( قال C ) ( ويجوز من الشهادة في الوكالة ما يجوز في غيرها من حقوق الناس ) لأن الوكالة لا تندرئ بالشبهات إذا وقع فيها الغلط أمكن التدارك والتلافي فتكون بمنزلة سائر الحقوق في الحجة والإثبات أو دونه ولا تفسد باختلاف الشاهدين في الوقت والمكان لأنها كلام يعاد ويكرر ويكون الثاني عين الأول فاختلاف الشاهدين فيه في المكان والزمان لا يكون في المشهود به .
وإن شهدا على الوكالة وزادا أنه كان عزله عنها جازت شهادتهما على الوكالة ولم تجز شهادة أحدهما على العزل عندنا .
وقال زفر - C - : لا يقضى بهذه الشهادة بالوكالة في الحال لأن أحد الشاهدين يزعم أنه ليس بوكيل في الحال فكيف يقضى بالوكالة بهذه الحجة .
ولكنا نقول : العزل يكون إخراجا للوكيل من الوكالة ولا يتبين به أنه لم يكن وكيلا فقد اتفق الشاهدان على الوكالة وبعد ثبوتها تكون باقية إلى أن يظهر العزل فإنما يقضي القاضي ببقاء الوكالة لأن دليل العزل لم يظهر بشهادة الواحد .
وإن شهد أحدهما أنه وكله بخصومة فلان في دار سماها وشهد الآخر أنه وكله بالخصومة فيها وفي شيء آخر جازت الشهادة في الدار التي اجتمعا عليها لأن الوكالة تقبل التخصيص فإنه أنابه وقد ينيب الغير مناب نفسه في شيء دون شيء ففيما اتفق عليه الشاهدان تثبت الوكالة وفيما تفرد به أحدهما لم تثبت وهو قياس ما لو شهد أحد شاهدي الطلاق أنه طلق زينب وشهد الآخر أنه طلقها وعمرة فتطلق زينب خاصة لاتفاق الشاهدين عليها فكذلك هنا .
وإن شهد له شاهدان بالوكالة والوكيل لا يدري أنه وكله أو لم يوكله غير أنه قال أخبرني الشهود أنه وكلني بذلك فأنا أطلبها فهو جائز لأن بخبر الشاهدين يثبت العلم للقاضي بالوكالة حتى يقضي بها فكذلك يثبت العلم للوكيل حتى يطلبها بل أولى لأن دعوى الوكيل غير ملزمة وقضاء القاضي ملزم وهو نظير الوارث إذا أخبره الشاهدان بحق لمورثه على فلان جاز له أن يدعي ذلك ليشهدا له وإن شهدا على وكالته في شيء معروف والوكيل يجحد الوكالة ويقول لم يوكلني فإن كان الوكيل هو الطالب فليس له أن يأخذ بتلك الوكالة لأنه أكذب شهوده حين جحد الوكالة وإكذاب المدعي شهوده يبطل شهادتهم له بخلاف الأول فإنه هناك ما أكذب شهوده بقوله : لا أدري أو وكلي أم لا ولكنه احتاط لنفسه وبين أنه ليس عنده علم اليقين بوكالته وإنما يعتمد خبر الشاهدين إياه بذلك وذلك يوجب العلم من حيث الظاهر .
فإن كان الوكيل هو المطلوب فإن شهدا أنه قبل الوكالة لزمته الوكالة لأن توكيل المطلوب بعد قبول الوكالة مجبر على جواب الخصم دفعا للضرر عن الطالب فإنا لو لم نجبره على ذلك وقد غاب المطلوب تضرر المدعي بتعذر إثبات حقه عليه فإنما شهدا عليه بما هو ملزم إياه فقبلت الشهادة وأن يشهد على قبوله وله أن يقبل وله أن يرد لأن الثابت من التوكيل بالبينة كالثابت بالمعاينة .
