( قال - C - ) ( وإذا كتب الرجل ذكر حق على نفسه بشهادة قوم أو كتب وصية ثم قال اشهدوا بهذا لفلان علي ولم يقرأ عليهم الصك ولم يقرأه عليه فهذا جائز إذا كتبه بين أيديهم بيده أو أملاه على إنسان فكتبه ) لأن المكتوب معلوم لهم وهو بقوله اشهدوا بهذا لفلان علي صار مقرا بجميع ما في الكتاب مشهدا لهم على ذلك ولا إظهار أتم من هذا فالإقرار بيان باللسان وذلك بالإملاء حاصل ولكن لا يؤمن النسيان فالكتاب يؤمن من ذلك ما يكون من البيان وإن لم يحضروا كتابته ولا إملاءه لم تجز شهادتهم لأنه لا علم لهم بما في الكتاب حين لم يقرأه عليهم وقال الله تعالى { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ( الزخرف : 86 ) فمن لم يعلم ما شهد عليه لا تجوز شهادته وإن كتب رجل كتابا إلى رجل من فلان إلى فلان أما بعد فإن لك علي من قبل فلان كذا وكذا درهما فذلك جائز عليه إذا كتب ما يكتب الناس في الرسائل وفي القياس لا يجوز هذا لأن الكتاب محتمل قد يكون لتجربة الخط والقرطاس وقد يكون ليعلم كتب الرسالة والمحتمل لا يكون حجة .
ولكنه استحسن للعادة الظاهرة بين الناس أنهم إنما يكتبون كتاب الرسائل بهذه الصفة لإظهار الحق وإعلام ما عليه من الواجب فإذا ترجح هذا الجانب بدليل العرف حمل الكتاب عليه بمنزلة لفظ محتمل يترجح فيه معنى بدليل العرف وإن جحد وشهدت البينة أنه كتبه أو أملاه جاز عليه لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة وكذلك هذا في الطلاق والعتاق وسائر الحقوق ما خلا القصاص والحد فإني آخذ فيها بالقياس لأنها عقوبات تدرأ بالشبهات فاحتمال جهات أخرى سوى ما ترجح بدليل العرف يصير شبهة في ذلك وهو نظير الاستحسان في صحة إقرار الوكيل على موكله في مجلس القاضي أنه لا يجعل حجة في القصاص والحدود أخذا بالقياس لبقاء شبهة عدم الخصومة حقيقة في الإقرار ولكنه يضمن السرقة بهذا الكتاب لأن الضمان يثبت مع الشبهات .
وإن كتب في الأرض أو في صحيفة أو خرقة لفلان علي ألف درهم لم يلزمه شيء لأنه لا عرف في إظهار الحق الواجب بهذا الطريق فيبقى محتملا في نفسه والمحتمل لا يكون حجة بخلاف المكتوب على رسم كتب الرسائل للعرف الظاهر فيه بين الناس .
وقال أبو حنيفة - C - لا أجيز كتاب القاضي حتى يشهد الشهود على ما في جوفه وهو قول محمد - C - لأن المشهود به ما في الكتاب فلا بد أن يكون معلوما للشهود وإن يشهدوا عليه فإذا كتبه بين أيديهم وقال أشهدوا عليه جاز لأنه صار معلوما لهم .
وإن لم يحضروا الكتاب لم يجز شهادتهم حتى يقرأ عليهم فأما عند أبي يوسف - C - إذا أشهدهم على الكتاب والخاتم وشهدوا على ذلك أجيزه وإن لم يعلموا ما فيه استحسانا لأن كتاب القاضي إلى القاضي قد يشتمل على شيء لا يريد أن يقف عليه غيرهم ففي تكليف إعلامهم ما في الكتاب نوع حرج وبالختم يقع الأمن من التغيير والتبديل فلهذا استحسن أبو يوسف - C - قبول ذلك .
غير أنهما قالا كتاب الخصومة لا يشتمل على التبديل لذلك كتاب آخر فلا بد من إعلام الشهود ما في الكتاب .
ولو قرأ رجل على رجل صكا فقال أشهد عليك بما في هذا الكتاب فقال نعم فسمع ذلك آخر وسعه أن يشهد عليه لأن معنى كلامه أشهد على جميع ما قرئ وذلك معلوم للسامع والقاريء جميعا وهذا من المجيب إقرار تام فلمن سمعه أن يشهد عليه سواء أشهده عليه أو لم يشهده .
وقال الشعبي - C - : إذا أشهد الرجل قوما على شهادة فسمع ذلك آخرون فشهدوا فهي شهادة جائزة .
وإذا كتب الرجل ذكر حق لفلان عليه بكذا وعندهم قوم حضور ثم قال اختموا عليه فليست هذه بشهادة لأن قوله اختموا محتمل يجوز أن يكون معناه لا تظهروه فإنه غير واجب على والمحتمل لا يكون حجة فإن الشيء يختم عليه ليكون محفوظا تارة وليكون مكتوما أخرى .
وكذلك لو قالوا أنشهد عليك فقال اختموه ولو قالوا انختم هذا الصك فقال اشهدوا كان جائزا لأن الشهادة لا تكون إلا للاستئمان بالحق والأمن من الجحود فيصير بهذا اللفظ مقرا بوجوب الحق عليه والحاصل أن لفظ الشهادة خاص شرعا لإظهار الحقوق .
