( قال C ) ( وإذا وكل الرجل بالخصومة في دار له يقبضها والدار في مصر سوى المصر الذي هو فيه فأراد أن يأخذ كتاب القاضي بالوكالة فذلك جائز ) لأن الوكالة تثبت مع الشهادة فيجوز فيها كتاب القاضي إلى القاضي والقياس يأبى كون كتاب القاضي إلى القاضي حجة لأن القاضي الكاتب لا ولاية له على الخصم الذي هو في غير بلده وكتابه لا يكون حجة عليه ولأن الخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم والكتاب قد يفتعل ولكنا تركنا القياس لحديث علي - Bه - وكرم الله وجهه - فإن فيه كتاب القاضي إلى القاضي ولأن بالناس حاجة ماسة إلى ذلك لأنه قد يتعذر عليه الجمع بين الخصم وبين شهوده في مجلس القضاء وربما لا يعرف عدالة شهوده في المصر الذي فيه الخصم لو شهد على شهادتهم قبيل كتاب القاضي إلى القاضي لينقل شهوده كتابه إلى مجلس قاضي البلد الذي فيه الخصم ويثبت عدالتهم في كتابه فلأجل الحاجة جوزنا ذلك بشرط أن يحتاط فيه ثم بين صفة الكتاب .
فقال : ( ينبغي للقاضي أن يسئله البينة أنه فلان بن فلان الفلاني بعينه وهذا إذا لم يعرفه القاضي باسمه ونسبه فإن كان ذلك معلوما له فعلم القاضي فيه أبلغ من البينة فلا يسأله البينة على ذلك ولكن يذكر في كتابه وقد أثبته معرفة وإذا كان لا يعرف اسمه ويشتبه فلا بد من أن يسأله البينة على ذلك ) لأنه يحتاج في كتابه إلى أن يعرفه عند القاضي المكتوب إليه وتعريف الغائب إنما يكون بالاسم والنسب فما لم يثبت ذلك عنده لا يمكنه أن يعرفه في كتابه وإذا أثبت ذلك الشهود عنده وزكوا كتب له وسماه وينسبه إلى أبيه وقبيلته قالوا : وتمام التعريف أن يذكر اسم أبيه واسم جده .
وإن ذكر قبيلته مع ذلك فهو أبلغ وإن ترك ذلك لم يضره ويذكر في كتابه أنه قد أقام عنده البينة بذلك وزكوا شهوده في السر والعلانية وإن شاء سمى الشهود وإن شاء ترك ذكرهم .
وقال أعرف وجهه واسمه ونسبه لأن تعريفه عند القاضي المكتوب إليه كتاب القاضي لا شهوده عند القاضي الكاتب فيجوز أن يترك ذكرهم ثم يكتب وذكر أن دارا في البصرة في بني فلان ويذكر حدودها له وأنه قد وكل في الخصومة فيها وقبضها فلان بن فلان فإن كان الوكيل حاضرا عند الكاتب جلاه مع ذلك في الكتاب ليكون أبلغ وإن ترك ذلك لم يضره ثم يختم الكتاب ليؤمن بالختم من التغيير والزيادة والنقصان فيه ويشهد على ختمه شاهدين وإذا قدم الوكيل كتابه سأله القاضي البينة على الكتاب والخاتم وما فيه لأنه يوهم أن هذا كتاب القاضي إليه وهو لا يعرف حقيقة ذلك وما غاب عن القاضي علمه فطريق إثباته عنده شهادة شاهدين وعلم الشاهدين بما في الكتاب شرط عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - خلافا لأبي يوسف - C - هي مسألة أدب القاضي ) .
فإن شهدوا بذلك فزكوا سأل الوكيل البينة أنه فلان بن فلان بعينه وهذا إذا كان المكتوب إليه لا يعرف الوكيل باسمه ونسبه فإذا كان يعرفه فلا حاجة إلى إقامة البينة عليه وإن كان لا يعرفه يقول للوكيل قد علمت بهذا الكتاب أن الوكيل فلان بن فلان ولكن لا أدري أنك ذلك الرجل أم لا فيحتاج إلى إقامة البينة على اسمه ونسبه لهذا فإذا أقام البينة وزكوا ادعى بحجة صاحبه في الدار لأنه قائم مقام الموكل ولو حضر الموكل بنفسه طالبه بالحجة على ما يدعي من الحق في الدار فكذلك إذا حضر وكيله .
