمنفعة لا يجري فيها الإرث .
( ألا ترى ) أن الموصى له بالخدمة إذا مات لا يخلفه وارثه في استيفاء المنفعة وأكثر ما فيه أن يجعل الصلح كالوصية وإن مات المدعى عليه فالعين صارت لوارثه والمنفعة بعد ذلك تحدث على ملكه ويستحق عليه منفعة ملكه بغير رضاه .
فأما عند أبي يوسف - C - فإن مات المدعى عليه لم يبطل الصلح وإن مات المدعي ففي سكنى الدار وخدمة العبد كذلك الجواب فأما في لبس الثوب وركوب الدابة يبطل الصلح وهذا الجواب عنه محفوظ في الأمالي .
ومن أصحابنا - رحمهم الله - من يقول تأويله إذا ادعى عبدا في يد غيره ثم صالحه على خدمته شهرا أو ادعى بيتا ثم صالحه على سكناه شهرا فإن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي وفي زعمه أنه يستوفي المنفعة بملكه الأصلي لا أن يتملكها بعقد الصلح بعوض فلا يبطل ذلك بموته ولا بموت المدعى عليه فأما إذا كان الصلح على خدمة عبد للمدعى عليه فينبغي أن يبطل بموت أحدهما كما ذكره في الكتاب مطلقا ومنهم من حقق الخلاف في الفصول كلها .
ووجه قول أبي يوسف - C - : ما ذكرنا أن المقصود بالصلح قطع المنازع وفي إبطال هذا الصلح بموت أحدهما إعادة المنازعة بينهما فلوجوب التحرز عن ذلك قلنا بأنه يبقى الصلح بعد موت أحدهما لأنه إن مات المدعى عليه فوارثه ينتفع بإيفاء هذا الصلح مثل ما كان المورث انتفع به وهو سقوط منازعة المدعي فلو أبطلنا الصلح ربما لا يتمكن من تحصيل هذه المنفعة . لنفسه بخلاف الإجارة وإن مات المدعي فوارثه يقوم مقامه فيما لا يتفاوت الناس في استيفائه كخدمة العبد وسكنى البيت وربما لا يتمكن من تحصيل ذلك لنفسه . بعقده فأبطلنا الصلح فأما فيما يتفاوت الناس فيه كلبس الثوب وركوب الدابة لا يمكن إقامة الوارث فيه مقام المورث للضرر الذي يلحق المالك فيه ولم يرض بالتزامه فلهذا أبطلنا الصلح ويشبه هذا بالمنفعة إذا جعلت بدلا في الخلع أو الصلح من دم العمد والنكاح فإنه لا يسقط الحق عنها بموت أحدهما ولكن يستوفي المنفعة أو بدلها بعد الموت على حسب ما تكلموا فيه فكذلك هنا .
وإن صالحه على سكنى بيت فانهدم لم يبطل الصلح لأن الأصل باق . والانتفاع به من حيث السكنى ممكن إلا أن تمام المنفعة بالبناء فإذا رضي المدعى عليه بأن يبني البيت بماله فيه ليسكنه بقي الصلح بينهما ولكن للمدعي الخيار للتغيير وإن شاء أبطل الصلح وعاد على دعواه وإن شاء أمضى الصلح وهذا قولهم جميعا والجواب في إجارة البيت هكذا .
ولو صالحه من دعواه على كذا كذا ذراعا مسماة من هذه الدار لم يجز في قول أبي حنيفة - C - وجاز في قولهما بمنزلة ما اشترى كذا ذراعا من الدار وقد بيناه في التبرع فإن الصلح على عين يكون بمنزلة البيع وكذلك إن صالحه على كذا كذا جريبا من الأرض .
ولو ادعى أذرعا مسماة في الدار فصالحه منها على دراهم مسماة كان جائزا عندهم جميعا لأن جهالة المصالح عنه لا تمنع صحة الصلح كما لو ادعى حقا في دار ولم يسمه ثم صالحه منه على شيء معلوم وهذا لأن المصالح عنه لا يستحق تسليمه بالصلح فجهالته لا تفضي إلى المنازعة .
