( قال ) الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي - C - إملاء : الكفالة مشتقة من الكفل وهو الضم ومنه قوله تعالى : { وكفلها زكريا } ( آل عمران : 37 ) أي ضمها إلى نفسه وقال A : ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ) أي ضام اليتيم إلى نفسه ومنه سميت الخشبة التي تجعل دعامة الحائط كفيلا لضمها إليه فمعنى تسمية العقد بالكفالة أنه يوجب ضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل على وجه التوثيق .
( أحدهما ) : الضم في المطالبة دون أصل الدين بل أصل الدين في ذمة الأصيل على حاله والكفيل يصير مطالبا كالأصيل وكما يجوز أن تنفصل المطالبة عن أصل الدين في حق من له ابتداء حتى تكون المطالبة بالثمن للوكيل بالبيع وأصل الثمن للموكل فكذلك يجوز أن تنفصل المطالبة عن أصل الدين في حق من عليه فتتوجه المطالبة على الكفيل بعد الكفالة وأصل الدين في ذمة الأصيل وكذلك تنفصل المطالبة عن أصل الدين سقوطا بالتأجيل فكذلك التزاما بالكفالة والمطالبة مع أصل الدين بمنزلة ملك التصرف مع ملك الغير فكما يجوز أن ينفصل ملك التصرف عن ملك العين في حق المطالبة وملك اليد عن ملك العين في حق المرتهن فكذلك يجوز أن ينفصل التزام المطالبة بالكفالة عن التزام أصل الدين .
( والطريق الآخر ) : أن تنضم ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في ثبوت أصل الدين لأن الكفالة إقراض للذمة والتزام المطالبة ينبني على التزام أصل الدين وليس ضرورة ثبوت المال في ذمة الكفيل مع بقائه في ذمة الأصيل ما يوجب زيادة حق الطالب لأنه وإن ثبت الدين في ذمتهما فلأن لا يكون إلا من أحدهما كالغاصب مع غاصب الغاصب فإن كل واحد منهما ضامن للقيمة ولا يكون حق المغصوب منه إلا في ذمة واحد لأنه لا يستوفي إلا من أحدهما غير أن هناك اختيار تضمين أحدهما يوجب براءة الآخر لما فيه من التمليك منه وهنا لا يوجب مالا توجد حقيقة الاستيفاء فلهذا ملك مطالبة كل واحد منهما به .
( والحوالة مشتقة من التحول ) ومنه الحوالة في الغرس بالنقل من موضع إلى موضع وموجبه تحول الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه على سبيل التوثق به . والعقدان في الشرع .
( وأما الكفالة ) فلقوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } ( يوسف : 72 ) وما ثبت في شريعة من قبلنا فهو ثابت في شريعتنا ما لم يظهر نسخه الظاهر هنا التقرير فإن النبي - A - بعث والناس يكفلون فأقرهم على ذلك وقال النبي - A - ( الزعيم غارم ) .
والدليل على جواز الحوال قوله A : ( من أحيل على مليء فليتبع ) أي فليتبع من أحيل عليه والكفالة مع جوازها وحصول التوثق بها فالامتناع من مباشرتها أقرب إلى الاحتياط على ما قيل إنه مكتوب في التوراة الزعامة أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها غرامة .
واختلف العلماء - رحمهم الله - في موجب العقدين : .
فعندنا الكفالة لا توجب براءة الأصيل والحوالة توجب .
وعند ابن أبي ليلى - C - الكفالة توجب براءة الأصيل كالحوالة لأنه لا بد من وجوب الدين في ذمة الكفيل ومن ضرورته فراغ ذمة الأصيل منه لأن ما ثبت في محل فما دام باقيا في ذلك المحل فرغ منه سائر المحال ضرورة وإذا ثبت في محل آخر فرغ منه المحل الأول ضرورة لاستحالة أن يكون الشيء الواحد شاغلا لمجلس وقد ثبت الدين في ذمة الكفيل فمن ضرورته براءة ذمة الأصيل .
وعلى قول زفر - C - الحوالة لا توجب براءة الأصيل . كالكفالة لأن المقصود بها التوثق لحق الطالب وذلك في أن تزاد له المطالبة لا أن يسقط ما كان له من المطالبة ولكنا نقول كل واحد من العقدين اختص باسم واختصاص العقد بموجب هو معنى ذلك الاسم كاختصاص الصرف باسم كان كاختصاصه بموجب هو معنى ذلك الاسم وهو صرف ما في يد كل واحد منهما إلى يد صاحبه بالقبض في المجلس .
( والسلم ) اختص باسم لاختصاصه بموجب هو معنى ذلك الاسم وهو تعجيل أحد البدلين في القبض في المجلس وتأخير البدل الآخر بالتأجيل فكذلك هنا معنى الكفالة الضم فيقتضى أن يكون موجب هذا العقد ضم أحد الذمتين إلى الأخرى وذلك لا يكون مع براءة ذمة الأصيل .
( ومعنى الحوالة ) التحويل وذلك لا يتحقق إلا بفراغ ذمة الأصيل .
( ثم الكفالة نوعان ) : كفالة بالنفس وكفالة بالمال وقد بدأ ببيان الكفالة بالنفس لأن ذلك يكون قبل ثبوت المال عادة ومباشرته بين الناس أظهر من مباشرة الكفالة بالمال وافتتح بحديث حبيب الذي كان يقوم على رأس شريح - C - أن شريحا ( حبس ابنه بكفالة بنفس رجل فقال : حتى طلبنا الرجل فوجدناه فدفعناه إلى صاحبه ) وفي الحديث دليل عدل شريح - C - فإنه لم يمل إلى ابنه بل حبسه ولهذا بقي على القضاء نيفا وأربعين سنة وفيه دليل على أن الكفالة بالنفس تصح وأن الكفيل يحبس إذا لم يسلم نفس المطلوب إلى خصمه وأن تسليم الغير بأمر الكفيل كتسليم الكفيل لأنه قال : طلبنا الرجل فأخذناه فدفعناه إلى صحبه .