ولو عاين توكيل المطلوب إياه كان هو بالخيار إن شاء رد لأن أحدا لا يقدر على أن يلزم غيره شيئا بدون رضاه فذلك هنا ولو لم نجبره على الجواب هنا لا يلحق المدعي ضرر من جهة الوكيل وإنما يلحقه الضرر بترك النظر لنفسه فأما بعد القبول فلو لم يجبره على الجواب تضرر الطالب بمعنى من جهة الوكيل لأنه إنما ترك المطلوب اعتمادا على قبول الوكيل الوكالة .
وتجوز شهادة الذميين على توكيل المسلم مسلما أو ذميا بقبض دينه من مسلم أو ذمي لأن في هذه البينة معنى الإلزام على المسلم فإن الوكالة متى ثبتت استفاد المطلوب البراءة من حقه بدفع الدين إلى الوكيل وكان المقبوض أمانة في يد الوكيل إذا هلك ضاع حق المسلم وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في إلزام شيء على المسلم وإن كان الطالب ذميا والوكيل مسلما والمطلوب ذميا جازت شهادتهما لأن الإلزام في هذه الشهادة على الذمي فإنها تلزم المطلوب دفع المال وهو ذمي ويبرأ بهذا الدفع عن حق الطالب وهو ذمي وشهادة أهل الذمة حجة على الذمي .
وإن كان المطلوب مسلما فإن كان منكرا للوكالة لم تجز شهادتهما لأن فيها إلزام قضاء الدين على المسلم المطلوب فيجبر على دفع المال إلى الوكيل متى ثبتت الوكالة وشهادة أهل الذمة لا تصلح للإلزام على المسلم .
فإن كان المطلوب مقرا بالدين والوكالة جازت شهادتهم لأن معنى الإلزام فيها على الطالب فأما الإلزام على الطالب فقد ثبت بإقراره بالدين والوكالة .
( ألا ترى ) أن هذه البينة وإن لم تقم كان هو مجبرا على دفع المال إلى الوكيل وإنما تثبت بهذه البينة براءته عن حق الطالب بالدفع إلى الوكيل والطالب ذمي وإذا كان المطلوب غائبا فادعى الطالب في داره دعوى ونفاها المطلوب فشهدابنا المطلوب أنه قد وكل هذا الوكيل بخصومته في هذه الدار والوكيل يجحد ذلك فهو باطل لأنهما يشهدان لأبيهما فإنهما يثبتان بشهادتهما نائبا عن أبيهما ليخاصم الطالب ويقيم البينة حجة للدفع فيقرر به ملك أبيهما وشهادة الولد لا تقبل لأبيه .
قال : ( وكذلك لو كان الطالب يجحد الوكالة ) لأن الوكيل إن كان جاحدا للوكالة فليس هنا من بدعيها وبدون الدعوى لا تقبل الشهادة على الوكالة .
وإن كان الوكيل مدعيا للوكالة فالطالب لا يكون مجبرا على الدعوى .
وإن كان هذا الرجل وكيلا كما لا يجبر على الدعوى عند حضرة المطلوب مع أن الابنين نصبا نائبا عن أبيهما ليثبتا حجة الدفع لأبيهما على الطالب .
ولو أن رجلا كان له على رجل مال فغاب الطالب ودفع المطلوب المال إلى رجل ادعى أنه وكيل الطالب في قبضه فقبضه ثم قدم الطالب فجحد ذلك فشهد للمطلوب ابنا الطالب بالوكالة جازت الشهادة لأنهما يشهدان على أبيهما .
فإن هذه الشهادة لو انعدمت كان للطالب أن يرجع في حقه على المطلوب إذا حلف أنه لم يوكل الوكيل وعند قبول هذه الشهادة يبطل حقه في الرجوع على المطلوب ويستفيد المطلوب البراءة بما دفع إلى الوكيل فظهر أنهما يشهدان على أبيهما وشهادة الواحد على والده مقبولة .
