( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - إملاء اعلم بأن الصلح عقد جائز عرف جوازه بالكتاب والسنة . أما الكتاب فقوله تعالى : { فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } ( النساء : 128 ) وفي هذا بيان أنه نهاية في الخيرية .
وأما السنة فما روي أن النبي - A - ( صالح أهل مكة عام الحديبية على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ) .
ودخل رسول الله - A - المسجد فرأى رجلين يتنازعان في ثوب فقال لأحدهما : ( هل لك إلى الشطر هل لك إلى الثلثين فدعاهما إلى الصلح ) وما كان يدعوهما إلا إلى عقد جائز .
وقال النبي - A - ( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ) وهكذا كتب علي - Bه - إلى أبي موسى الأشعري - Bه - ( كل صلح جائز بين الناس إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما ) وهذا اللفظ من الأول لكتاب عمر - Bه إلى أبي موسى الأشعري قد اشتهر فيما بين الصحابة - رضوان الله عليهم فما ذكر فيه فهو كالمجمع عليه منهم وبظاهر هذا الاستثناء استدل الشافعي - C - لإبطال الصلح على الإنكار فإنه صلح حرم حلالا لأن المدعي إن كان محقا كان أخذ المال حلالا له قبل الصلح وحرم بالصلح وإن كان مبطلا فقد كان أخذ المال على الدعوى الباطلة حراما عليه - قبل الصلح فهو صلح حرم حلالا وأحل حراما .
ولكنا نقول : ليس المراد هذا فإن الصلح عن الإقرار لا يخلو عن هذا أيضا لأن الصلح في العادة يقع على بعض الحق فما زاد على المأخوذ إلى تمام الحق كان حلالا للمدعي أخذه قبل الصلح وحرم بالصلح وكان حراما على المدعى عليه منعه قبل الصلح وحل بالصلح فعرفنا أن المراد غير هذا .
والصلح الذي حرم حلالا وهو أن يصالح إحدى زوجتيه على أن لا يطأ الأخرى أو يصالح زوجته على أن لا يطأ جاريته والصلح الذي أحل حراما هو أن يصالح على خمر أو خنزير وهذا النوع من الصلح باطل عندنا وحمله على هذا أولى لأن الحرام المطلق ما هو حرام لعينه والحلال المطلق ما هو حلال لعينه .
( ثم ذكر عن علي - كرم الله وجهه ) - أنه أتى في شيء فقال : إنه لجور ولولا أنه صلح لرددته وفيه دليل جواز الصلح ومعنى قوله لجور أي هو مائل عما يقتضيه الحكم أو عما يستقر عليه اجتهادي من حكم الحادثة والجور هو الميل قال الله تعالى : { ومنها جائر } ( النحل : 9 ) أي مائل وفيه قال : ( إن الصلح على خلاف مقتضى الحكم جائز بين الخصمين ) لأنه يعتمد التراضي منهما وبالتراضي ينعقد بينهما السبب الموجب لنقل حق أحدهما إلى الآخر بعوض أو بغير عوض فهذا لم يرده علي - Bه .
وذكر عن شريح - C - أنه قال : أيما امرأة صولحت على ثمنها لم يتبين لها كم ترك زوجها فتلك الريبة وفي بعض الروايات الربية ومعنى اللفظ الأول الشك يعني إذا لم يتبين لها كم ترك زوجها فذلك يوقعها في الشك لعل نصيبها أكثر مما أخذت وقوله الربية تصغير الربا يعني إذا لم يتبين لها كم ترك زوجها يتمكن في هذا الصلح شبهه الربا بأن يكون نصيبها من جنس ما أخذت من النقد مثل ما أخذت أو فوقه وفيه دليل أنه يجوز للورثة أن يصالحوا بعضهم على شيء يخرجوه بذلك من مزاحمتهم وأن جهالة ما يصالح عنه لا يمنع جواز الصلح لأن الجهالة إنما تفسد العقد لتعذر التسليم معها والمصالح عنه لا يستحق تسليمه بالصلح فجهالته لا تمنع جواز الصلح ثم إذا صولحت المرأة على ثمنها .