وجواز الكفالة بالنفس مذهب علمائنا - رحمهم الله - وعليه عمل القضاة من لدن رسول الله - A - إلى يومنا هذا وهو أحد أقاويل الشافعي - C .
وفي القول الآخر يقول هي ضعيفة .
وفي القول الثالث يقول : لا تكون صحيحة لأنه يلتزم ما لا يقدر على تسليمه فيكون كبيع الطير في الهواء .
وبيانه أن المكفول بنفسه رقباني مثله لا ينقاد له لتسليمه خصوصا إذا كفل بغير أمره وكذلك إذا كفل بأمره لأن أمره بالكفالة لا يثبت له عليه ولاية في نفسه لتسليمه كما أن أمره بالكفالة بالمال لا يثبت له عليه ولأنه يؤدي المال من مال المكفول عنه وهو الحرف الثاني له أن هذه الكفالة بشرط أداء المكفول به من ملك المكفول عنه .
ولو كفل بشرط أن يؤديه من مال المكفول عنه لم يصح فكذلك إذا كفل بالنفس .
وحجتنا في ذلك ما روي عن النبي - A - ( أنه كفل رجلا في تهمة ) والتكفيل أخذ الكفيل بالنفس ( وكان بين علي وابن عمرو - Bهما - خصومة فكفلت أم كلثوم - Bها - بنفس علي - Bه - وكفل حمزة ابن عمر والأسلمي في تهمة رجل فاستصوبه عمر - Bه .
وإن ابن مسعود - Bه - لما استناب أصحاب ابن النواحة كفلهم عشائرهم ونفاهم إلى الشام ) .
والمعنى فيه أنه التزم تسليم ما هو مستحق على الأصل فتصح كالكفالة بالمال ومعنى هذا أن تسليم النفس مستحق على الأصيل حقا للمدعي حتى يستوفي عند طلبه فإن القاضي يقطعه عن أشغاله ويحضرة مجلسه عند طلب خصمه وقد ذم الله تعالى قوما على الامتناع عن الحضور بقوله : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } ( النور : 48 ) الآية وإنما يذم الامتناع بما هو مستحق عليه فإذا ثبت أن التسليم مستحق وهو مما تجري فيه النيابة صح التزامه بالكفالة والظاهر أن الإنسان لا يكفل إلا بنفس من يقدر على تسليمه ممن هو تحت يده أو ينقاد له في التسليم خصوصا إذا كفل بأمره فإنه هو الذي أدخله في هذه الورطة فعليه إخراجه بالانقياد له لتسليمه إلى خصمه إلا أنه إذا كان كفل بالمال والديون تقضي بأمثالها وهو موجود في يد الكفيل فلا حاجة إلى إثبات الولاية له في مال الأصيل فيؤمر بالأداء من مال نفسه ثم يؤمر بالرجوع عليه وفي النفس لا يتأتى التسليم إلا بإحضار الأصل فيثبت له عليه ولاية الإحضار للتسليم .
وكذلك إن كان كفل بغير أمره لأنه يتمكن من أن يدعي عليه مالا ليحضره القاضي فيسلمه إلى خصمه ويكون هذا كذبا ولا رخصة في الكذب .
والأصح أن يقول ليس التسليم كله في إحضار الأصل إذا أتى بالطالب إلى الموضع الذي فيه المطلوب فبدفعه يتحقق التسليم مع أن شرط صحة الالتزام كون الملتزم ملتزما ما لا قدرة له على أدائه كالتزام حقوق الله تعالى بالنذر حتى أن من نذر أن يحج ألف حجة يلزمه وإن كان لا يعيش هو ألف سنة ليؤدي فهنا أيضا التسليم يتأتى فيصح التزامه وإن كان الكفيل ربما يعجز عنه .
وعن الشعبي - C - في رجل كفل بنفس رجل فمات المكفول برئ الكفيل وبه نأخذ لمعنيين : .
أحدهما : أن الخصومة وتسليم النفس إلى الخصم الذي سقط عن الأصل بموته وبراءة الأصيل بأي طريق يكون موجب براءة الكفيل .
والثاني : أن محل التسليم فات بموته ولا يتأتى التسليم بدون المحل فكما أن عدم تأتي التسليم يمنع ابتداء الكفالة فكذلك يمنع بقاءها .
ثم ذكر عن أبي حنيفة - C - في الرجل يكفل بنفس الرجل ثم لم يأت به أن يحبس ولا يكون ذلك في أول مرة يتقدم إليه وهذا لأن الحبس نوع عقوبة وإنما تتوجه على الظالم ولا يظهر ظلمه في أول مرة لأنه لم يسرقه أنه لماذا يدعي حتى يأتي بالخصم معه فلهذا لا يحبسه القاضي ولكنه يأمره أن يأتي بالخصم فيسلمه فإذا امتنع حين ذلك مع تمكنه منه حبسه وإذا ارتد المكفول ولحق بدار الحرب لم يبرأ الكفيل لأن لحاقه بدار الحرب كموته حكما في قسمة ماله بين ورثته فأما في حق نفسه فهو مطالب بالتوبة والرجوع وتسليم النفس إلى الخصم فيبقى الكفيل على كفالته وكذلك الإحضار والتسليم يتأتى بعد ردته وعليه تنبني الكفالة إذا علم ذلك لا يحبس الكفيل ولكنه إن كان يتمكن من الدخول في دار الحرب وإحضاره أمهله في ذلك مقدار ما يذهب فيأتي به فإن لم يفعل حبسه حينئذ بمنزلة ما لو كان غائبا في بلدة أخرى .
