قال C ( وإن ادعى رجل قبل رجل دعوى وأخذ منه كفيلا بنفسه ووكيلا بالخصومة ضامنا لما ثبت عليه فهو جائز ) لأن مقصود صاحب الحق التوثق بحقه وتمام التوثق يكون بهذا فإن المكفول بنفسه ربما لا يأتي بالكفيل ويخفي شخصه فيتعذر على الطالب إثبات حقه ولا يتوصل إلى حبس الكفيل وإن كان وكيلا في خصومته يمكن من إثبات حقه بالبينة وبعد الإثبات ليس له أن يطالب الوكيل بأداء المال وربما لا يظفر الوكيل بالأصيل فإذا كان ضامنا لما ذاب عليه توصل إلى استيفاء حقه منه فعرفنا أن تمام التوثق بها يحصل فلهذا جوزناه وعلى قول الشافعي - C - هذا الضمان لا يجوز .
( وأصل المسألة ) : أن الكفالة بالمال مضافا إلى سبب وجوبه يجوز عندنا نحو أن يقول ما ذاب لك على فلان فهو علي أو ما بعت به فلانا فهو علي .
وعند الشافعي - C - لا يجوز لأنه التزم المال بالعقد فلا يحتمل الإضافة كالالتزام بالشراء ولأن الإضافة إلى وقت في معنى التعليق بالشرط والتزام المال بالكفالة لا يحتمل التعليق بالشرط حتى لو علق بدخول الدار وكلام زيد لم يصح فكذلك إذا أضافه إلى وقت .
توضيحه : أن عندكم لو أضاف الكفالة إلى موت المطلوب كان صحيحا ولو أضافها إلى موت غيره لم يصح ولا فرق بين الموتين فإن كل واحد منهما كائن غير موجود وفي الحال ثم جهالة المكفول عنه تمنع صحة الكفالة بهذه الصفة أن يقول : ما بايعت به أحدا من الناس فكذلك جهالة المكفول به تمنع صحته بالأولى لأن الملتزم بالعقد هو المكفول به .
وحجتنا قوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } ( يوسف : 72 ) فهذا المنادي أضاف الالتزام بالكفالة إلى سبب وجوب المال وهو المجيء بصواع الملك وإنما نادى بأمر يوسف - عليه السلام - وما أخبر به الله تعالى عن شريعة من قبلنا فهو ثابت في شريعتنا حتى يقوم دليل النسخ .
غير أن الشافعي - C - يقول : هنا بيان العمالة لمن يأتي به وعندي من أبق عبده فخاطب جماعة وقال من جاء به منكم فله عشرة كان هذا صحيحا ولكنا نقول استدلالنا بزعامة المنادى بقوله : { وأنا به زعيم } ( يوسف : 72 ) ولا حاجة هنا إلى معرفة طريق وجوب ذلك المال فإن العمالة تجب على من وقع له العمل فأما الوجوب على الكفيل فبسبب الكفالة إلا أنه يقول لم يكن هذا كفالة على الحقيقة فإن المكفول له مجهول وجهالة المكفول له تمنع صحة الكفالة والكلام فيه من حيث المعنى إذ التزام المال بالكفالة نظير التزام المال بالإقرار من حيث إنه التزام لا يقابله إلزام على من يلتزم له وجهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار فكذلك فيما التزمه بالكفالة وجواز الكفالة في الأصل لحاجة الناس والحاجة ماسة إلى إضافة الكفالة إلى سبب وجوب المال ولهذا جوز العلماء - رحمهم الله - الكفالة بالدرك وهو مضاف إلى سبب الوجوب بالاستحقاق فبه يتبين أن مثل هذه الجهالة لكونها لا تفضي إلى المنازعة لا تمنع صحة الكفالة ولا يجوز أن تمنع صحتها لمعنى الخطر فإنه موجود في كل كفالة إذ لا يدري أن الطالب يطالب الكفيل أو الأصيل فأما الفرق بين الموتين فهو أن موت المطلوب يجوز أن يكون سببا لتوجه المطالبة بالمال عليه بأن يكون وارثه فلهذا تصح إضافة الكفالة إليه .