ولو وكل رجل رجلا بقبض دين له على رجل وغاب فشهد على ذلك ابنا الطالب والمطلوب يجحد الوكالة لم تجز الشهادة لأنهما ينصبان نائبا عن أبيهما ليطالب المطلوب بالدين ويستوفيه فيتعين به حق أبيهما فكانا شاهدين له وإن أقر بها المطلوب وادعاها أحدهما جازت لأن المطلوب بإقراره بالوكالة صار مجبرا على دفع المال إلى الوكيل بدون هذه الشهادة فهذه الشهادة تقوم على الطالب في إثبات البراءة للمطلوب عن حقه بالدفع إلى الوكيل وشهادة الابنين على أبيهما مقبولة وإن كان في يديه فشهد ابنا الطالب أن أباهما وكل هذا بالخصومة فيها وجحد ذلك المطلوب أو أقر لم تجز الشهادة أما إذا جحد فلما بيناه في الفصل الأول وأما إذا أقر به فلأنه بهذا الإقرار لم يصر مجبرا على الدفع إلى الوكيل ولا على جوابه إن خاصمه .
( ألا ترى ) أن البينة لو لم تقم هنا لم يكن الوكيل مجبرا بشهادتهما على شيء وإن أقر بوكالته فإنما يصير مجبرا بشهادتهما وهو بذلك يصير نائبا لأبيهما ملزما على الغير فلا تقبل شهادتهما فيه .
( وأصل هذه المسألة ) أن من جاء إلى المديون وقال أنا وكيل صاحب الدين في قبض الدين منك فصدقه فإنه يجبر على دفع المال إليه ولو جاء إلى المودع وقال : أنا وكيل صاحب الوديعة في قبض الوديعة منك فصدقه فإنه لا يجبر على الدفع إليه لأن المديون إنما يقضي الدين بملك نفسه فهو بالتصديق يثبت له حق القبض في ملكه وإقراره في ملك نفسه ملزم فأما في الوديعة فهو بالتصديق يقر بحق القبض له في ملك الغير وقوله ليس بملزم في حق الغير وقد روي عن أبي يوسف - C - أن المودع إذا صدق مدعي الوكالة فيها يجبر على دفعها إلى الوكيل لأن بإقرار الوكيل يكون أولى بإمساكها منه واليد حقه فإقراره بها لغيره يكون ملزما ولأنه يقر أنه يصير ضامنا بالامتناع من الدفع إلى الوكيل بعد طلبه وإقراره بسبب الضمان على نفسه مثبت إياه ولا يثبت ذلك الضمان إلا بثبوت الوكالة فأجبر على الدفع إليه ولو كان مسلم في يده دار ادعى ذمي فيها دعوى ووكل وكيلا بشهادة أهل الذمة لم تجز شهادتهم على الوكالة سواء أقر المسلم بالوكالة أو أنكرها أما إذا أنكرها فلأن في هذه الشهادة إلزام الجواب على المسلم عند دعوى الوكيل وأما إذا أقر بها فلأن إقراره بالوكالة لا يلزمه الجواب هنا لما بينا أن إقراره لحق الغير فإنه يلزمه ذلك بشهادة الشهود وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة على المسلم وإن كان ذلك في دين وهو مقر به وبالوكالة أجبرته على دفعه إلى الوكيل لأنه ليس في هذه الشهادة إلزام شيء على المسلم وصار مجبرا بإقراره على دفع الدين إلى الوكيل .
قال : ( وليس هذا كالوكالة بالخصومة يريد به أن بإقرار المطلوب يكون هذا وكيل الطالب بالخصومة ولا يلزمه الجواب ) لأن إقراره يتناول حق الغير فهو بمنزلة إقراره بالوكالة بقبض العين بخلاف إقراره بالوكالة بقبض الدين .
وإذا شهد الشاهدان فشهد أحدهما أن فلانا وكل فلانا بقبض الدين الذي على فلان وشهد الآخر أنه أمره بأخذه منه أو أرسله ليأخذه فإن كان المطلوب مقرا بالدين فله أن يأخذه لأن الشاهدين اتفقا على ثبوت حق القبض له فإن الرسول والمأمور به له حق القبض عند إقرار المطلوب بالدين كالوكيل وإن جحد المطلوب الدين لم يكن هذا خصما له .