وإن كان يعلم أن الكفيل لا يتمكن من ذلك أمهله إلى أن يتمكن منه ويحبسه ما لم يمتنع منه بعد تمكنه وهو نظير الكفيل بالمال فإنه إذا كان معسرا عاجزا عن الأداء أمهله القاضي إلى وقت يساره عملا بقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ( البقرة : 280 ) وطريق ثبوت هذا العجز علم القاضي به بإقامة البينة عليه .
ولم يذكر في الكتاب أن في مدة عجزه عن الطالب أن يلزم الكفيل فهو على الاختلاف عندنا له ذلك ولكن لا يمنعه من كسبه وحوائجه وعند إسماعيل بن حماد - رحمهما الله - ليس له ذلك وهو نظير الاختلاف في المديون إذا ثبت عند القاضي عسرته فأخرجه من السجن وسنقرره في موضعه إن شاء الله تعالى .
وإذا حبس المكفول به بدين أو غيره فللطالب أن يأخذ الكفيل بتسليمه لأنه قادر على تسليه بأن يعتقه مما حبس فيه إن كان دينا قضاه عنه أو حقا آخر أوفاه إياه وهذا النوع من التسليم وإن كان يلحقه الضرر فيه فقد رضي بالتزامه حتى قدم على الكفالة .
ومن أصحابنا - رحمهم الله - من يقول : هذا إذا كان محبوسا عند غير هذا القاضي .
فأما إذا كان محبوسا عند هذا القاضي فالسبيل للكفيل أن يقول للقاضي هو في يديك فأخرجه من السجن لأسلمه إلى خصمه حتى يثبت عليه حقه ثم يحبسه بحقهما فالقاضي يحبسه إلى ذلك لأنه طلب منه أن ينظر له وليس فيه ضرر على أحد فيحبسه القاضي إلى ذلك .
وإن مات الكفيل بطلت الكفالة لأن تسليم الكفيل المطلوب بعد موت الكفيل لا يتحقق منه ولا تتوجه المطالبة بالتسليم على ورثته لأنهم لم يكفلوا له بشيء وإنما يخلفونه فيما له لا فيما عليه .
( ألا ترى ) أن من عليه القصاص إذا مات لا يخلفه وارثه فيما عليه وكذلك لا يبقى باعتبار تركته بعد موته لأنه إنما يبقى باعتبار التركة بعد الموت ما يمكن استيفاؤه من التركة والكفالة بالنفس لا يمكن استيفاؤها من المال فلهذا لا يبقى باعتبار التركة وإذا أقر الطالب أنه لا حق له قبل المكفول ثم أراد أخذ الكفيل بتسليم نفسه فله ذلك وإقراره بهذا لا يمنع ابتداء الكفالة فلا يمنع بقاءها بطريق الأولى وهذا لأنه ربما يكون وصيا لميت له عليه حق أو وكيلا في خصومة له قبل ذلك الرجل حق فانتفاء حق نفسه عنه لا يمنع استحقاق التسليم له بهذا الطريق فلهذا كان الكفيل مطالبا بتسليم نفسه وإن لم يقر الطالب بذلك ولكن بقي المكفول به فأخذ منه كفيلا آخر لا يبرأ الكفيل الأول لأنه لا منافاة بين الكفالة الثانية والأولى ومقصود الطالب من هذه الزيادة التوثق بحقه فلا يتضمن براءة الكفيل الأول وكذلك ملاقاة الطالب مع المكفول لا يمنع بقاء الكفالة لأن ذلك كان موجودا عند ابتداء الكفالة ولم يمنع صحة كفالته فلأن لا يمنع بقاءها أولى .
وإذا سلم الكفيل المكفول إلى الطالب برئ منه لأنه أوفاه ما التزمه له فإنه ما التزم التسليم إلا مرة واحدة وقد أتى به وهو كالمطلوب إذا أوفى الطالب ما عليه من الدين ويستوي إن قبله الطالب أو لم يقبله لأن الكفيل يبرأ بإيفاء عين ما التزم فلا يتوقف ذلك على قبول صاحب الحق كالمديون إذا جاء بالدين فوضعه بين يدي الطالب وتضرر من عليه فإنه يمتنع من ذلك إبقاء لحق نفسه والضرر مدفوع بحسب الإمكان وإذا كفل بنفس رجل على أن يوافي به في المسجد الأعظم فدفعه إليه بالكناسة أو في السوق أو في غير ذلك الموضع من المصر برئ لأن التقييد إنما يعتبر إذا كان مفيدا فأما إذا لم يكن مفيدا فلا وتقييد التسليم بالمصر مفيد لأنه إذا سلمه خارج المصر ربما يهرب منه أو لا يتمكن من إحضاره بل يمتنع منه أما في المصر فالتقييد بموضع منه غير مفيد لأنه يتمكن من إحضاره مجلس الحكم في أي موضع من المصر سلمه إليه إما بقوة نفسه وإما بمعاونة الناس إياه فلهذا لا يعتبر تقييده بالمسجد الأعظم .
والمتأخرون من مشايخنا - رحمهم الله - يقولون : هذا الجواب بناء على عادتهم في ذلك الوقت فأما في زماننا إذا شرط التسليم في مجلس القاضي فإنه لا يبرأ بالتسليم إليه في غير ذلك الموضع لأن في زماننا أكثر الناس يعينون المطلوب على الامتناع من الحضور لغلبة أهل الفسق والفساد فتقييد التسليم بمجلس القاضي مفيد وفيه طريقة أخرى : أن نواحي المصر كلها كمكان واحد .
( ألا ترى ) أن في عقد السلم إذا شرط التسلم في مصر كذا جاز وإن لم يبين في أي موضع من المصر يسلمه إليه فإذا جعل الكل لمكان واحد قلما في أي موضع من المصر سلمه إليه . فقد أتى بما التزمه فيبرأ .
