( قال C ) ( ويحبس الرجل في كل دين ما خلا دين الولد على الأبوين أو على بعض الأجداد فإنهم لا يحبسون في دينه أما في دين غيرهم فيحبس ) لأنه بالمطل صار ظالما والظالم يحبس وأنه عقوبة مشروعة ولهذا كان حدا في الزنا في ابتداء الإسلام قال الله تعالى في حق قطاع الطريق : { أو ينفوا من الأرض } ( المائدة : 33 ) والمراد به الحبس وكذلك حبس رسول الله - A - ( رجلا بالتهمة ) و ( كذلك علي - كرم الله وجهه - اتخذ سجنين سمى أحدهما نافعا والآخر محبسا .
وكذلك شريح - C - كان يحبس الناس وحبس ابنه بسبب الكفالة عن رجل ولا يحبسه في أول ما يتقدم إلى القاضي ولكنه يقول له قم فأرضه لأن الظلم لا يتحقق من أول وهلة فإن عاد إليه مرة أو مرتين يحبسه والقياس في دين الولد على والديه هكذا إلا أنا استحسنا في دين الوالدين ومن كان في معناهم أنه لا يعاقب الوالد بسبب الجناية على ولده قال A : ( لا يقاد الوالد لولده ولا يعاقب بسبب الجناية على ماله ) لأن له ضرب تأويل في ماله وذكر حديث علي - كرم الله وجهه - أنه اتخذ سجنين وقال فيه : .
ألا تراني كيسا مكيسا .
يثبت بعد نافع محبسا .
وعن الشعبي - C - ( أن رجلا أتى عمر بن الخطاب - Bه - فقال : يا أمير المؤمنين أجرني فقال : مم ؟ قال : من دين قال عمر - Bه - : السجن ثم قال عمر - Bه : كأنك بالطلبة حلو ) ذكر هذا لبيان أن الحبس مشروع .
قال أبو حنيفة - C - لا يباع مال المديون المسجون في دين عليه إلا أن يكون عليه دنانير أو يكون عليه دراهم فاصطرفها بدراهم .
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - يباع ماله وهي مسائل الجر ثم ذكر ( عن عمر - Bه - أنه خطب الناس ثم قال : في أسفع جهينة - رضي من دينه وأمانته أن يقال له سبق الحاج فأدان معرضا حتى دين به فمن كان له عليه شيء فليفد علينا فأنا بائع ماله قاسم ثمنه بين الغرماء وإياك والدين فإن أوله هم وآخره حرب ) ونعم ما قال فإن الدين سبب العداوة خصوصا في زماننا فيؤدي إلى إهلاك النفوس ويكون سببا لهلاك المال خصوصا مداينة المفاليس والحرب هو الهلاك ثم إذا حبس المديون ولم يدع الإعسار فظاهر أنه لا يخلى عنه أما إذا ادعى الإعسار .
فإن كان ذلك في ديون وجبت بسبب المبايعات فينبغي أن لا يصدق لأن الظاهر يكذبه لأنه يكون واحدا باعتبار بدله .
وإن كان بأسباب مشروعة سوى المبايعات كالمهر وبدل الخلع والكفالة وبدل الصلح اختلف مشايخنا - رحمهم الله - فقال بعضهم : يصدق ولا يحبس لأنه متمسك بالأصل وهو العدم فالقول قوله .
وقال بعضهم : لا يصدق لأن التزامه المال اختيارا دليل قدرته ولو كان دينا وجب حكما باستهلاك مال . ونحوه ينبغي أن يصدق .
ثم قال أبو حنيفة - C - إذا حبس الرجل شهرين يسأل عنه وإن شاء سأل عنه في أول ما يحبسه والرأي فيه إلى القاضي إن أخبر بعد أويقات أنه معسر خلى سبيله وإن قالوا واجد أمر بحبسه حتى يذوق وبال أمره لأنه من الجائز أنه أخفى ماله فيشهد الناس على ظاهر حاله فتبطل حقوق الناس وإذا أخبروه أنه معسر أخرجه ولم يحل بين الطالب وبين لزومه عندنا .