أما عندهما فظاهر فإن الوكيل بقبض الدين لا يملك الخصومة عندهما وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمهما الله - أيضا وأما على ظاهر الرواية فالوكيل يملك الخصومة دون الرسول والمأمور بالقبض كالرسول فإنما الشاهد له لحق الخصومة واحد وبشهادة الواحد لا يثبت شيء وإن شهدا جميعا أنه وكله بقبضه فحينئذ يكون خصما في إثبات الدين إذا جحد المطلوب ذلك باتفاق الشاهدين على ما يثبت له حق الخصومة عند أبي حنيفة - C .
ولو وكله بتقاضي دين له بشهود ثم غاب فشهد ابنان للطالب أن أباهما قد عزله عن الوكالة وادعى المطلوب شهادتهما جازت شهادتهما لأنهما يشهدان على أبيهما للمطلوب فإن العزل إذا ثبت لم يكن المطلوب مجبرا على الدفع إلى الوكيل وشهادتهما على أبيهما مقبولة وإن لم ندع شهادتهما أجبر على دفع المال إلى الوكيل لأن الوكالة ظاهرة فجحوده للعزل إقرار بثبوت حق القبض له في ماله وذلك صحيح .
( وبهذه المسألة ) يتبين أن الوكيل بالتقاضي له أن يقبض كالوكيل بالخصومة بخلاف ما ظنه بعض أصحابنا - رحمهم الله - حيث جعلوا الوكيل بالتقاضي حجة لزفر - C - في الخلافية وتكلفوا للفرق بينهما وكذلك شهادة الأجنبيين في هذا فإن جاء الطالب بعد دفع المال فقال : قد كنت أخرجته من الوكالة فأنا أضمن المطلوب لأن دفعه إليه بإقراره فإن كان الشاهد على العزل أمين الطالب لم يكن له أن يضمن المطلوب شيئا لأن شهادتهما الآن لأبيهما على المطلوب فإن أصل الوكالة ثابت وذلك يوجب براءة المطلوب بالدفع إلى الوكيل ما لم يثبت العزل فلهذا لا تقبل الشهادة وإن كان الشاهدان على العزل أجنبيين فقد ثبت العزل بشهادتهما وكان للطالب أن يرجع بماله على المطلوب إذا شهدا أن الوكيل علم بالعزل وإن شهد الابنان قبل قدوم أبيهما أن أباهما قد أخرج هذا من الوكالة ووكل هذا الآخر بقبض المال .
وإن أقر المطلوب بذلك دفعه إلى الآخر لإقراره بثبوت حق القبض له في ملكه لا بشهادة الابنين بالوكالة له وإن جحد دفعه إلى الأول لأن وكالته ثابتة ولم يثبت العزل بشهادتهما حين أنكره المطلوب فكان مجبرا على دفع المال إليه فإن كان الطالب ذميا فشهد مسلمان أنه وكل هذا المسلم بقبض دينه على هذا والمطلوب مقر وشهد الذميان أنه عزله عن الوكالة ووكل هذا الآخر لم يجز على الوكيل الأول لأن حق القبض ثابت له بظهور وكالته وهو مسلم فشهادة الذميين عليه بإبطال حقه لا تكون مقبولة ولو كان الوكيل الأول ذميا جازت عليه لأن شهادة أهل الذمة في إبطال حقه حجة عليه وإذا شهد ابنا الوكيل أن الطالب أخرج أباهما عن الوكالة ووكل هذا الآخر يقبض المال فهو جائز لأنهما يشهدان على أبيهما في إبطال حق القبض الثابت له ويشهد أن للآخر بثبوت حق القبض له وليس بينه وبينهما سبب التهمة .
ولو كان الشاهدان ابني الوكيل لم تجز شهادتهما على الوكالة . لأبيهما لأنهما يشهدان بثبوت حق القبض له ويجوز على إخراج الأول لأنهما يشهدان عليه بالعزل وبطلان حقه في القبض وإذا شهد أنه جعله وكيلا في الخصومة في الدين الذي على فلان وشهد الآخر أنه وكله بقبضه قبلت شهادتهما في قول أبي حنيفة - C - في الخصومة والقبض جميعا .