وإذا كفل بنفس رجل وهو غائب أو محبوس جاز وهو حائز ضامن لأن تسليمه يتأتى بإحضاره أو إخراجه من السجن . وشرط صحة الكفالة يأبى التسليم .
وإذا طلب رجل إلى رجل أن يكفل بنفس آخر ففعل فإن الكفيل يؤخذ به ولا يرجع على الآمر ولا على المكفول به أما الكفيل فلأنه التزم تسليم ما يتأتى تسليمه فيؤخذ به ولا يرجع عليه فكذلك إذا كفل بنفسه وهو يرجع على الآمر لأنه ما ضمن له شيئا وإنما أشار عليه بمشورة ولم تكن تلك المشورة ملزمة إياه شيئا وإنما اللزوم بالتزامه باختياره فلهذا لا يرجع عليه وإذا كفل بنفسه إلى شهر ثم دفعه إليه قبل الشهر برئ لأن التأجيل إنما كان لحق الكفيل حتى لا يضيق عليه الأمر في المطالبة قبل الشهر فإذا سلمه قبل مضي الشهر فقد أوفى ما عليه وأسقط حق نفسه فهو بمنزلة من عليه دين مؤجل إذا قضاه قبل مضي الأجل برئ ولم يكن للطالب أن يأبى القبول فكذلك هنا لا يكون للمكفول أن يأبى القبول وإذا دفع المكفول به إلى الطالب في السجن وقد حبسه غيره فإن الكفيل لا يبرأ منه لأن المقصود من التسليم أن يتمكن من إحضاره مجلس الحكم ليثبت حقه عليه وذلك لا يتأتى إذا كان محبوسا فهو بمنزلة تسليم الطير في الهواء أو السمك في الماء وكذلك لو دفعه إليه في مفازة أو موضع يستطيع المكفول أن يمتنع من الطالب فإن المقصود بهذا التسليم لا يحصل للطالب فهو نظير المؤجر إذا سلم الدار إلى المستأجر وهناك غاصب يحول بينه وبين السكنى لا يكون هذا التسليم معتبرا .
وإذا دفع إليه في مصر غير المصر الذي كفل به وفيه سلطان أو قاض برئ في قول أبي حنيفة - C .
ولا يبرأ في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - حتى يدفعه إليه في المصر الذي كفل به فيه قيل : هذا اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حكم فأبو حنيفة - C - كان في القرن الثالث وقد شهد رسول الله - A - لأهله بالصدق فكانت الغلبة لأهل الصلاح والقضاة لا يرغبون في الميل بالرشوة وعامل كل مصر ينقاد لأمر الخليفة فلا يقع التفارق بالتسليم إليه في ذلك المصر أو في مصر آخر ثم تغير الحال بعد ذلك في زمن أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فظهر أهل الفساد والميل من القضاة إلى أخذ الرشوة فقالا : يتقيد التسليم بالمصر الذي كفل له فيه دفعا للضرر عن الطالب .
ثم وجه قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - أن مقصود الطالب التسليم في موضع يمكن فيه إثبات حقه عليه بالحجة وربما يكون شهوده على الحق في ذلك المصر الذي كانت فيه الكفالة فإذا سلمه إليه في مصر آخر لا يتمكن من إثبات الحق عليه كما لو سلمه إليه في المفازة .
وأبو حنيفة - C - يقول : سلمه إليه في موضع آمن وغاب فيبرأ مما سلمه إليه في ذلك المصر وهذا لأن المعتبر تمكنه من أن يحضره مجلس القاضي إما ليثبت الحق عليه أو ليأخذ منه كفيلا وهذا قد حصل ثم كما يتوهم أن يكون شهوده في ذلك المصر يتوهم أن يكون شهوده في ذلك المصر فيتقابل الموهومات ويبقى التسليم متحققا من الكفيل على وجه الالتزام فيبرأ به .
وإذا كفل بنفس رجل ثم دفعه إليه وبرئ منه فلزمه الطالب فقال الكفيل دعه وإنما على كفالتي أو على مثل كفالتي أو أنا كفيل به فهو لازم له أتى بلفظ صالح لإنشاء الكفالة به أما قوله أنا على كفالتي أي بعقد إنشائه سوى الأول لأنه لا وجه لتصحيحه إلا هذا ووجه الصحة مقصود كل متكلم عاقل أو معناه فسخنا ذلك الإبراء الحاصل لي بالرد عليك فأنا كفيل به كما قلت .
وإذا كفل بنفس رجل والطالب يدعي قبله مالا عينا أو دينا أو كفالة بنفس أو مال أو وكالة أو وصية فالكفالة صحيحة لأن تسليم النفس بهذه الدعاوي للجواب مستحق على المطلوب .
وكذلك لو كان الطالب يدعي قبل المطلوب قصاصا في النفس أو فيما دونها أو حدا في قذف أو سرقة لأن تسليم النفس للجواب يستحق على المطلوب في هذه الدعاوي فيصح التزامه بعقد الكفالة ومراده من هذا إذا أعطي الكفيل بنفسه طوعا فأما القاضي فلا يأخذه بإعطاء الكفيل بنفس في دعوى القصاص والحد .
ولكن إن أقام المدعي شاهدين مستورين أو شاهدا عدلا وقال لي شاهد آخر حاضر حبسه القاضي على قدر ما يرى استحسانا ولا يجبره على إعطاء الكفيل بالنفس وإن لم يقم شاهدا لم يحبسه ولكنه يمكنه من ملازمته إعطاء الكفيل بالنفس وإن لم يقم شاهدا لم يحبسه ولكنه يمكنه من ملازمته إذا ادعى شهودا حضورا إلى آخر المجلس ليأتي بهم لأنه ينظر لأحد الخصمين على وجه لا يضر بالآخر والمقصود من الكفالة بالنفس التوثق والاحتياط ومبنى الحدود والقصاص الدرء والإسقاط فلهذا لا يجبر على إعطاء الكفيل فيه .