وكذلك التعليق بكلام زيد ودخول الدار فإنه ليس بسبب لوجوب المال بحال فتمحض ذلك تعليقا بالشرط ولا يكون التزاما فأما ها هنا فإنه أضاف الالتزام إلى ما هو سبب لوجوب المال وهو المبايعة والذوب فيكون التزاما صحيحا فإن وافى به ودفعه إليه فهو بريء من ذلك لوجود الموافاة به كما التزمه وإن لم يفعل فللطالب أن يأخذه بالكفالة ويخاصمه في دعواه قبل المكفول به والكفيل ضامن له لتحقق الذوب بقضاء القاضي وقد كان ملتزما لما يذوب له عليه والذوب عبارة عن تحقق الوجوب وإن قال : إن لم أوافك به غدا فأنا وكيل في خصومته ضامن لما ذاب عليه فرضي بذلك المطلوب فهو جائز وإنما شرط رضاه في الوكالة بالخصومة دون الكفالة بالنفس والمال لأن الوكيل بالخصومة نائب عنه وربما يتضرر هو به فلا ينفرد به الوكيل بدون رضا الموكل فأما الكفالة فالتزام للطالب ولا يتضرر به المكفول عنه فلا يعتبر رضاه بذلك .
وكذلك لو قال : متى دعوتني به فلم أوافك به فأنا وكيل في خصومته ضامن ما ذاب لك عليه لأن كلمة متى للوقت فمعناه إن لم أوافك به في الوقت الذي تطلب مني وهذا الوقت وإن كان مجهولا ولكن لا تمكن بسبب جهالته منازعة .
ولو كفل به على أنه إن لم يواف به غدا ففلان يعني رجلا آخر وكيل في خصومته فما قضى به عليه فأنا ضامن له فرضي بذلك المطلوب فهو جائز إذ لا فرق أن يكون الوكيل والضامن للمال هو الكفيل بالنفس وبين أن يكون غيره إذا وجد منه القبول لذلك وقد بينا أنه لو كانت إضافته لذلك كله إلى نفسه كان صحيحا فكذلك إذا أضاف كل عقد من هذا إلى شخص معلوم وقبلوا ذلك ورضي به المطلوب كان صحيحا .
ولو قدم الوكالة فقال هو وكيلي في خصومة ما بيني وبينك ضامن لما ذاب لك علي أو لما قضى لك به علي أو لما لزمني لك أو بما لحقني فإن وافاني به غدا حتى أدفعه إليك فهو بريء من ذلك فهذا جائز لأنه وإن أخر التزام المال بالكفالة كان محمولا على معنى التقديم فإذا قدمه فأولى أن يصح وهذه كلها وثائق لحق واحد فلا فرق في صحتها بين تقديم التعيين وتأخير التعيين لأن المقصود لا يختلف بذلك .
ولو كفل بنفسه إلى أجل فإن لم يواف به فيه فهو وكيل في الخصومة التي بينهما ضامن لما ذاب عليه ولم يشهد المطلوب على ذلك فالكفالة بالنفس والمال جائزة والوكالة والكفالة باطلة لأنه أنابه ولا يقدر الإنسان على أن يجعل نفسه نائبا عن غيره في خصومته من غير رضاه فإذا لم يرض المطلوب بوكالته بطلت الوكالة .