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - تقبل في القبض إذا أقر المطلوب بالدين ولا تقبل في الخصومة إذا جحد المطلوب الدين .
وفي قول زفر - C - لا تقبل في واحد منهما وهذا بناء على ما سبق أن الوكيل بالخصومة يملك القبض عندنا والوكيل بالقبض يملك الخصومة عند أبي حنيفة - C - فقد اتفق الشاهدان على الحكمين معنى وإنما اختلفا في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهد أحدهما بالتخلي والآخر بالهبة .
وعندهما الوكيل بالقبض لا يملك الخصومة فقد اتفق الشاهدان على ثبوت حق القبض له فأما الشاهد بحق الخصومة لأحدهما فيثبت فيما اتفق عليه دون ما انفرد به أحدهما .
وعن زفر - C - الوكيل بالخصومة لا يملك القبض والوكيل بالقبض لا يملك الخصومة والشاهد أثبت أحد الأمرين ولا تتم الحجة بشهادة الواحد .
وإن شهد أحدهما أنه وكله ببيع هذا العبد وشهد الآخر أنه وكله بالبيع وقال لا تبع حتى تستأمرني فباع الوكيل العبد فهو جائز في القياس وقول الآخر حتى تستأمرني باطل لأنهما اتفقا على الوكالة بالبيع وانفرد أحدهما بزيادة لفظ وهو قوله ( لا تبع حتى تستأمرني ) فكان قياس ما لو شهد أحدهما بالعزل وقد بينا هناك أنه يثبت ما اتفقا عليه من الوكالة ولا يثبت ما نفرد به أحدهما وهو العزل فهذا مثله فقد أشار إلى القياس ولم يذكر الاستحسان وقيل جواب الاستحسان أنه لا يقضي بشيء لأنه في قوله لا تبع حتى تستأمرني يفسد الوكالة فإنما شهد أحدهما بوكالة مطلقة والآخر بوكالة مقيدة والمقيد غير المطلق فلم يثبت واحد منهما بخلاف العزل فإنه رفع للوكالة لا يفسد لها .
ولو قال أحد الشاهدين وكل هذا بالبيع وقال الآخر وكل هذا وهذا لم يكن لهما ولا لأحدهما أن يبيع لأن الشاهد بوكالة الثاني واحد ولا تثبت وكالته بشهادة الواحد والشاهد بثبوت حق التفرد للأول بالبيع واحد وهو الذي شهد بوكالته خاصة فإن الآخر شهد بوكالة الاثنين وليس لأحد الوكيلين أن ينفرد بالبيع فلهذا لم يكن لأحدهما أن يبيع .
فإن قيل : إذا اجتمعا على البيع كان ينبغي أن ينفذ لاتفاق الشاهدين على نفوذه عند مباشرتهما ولا اعتبار بمباشرة الثاني لأنه ليس بوكيل من جهة صاحب العبد فإن الشاهد بوكالته واحد وليس بوكيل من جهة الوكيل الأول فسقط اعتبار مباشرته لنفوذه هذا البيع وكذلك هذا في قبض الدين .
ولو كان هذا في الوكالة بالخصومة كان الذي اجتمعا عليه هو الخصم لأنهما اتفقا على ثبوت حق التفرد له في الخصومة فإن أحد الوكيلين في الخصومة ينفرد بها ولكن إذا قضى له لا يملك القبض لأن أحد الوكيلين لا ينفرد بالقبض فليس على ثبوت حق الفرد له بالقبض إلا شاهد واحد فلهذا لا يقبضه وإن شهد أحدهما أنه قال : أنت وكيلي في قبض هذا الدين وشهد الآخر أنه قال : أنت حسيبي في قبضه كان جائزا لأن كل واحد من اللفظين عبارة عن الوكالة فإن الحسيب نافذ الأمر وذلك يكون بالوكالة وإنما اختلفا في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة .
وكذلك لو شهدا هكذا في الخصومة أو قبض العين .