فإن قيل : فقد قلتم بحبسه بعد إقامة شاهد عدل ومعنى الاحتياط في الحبس أكثر منه في أخذ الكفيل .
قلنا : الحبس ليس للاحتياط ولكن لتهمة الدعاوي والفساد فبشهادة الواحد العدل أو شهادة المستورين يصير متهما بذلك فيحبس تعزيرا له وهذا لأن الحبس نوع عقوبة وفي دعوى القصاص والحد عقوبة هي أقوى من الحبس إذا صار متهما به يعاقب بالحبس فأما في المال فأقصى العقوبات إذا ثبت الحبس لا يجوز أن يعاقب به قبل ثبوته وإذا لم يجز حبسه وجب الاحتياط بأخذ الكفيل بنفسه ولكن هذا في دعوى الحد والقصاص بنفسه لو كفل صح بخلاف ما إذا كفل بنفس الحد والقصاص لأن ذلك لا تجري النيابة في إيفائه والكفالة التزام التسليم فإذا حصل بما يمكن استيفاؤه من الكفيل كان باطلا فأما تسليم النفس فتجري فيه النيابة فلهذا صحت الكفالة ولو لم يدع شيئا من ذلك قبله غير أنه كفل له بنفسه فالكفالة جائزة لأن الحضور عند دعواه مستحق عليه .
( ألا ترى ) أنه لو حضر مجلس القاضي وادعى قبله شيئا أحضره مجلسه للجواب والدعوى ليست بسبب الاستحقاق فعرفنا أن الحضور مستحق إذا لم يسبق ما ينفيه فلهذا جازت الكفالة وكان التسليم مستحقا بما التزمه بعقد الكفالة .
( ألا ترى ) أنه لو كفل عنه بمال صحت الكفالة وإن كان الأصيل منكرا للمال وجعل كالثابت في حق الكفيل فإن خاصم الكفيل بالنفس الطالب إلى القاضي وقال إنه لا حق لهذا قبل الذي كفلت به فإن القاضي ينبغي له أن يسأله عن ذلك ولكنه يأخذه بالكفالة لأنه التزم تسليم نفسه فيكون مطالبا به ما لم يظهر ما ينفيه وما ادعاه قبل الطالب من إسقاط حقه عن المطلوب فإنه هو ليس بخصم فيه فلهذا لا يسأل الخصم عنه .
ولكن إن أقر الطالب أنه لا حق له قبل المكفول وأنه ليس بوصي لميت قبله خصومة ولا حق له قبله بوجه من الوجوه فإن الكفيل يبرأ لأن الإقرار بهذه الصفة ينفي استحقاق تسليم النفس للمقر على المطلوب وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل وقد ذكر قبل هذا أنه لا يبرأ .
واختلف الجواب لاختلاف الموضوع فإنه وضع المسألة هناك فيما إذا أقر مطلقا أنه لا حق له قبله وهذا لا يوجب براءة الكفيل لجواز أن يكون الطالب صبيا أو وكيلا وهنا وضع المسألة فيما إذا فسر إقراره بما يبقى استحقاقه لتسليم النفس عنه من كل وجه وكذلك لو جحد الطالب هذه المقالة وشهد عليه بها شاهدان برئ لظهور ما ينفي استحقاق تسليم النفس عن المطلوب والثابت بشهادة العدالة كالثابت بإقرار الخصم أو أقوى منه وقوله : ضمنت وكفلت وهو على أو إلى سراء يصير به كفيلا بالنفس أما الضمان فهو موجب عقد الكفالة لأنه يصير به ضامنا للتسليم والعقد ينعقد بالتصريح بموجبه كعقد البيع ينعقد بلفظ التمليك وكذلك كفلت فإن اسم هذا العقد هو الكفالة والعقد ينعقد بالتصريح باسمه ولفظ القبالة كلفظ الكفالة فإن الكفيل يسمى قبيلا وهو عبارة عن الالتزام ومنه يسمى الصك الذي هو وثيقة قبالة ولفظ الزعامة كذلك قال الله تعالى : { وأنا به زعيم } ( يوسف : 72 ) وقوله وهو على أي أنا ملتزم بتسليمة لأن مبلغ كلمات اللزوم على وإلى وإلى هنا بمعنى على قال A : ( من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلا أو عيالا فإلي ) أو قال ( علي ) معناه أنا ملتزم له وإذا أبرأ الطالب الكفيل من الكفالة برئ منها لأنه أسقط خالص حقه وهو من أهله وألحق بمحل السقوط وكذلك قد برئ إلى صاحبي فهذا إقرار بالتسليم إليه لأنه أقر ببراءته مفتتح بالكفيل مختتم بالطالب وذلك بالتسليم يكون .
( ألا ترى ) أن هذا اللفظ في المال يكون إقرارا بالاستيفاء وذلك لو قال قد دفعه إلي أو قال لا حق لي قبل الكفيل من هذه الكفالة فهو بريء منها لأن النفي على سبيل الإطلاق أبلغ وجوه البراءة وإذا دفع المكفول به نفسه إلى الطالب وقال : دفعت نفسي إليك من كفالة فلان برئ الكفيل وهذا وما لو سلمه الكفيل سواء لأن للكفيل أن يطالبه بالحضور ليسلمه إذا طولب به فهو إنما يبرئ نفسه عن ذلك . بهذا التسليم فلا يكون منتزعا فيه كالمحيل إذا قضي الدين بنفسه وكذلك لو دفعه إليه إنسان من قبل الكفيل من رسول أو وكيل أو كفيل لأنهم قائمون مقامه في التسليم أو لم يقبل والمرأة والرجل والذمي والمستأمن في ذلك سواء .