وقال زفر - C - يمنعه من ملازمته لأنه منظر بإنظار الله تعالى ولو كان منظرا بإنظاره لا يكون له حق الملازمة هكذا كنا نقول بأنه منظر إلى زمان الوجود ووجود ما يقدره على أداء الدين موهوم في كل ساعة فيلازمه إذا وجد مالا أو اكتسب شيئا فوق حاجته الدراة يؤخذ منه والكفيل بالمال والذي عليه الأصل سواء لأن خطاب الأداء متوجه على الكفيل كما هو متوجه على الأصيل وذكر عن الكلبي ومحمد بن إسحاق أن رسول الله - A - ( حبس بني قريظة حتى نزلوا في حكم سعد - Bه - في دار بنت الحارث حتى ضرب رقابهم ) فإذا تبين أن الحبس مشروع وإذا حبس الكفيل بالدين فللكفيل أن يحبس المكفول عنه - حتى يخلصه إذا كان بأمره .
وكذلك لو لازمه الطالب كان له أن يلزم الذي عليه الأصل لأنه التزم الأداء من مال المطلوب بأمره فكان الأصيل ملتزما تخليصه فله أن يلازمه وليس للكفيل أن يأخذ المال حتى يؤديه لأنه إنما يرجع عليه بحكم الإقراض وإنما يتحقق هذا المعنى عند الأداء وإذا حبس رجل بدين فجاء غريم له آخر يطالبه فإن القاضي يخرجه من السجن ويجمع بينه وبين هذا المدعي .
فإن أقر له بالدين أو قامت له عليه بينة كتب اسمه فيمن حبس له مع الأول لأنه لو لم يكتب ربما يشتبه على القاضي أنه محبوس بدين واحد فيخلي سبيله فيكتبه حتى لا يخلي سبيله إلا بقضائهما .
وإن كان القاضي قد فلس المحبوس جاز إقراره لأشخاص في قول أبي حنيفة . وأبي يوسف - رحمهما الله .
ثم رجع أبو يوسف - C - وقال : تفليس القاضي إياه جائز ولا يجوز إقراره بعد ذلك ولا بيعه ولا شراؤه ولا بشيء يضيفه في ماله ما خلا العتق والطلاق والنكاح والإقرار بالسبب فإنا ندع القياس فيه ونجوزه وهو قول محمد - C - وقول شريح وإبراهيم وابن أبي ليلى - رحمهما الله - ويعني بالتفليس أن يحكم بعجزه عن الكسب فيجعله كالمريض مرض الموت فيحكم بتعلق حق غرمائه في مال هذا وهذا نوع حجر .
وإن كان أبو حنيفة - C - لا يرى ذلك وهما يجوزان ذلك وليس الحبس بتفليس لأنه دلالة القدرة على أداء الدين لا دلالة العجز ولا يضرب المحبوس في الدين ولا يقيد ولا يقام ولا يؤاجر لأن هذه عقوبات زائدة ما ورد الشرع بها .
وإنما قلنا بالحبس ليكون حاملا له على قضاء الدين وإن كان فيه ضرب عقوبة بالنصوص ولا نص في الزيادة عليه فإنه روي عن عبدالله بن مسعود - Bه ( عنه أنه قال : ليس في هذه الأمة صفد ولا قيد ولا غل ولا تجريد ) والصفد ما تقيد به الأيدي أراد بقوله : لا يقام يعني لا يؤمر بالقيام . بين يدي صاحب المال إهانة له فإن ذلك مع عقوبة ولا يؤاجر من غير اختياره لأن ذلك نوع حجر عليه ولا يجوز ذلك في ماله فلأن لا يجوز في نفسه بطريق الأولى ويحبس الأبوان في نفقة الولد ولا تشتبه النفقة بالدين لأن الإنفاق على الولد إنما شرع صيانة للولد عن الهلاك والممتنع كالقاصد الهلاك ومن قصد إهلاك ولده يحبس بخلاف الدين فإنه ليس فيه قصد إهلاك نفسه ولا يخرج المحبوس في الدين بجمعة ولا عيد ولا حج ولا جنازة قريب أو بعيد لأن الواجب أن يحبس على وجه لا يخلص بعد زمان حتى يضجر قلبه عند ذلك فيسارع في قضاء الدين فلو خرج أحيانا لا يضيق قلبه حينئذ ولهذا قالوا : ينبغي أن يحبس في موضع خشن لا يتبسط له في فراش ولا وطاء ولا أحد يدخل عليه ليستأنس ليضجر قلبه بذلك وإذا سأل القاضي عن المحبوس بعد شهرين أو أكثر في السر فأخبره ثقة بعدمه خلى سبيله ولم يخل بين غريمه وبين لزومه وإن شهد عليه شهود أنه موسر أو أن له مالا أجزت شهادتهم ويترك المسألة في السر لأن السؤال للاختبار ومتى ظهرت حاله بالشهادة لا تقع الحاجة إلى الاختبار .