ولا تبطل ببطلانها الكفالة بالمال والنفس لأن جوازهما لا يتعلق بصحة الوكالة فإنهما صحيحان وإن لم يذكر الوكالة أصلا ولو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به غدا فهو وكيل في خصومته فرضي به المطلوب فلم يواف به الغد . فهو وكيل بالخصومة لأن الوكالة إطلاق تحتمل التعليق بخطر عدم الموافاة فإن قضى عليه بشيء لم يلزم الكفيل منه شيء لأنه ما التزم شيئا من المال وبالكفالة بالنفس لا يصير ملتزما للمال - ولكن الطالب يأخذ الكفيل بالكفالة بالنفس حتى يدفعه إليه لأنه التزم تسليم النفس إليه فلا يبرأ بثبوت المال عليه ما لم يسلمه فإن ثبوت المال عليه لا يغنيه عن نفسه بل يحوجه إلى ذلك ليستوفي حقه منه فكان الكفيل مطالبا به .
فإن قضى الكفيل الطالب حقه كان متبرعا بذلك كسائر الأجانب لأنه غير ملتزم للمال وبأدائه لا يستفيد البراءة من الكفالة بالنفس لجواز أن يكون بين الطالب والمطلوب حضومة أخرى فلهذا كان متبرعا في أداء المال إن شاء الطالب قبل ذلك منه وإن شاء أبى وطالبه بتسليم النفس إليه كما التزمه .
وإن كان كفيلا بالمال أجبرت الطالب على قبضه منه على معنى أنه إذا وضع المال بين يديه يصير الطالب قابضا له لأنه يبريء ذمته بالأداء ولمن عليه الحق ذلك والأول متبرع . لا تبرأ ذمته عن شيء بما يؤديه .
ولو قضاه الكفيل المال على أن يبرئه من الكفالة بالنفس كان جائزا لأنه متبرع في قضاء المال وقد قبله الطالب ثم أبرأه الطالب عن الكفالة بالنفس وذلك حقه .
وكذلك لو قضاه بعضه على أن يبرئه عن الكفالة بالنفس وهذا لأن الطالب ليس يملك ما يقبضه منه بإزاء الإبراء عن الكفالة بالنفس إنما يملك ذلك بدلا عن أصل حقه على المطلوب كما يملكه من جهة متبرع آخر ثم هو مسقط لحقه في الكفالة بالنفس من غير عوض فيكون صحيحا فأما إذا أبرأه عن الكفالة بالنفس بمال يشترطه عليه بمقابلة البراءة فلا يجب ذلك المال .
ولو أداه كان له أن يرجع فيه لأن الكفالة بالنفس ليست بمال ولا تؤول إلى المال بحال وهو مجرد حتى لا يوصف بأنه ملكه والاعتياض عن مثله بالمال لا يصح بخلاف العتاق بجعل والطلاق بجعل فإنه اعتياض عن ملك .
( ألا ترى ) أن ملك النكاح لا يثبت إلا بالمال فيجوز الاعتياض عن إزالته بالمال أيضا بخلاف حق الكفالة بالنفس فإنه لا يثبت ابتداء بمال قط حتى لو أخذ منه مالا ليكفل به بنفس فلأن لا يصح فكذلك لا يصح التزام المال عوضا عن الإبراء بالكفالة بالنفس .
وفي حصول البراءة روايتان في كتاب الشفعة : يشير إلى أنه يبرأ وجعل هذا كحق الشفعة إذا سلمه بمال يصح التسليم ولا يجب المال والمعنى أنه إسقاط محض واشتراط العوض بمقابلته فاسد ولكن الإسقاط لا يبطل بالشرط الفاسد لأنه لا يتعلق بالجائز من الشروط فلا يكون الشرط الفاسد مبطلا له وفي موضع آخر يقول : لا يبرأ عن الكفالة بالنفس بخلاف الشفعة لأن الكفالة بالنفس حق قوي لا يسقط بعد ثبوته . إلا بإسقاط تام ولا يسقط إلا بعد تمام الرضا به ولهذا لا يسقط بالسكوت وإنما يتم رضاه بسقوطه إذا وجب له المال فإذا لم يجب لا يكون راضيا به فأما سقوط الشفعة فليس يعتمد الإسقاط وتمام الرضا به .