ولو ادعى كل واحد منهما في دار في يدي صاحبه حقا ثم اصطلحا على أن يسلم كل واحد منهما لصاحبه ما في يده بغير تسمية ولا إقرار فهو جائز لأن كل واحد منهما قابض لما شرط له بالصلح فلا حاجة إلى التسليم والجهالة إنما تمنع إذا كانت تفضي إلى منازعة مانعة من التسليم .
ولو ادعى رجل في أرض رجل دعوى فصالحه على طعام بعينه مجازفة فهو جائز لأن الطعام المعين يجوز بيعه وإن لم يكن معلوم القدر فكذلك الصلح عليه .
وكذلك لو صالح على دراهم بعينها بغير ذكر الوارث لأن مثله يصلح ثمنا في البيع فيصلح بدلا في الصلح أيضا ولو صالحه على عبد بعينه لم يره فهو بالخيار إذا رآه : لأن المصالح عليه إذا كان عينا فهو كالمشتري بطريق البناء على زعم المدعي ولهذا يستحق بالشفعة لو كانت دارا ومن اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه وكذلك الرد بالعيب في الصلح بمنزلة الرد بالعيب في البيع حتى يرد المصالح عليه بالعيب اليسير والفاحش بطريق البناء على زعم المدعي .
وإذا تعذر الرد بالعيب رجع بحصة العيب في الدعوى لأن رأس ماله في حق المدعى عليه هو الدعوى . والخصومة فكما أن عند الرد بالعيب يرجع في ذلك فكذلك عند تعذر الرد بالعيب من الدعوى ولو استحق نصف العبد من يده كان بالخيار فيما بقي لعيب التبعيض فإن رد ما بقي كان على دعواه فإن أمسك ما بقي منه كان على نصف دعواه اعتبارا لاستحقاق البعض بالكل .
ولو ادعى رجل في دار لرجل دعوى فصالحه عنه آخر بأمره أو بغير أمره بإنكار أو إقرار فإن ذلك جائز ولا شيء للمصالح من حقوق المدعي إنما يكون ذلك للذي في يده الدار ولا يجب المال على المصالح إلا أن يضمنه الذي صالحه لأن الصلح على الإنكار معاوضة بإسقاط الحق فيكون بمنزلة الطلاق بجعل والعفو عن القصاص بمال وذلك جائز مع الأجنبي كما يجوز مع الخصم إلا أن الأجنبي إن ضمن المال فهو عليه بالالتزام ولا يدخل في ملكه بإزاء ما التزم شيء لأن المسقط يكون متلاشيا ولا يكون داخلا في ملكه وإن لم يلزمه المال بمطلق العقد ولكن إن كان الصلح بأمر المدعى عليه فالمال عليه لأن الأجنبي يعبر عنه .
( ألا ترى ) أنه لا يستغنى عن إضافة العقد إليه وإن كان بغير إذنه فهو موقوف على إجازته لأن المال لم يجب للمصالح ولا يمكن إيجابه على المدعى عليه بغير رضاه والمدعي لم يرض سقوط حقه إلا بعوض يجب له فيتوقف على رضا المدعى عليه .
ولو لم يكن في صلح الأجنبي إلا العرف الظاهر وحاجة الناس إلى ذلك لأن المدعى عليه يتحرز من قبول ذلك مخافة أن يجري على لسانه ما هو إقرار لكان هذا كائنا لجواز هذا العقد .