فإن كان بعض تركة الزوج دينا على الناس فصالحوها عن الكل فهو باطل لأنها تصير مملكة نصيبها من الدين من سائر الورثة بما تأخذ منهم من العين وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز فإذا فسد العقد في حصة الدين فسد في الكل وهو دليل لأبي حنيفة - C - في مسألة البيوع أن العقد الواحد إذا فسد في البعض المعقود عليه فسد في الكل .
وهما يقولان حصة العين هنا من البدل المأخوذ غير معلومة والدين ليس بمال أصلا ما لم يقبض فلا يكون محلا للتمليك ببدل فهو كما لو جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد فلهذا يفسد العقد في الكل وإن صالحوها من حصتها من العين خاصة .
وإن لم يكن في التركة دين فهو على ثلاثة أوجه أحدها أن يصالحوها على أحد النقدين أما الدراهم أو الدنانير فهو جائز إلا أن يكون في التركة من جنس ذلك النقد مقدار ما يكون نصيبها من ذلك الجنس أكثر مما أخذت فحينئذ لا يجوز لأن مبادلة مال الربا بحصته لا يجوز إلا بطريق المماثلة فإن كان نصيبها أكثر مما أخذت كان الفضل في هذا الجنس من نصيبها من سائر التركة ربا وكذلك إن كان نصيبها ثمن هذا الجنس مثل ما أخذت فنصيبها من سائر التركة يكون فضلا خاليا عن العوض وهو الربا بعينه .
وإن وقع الصلح عن الدراهم والدنانير فذلك جائز وإن كان في التركة من النقدين ما يكون نصيبها من كل جنس أكثر مما أخذت بطريق صرف الجنس إلى خلاف الجنس فتصحيح العقود بحسب الإمكان واجب والصلح أولى بذلك من غيره لأن المقصود به قطع المنازعة لما في امتدادها من الفساد والله لا يحب الفساد فإن صالحوها على عرض فهو جائز لأنه وقع عليه الصلح بنفس مال الربا فسواء كان في التركة من جنس ما وقع عليه الصلح ما يكون نصيبها أكثر مما أخذت أو لم يكن فذلك لا يؤدي إلى الربا .
قال الحاكم - C - ( إنما يبطل الصلح على أقل من نصيبها من الربا في حال التصادق ) وقد بينا ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب فأما حال المناكرة فالصلح جائز لأن مع الإنكار ليس لها حق مستقر وفي ذلك الجنس أكثر مما أخذت وعند الإنكار المعطي يؤدي المال لقطع المنازعة والخصومة ويفدي به يمينه فلا يتمكن فيه الربا على ما بينه وذكر عن عمر بن الخطاب Bه . أنه قال : ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بينهم الضغائن وفيه دليل أن القاضي لا ينبغي له أن يعجل وأنه مندوب إلى أن يرد الخصوم ليصطلحوا على شيء ويدعوهم إلى ذلك فالفصل بطريق الصلح يكون أقرب إلى بقاء المودة والتحرز عن النفرة بين المسلمين ولكن هذا قبل أن يستبين وجه القضاء فأما بعد ما استبان ذلك فلا يفعله إلا برضا الخصمين ولا يفعله إلا مرة أو مرتين لما في الإطالة من الإضرار بمن ثبت الاستحقاق له في تأخير حقه ولأن ذلك يجر إليه تهمة الميل وعلى القاضي أن يتحرز عن ذلك بما يقدر عليه .
وعن عمرو بن دينار أن إحدى نساء عبدالرحمن بن عوف - Bه - صالحوها على ثلاثة وثمانين ألفا على أن أخرجوها من الميراث وهي تماضر كان طلقها في مرضه فاختلف الصحابة - رضوان الله عليهم - في ميراثها منه ثم صالحوها على الشطر وكان له أربع نسوة فحظها ربع الثمن وهو جزء من اثنين وثلاثين جزءا فصالحوها على نصف ذلك وهو جزء من أربعة وستين جزءا وأخذت بهذا الحساب ثلاثة وثمانين ألفا ولم يشر لذلك في الكتاب وذكر في كتب الحديث ثلاثة وثمانون ألف دينار فهذا دليل ثروة عبدالرحمن بن عوف - Bه - ويساره وكان قد قسم لله تعالى ماله أربع مرات في حياته تصدق في كل بالنصف وأمسك النصف فهو دليل على أنه لا بأس بجمع المال واكتساب الغني من حله فابن عوف من الصحابة العشرة الذين شهد لهم رسول الله - A - بالجنة وأيد هذا القول قوله A : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ولكن مع هذا ترك الجمع والاستكثار وإنفاق المال في سبيل الله تعالى أولى وهو الطريق الذي اختاره رسول الله - A - لنفسه بقوله A : ( اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ) وفي حديث عبدالرحمن - Bه - ما يدل عليه فإن النبي - A - قال له ( ما أبطأ بك عني يا عبدالرحمن ؟ قال : وما ذاك يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - A - : إنك آخر أصحابي لحوقا بي بعد القيامة وأقول : أين كنت فيقول : منعني عنك المال كنت محبوسا ما تخلصت إليك حتى الآن ) .