وإن أدى دين أحد الغريمين لم يخرج من السجن حتى يؤدي دين الآخر لأن الظلم قائم ويحبس الرجل في الدرهم وفي أقل منه لأن مانع الدرهم وما دونه ظالم وينبغي أن يكون محبس النساء في الدين على حدة ولا يكون معهن رجل حتى لا يؤدي إلى فتنة ولا يمنع المحبوس من دخول إخوانه وأهله عليه لأنه يحتاج إلى ذلك حتى يشاورهم في توجيه ديونه ولكن لا يمكنون من المكث عنده حتى يستأنس بهم ولا يحبس المكاتب لمولاه بالمكاتبة لأنه عبد ولا يليق به الحبس .
( ألا ترى ) أنه لو عجز نفسه عن ذلك يسقط ويحبس بدين غير الكتابة قالوا : أراد به في حق غير المولى وقال بعضهم يحبس بدين المولى وهو ملحق بالأجانب في المعاملات مع مولاه والأول أصح وإن كان للمكاتب على مولاه طعام ومكاتبته دراهم فإن المولى يحبس في دين المكاتب لأن مطالبته متوجهة على مولاه وهو ملحق بالأجانب في حق أكسابه .
وكذلك العبد التاجر الذي عليه الدين يكون له على مولاه دين ولا يحبس لحقه ولكن لحق الغرماء والصبي التاجر في السجن مثل الرجل يعني يحبس لأنه يؤاخذ بحقوق العباد فيتحقق ظلمه والغلام الذي يستهلك المتاع فيضمن قيمته وله أب أو وصي وليس بناجز مثل ذلك يريد به في حق الحبس ولم يذكر أنه يحبس الصبي أو أبوه أو وصيه والصحيح أنه يحبس وليه وفي الكتاب ما يدل عليه حيث قيده بهذا اللفظ وهذا لأن الظلم إنما يتحقق ممن يخاطب بأداء المال ووليه هو الذي يخاطب بذلك لا هو .
وبعضهم قال : الحبس للصبي بطريق التأديب حتى لا يتجاسر على مثله ولكن هذا إنما يكون فيما يباشر من أسباب التعدي قصدا أما ما وقع خطأ منه فلا ولا يحبس العاقلة في الدية ولا في شيء منها من الأرش بقضائه عليهم ولكنه يؤخذ من الأعطية وإن كرهوا ذلك لأن الدية إنما تعطى من عطائهم لا مما في أيديهم من الأموال حتى يتحقق المنع من قبلهم حتى لو كانوا من أهل التأدية وليس لهم عطاء يفرض ذلك عليهم في أموالهم فإذا امتنعوا من أدائه حبسوا وكذلك الذعار يحبسون أبدا حتى يتوبوا والذاعر الذي يخوف الناس ويقصد أخذ أموالهم فكان في معنى قطاع الطريق قال الله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ( المائدة : 33 ) الآية .
ولو أن غلاما استهلك لرجل مالا وله دار ورقيق وعروض وليس له أب ولا وصي لم يحبس ولكن القاضي يرى رأيه فيه إن شاء جعل وكيلا ببيع بعض ماله فيوفي الطالب حقه وإن كان له أب أو وصي يجوز بيعه فإنه لا يحبس .
والصحيح أنه يحبس من يخاطب بقضاء دينه . لما مر ولا يحبس الصبي إلا بطريق التأديب ويحبس المسلم للذمي بدينه والذمي للمسلم ويحبس الحربي المستأمن ويحبس له لأن معنى الظلم يتحقق في حق الكل والله أعلم بالصواب