فإن صالحه على عبد بعينه فوجد به عيبا فرده أو استحق أو وجد حرا أو مدبرا أو مكاتبا عاد في دعواه ولم يكن له على المصالح شيء لأن هذا الصلح لو كان مع المدعى عليه كان يبطل بهذه العوارض ويعود المدعي على دعواه فكذلك إذا كان مع الأجنبي وهذا لأن العقد انفسخ بهذه الأسباب والتزام المصالح كان بالعقد فإذا انفسخ العقد عاد الحكم الذي كان قبله وهو خصومة المدعي مع المدعى عليه ولو صالحه على دراهم مسماة وضمنها له فدفعها إليه فاستحقت أو وجد منها زيوفا أو ستوقا فله أن يرجع بذلك على الذي صالحه دون الذي في يديه الدار كما لو كان هذا الصلح مع المدعى عليه وهذا لأن المصالح التزم بالمال بالعقد دينا في ذمته حين ضمنه وبالرد بهذه الأسباب ينتقض القبض لا أصل العقد فيعود الحكم الذي كان قبل القبض وهو أنه مطالب بتسليم المال بسبب التزامه في ذمته ولو صالحه على دراهم وضمنها ثم قال : لا أؤديها أجبرته على أن يؤديها إليه لأنه التزم بالضمان والزعيم غارم وشرط على نفسه أن يؤدي المال والوفاء بالشرط لازم خصوصا إذا كان الشرط في عقد لازم .
ولو لم يكن ضمنه لم يكن عليه شيء ولكن الصلح موقوف عليه فإن قبل : لزمه المال وإن رد فالصلح باطل .
ولو ادعى في دار رجل حقا فصالحه على دراهم ودفعها إليه ثم استحقت الدار من يد المدعى عليه كان له أن يرجع بدراهمه لأن هذا الصلح مبني على زعم المدعي وفي زعمه أنه أخذ الدراهم عوضا عن الدار فإذا استحقت كان عليه رد المقبوض من البدل كالمبيع إذا استحق .
وإن جعلناه مبنيا على زعم المدعى عليه ففي زعمه أنه أعطى المال بغير عوض وأن له حق الاسترداد .
وكذلك لو صالح عنه غيره وضمن المال رجع المصالح بدراهمه لأن بعد الاستحقاق ثبوت حق الرجوع بسبب أداء المال وإنما يثبت لمن أدى ولو استحق نصفها أو ثبت معلوم فيها أو جميعها إلا موضع ذراع لم يكن للمصالح أن يرجع بشيء من الدرهم لأني لا أدري لعل دعواه فيما بقي دون ما استحق وهذا الصلح مبني على زعم المدعي وهو يتمكن من أن يقول إنما كان حقي ما بقي وقد صالحتك عنه فلهذا لا يرجع بشيء من الدراهم بخلاف ما إذا استحق جميع الدار .
وإن ادعى في بيت في يدي رجل دعوى فصالحه من ذلك على أن يبيت على سطحه سنة فهو جائز لأن في زعم المدعي أنه يستوفي ملك المنفعة باعتبار ملك الأصل ولم يذكر ما إذا صالحه على أن يبيت آخر بعينه سنة والجواب في ذلك أنه يجوز أيضا لما استشهد به .
فقال : ( ألا ترى ) ( أنه لو استأجره جاز ) وقد بينا أن ما يستحق من المنفعة بعقد الإجارة يجوز استحقاقه بعقد الصلح .
قال الحاكم - C - ( وقد تأوله بعض مشايخنا - رحمهم الله - على السطح المحجر ) لأنه إذا كان بهذه الصفة فهو موضع السكنى عادة فيجوز استئجاره لمنفعة السكنى .
قال - Bه - ( والأصح عندي أنه يجوز على كل حال ) لأن السطح مسكن كالأرض ولو استأجر أرضا معلومة من الأرض لينزل فيه مدة معلومة جاز فكذلك السطح وهذا لأنه يتمكن من السكنى عليه بنصب خيمة فيه أو نحوها .
ولو ادعى نصف الدار وأقر بأن نصفها لذي اليد فصالحه ذو اليد على دراهم مسماة ودفعها إليه ثم استحق نصف الدار رجع عليه بنصف الدراهم لأن في زعم المدعي أن الدار كانت بينه وبين المدعى عليه نصفين والمستحق نصف شائع فيكون من النصيبين وبه تبين أنه استحق نصف ما وقع الصلح عليه فيرجع بنصف الدراهم لو كان المدعي لم يقر لذي اليد بحق فيها أو قال نصفها لي ونصفها لفلان وقال المدعي كذبت بل نصفها لي والنصف الآخر لا أدري لمن هو أو قال كلها لي ونصفها لفلان لم يرجع عليه بشيء من الدراهم لأنه لم يستحق شيئا وقع الصلح عنه بزعم المدعي فهو يقول إنما صالحت عن النصف الذي بقي في يدك وقد بينا أن الصلح على الإنكار مبني على زعم المدعي .