وإذا كفل ثلاثة رهط بنفس رجل على أن بعضهم كفيل عن بعض كان للطالب أن يأخذ أيهم شاء بنفس الأول وبنفس صاحبه لأن كل واحد منهم التزم تسليم نفس المطلوب يملكه إليه بنفسه وتسليم نفس صاحبه باشتراط كفالة بعضهم عن بعض وكما تصح الكفالة بنفس المطلوب فكذلك تصح الكفالة بتسليم النفس لإبقاء ما التزمه مستحقا عليه فأيهم دفع الأول إلى الطالب برئ لأن تسليم النفس لإبقاء ما التزمه مستحق عليه فأيهم دفع الأول إلى الطالب وأشهد بالبراءة فهو برئ وصاحباه بريئان لأنه في حق صاحبيه هو كفيل بنفسيهما .
وقد بينا أن تسليم كفيل الكفيل كتسليم الكفيل بنفسه فلهذا يبرأون جميعا عن تسليم نفس المطلوب كما لو سلموه جميعا وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل فيبرأ كل واحد منهم عن كفالة صاحبه ولو لم يكن بعضهم كفيلا عن بعض كان للطالب أن يأخذ أيهم شاء بنفس الأول وليس له أن يأخذه بصاحبه لأنه ما التزم تسليمهما بنفسهما وأيهم دفع الأول برئوا جميعا لأنهم التزموا تسليم نفس المطلوب بعقد واحد فكانوا فيه كشخص واحد ولأن المستحق عليهم إحضار واحد فبالعقد الواحد لا يستحق إلا إحضار واحد وقد أتى به أحدهم وهو غير متبرع في ذلك فكأنهم أتوا جميعا به وهذا بخلاف ما إذا كفل كل واحد منهم بنفسه بعقد على حدة ثم سلمه أحدهم برئ هو دون صاحبه لأن هناك كل واحد منهم التزم الإحضار بعقد على حدة فالإحضار المستحق على كل واحد منهم غير ما على صاحبيه وفي الأول التزموا الإحضار بعقد واحد فيكون المستحق عليهم إحضار واحد وقد قال ابن أبي ليلى - C - إذا كفل به الثاني برئ الأول لأن الطالب يصير معرضا عن كفالته حين اشتغل بأخذ كفيل آخر وهذا فاسد فإنه يأخذ الكفيل الثاني بقصد زيادة التوثق فلا يصير مبرئا للكفيل الأول ولا منافاة بين الكفالتين فالمستحق على كل واحد منهما الإحضار ولا يبعد أن يكون إحضار شيء واحد مستحقا على شخصين وإذا كفل رجل بنفس رجل وكفل آخر بنفس الكفيل ثم مات الأول برئ الكفيل لأن الأصل برئ من الحضور فيبرأ الكفيل الأول ببراءة الأصيل والكفيل الأول أصل في حق الكفيل الثاني فيبرأ ببراءته أيضا وإن مات الأوسط برئ الأخير لأن الوسط أصل في حق الآخر وقد برئ بموته وإن مات الأخير فالأوسط على كفالته لأن براءة الكفيل على ما هو سقوط محض لا يوجب براءة الأصيل كما لو برئ الكفيل بالإبراء .
ولو دفع الأول نفسه إلى الطالب برئ الكفيلان لما بينا .
ولو كفل بنفس رجل والطالب غير حاضر فهو باطل في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع وقال : هو جائز .
وكذلك الكفالة بالمال إذا لم يكن الطالب حاضرا وفي موضع آخر من هذا الكتاب يقول : هو موقوف عند أبي يوسف - C - حتى إذا بلغ الطالب فعله جاز وذكر الطحاوي - C - قول محمد مع قول أبي يوسف - رحمهما الله - وهو غلط فإن كان الصلح الصحيح من مذهب أبي يوسف - C - التوقف فهو مبني على بيانه في كتاب النكاح وهو ما إذا قال اشهدوا أني تزوجت فلانة وهي غائبة فكما أن هناك عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - كلام الواحد شطر العقد فلا يتوقف على ما وراء المجلس .
وعند أبي يوسف - C - جعل كلام الواحد كالعقد التام حتى يتوقف على ما وراء المجلس فكذلك هنا لأنه لا ضرر على أحد من هذا التوقف وإن كان الصحيح من قول أبي يوسف - C - أنه جائز في مسألة مبتدأة .
وجه قوله : أن الكفالة التزام من الكفيل من غير أن يكون بمقابلته إلزام على غيره والالتزام يتم بالملتزم وحده كالإقرار وهذا لأنه تصرف منه في ذمته وله ولاية على ذمته ولا يتعدى ضرره إلى الطالب لأنه لا يزداد بالكفالة حق الطالب .
وأبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - قالا : الكفالة تبرع وهو تبرع على الطالب بالالتزام له وإنشاء سبب التبرع لا يتم بالتبرع ما لم يقبله المتبرع عليه كالهبة والصدقة وهذا لأن التزام الحق بإنشاء العقد والعقد لا يتم بالإيجاب بدون القبول ولا يمكن جعل إيجابه قائما مقام قبول الآخر لأنه لا ولاية له عليه فبقي إيجابه شطر العقد وذلك يبطل بالقيام عن المجلس بخلاف الإقرار فإنه إخبار عن واجب سابق والإخبار يتم بالمخبر ثم قد يتعدى ضرر هذا الالتزام إلى الطالب فإن على قول بعض العلماء - رحمهم الله - الكفالة إذا صحت برئ الأصيل فبقي الأمر إلى الطالب ولعل قاضيا يرى ذلك فيحكم ببراءة الأصيل عن حق الطالب وفيه ضرر عليه فلهذا لا تصح الكفالة إلا بقبوله .