( ألا ترى ) أن بالسكوت عن الطلب بعد العلم به يسقط وحجته أن الوجوب لم يكن لعقده وإنما كان شرعا لدفع ضرر مخصوص عنه وهو ضرر سوء المجاورة وقد صار راضيا بهذا الضرر وإن سلمه بمال فأما وجوب تسليم النفس بالكفالة فكان بقبوله العقد فلا بد من إسقاط يكون منه . وهو إذا أسقطه بمال فإنما يحول حقه إلى المال فلا يسقط أصلا وهذا التحويل لم يصح فبقيت الكفالة بالنفس على حالها .
ولو قضاه المال على أن يرجع به على المطلوب وقبضه منه على ذلك فهذا لا يجوز لأن هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض والمبادلة بالدين من غير من عليه الدين لا تصح بخلاف الأول لأنه إسقاط المال عن المطلوب وليس بتمليك من المتبرع لقضائه بعوض وهنا نص على التمليك منه حتى شرط له الرجوع على المطلوب وهذا بخلاف الكفيل بالمال أيضا فإنه متبرع ملتزم للمال لأن بعقد الكفالة يجب المال في ذمته على أحد الطريقين وعلى الطريق الآخر عند قضاء الدين ليرجع به ولهذا لو وهب هناك المال من الكفيل لرجع به على الأصيل ولو وهب المال هنا من الكفيل بالنفس لا يصح إلا أن يسلطه على قبضه فحينئذ يكون نائبا عنه في قبضه استحسانا قال ( فإن أبرأه عن الكفالة على هذا كان للكفيل أن يرجع بما قضاه عليه ) لأنه قبضه منه بحكم تمليك فاسد ويرجع الطالب عليه بالكفالة بالنفس في أصح الروايتين ولو كفل نفسه إلى أجل مسمى فإن لم يواف به فهو ضامن لما ذاب عليه وكيل في خصومته فليس للطالب أن يأخذه بالكفالة بالنفس قبل الأجل ولا أن يخاصمه قبل الأجل لأن اشتراط المدة لتوسعة الأمر على نفسه فلا يتضيق الأمر عليه إلا بمضي المدة كاشتراط المطلوب الأجل لنفسه في الدين والوكالة في الخصومة وضمان المال عليه بناء على عدم موافاة مستحقة وذلك لا يكون إلا بعد الأجل فلهذا لا يطالبه بشيء من ذلك قبل مضي الأجل وعلى هذا الكفالة بالنفس بغير وكالة فإن المعنى يجمع الكل .
ولو كفل بنفس رجل وجعل المكفول به وكيلا في خصومته ضامنا لما ذاب عليه ثم مات الكفيل وله مال فلا خصومة بين الطالب وورثته ولكنه يخاصم المكفول به لأن الوكالة تبطل بالموت فإن الموكل إنما رضي برأيه في الخصومة فلا يقوم رأي وارثه في ذلك مقام رأيه والكفالة بالمال باقية بعد موته ولكن ما لم يتحقق الذوب على المطلوب لا يكون هو ضامنا للمال والذوب إنما يتحقق عند خصومة الطالب وإثبات حقه عليه بالحجة فلهذا خاصم المكفول به وما قضى له به عليه ضرب به مع غرماء الكفيل في ماله لأن الذوب قد تحقق فالوجوب بالكفالة يستند إلى أصل السبب لأن اللزوم تعلق به نفسه وقد كان أصل السبب في صحته فلهذا المعنى الواجب من جملة دين الصحة يضرب به مع غرماء الصحة وكذلك لو مات المكفول به أيضا فخاصم الطالب ورثته أو وصيه فقضي له بالمال كان له أن يتبع ميراث أيهما شاء لأن الذوب قد تحقق فيضرب في ميراثه بجميع ماله وفي ميراث الآخر بما يبقى له لأنه وصل إليه بعض حقه حين ضرب مع غرماء الأول فلا يضرب مع غرماء الآخر إلا بما بقي له والله أعلم .