وإن سأل القاضي الوكيل البينة أن فلان بن فلان بعينه قبل أن يسأله البينة على الكتاب فذلك صواب وأحسن لأنه لا بد في إقامة البينة على الكتاب والخاتم من مدعيه والمدعي من ذكر له أنه وكيل وأنا عرفت عنده بالاسم والنسب فيقيم البينة أولا على اسمه ونسبه حتى إذا ثبت أنه فلان بن فلان سمع دعواه في كتاب القاضي وختمه فهذا الترتيب أحسن والأول جائز أيضا لأنه ليس في أحدهما بدون صاحبه إلزام شيء على الخصم فبأيهما كانت البداءة جاز ولا ينبغي للقاضي أن يفتح كتاب القاضي إلا والخصم معه لأنه مندوب إلى أن يصون نفسه عن أسباب التهمة .
ولو فتح الكتاب بدون حضور الخصم ربما يتهمه الخصم بتغيير شيء منه وإذا قبض الوكيل الدار لم يكن له أن يؤاجرها ولا يرهنها ولا يسكنها أحدا لأنه إنما وكل بالخصومة فيها وبقبضها وهذه التصرفات وراء ذلك فهو فيها كأجنبي آخر وإن ادعى رجل فيها دعوى فهو خصم فيها لأنه وكله بالخصومة فيها ولم يسم في الوكالة أحدا بعينه فإن كان سمى في الوكالة إنسانا لم يكن له أن يخصم غيره لأن التخصيص في الوكالة صحيح إذا كان مقيدا وهذا مقيد إما لأن الموكل رضي بكونه نائبا عنه في الإثبات له على فلان دون الإثبات عليه لغيره أو لأن الناس يتفاوتون في الخصومة فقد يقدر الوكيل على دفع خصومة إنسان ولا يقدر على دفع خصومة غيره لكثرة هدايته في وجوه الحيل والقاضي في التوكيل لنفسه بمنزلة غيره من الرعايا لأنه مالك للتصرف في حقوق نفسه فله أن يوكل غيره بذلك ولا يجوز قضاؤه بين وكيله وبين خصمه لأن قضاءه لوكيله بمنزلة قضائه لنفسه وهو في حق نفسه لا يكون قاضيا لأن القضاء فوق ولاية الشهادة .
وإذا كان المرء في حق نفسه لا يكون شاهدا فكذلك لا يكون قاضيا وكذلك كل من لا تجوز شهادته له من أبيه أو أمه أو زوجته أو ابنه لا يجوز قضاؤه له ولا لوكيله وكل من جازت شهادته له جاز قضاؤه له لأن أقرب الأسباب إلى القضاء الشهادة فإن القضاء يكون بالشهادة والشهادة تصح بالقضاء .
إذا جعل في حكم الشهادة من سميا بمنزلة نفسه فكذلك في حكم القضاء ولو أن رجلا وصى بثلث ماله للقاضي وأوصى إلى رجل آخر لم يجز قضاء القاضي لذلك الميت بشيء من الأشياء لأن له نصيبا فيما يقضي به للميت من المال فكان قاضيا لنفسه من وجه فكما لا يقضي عنده دعوى الوصي فكذلك عند دعوى الوكيل للوصي وكذلك إن كان القاضي أحد ورثة الميت ولم يوص له بشيء لأنه قاض لنفسه من وجه .
وكذلك إن كان الموصى له أو الوارث ابن القاضي أو امرأته لأنه بمنزلة نفسه .
( ألا ترى ) أنه لا يصلح للشهادة فيما يدعي للميت من المال فكذلك لا يصلح للقضاء وكذلك إن كان للقاضي على الميت دين لأنه بهذا القضاء يمهد محل حقه فإنه إذا أثبت بقضائه تركة الميت استبد باستيفائه بدينه فكان قاضيا لنفسه من هذا الوجه .
ولو اختصم رجلان في شيء فوكل أحدهما ابن القاضي أو عبده أو مكاتبه لم يجز قضاء القاضي للوكيل على خصمه لأن حق القبض بقضائه يثبت للوكيل فإذا كان عبده أو ابنه كان بمنزلة القضاء له .