وذكر عن ابن عباس - Bهما - قال : يتخارج أهل الميراث يعني يخرج بعضهم بعضا بطريق الصلح وذلك جائز لما فيه من تيسير القسمة عليهم فإنهم لو اشتغلوا بقسمة الكل على جميع الورثة ربما يشق عليهم ويدق الحساب أو تتعذر القسمة في البعض كالجوهرة النفيسة ونحوها فإذا أخرجوا البعض بطريق الصلح تيسر على الباقين قسمة ما بقي بينهم فجاز الصلح لذلك .
وعن محمد بن سيرين - C - قال : ما رأيت شريحا - C - أصلح بين الخصمين إلا امرأة استودعت وديعة فاحترق بيتها فناولتها جارة لها فضاعت فأصلح بينهما على مائة وثمانين درهما وفيه بيان أنه كان من عادة شريح - C - الاشتغال بطلب الحجة . التي يفصل الحكم بها وما كان يباشر الصلح بين الخصمين بنفسه وكان يقول إنما حبس القاضي لفصل القضاء ولأجله تقدم إليه الخصمان وللصلح غير القاضي فينبغي للقاضي أن يشتغل بما تعين له ويدع الصلح لغيره إلا أنه في هذه الحادثة لأجل الاشتباه وتعارض الأدلة دعاهما إلى الصلح فإن المودع إذا وقع الحريق في بيته فناول الوديعة جارا له كان ضامنا في القياس وفي الاستحسان لا يكون ضامنا لأن الدفع إلى الغير في هذه الحال من الحفظ ولكنه عادة بخلاف النص فأن المودع أمره بأن يحفظ بنفسه نصا وأن لا يدفع إلى الغير فهذه الحال من الحفظ ولكنه عادة بخلاف النص فإن المودع أمره بأن يحفظ بنفسه نصا وأن لا يدفع إلى أجنبي فلاشتباه الأدلة أصلح بينهما على مال وذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله ( عنهما أن بريرة - Bها - أتتها تسألها فقالت : إن شئت عددتها لأهلك عدة واحدة وأعتقتك فذكرت ذلك لأهلها فقالوا : لا إلا أن يكون الولاء لنا فذكرت ذلك عائشة - Bها - لرسول الله - A - فقال صلوات الله عليه وسلامه ( الولاء لمن أعتق فاشترتها وأعتقتها ) . وخطب رسول الله A وقال : ( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى شروط الله أوثق وكتاب الله أحق وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ما بال أقوام يقول أحدهم أعتق يا فلان والولاء لي وإنما الولاء لمن أعتق ) وقد تقدم بيان فوائد هذا الحديث في كتاب الولاء وإنما ذكرناه هنا ليتبين أن الزيادة التي تؤدي أن النبي - A - قال لها : ( اشترى واشترطي فإنما الولاء لمن أعتق ) وهم من هشام بن عروة كما ذكره أبو يوسف - C - في الأمالي فإن ذلك من الغرور وما كان لرسول الله - A - يأمر أحدا بالغرور .
ومقصوده من إيراد الحديث هنا بيان أن يجوز بطريق الصلح والتراضي ما لا يجوز بدونه فإن بريرة - Bها - كانت مكاتبة وقد اشترتها عائشة - Bها - برضاها ولولا ذلك ما جاز شراؤها .
وفيه دليل أنه إنما يجوز أن يشترط في الصلح ما لا يكون مخالفا لحكم الله تعالى فأما الذي يكون مخالفا لحكم الله تعالى لا يجوز اشتراطه في الصلح لقوله A : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ) معناه ليس في حكم الله تعالى فالمراد بالكتاب الحكم كما قال الله تعالى : { كتاب الله عليكم } .