فإن لم يكن على واحد منهما سوى هذا الدين فالجواب واضح وإن كان على كل واحد منهما دين آخر يضرب مع غرماء أيهما شاء أولا بجميع دينه وفي الكتاب أبهم .
فقال : ( إن بدأ فضرب مع غرماء الكفيل رجع على ورثة الكفيل بما أدوا في مال المكفول عنه فضربوا به مع غرمائه ) لأن كفالته عنه كانت بأمره وما يستوفي من تركته بعد وفاته بمنزلة ما يؤديه في حياته ويرجع به ورثته في تركة المكفول عنه .
وإن بدأ فضرب مع غرماء المكفول عنه لم يرجع ورثة المكفول عنه في تركة الكفيل بشيء لأن أصل الحق كان على مورثهم وكان الطالب يرجع بما بقي من حقه فيضرب به مع غرماء الكفيل في تركة الكفيل لأنه لا يبرأ الكفيل إلا من القدر الذي وصل إلى الطالب من تركة المكفول عنه فقطع الجواب في الكتاب على هذا وهو مبهم في أصل الوضع قاصر في البيان فحينئذ لا يتم بيان المسألة بما ذكر وليس في الكتاب مسألة أشكل من هذه المسألة من الحسابيات وغيرها .
فالوجه أن نصور المسألة ليتبين موضع الإشكال فنقول : دين الطالب عشرة دراهم وقد ترك الكفيل عشرة وعليه دين لرجل آخر عشرة وترك المكفول منه أيضا عشرة وعليه لرجل آخر دين عشرة فالطالب بالخيار كما بينا فإن بدأ بتركة الكفيل ضرب بالعشرة في تركته وغريم الكفيل بالعشرة فكانت تركته بينهما نصفين فوصل إلى الطالب خمسة يأتي في تركة المكفول عنه فيضرب مع غريمه بما بقي من دينه وذلك خمسة ويضرب ورثة الكفيل أيضا بما أدوا إلى الطالب وذلك خمسة فيسلم الغريم المطلوب خمسة وللطالب درهمين ونصف ولورثة الكفيل درهمان ونصف لا يسلم هذا لورثة الكفيل لأنه تركة الكفيل وقد بقي من دين غريمه خمسة ومن دين الطالب درهمان ونصف فيقسمان هذا الذي ظهر من تركته على مقدار حقهما أثلاثا فالثلث الذي يستوفيه الطالب رجع به ورثة الكفيل في تركة المكفول عنه فيتبين به بطلان القسمة الأولى .
وإن استأنفوا القسمة على هذا الذي ظهر أيضا يرجع به الطالب فيما يستوفون ويرجعون بما يعطون إليه في تركة المكفول عنه فتنقض القسمة أيضا ولا يزال يدور هكذا إلى ما لا يتناهى وإذا بدأ بالرجوع في تركة المكفول عنه فضرب مع غريمه بالعشرة واقتسما تركته نصفين فإنه يضرب بما بقي من دينه وذلك خمسة في تركة الكفيل مع غريم الكفيل فيقتسمان العشرة أثلاثا فيتبين أن ورثة الكفيل أدوا إلى الطالب ثلاثة وثلثا ويرجعون به في تركة المكفول عنه وتبين بطلان القسمة الأولى .
وكذلك إن استأنفوا القسمة ثانيا وثالثا فكما وصل إليهم شيء يأخذ الطالب من ذلك قدر حصته ويرجع به ورثة الكفيل في تركة المكفول عنه إلى ما لا يتناهى فهذا بيان مواضع إشكال المسألة .
وكان أبو بكر القمي - C - من متقدمي علمائنا - رحمهم الله - من الحساب يقول : هذه المسألة من باب مفتريات الجبر .
ومحمد بن الحسن - C - كان يعرف مفردات الجبر وما كان يعرف مفتريات الجبر أصلا فلهذا ترك بيان هذه المسألة ومعنى كلامه أن هذه الحاجة تقع إلى معرفة القدر الذي يرجع به ورثة الكفيل في تركة المكفول عنه ليضم ذلك إلى ما يضرب به الطالب في تركة المكفول عنه غريمه والعلم بمفردات الجبر لا يهدي إلى ذلك .