وإذا كانت الدار وديعة في يد المدعي فصالح المدعي من دعواه فيها على شيء لم يرجع به على المودع لأنه كأجنبي آخر في التزام المال بالصلح فقد كان متمكنا من أن يثبت بالبينة أنه مودع فيها لتندفع الخصومة عنه إلا أن يكون أمره بذلك فحينئذ يرجع عليه لأنه عامل له بأمره فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة .
وإذا صالح الرجل من دعواه في دار لم يعاينها الشهود ولا عرفوا الحدود أو صالحه من دعواه في دار بغير عينها ثم خاصمه في دار وزعم أنها غير التي صالحه عنها وقال المدعى عليه : هي تلك تحالفا وترادا الصلح وعادا في الدعوى لأن الصلح عقد محتمل للفسخ بالإقالة فإذا اختلفا في عين ما تناوله العقد تحالفا وترادا كالمتبايعين إذا اختلفا في عين المبيع .
ولو أن دارا في يدي ورثة ادعى رجل فيها حقا وبعضهم غائب فصالح الشاهد منهم المدعي على شيء مسمى من جميع حقه فهو جائز لأنه في حصة شركائه متبرع بالصلح وقد ذكرنا أن صلح المتبرع جائز إذا التزم العوض والدار الموروثة على حالها لأن المدعي مسقط لحقه بما يأخذ من العوض غير متملك شيئا ممن يأخذ منه العوض فلا يرجع هذا الصلح عليهم بشيء لأنهم لم يأمروه بدفع شيء .
ولو كان صالح على أن يكون حقه له خاصة دون الورثة فهو جائز أيضا لأن المدعي يملك ما يدعيه لنفسه من الذي يصالحه بما يستوفي من العوض والصلح مبني على زعمه فيجوز ثم يقوم هذا المصالح مقام المدعي فيما بينه وبين شركائه على حجة المدعي فإن أثبت له ملك شيء معلوم بالحجة ثبت ملكه في ذلك بالشراء وإذا لم يكن له بينة فله أن يرجع على المدعي بحصة شركائه التي لم يسلم له لأن المدعي عاجز عن تسليم ذلك إليه والصلح مبني على زعمه فيتحقق عجزه عن التسليم في ذلك القدر فيبطل الصلح فيه ويرجع بما يقابله من البدل .
( ألا ترى ) أن رجلا لو ادعى دارا في يدي رجل فصالحه رجل منها على عبد على أن تكون الدار له ثم خاصمه الذي في يديه الدار فلم يظفر بشيء كان له أن يرجع على المدعي بالعبد أو بقيمته إن كان هلك عنده لأن العقد ينفسخ بينهما لتعذر تسليم المعقود عليه بزعمهما .
ولو أن رجلين ادعيا دارا في يدي رجل وقالا : ورثناها عن أبينا وجحدهما الرجل ثم صالح أحدهما عن حصته من هذه الدعوى على مائة درهم فأراد شريكه أن يشركه في هذه المائة لم يكن له ذلك لأن الملك لو كان ظاهرا لهما في الدار فباع أحدهما نصيبه لم يكن للآخر أن يشاركه في ثمنه فكذلك إذا صالح أحدهما من نصيبه مع إنكار ذي اليد وليس للآخر أن يأخذ من الدار شيئا إلا أن يقيم البينة لأن ذا اليد بقبوله الصلح مع الإنكار لا يصير مقرا بحق المصالح فيما صالحه عنه فكيف يصير مقرا بحق غيره فيما لم يقع الصلح عنه .
وذكر ابن رستم - C - في نوادره أن أبا يوسف - C - قال : يشاركه وقال محمد - C - لا يشاركه .