وذكر عن علي - كرم الله وجهه ( أنه أتاه رجلان يختصمان في بغل فجاء أحدهما بخمسة رجال فشهدوا أنه أنتجه وجاء الآخر بشاهدين شهدا أنه أنتجه فقال علي - كرم الله وجهه - للقوم ما ترون فقالوا : افض لأكثرهما شهودا فقال علي - Bه - لعل الشاهدين خير من الخمسة ثم قال علي - Bه - فيها قضاء وصلح وسأنبئكم بذلك أما الصلح فإنه يقسم بينهما على عدد الشهود وأما القضاء فيحلف أحدهما ويأخذ البغل فإن تشاحا على اليمين أقرعت بينهما بخمسة أسهم ولهذا سهمين فأيهما خرج سهمه استحلفته . وغلظت عليه اليمين ويأخذ البغل ) وفي هذا دليل على أن البينة على النتاج مقبولة في الحيوان وأن القاضي ينبغي له عند الاشتباه أن يستشير جلساءه كما فعله علي - Bه - ثم أشاروا عليه بالقضاء لأكثرهما شهودا لنوع من الظاهر وهو أن طمأنينة القلب إلى قول الخمسة أكثر من طمأنينة القلب إلى المثنى ورد علي - Bه - ذلك عليهم لفقه خفي وهو أن طمأنية القلب باعتبار معنى العدالة فلذلك ترجح جانب الصدق في الخبر ولعل الشاهدين في ذلك خير من الخمسة ثم الترجيح عند التعارض يكون بقوة العلة لا بكثرة العلة وفي حق من أقام خمسة زيادة عدد في العلة فشهادة كل شاهدين حجة تامة يثبت الاستحقاق بها والترجيح بما لا يثبت الاستحقاق به ابتداء فأما ما يثبت به ابتداء الاستحقاق لا يقع الترجيح به فلهذا لم يرجح أكثرهما شهودا ثم قال فيها قضاء وصلح وهو دليل على أن الصلح جائز على غير الوجه الذي يقتضيه الحكم وأن الصلح بين الخصمين مع الإنكار جائز ثم بين وجه الصلح وهو أن يكون بينهما على عدد الشهود لأحدهما خمسة أسباعه وللآخر سبعاه وكأنه اعتبر هذا الظاهر الذي أشار إليه القوم ولكن لما كان لا يؤخذ به إلا عند اتفاق الخصمين عليه سماه صلحا وأما القضاء لأحدهما بأخذ البغل فهذا مذهب لعلي - Bه - فقد كان يستحلف المدعي مع البينة وكان يحلف الشاهد والراوي فكأنه جعل يمين أحدهما مرجحة لجانبه باعتبار أن الاستحقاق باليمين لا يثبت ابتداء فيقع الترجيح بها كقرابة الأم في استحقاق العصوبة فإن الأخ لأب وأم يقدم في العصوبة على الأخ لأب لأن العصوبة لا تثبت بقرابة الأم ابتداء فتقوى بها عليه العصوبة على الأخ لأب .
ولسنا نأخذ بهذا فقد ثبت عندنا أنه لا معتبر بيمين المدعي وقد قررنا ذلك فيما سبق ثم قال فإن أداها على اليمين أقرعت بينهما لهذا بخمسة ولهذا بسهمين وهو عود منه إلى وجه الصلح وبهذا يستدل الشافعي - C - في استعمال القرعة عند تعارض الحجج في دعوى الملك .
ولسنا نأخذ بهذا لأنه في معنى القمار ففيه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة وإنما يستعمل القرعة عندنا فيما يجوز الفصل فيه من غير إقراع وقد بيناه في كتاب القسمة .
وحكم الحادثة عندنا أن يقضي بالمدعى بينهما نصفين لاستوائهما في الحجة وقد بينا ذلك في كتاب الدعوى وروينا فيه من الأثر والمعنى ما يكون الأخذ به أولى من الأخذ بقول علي - Bه - فإنه بناه على مذهبه الذي تفرد به وهو استحلاف المدعي مع الحجة والأمة قد اجتمعت على خلافه والله أعلم بالصواب