فأما أبو الحسن الأهوازي من حساب أصحابنا - رحمهم الله - فكان يقول : إنما تعذر تخريج هذه المسألة لما وقع فيها من جذر الأصم وكانت عائشة - Bها - تقول : ( سبحان من لا يعلم الجذر الأصم إلا هو ) .
وقيل الجذر الأصم مغلق ضل مفتاحه فلا يعرفه أحد من العباد بطريق التحقيق ويرهن بمقالته بمسألة مجتذرة من هذا الجنس وحققها وخرجها وسئل القاضي أبو عاصم الجنوبي في زمانه وكان مقدما في الحساب أن يخرج هذه المسألة فتكلف لذلك مدة وخرجها بالتقريب دون التحقيق .
( والحاصل ) أن من تكلف لذلك من أصحابنا - رحمهم الله - تعذر عليه تخريج المسألة بالتحقيق أصلا وكل ما ذكروه عندي في تصنيف ولكن لم يكن معي شيء من كتبي ولم يجد به خاطري الآن فإن تيسر وصولي إلى كتبي أو جاد به خاطري أي وقت أتيت منه بقدر الممكن - إن شاء الله تعالى - ثم نعيد المسألة في آخر الكتاب بعينها ومن أراد من أصحابنا - رحمهم الله - التخلص من هذه الخصومة يقول الطالب إذا اختار الرجوع على أحدهما ثم ضرب ببقية دينه في تركة الآخر فما سلم لورثة الكفيل لا يرجع فيه الطالب بشيء لأنه بدل ما وصل إلى الطالب ولا يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد ولكن يكون ذلك سالما لغريم الكفيل غير أن هذا من حيث المعنى بعيد فإن ما يأخذون مال الكفيل فكيف يسلم ذلك لأحد غريميه دون الآخر .
ولو كفل بنفس رجل إلى آخر الشهر فإن لم يواف به فهو وكيل في خصومة ما بينهما ولم يبين أي خصومة هي والكفالة بالنفس جائزة ولا يكون وكيلا في الخصومة لأنه إذا لم يبين أنه في أي خصومة وكيله فالوكيل عاجز عن تحصيل مقصود الموكل لأن ما وكله به مجهول جهالة متفاحشة ولم يفوض الأمر إلى رأيه على العموم ولكن فساد الوكالة بالخصومة لا يوجب فساد الكفالة بالنفس لأن أحد الحكمين منفصل عن الآخر فالمفسد في أحدهما لا يتعدى إلى الآخر .
وكفالة الصبي التاجر بإذن أبيه أو بغير إذنه بنفس أو مال باطلة لأنه تبرع ولا يملكه الصبي بغير إذن أبيه ولا بإذنه كالهبة وهذا لأن عقل الصبي إنما يعتبر شرعا فيما ينفعه والتبرع ليس من جنس ما ينفعه عاجلا وإذن الأب له لا يصح فيما لا يملك الأب مباشرته كالطلاق ونحوه ولأن الكفالة إقراض للذمة بالتزام الحق فيها فكان كإقراض المال فلا يملكه الصغير بإذن أبيه ولا بغير إذنه والمعتوه والمبرسم الذي يهذي في ذلك كالصبي .
وكذلك رجل عليه مال أدخل ابنا له غير بالغ معه في الكفالة أو بنفسه فهو باطل لأنه لما كان لا يملك الكفالة عن الغير بإذن الأب فلأن لا يملك عن الأب كان ذلك بطريق الأولى لأنه في حق نفسه منهم بما لا يتهم به في حق غيره ولو أقر بعد بلوغه أنه كفل بنفس أو مال وهو صبي كان باطلا لأن الثابت بالإقرار بعد البلوغ كالثابت معاينة ولو عايناه كفل في صباه لم ينفذ ذلك بعد بلوغه لأنه أضاف الإقرار إلى حال معهودة تنافي تلك الحال الكفالة فكان منكرا للكفالة في الحقيقة لا مقرا بها ولهذا لو ادعى الطالب أنه كفل به بعد بلوغه فالقول قول الصبي مع يمينه .