وإن قال أحدهما أنه قال : أنت وكيلي وقال الآخر أنه قال : أنت وصيي لا تقبل هذه الشهادة لأن الوصية تكون بعد الموت وحكمها مخالف لحكم الوكالة فلم تبق شهادة الشاهدين على شيء واحد إلا أن يشهد أنه قال : أنت وصيي في حياتي فالوصية في الحياة تكون وكالة لأنه أنابه في التصرف حال قيام ولايته وذلك إنما يكون بالوكالة وإنما الاختلاف بين الشاهدين هنا في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة .
وإن شهد أحدهما إنه وكله بالخصومة في هذه الدار إلى قاضي الكوفة وشهد الآخر إنه وكله بالخصومة في هذه الدار إلى قاضي البصرة فهو جائز وهو وكيل بالخصومة لأن المطلوب قضاء القاضي لا عين القاضي وأقضية القضاة لا تختلف بل تكون بصفة واحدة في أي مكان كان قاضيا فقد اتفق الشاهدان على ما هو المقصود وهو الوكالة .
( ألا ترى ) أنه لو وكله بالخصومة عند القاضي فعزل أو مات فاستقضي غيره . كان له أن يخاصم عنده وكذلك لو تحول الخصم إلى بلدة أخرى كان للوكيل أن يخاصم عند قاضيها وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أنه جعله وكيلا بالخصومة إلى فلان الفقيه وقال الآخر إلى فلان الآخر فهذا باطل لأن الفقيه إنما يصير حاكما بتراضيهما وكل واحد منهما يشهد برضا الموكل بحكومة إنسان على حدة فلم يثبت واحد من الأمرين وهذا لأن حكم الحكم بمنزلة الصلح لأنه يعتمد تراضي الخصمين وذلك ليس بمعلوم في نفسه بل يتفاوت بتفاوت عدل الحكم وميله إلى أحدهما ورضاه بالتحكيم إلى إنسان لا يكون رضا بالحكم إلى غيره .
وكذلك إن سمي أحدهما القاضي والآخر الفقيه لأن الشاهد على التوكيل بالخصومة إلى فلان الفقيه لا يملك التحكيم فعرفنا اختلاف المشهود به وإن شهد أحدهما أنه وكله بطلاق فلانة وفلانة وقال الآخر . فلانة وحدها فهو وكيل في طلاق التي اجتمعا عليها لاتفاق الشاهدين على ذلك فأما في طلاق الأخرى فالشاهد بالوكالة واحد ولو شهد أحدهما أنه وكله بقبض هذا الدين وشهد الآخر أنه سلطه على قبضه فالتسليط على القبض توكيل وإنما الاختلاف بين الشاهدين في العبارة وذلك لا يمنع قبول الشهادة وكذلك هذا في كل عقد .
ولو شهد رجلان على وكالة رجل بالخصومة في دار فأثبته القاضي وكيلا فيها ثم رجعا لم أضمنهما لأنهما بالشهادة على الوكالة لم يتلفا على أحد شيئا وإنما نصبا عن الموكل نائبا ليطالب بحقه والشاهد عند الرجوع إنما يضمن ما أتلف بشهادته ثم رجوعهما غير مقبول في حق الوكيل فيضمن القاضي وكالته على حالها .
وإذا ادعى الوكيل دعوى في دار في يدي رجل لموكله فأنكر ذو اليد الوكالة والدعوى فشهد ابنا ذي اليد على الوكالة بالخصومة فهو جائز لأنهما يشهدان عى أبيهما فإنهما يلزمانه الجواب عند دعوى الوكيل وإذا أشهدا رجلين على شهادتهما ثم ارتد الأصليان ثم أسلما لم تجز شهادة الآخرين على شهادتهما لأن شهادتهما عند الآخرين تبطل بارتدادهما بمنزلة شهادتهما عند القاضي فإنهما لو شهدا عند القاضي ثم ارتدا قبل القضاء بطلت شهادتهما فكذلك إذا شهدا عند الفرعيين والحاصل أن بردتهما لا يبطل أصل شهادتهما إنما يبطل أداؤهما لأن سبب أصل الشهادة معا بينهما وذلك لا ينعدم بالردة ولأن اقتران الردة بالتحمل لا يمنع صحة تحمل الشهادة فاعتراضهما لا يمنع البقاء بطريق الأولى فأما اقتران الردة بالأداء فيمنع صحة الأداء فاعتراضهما بعد الأداء قبل حصول المقصود به يكون مبطلا للأداء وإنما يجوز للفرعيين أن يشهدا بأداء الأصليين عندهما وقد بطل ذلك بردتهما .