ولو قضى للخصم على الوكيل جاز بمنزلة قضائه على ابنه أو عبده إذ لا تهمة في قضائه على ابنه وإنما التهمة في قضائه له .
( ألا ترى ) أن شهادته على ابنه مقبولة بخلاف شهادته له .
وإذا وكل رجلا بالخصومة ثم ولي الوكيل القضاء لم يجز قضاؤه في ذلك لأنه فيما يدعيه لنفسه لا يكون قاضيا فكذلك فيما هو وكيل فيه لأن حق القبض يثبت له .
فلو أراد أن يجعل مكانه وكيلا آخر لم يجز أيضا لأن الموكل ما رضي بتوكيل غيره ولكنه لو عزل عن القضاء كانت وكالته على حالها لأن نفاذ القضاء لا ينافي الوكالة وإن كان يمنعه من القضاء بها كما لا ينافي أصل حقوقه وإن كان هو ممنوعا من القضاء بها .
( ألا ترى ) أنه لو وكل وهو قاض كان التوكيل صحيحا وكان وكيلا حتى إذا عزل كان وكيلا فإذا كان اقتران القضاء بالوكالة لا يمنع ثبوتها فطريانه لا يرفعها وكان بطريق الأولى وكذلك لو وكل رجل القاضي ببيع أو شراء أو قبض جاز ذلك لأنه يملك البيع والشراء لنفسه فكذلك للغير .
وكذلك لو وكل القاضي بالخصومة فهو على وكالته إذا عزل عن القضاء وإن قال له الموكل ما صنعت من شيء فهو جائز فوكل القاضي وكيلا يخاصم إليه بذلك فالتوكيل صحيح لأن الموكل أجاز صنعه على العموم والتوكيل من صنعه ولكن لا يجوز قضاؤه للوكيل لأنه إذا كان هو الذي وكله فقضاؤه له كقضائه لنفسه من وجه .
( ألا ترى ) أنه لا يصح أن يكون شاهدا فيما يدعيه وكيله .
وكذلك لو كان هذا وكيل ابنه أو بعض من هو ممن لا يجوز شهادته له .
قال : ( وإذا وكل القاضي ببيع عبده وكيلا فباعه فخاصم المشتري الوكيل في عيب لم يجز قضاء القاضي فيه لموكله ) لأنه بمنزلة قضائه لنفسه فإن ما يلحق الوكيل من العهدة يرجع به على الموكل فيندفع عنه أيضا ففي الحقيقة إنما يندفع عن الموكل وإن قضي به على الوكيل جاز لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة القضاء على نفسه ولا تهمة في ذلك فكذلك على ابنه ومن لا يجوز شهادته له ولو وكل القاضي وكيلا يبيع لليتامى شيئا ثم خاصم المشتري في عينه جاز قضاء القاضي للوكيل في ذلك لأن الوكيل هنا نائب عن اليتيم لا عن القاضي حتى إذا لحقته عهدة رجع بها في مال اليتيم فلا يكون القاضي في هذا القضاء دافعا عن نفسه .
وإذا وكل ابن القاضي وكيلا في خصومة فخاصم إلى القاضي ثم مات الموكل لم يجز له أن يقضي للوكيل به لأنه فيما يقضي به له نصيب فيه وإن قضي به قبل موت الموكل جاز لأنه لا حق للوارث قبل موت المورث في ماله ولكن هذا إذا كان الوارث ممن تجوز شهادة القاضي له ولو وكلت امرأة القاضي وكيلا بالخصومة ثم بانت منه وانقضت عدتها فقضي لوكيلها جاز .
وكذلك وكيل مكاتبه إذا عتق المكاتب قبل القضاء والحاصل أن المعتبر وقت القضاء لا وقت التوكيل لأن الإلزام إنما يكون بالقضاء فإذا لم يكن عند ذلك سبب ممكن للتهمة كان القضاء نافذا وإلا فلا .
وإذا كان ابن القاضي وصيا ليتيم لم يجز قضاؤه في أمر اليتيم لأن فيما يقضي به لليتيم حق القبض يثبت للوصي فإذا كان الوصي ابن القاضي كان هذا بمنزلة قضائه لابنه من وجه فلهذا لا يجوز والله أعلم