ولو أقر أنه كفل به وهو مغمى عليه فإن عرف ذلك منه فالقول قوله في ذلك لإضافته الكفالة إلى معهود ينافي كفالته وإن لم يعرف ذلك منه فهو مأخوذ به لإقراره بالالتزام ولو استدان وصي اليتيم دينا في نفقة اليتيم وأمر اليتيم فضمنه أو ضمنه بنفسه فضمان الدين جائز وضمان النفس باطل لأن حاصل الدين على الصبي .
( ألا ترى ) أن الوصي يؤديه من ماله ولو أداه من مال نفسه رجع به عليه فهو بهذا الضمان يلتزم ما عليه بخلاف الكفالة بالنفس فإنه يلتزم بها ما ليس عليه .
توضيحه : أنه لو أمر الصبي بأن يستدين ففعله جاز وكان مطالبا بالمال فكذلك إذا استدان بنفسه وأمره حتى ضمن المال ولا يملك مثله في الكفالة بالنفس بأمره وكذلك الأب إذا استدان على الابن دينا في بعض ما لا بد منه وأمره بالكفالة جاز لأن تصرف الأب عليه أنفذ من تصرف الوصي .
وإن أمره أن يكفل بنفسه لم يجز والتاجر وغير التاجر في ذلك سواء لأن الكفالة ليست من عقود التجارة ولا تجوز الكفالة لصبي لا يعقل ولا لمجنون ولا لمغمى عليه .
وفي رواية حماد - C - أن الكفالة لهؤلاء جائزة في قول أبي يوسف - C - وأصل هذا في الكفالة للغائب وقد بينا أن عند أبي يوسف - C - الكفيل ينفرد بالكفالة فيجوز العقد وإن لم يقبله أحد ولا يجوز عند أبي حنيفة - C - ما لم يقبل قابل وقبول الصبي الذي لا يعقل والمجنون باطل وتجوز الكفالة للصبي التاجر لأنه من أهل القبول وهذا تبرع عليه لا منه أو بمنزلة الإقراض له وذلك صحيح إذا قبله ولو كفل رجل بنفس رجل على أنه يوافي به إلى أجل مسمى فإن لم يواف به إلى ذلك الأجل فهو ضامن لما ذاب عليه فلو مضى الأجل قبل أن يوافيه به فهو ضامن لما ذاب عليه لوجود شرطه ولكن الذوب إنما يتحقق بقضاء القاضي فإنما يلزم الكفيل المال إذا قضى به على المكفول عنه لأنه ضمن مالا بصفة وليس الكفيل بخصم عنه في إقامة البينة عليه بالمال لأن المال ما لم يصر مقضيا به على الأصيل لا يلزم الكفيل منه شيء وما لم يصر كفيلا به لا يكون خصما فيه وإن مات الطالب أو المطلوب قام وارثه أو وصيه في ذلك مقامه .
وكذلك لو كفل بنفسه على أنه ضامن لما قضى عليه أو لما قضى عليه قاضي أهل الكوفة فقضى بذلك غير قاضي أهل الكوفة فهو لازم للكفيل لأنه إنما يراعي من الشروط ما يكون مفيدا والتقييد بصفة أن يكون المال مقضيا به على الأصيل مفيد فأما التقييد بكون القاضي به قاضي أهل الكوفة فغير مفيد لأن المقصود القضاء لا عين القاضي وفي القضاء قاضي الكوفة وغير قاضي الكوفة سواء .