وجه قول أبي يوسف - C - : أن المصالح يزعم أنه يأخذ بجهة الميراث عن أبيه ولهذا كان مصروفا إلى دين الأب لو ظهر عليه دين ولا يختص أحد الابنين بشيء من ميراث الأب فللآخر حق المشاركة معه في المقبوض باعتبار زعمه ولو صالح أحدهما من جميع دعواهما على مائة درهم وضمن له تسليم أخيه فإن سلم الأخ ذلك له جاز وأخذ نصف المائة لأن الصلح في نصيب أخيه كان موقوفا على إجازته فإذا أجازه جاز ويجعل كأنهما باشرا الصلح فالبدل بينهما نصفان .
وإن لم يجز فهو على دعواه ورد المصالح على الذي في يديه الدار نصف المائة لأن الصلح قد بطل في نصيب أخيه برده .
ولو ادعى دارا في يدي رجل فقال : هي لي ولأخوتي فأقر ذو اليد بذلك ثم اشترى منه نصيبه لم يكن لإخوته أن يشاركوه في شيء من الثمن لأنه إنما يأخذ العوض عن نصيبه خاصة .
وأبو يوسف - C - يفرق بين هذا وبين الصلح فيقول : هنا بقية الورثة يتمكنون من أخذ نصيبهم من الميراث أو أخذ العوض عنه بالبيع فالقول بقطع الشركة لا يؤدي إلى تخصيص بعض الورثة في بدل شيء من الميراث بخلاف الصلح على ما قررنا .
ولو ادعى دارا في يدي رجل فاصطلحا فيها على أن يسكنها ذو اليد سنة ثم يدفعها إلى المدعي فهذا جائز بمنزلة ما لو اصطلحا على أن يسكنها المدعي سنة ولم يسلمها لذي اليد وهذا في جانب المدعي ظاهر لأنه يزعم أن رقبتها ومنفعتها له فهو بهذا الصلح يبطل ملكه عن رقبتها ويبقى ملكه في مقدار ما شرط لنفسه من المنفعة فإنما يستوفي ذلك بحكم ملكه وذلك جائز وكذلك إن كان يستوفيها بحكم عقد الصلح كما لو صالحه على سكنى دار أخرى سنة وأما في جانب المدعى عليه ففيه بعض إشكال لأنه يزعم أن رقبتها ومنفعتها له وأنه يملكها من المدعي بعد سنة والتمليك لا يحتمل التعليق بالشرط ولا الإضافة .
ولكنا نقول : هذا الصلح مبني على زعم المدعي وفي زعمه أنه يعيرها من ذي اليد سنة ثم يأخذها منه والمدعى عليه يجعل مملكا رقبتها منه في الحال مبقيا منفعتها سنة على ملكه وهو إنما يستوفي بحكم ملكه وذلك جائز .
( ألا ترى ) أن من أوصى لغيره بسكنى داره سنة ثم مات صارت الدار لورثته وبقيت السكنى على حكم ملك الموصى يستوفيها الموصي له بإخلائها له .
وكذلك لو باع الدار المؤجرة والمشتري يعلم بالإجارة فإنه يملك رقبتها وتبقى منفعتها على حق البائع حتى يتملكها المستأجر عليه بالاستيفاء ويكون الأجر للبائع فهذا مثله .
وإن كان للمدعي فيها شركاء لم يجز صلحه عليهم وهم على حجتهم في إثبات أنصبائهم لأنه لا ولاية للمدعى عليه على شركاء المدعي لتملك أنصبائهم منه وكذلك لو كان هذا الصلح في أرضه على أن يزرعها ذو اليد خمس سنين على أن رقبتها للمدعي فهو جائز لما قلنا .
ولو اشترى دارا فاتخذها مسجدا ثم ادعى رجل فيها دعوى فصالحه الذي بنى المسجد والذين بين أظهرهم المسجد فهو جائز لأنهم ينتفعون بهذا الصلح ولو صالحه من لا ينتفع به كالفضولي والتزم المال كان الصلح جائزا فإذا صالحه من ي