وإن شهد الأصليان بأنفسهما بعد ما أسلما جازت شهادتهما لبقاء أصل الشهادة لهما بعد الردة .
وكذلك لو شهد على شهادتهما رجلان ثم فسقا لم يجز أداؤهما لأن أداءهما عند الفرعيين بمنزلة أدائهما عند القاضي وفسق الشاهدين عند الأداء يمنع القاضي من العمل بشهادتهما فكذلك فسقهما هنا يمنع الفرعيين من أن يشهدا على شهادتهما ولكن إنما يبطل بفسقهما أداؤهما لا أصل شهادتهما . حتى إذا تابا وأصلحا ثم شهدا بذلك جاز .
وكذلك لو شهدا على شهادتهما بعد التوبة ذلك الشاهدان أو غيرهما جاز فإن شهد الفرعيان على شهادة الفاسقين عند القاضي فردهما لتهمة الأولين لم يقبلها أبدا من الأولين ولا ممن يشهد على شهادتهما لأن الفرعيين نقلا شهادة الأصليين إلى القاضي فكأنهما حضرا بأنفسهما وشهدا والفاسق إذا شهد فرد القاضي شهادته تأبد ذلك الرد ولأن الفسق لا يعدم الأهلية للشهادة فالمردود كان شهادة وقد حكم القاضي ببطلانها فلا يصححها بعد ذلك أبدا وإن كان الأصليان عدلين فرد القاضي الشهادة لفسق الفرعيين ثم حضر الأصليان وشهدا قبل القاضي شهادتهما لأن القاضي إنما أبطل هنا نقل الفرعيين لفسق فيهما وما أبطل المنقول وهو شهادة الأصليين لأن إبطال الفسق المنقول لا يكون إلا بعد ثبوت في مجلسه ولم يثبت ذلك إلا بنقل الفاسق بخلاف الأول فإن النقل هناك قد ثبت بعدالة الفرعيين وإنما أبطل القاضي المنقول وهو شهادة الأصليين فلا يقبلها بعد ذلك .
وكذلك إن شهد شاهدان على شهادة عبدين أو كافرين على مسلم فرد القاضي ذلك ثم عتق العبدان أو أسلم الكافران فشهدا بذلك جاز لأنهما لو شهدا عند القاضي بأنفسهما فرد القاضي شهادتهما ثم أعادا بعد العتق والإسلام قبل ذلك منهما لما أن المردود لم يكن شهادة فإن العبد ليس من أهل الشهادة وكذلك الكافر ليس من أهل الشهادة على المسلم فلم يحكم القاضي ببطلان ما هو شهادة هنا فله أن يقبلها بعد ذلك بخلاف الفاسقين فإذا ثبت هذا الحكم عند أدائهما فكذلك عند أداء الفرعيين ولا تجوز شهادة أهل الحرب بعضهم على بعض في دار الحرب لأن حال الحربي في دار الحرب كحال الأرقاء أو دون ذلك لأنه لا يملك دفع ملك الغير عن نفسه بالاستيلاء فلا شهادة لهم ولا يجوز لقاضي المسلمين أن يعمل بذلك إن كتب به إليه ملكهم إما لأنه ليس بحجة أو لأن ملكهم بمنزلة الواحد منهم فلا يكون كتابه حجة عند القاضي إنما الحجة كتاب القاضي إلى القاضي وملكهم ليس بقاض في حق قاضي المسلمين ولا في دار الإسلام فلهذا لا يلتفت إلى كتابه والله أعلم