ولو كفل بنفس رجل على أنه ضامن لما قضى به على المكفول به وهو ميت والمكفول وارثه فهو جائز مستقيم لأن المكفول به بعد موت أبيه مطالب بقضاء دينه من تركة أبيه فهو في الحكم كالذي عليه وكذلك وصي الميت يكفل نفس رجل على أنه ضامن لما قضى به على الميت فهو جائز لأنه مطلوب بذلك الدين يقضيه من تركة الميت .
وكذلك الوصي يأخذ من غريم الميت كفيلا بنفسه ضامنا لما قضى به عليه لأنه في ذلك قائم مقام الموصي وكذلك الأب يأخذ من غريم ولده الصغير لأنه قائم في ذلك مقام ولده إن لو كان بالغا .
ولو أن رجلا أخذ غريما بمال لأخيه أو لبعض أهله من غير وكالة من صاحب المال وأخذ كفيلا منه بنفسه ضامنا لما ذاب عليه فرضي بذلك مدعي المال كان جائزا لأن قبول هذا كان موقوفا على إجازة الطالب فإذا أجازه جاز .
ولو فسخ الكفيل الكفالة قبل أن يرضى صاحب المال فهو منها بريء في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - لأن الكفالة عندهما لا تلزم الكفيل إلا برضا الطالب وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف - C - وقد بيناه .
ولو وكل رجلا بأن يأخذ له كفيلا عن غريمه بنفسه ضامنا لما قضى به عليه كان جائزا لأن التوكيل صحيح بما يملك الموكل مباشرته بنفسه .
فإن كفل الكفيل للوكيل فدفعه إليه برئ من الكفالة بنفسه وليس للموكل أن يطالبه بشيء لأنه أتى بما التزمه وهو التسليم إلى الوكيل لأن الوكيل بإضافة العقد إلى نفسه جعل نفسه مباشرا العقد وإليه الاستيفاء والمطالبة .
وإن كفل به للموكل لم يبرأ بدفعه إلى الوكيل لأنه جعل نفسه رسولا ولأن الكفيل التزم التسليم إلى الموكل فلا يبرأ بالتسليم إلى غيره وإن دفعه إلى الموكل برئ في الوجهين لأن في الفصل الأول الوكيل وإن كان هو المباشر للعقد فإنما يطالب بموجبها لمنفعة الموكل فإذا حصل المقصود بالتسليم إلى الموكل برئ الكفيل .
ولو وكل رجل رجلا بأن يعطي فلانا كفيلا بنفس الموكل ضامنا لما ذاب على الموكل فأعطى الوكيل كفيلا بذلك فقضى على الموكل بمال للطالب فإنه يأخذ الكفيل بحكم ضمانه وليس للكفيل أن يأخذ الوكيل بذلك لأنه كان رسولا من الموكل إليه فلا عهدة عليه إلا أن يكون ضمن له شيئا فحينئذ يؤاخذ بضمانه .
( ألا ترى ) لو أن رجلا أمر رجلا أن يضمن رجلا بنفسه وأن يضمن ما ذاب عليه لم يكن على الآمر شيء ولا على المكفول به لأن الآمر أشار عليه بالكفالة من غيره ولم يلتزم له شيئا ولا عهدة على المشير والمكفول عنه لأنه لم يأمره بالكفالة عنه فلا يرجع عليه أيضا وفي الباب الأول يرجع على المكفول به بما أدى من المال لأن أمره وكيله بالكفالة عنه ككفالته بنفسه والكفيل بالأمر إذا طولب طالب ولو لوزم لازم وإذا حبس حبس وإذا أدى رجع .
ونعني بقولنا يطالبه أن يقول اقض حق المطلوب لا تخلص من هذه العهدة ولا يطالبه بأن يدفع إليه شيئا لأنه ما لم يؤد عنه لا يثبت له حق الرجوع فإنه بمنزلة المقرض وبالقرض لا يطالبه بأداء المال وإنما يطالبه بأداء المال بعد إقراض المال منه وذلك إنما يكون عند أدائه فلهذا لا يرجع عليه بالمال ما لم يؤد عنه والله أعلم