وعلى هذا لو خاطب فضولي عن الطالب على قولهما يتوقف على إجازة الطالب وعلى قول أبي يوسف - C - هو جائز قبله الفضولي أو لم يقبله إلا في خصلة واحدة وهي ما إذا قال المريض لورثته أو لبعضهم : اضمنوا علي ديني فضمنوا فهذا لا يجوز في القياس على قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله لأن الطالب غير حاضر فلا يتم الضمان إلا بقبوله ولأن الصحيح لو قال هذا لورثته أو لغيرهم لم يصح إذا ضمنوه فكذلك المريض .
وفي الاستحسان يصح لأن حق الغرماء والورثة يتعلق بتركته بمرضه على أن يتم ذلك بموته وتتوجه المطالبة على الورثة بقضاء ديونهم من التركة فقام المطلوب في هذا الخطاب لورثته مقام الطالب أو نائبة لأنه يقصد به النظر لنفسه حتى يفرغ ذمته بقضاء الدين من تركته فلهذا جوزناه استحسانا بخلاف ما إذا كان صحيحا فإنه لا حق لأحد في ماله ولا مطالبة في شيء من دينه قبل ورثته فلا يقوم هو مقام الطالب في الخطاب لهم بهذا الضمان .
واختلف مشايخنا - رحمهم الله - إذا قال المريض ذلك لأجنبي فضمن الأجنبي دينه بالتماسه .
فمنهم من يقول : لا يجوز لأن الأجنبي غير مطالب بقضاء دينه بدون الالتزام فكان المريض في حقه والصحيح سواء .
ومنهم من يقول : يصح هذا الضمان لأن المريض قصد به النظر لنفسه والأجنبي إذا قضى دينه بأمره يرجع به في تركته فيصح هذا من المريض على أن يجعله قائما مقام الطالب لضيق الحال عليه بمرض الموت ومثل ذلك لا يوجد في الصحيح فأخذنا فيه بالقياس ثم هذا من المريض صحيح وإن لم يسم الدين ولا صاحب الدين لأنه إنما يصح بطريق الوصية منه لورثته بأن يقضوا دينه ووجوب تنفيذ الوصية على الورثة لحق الموصي والجهالة لا تمنع صحة الوصية .
وإذا كفل رجل برأس رجل أو برقبته أو بوجهه أو بجسده أو ببدنه جاز لأن هذا كله يعبر به عن جميع البدن ولهذا صح إيقاع الطلاق . والعتاق به فهذا وكفالته بنفسه سواء .
وكذلك لو كفل بروحه وهكذا ذكره في الكتاب خاصة فإنه يعبر بالروح عن النفس .
وكذلك لو كفل بنصفه أو بجزئه لأن النفس واحدة في الكفالة لا تتجزأ فإن المستحق إحضارها وإحضار بعض النفس لا يتحقق وذكر جزء ما لا يتجزأ كذكر كله .
ولو كفل بيده أو رجله فهذا باطل لأن هذا اللفظ لا يعبر به عن جميع البدن ولهذا لا يصح إيقاع الطلاق والعتاق به فكذلك الكفالة ولو قال : علي أن أوفيك به أو إلي أن أوفيك به فهو كفيل لأن الموافاة به إحضاره للتسليم وذلك موجب الكفالة وقد التزمه بقوله علي أو إلي .
وكذلك لو قال : علي أن أكفلك به يعني على أن أحضره وأسلمه إليك إذا التقينا وذلك موجب الكفالة وكذلك لو قال هو علي حتى تجتمعا أو تلتقيا لأنه التزام إلى غاية وهو اجتماعهما وذلك موجب الكفالة والتصريح بموجب العقد ينعقد به العقد وإن قال أنا ضامن لمعرفته فهو باطل لأن موجب الكفالة التزام التسليم وهو إنما ضمن المعرفة فهذا بمعنى قوله أنا ضامن لأن أدخلك عليه أو أوقفك عليه بخلاف ما لو قال : أنا ضامن بوجهه لأن الوجه إنما يعبر به عن النفس فكأنه قال : أنا ضامن بنفسه ولو قال : أنا ضامن لك أن تجتمعا أو تلتقيا فهو باطل لأن اجتماعهما أو ملاقاتهما فعلهما ولا يكون الإنسان ضامنا لفعل الغير بخلاف قوله هو علي حتى تجتمعا أو تلتقيا لأن قوله هو علي إشارة إلى نفسه فإنه التزم تسليم نفسه إلى هذه الغاية وذلك التزام منه لفعله دون فعل الغير وإذا كفل وصي الميت غريما للميت بنفسه من رجل فدفعه الكفيل إلى ورثة الميت أو غريم من غرمائه لم يجز لأنه التزم تسليم النفس إلى الوصي وبالتسليم إلى غيره لا يكون موفيا ما التزمه والمقصود لا يحصل بالتسليم إلى الغرماء وهم لا يتمكنون من إثبات الدين للميت عليه وكذلك الورثة لأن أيديهم لا تنبسط في التركة عند قيام الدين على الميت وإنما الوصي هو الذي يتمكن من إثبات الدين عليه واستيفائه فلهذا لا يبرأ بالتسليم إلى غيره .
والكفالة جائزة بالنفس فيما بين الأولاد والأزواج والزوجات وفيما بين الأقارب كجوازها بين الأختين بمنزلة سائر العقود من التبرعات والمعاوضات والكفالة بالنفس أو المال إلى الحصاد والدياس أو إلى الجذاذ أو إلى المهرجان أو إلى النيروز جائزه إلى الأجل الذي سمي لأن ما ذكر من الأجل وإن كان فيه نوع جهالة فهي جهالة مستدركة متقاربة فإن الدياس والحصاد يتقدمان الحر وتأخرهما بامتداد البرد فتكون متقاربة ومثل هذه الجهلة لا تمنع صحة الكفالة لأنها مبنية على التوسع .
( ألا ترى ) أن الجهالة في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة مع أنه هو المقصود بها المعقود عليه ففيما ليس بمعقود عليه وهو الأجل أولى وبه فارق البيع فإن الجهالة في المعقود عليه هناك تمنع صحة العقد فكذلك في الأجل المشروط فيه لأنه إذن شرط في نفس العقد .