( ألا ترى ) أن الشاهد عند القاضي لو أبدل هذه اللفظة بلفظة أخرى لم يقبل القاضي منه شهادته فكذلك الذي يشهد على الكتاب إذا أبدله بلفظ آخر هو محتمل لا يكون إظهارا للحق الواجب عليه ولو كتب رسالة من فلان إلى فلان أما بعد فإنك كتبت إلي إني ضمنت لك عن فلان إلف درهم ولم أضمن لك ألفا وإنما ضمنت لك عنه خمسمائة وعنده رجلان شهدا كتابته ثم مجيء كتابه فشهدا بذلك عليه لزمه .
وإن لم يقل لهما إشهدا ولا اختما فللاستحسان الذي بينا من حيث العرف لا تكتب الرسالة بهذه الصفة إلا للإعلام بالحق الواجب ثم محوه الكتابة بمنزلة الرجوع عن الإقرار ففرق بين هذا وبين الصك فإن هناك ما لم يقل إشهدوا علي بهذا ألا يكون ملزما إياه وهذا فرق مبني على العرف أيضا فإن الصكوك توثيق بالإشهاد عليها عادة ولا يتم إلا بها وكتب الرسائل تخلو عن الإشهاد عليها عادة فلهذا كان مجرد الكتابة بين أيديهم ملزما إياه وإن لم يقل إشهدوا وكذلك الطلاق والعتاق وكل حق يثبت من الشبهات .
ولو كتب هذه الرسالة قدام رجلين أميين لا يقران ولا يكتبان فامسك الكتاب عندهما وشهدا به عليه فهو جائز عند أبي يوسف - C .
أما لو أقرأ الكتاب عندهما وشهدا به عليه فهو جائز عند أبي يوسف - C - بمنزلة ما لو أقرأ الكتاب عند القاضي أنه كتبه إليه قبل أن يفسر القاضي ما فيه وهذا كله بناء على أصل أبي يوسف - C - أن علم الشهود بما في الكتاب ليس بشرط .
وأما عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - فلا يجوز حتى يعلما ما في الكتاب أو يقرآنه عند القاضي مفسرا .
وأصله فيما ذكر كتاب أدب القاضي أن القاضي إذا وجد في خريطته سجلا فيه حكمه وختمه ولم يتذكر الحادثة فليس له أن يقضي به عند أبي حنيفة - C .
وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - له ذلك فمحمد - C - يفرق بين هذا وبين تلك فيقول أصل الحادثة هناك كان معلوما عنده ثم نسيه وقد أمن من التبديل فيه لكونه تحت خاتمه وهنا أصل الحادثة لم يكن معلوما للشاهد وهو أمي لا يعرف الكاتب ولم يسمع الكاتب يخبر فلم يسند علم الشهادة به أصلا .
ولو كتب على نفسه صكا قدام أميين ثم قال إشهدا عليه وهما لا يعلمان ما فيه لم يجز ذلك بالإتفاق لأن الإشهاد على ما ليس بمعلوم للشاهد باطل فذكره كعدمه .
وأبو يوسف - C - يفرق بين هذا وبين الأول فيقول الإشهاد على كتاب الرسالة ليس بشرط فعلم الشاهد بما فيه لا يكون شرطا أيضا والإشهاد على الصك شرط لجواز الشهادة عليه فعلم الشاهد بما فيه يكون شرطا إيضا .
ولو كتب رسالة في تراب لم يجز لما بينا من انعدام الفرق المرجح في هذا إلا أن يقول إشهدا علي بهذا فحينئذ هو جائز لأن بالكتابة في التراب صار معلوما لهم فإذا أشهدهم على معلوم صار كأنه ذكر ذلك بلسانه بين أيديهم .
وكذلك إن كتبه في خرقة أو صحيفة أو لوح بمداد أو بغير مداد إلا أنه يستبين فيه الخط ثم قال إشهدا علي بذلك أو أقر عند القاضي أنه كان كتب لم يلزمه ذلك لأن الكتابة التي لا يستبين فيها الخط كالصوت الذي لا تستبين فيه الحروف وذلك لا يكون إقرارا بشيء فكذلك هنا وهذا لأن الإشهاد إنما يصح على ما يكون معلوما للشهود والكتابة التي لا يستبين فيها الخط لا توجب إعلام شيء لهم ولأن المقصود بالكتاب الحفظ عن النسيان وشيء من هذا المقصود لا يحصل بالكتابة التي لا يستبين فيها الخط فوجوده كعدمه .
ولو كتب في صحيفة حسابه أن لفلان علي ألف درهم وشهد شاهدان حضرا ذلك أو أقر هو عند الحاكم به لم يلزمه إلا أن يقول إشهدوا علي به لأن ما يكتب في صحيفة الحساب محتمل .
وقد بينا اختيار أئمة بلخ - رحمهم الله - فيه فيما سبق .
ولو كتب أن لي على فلان ألف درهم في صك بخطه قدام شاهدين وبمحضر ممن عليه المال وهو كان يعرف ما يكتب ثم قال للشاهدين إشهدا فقال فلان المكتوب عليه نعم فهو جائز وهما في سعة بأن يشهدوا أنه أقر وأشهدهما على نفسه لأن كتابة صاحب الحق صار معلوما كما يصير معلوما كتابة من عليه الحق وتمام الصك بالإشهاد وقد حصل ذلك بقول من عليه الحق نعم لأن معناه نعم فاشهدوا على ذلك .
( ألا ترى ) أن في الإقرار باللسان لا فرق بين أن يتكلم به صاحب الحق فيقول أليس لي عليك كذا فيقول من عليه بلى وبين أن يتكلم به من عليه الحق فكذلك في الكتاب والله أعلم بالصواب