ولهذا روى ابن سماعة عن محمد - رحمهما الله - أنه إذا أجله في الثمن بعد البيع إلى الحصاد أو إلى الدياس يجوز لأنه إذا لم يكن الأجل مشروطا في العقد لا يصير من العقد ولكن تأثيره في تأخير المطالبة ويجوز تأخير المطالبة إلى هذه كما في الكفالة فإن قيل : ما يقولون فيما إذا تزوج امرأة بصداق مؤجل إلى هذا الأجل فإن الصداق يحتمل الجهالة المتقاربة ثم لا يصح اشتراط هذه الآجال فيه .
قلنا : جواب هذا الفصل غير مذكور في الكتب .
وبين مشايخنا - رحمهم الله - فيه خلاف .
والأصح عندي أنه تثبت هذه الآجال في الصداق لأنه لا شك أن اشتراط هذه الآجال لا يؤثر في أصل النكاح بخلاف البيع فيبقى هذا أجلا في الدين المستحق بالعقد لأن في العقد والمهر تحتمل جهالة الصفة فجهالة الأجل أولى ومن يقول لا يثبت تحول ما هو المعقود عليه في النكاح وهو المرأة لا يحتمل الجهالة فكذلك الأجل المشروط فيه بخلاف الكفالة .
وكذلك لو قال : الكفالة إلى العطاء أو إلى الرزق أو إلى صوم النصارى أو فطرهم فهذا كله جائز بأجل وإن كانت فيه جهالة مستدركة ولو قال إلى أن يقدم المكفول به من سفره لأن قدوم المكفول به من سفره منتشر لتسليم نفسه إلى خصمه والتأجيل إلى أن ينتشر التسليم صحيح بخلاف ما لو قال : إن قدوم فلان غير المكفول به لأن ذلك غير منتشر لتسليم ما التزمه فيكون تعليقا للكفالة بالشرط المحض وذلك باطل كما لو علقه بدخول الدار أو كلام زيد وهذا لأنه إنما يحتمل التعليق ما يجوز إن يحلف به كالطلاق والعتاق .
ويعني بقولنا باطل أن الشرط باطل فأما الكفالة فصحيحة لأن الكفالة لا تبطل بالشروط الفاسدة كالنكاح ونحوه وعلى هذا لو كفل به إلى أن تمطر السماء أو إلى أن يمس السماء فالكفالة جائزة والأجل باطل لأن ما ذكره ليس من الآجال المعروفة بين التجار ولأن الأجل بذكر الزمان في المستقبل ولا يحصل ذلك بهذا اللفظ لجواز أن يتصل هبوب الريح وإمطار السماء بالكفالة فيبقى شرطا فاسدا فلا تبطل به الكفالة .
فأما ما ذكر من الحصاد والدياس فذكر زمان في المستقبل لا بالعلم إذ زمان الدياس ليس زمان الحصاد فيصح ذلك على وجه التأجيل ولو قال : أنا كفيل بنفس هذا إلى قدوم فلان وذلك معه في الدين عليهما جازت الكفالة إلى هذا الأجل لأن اشتراط قدومه لينتشر الأمر عليه يتمكن الطالب من استيفاء الدين منه فكان هذا وما لو شرط قدوم المكفول بنفسه سواء ولو قال رجل لقوم : اشهدوا أني كفيل لفلان بنفس فلان والطالب غائب فقد بينا أن إنشاء الكفالة بهذه الصفة لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وسواء أجازه الطالب أو لم يجزه فإن قال الطالب حين حضر : قد كنت كفلت لي به قبل ذلك وأنا حاضر وإنما كان هذا اللفظ إقرارا منك بالكفالة وقال الكفيل : بل أنشأت الكفالة بهذا اللفظ فلم يصح فالقول قول الطالب لأن صيغة كلامه إقرار ولأنا لو حملنا كلامه على الإقرار كان صحيحا .
ولو حملناه على الإنشاء لم يصح وكلام العاقل مهما أمكن حمله على وجه صحيح يحمل عليه وكان الظاهر شاهدا للطالب من هذا الوجه وإذا كفل رجل بنفس رجل على أنه إن لم يوثق به غدا فهو كفيل بنفس فلان لرجل آخر وللطالب قبله حق فذلك جائز إن لم يواف بالأول كان عليه الثاني .
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله - الآخر فأما على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد - رحمهما الله - فالكفالة بنفس الأول صحيحة وبنفس الثاني باطلة نص على الخلاف بعد هذا في الكفالة بالمال والكفالة بالنفس والكفالة بالمال في هذا سواء وجه قول محمد - C - أن هذه مخاطرة لأنه علق الكفالة بالشرط وتعليقها لا يجوز كما لو قال : إن دخلت الدار فأنا كفيل لك بنفس فلان وهذا بخلاف ما لو كفل بنفسه على أنه إن لم يواف به فعليه المال الذي له عليه لأن القياس هناك أن لا تصح الكفالة الثانية لكونها مخاطرة وكنا استحسنا للتعامل الجاري بين التجار وهذا ليس في معنى ذلك لأن ذلك المال كان سببا للكفالة بالنفس فكان بينهما اتصالا من هذا الوجه فأما الكفالة بنفس عمر وفليست بسبب للكفالة بنفس زيد فلا اتصال بين الكفالتين هنا فوجب اعتبار كل واحدة منهما على حدة والثانية منهما متعلقة بالخطر .
وأبو حنيفة وأبو يوسف - رحمهما الله - قالا : تعليق الكفالة بخطر عدم الموافاة صحيح كما لو قال إن لم أوافك به غدا فعلي مالك عليه وهذا لأن الكفالتين حصلتا لشخص واحد فكان في