( قال - C - ) ( وإذا أقر الحربى المستأمن في دار الإسلام بدين لمسلم فهو لازم ) لأنه أهل أن يجب عليه الحق للمسلم بالمعاملة فيصح إقراره له وهو سبب حادث فيحال به على أقرب الأوقات وهو ما بعد دخوله دارنا بأمان .
فإن قال أدانني في دار الحرب وقال المسلم في دار الإسلام فالدين لازم عليه سواء قال ذلك موصولا بإقراره أو مفصولا لأنه يدعي تاريخا سابقا لما أقر به من المال وهو غير مصدق في دعوى التاريخ وإن وصل كلامه ولأن بهذا الإضافة لا ينكر وجوب أصل المال فإن المدينة في دار الحرب سبب لوجوب المال للمسلم عليه ولكن لا تسمع الخصومة فيه في دار الإسلام ما لم يسلم أو يصير ذميا فيصير هذا بمنزلة دعوى الأجل وإن ادعاه موصولا بإقراره .
وكذلك لو أقر بذلك لمستأمن مثله أو لذمي وكذلك لو أقر بشيء بعينه في يديه أنه له وإقرار المستأمن بالنكاح والطلاق والعتاق والولد والجراحات وحد القذق والإجارة والكفالة وما أشبه ذلك جائز لأن في هذا كله حق العباد والمستأمن ملتزم لذلك مدة مقامه في دارنا حتى إذا باشر سبب ذلك كان مؤاخذا به فكذلك إذا أقر به .
ولو أقر بحد زنا أو سرقة فقد عرف أن قول أبي حنيفة - C - ومحمد - C - الحدود التي هي لله تعالى لا تقام على المستأمن وإن ثبت سببها بالبينة أو بالمعاينة وكذلك إذا أقر به .
وعند أبي يوسف - C - في القول الآخر تقام الحدود عليه كما تقام على الذمي فيصح إقراره بها كما يصح إقرار الذمي وهي مسألة كتاب الحدود والفرق بين هذا الحد وحد القذف معروف أن فيه حق العبد ويضمن السرقة إذا أقر بها لأن الضمان من حقوق العباد ولو أقر مسلم لذمي بخمر أو خنزير في يده جاز إقراره لأن الخمر مال في حق الذمي فيؤمر بردها عليه بحكم إقراره وكذلك لو أقر الذمي للمسلم بعينها لأن الخمر للمسلم مملوكة وإن لم تكن مالا متقوما فيؤمر الذمي بردها عليه بإقراره ويؤمر المسلم أن يخللها .
ولو أقر له بخمر أو خنزير مستهلك لم يلزمه شيء كما لو عايناه استهلك الخمر والخنزير على المسلم وهو نظير ما لو أقر له بجلد شاة ميتة يؤمر بدفعه إليه لينتفع به وإن كان مستهلكا لم يلزمه شيء .
وإن أقر بها الذمي يعني بخمر أو خنزير مستهلك لزمه قيمتها لأنها مال متقوم في حقه يضمن متلفها عليه عندنا .
وإذا أسلم الذمي فأقر ذمي أنه استهلك له خنزيرا بعد إسلامه فهو ضامن لقيمته في قول أبي حنيفة أبي يوسف - رحمهما الله - وفي قول محمد - C - لا ضمان عليه وهذا بناء على ما سبق إذا قال لحربى أسلم أتلفت مالك أو قطعت يدك حين كنت حربيا وقد بينا هذا الخلاف فهذا قياسه .
وعلى هذا لو أن ذميا أقر بخمر وقال استهلكتها وأنا حربي وقد علم كونه حربيا من قبل فهو على الخلاف الذي بينا .
وإقرار المرتد بالحقوق جائز إن أسلم وإن قتل على ردته أو لحق بدار الحرب لم يجز إقراره في كسب إسلامه ويجوز إقراره فيما اكتسبه بعد الردة في قول أبي حنيفة - C - وإقرار المرتدة بذلك كله جائز .
وعندهما إقرارهما جائز في ذلك إلا أن عند أبي يوسف - C - هو بمنزلة إقرار الصحيح .
وعند محمد - C - هو بمنزلة إقرار المريض وهذا نظير اختلافهم في تصرفات المرتد فإن الإقرار تصرف منه كسائر التصرفات وهو مسألة كتاب السير ولو أقر المرتد بمكابتة عبد له أو بعتقه في حال الإسلام لم يجز في قول أبي حنيفة - C - إن قتل أو لحق بدار الحرب ويجوز عندهما إلا أن محمدا - C - يقول هو بمنزلة إقرار المريض وإذا أقرت المرتدة أو المرتد بحد في قذف أو سرقة أو زنا أو جراحة عمد فيها قصاص فذلك جائز عندهم لأن الحجر بسبب الزيادة لا يكون أقوى من الحجر بسبب الرق ولأن توقف تصرفه في المال عند أبي حنيفة - C - لتوقف ملكه وذلك غير موجود في العقوبات فأما ما كان من الجراحات التي توجب المال إقراره بها يوقف عند أبي حنيفة - C - ويكون نافذا عندهما على ما بينا وذكر حديث القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه ( أن عبدا أتى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - فأقر بالسرقة مرتين فأمر به فقطعه قال عبدالله وكأني أنظر إلى يده معلقة في عنقه ) وفيه دليل على صحة إقرار العبد بالأسباب الموجبة للعقوبة وبه يستدل أبو يوسف - C - في اشتراط التكرار في الإقرار إلا أن أبا حنيفة ومحمد - رحمهما الله - قالا في الحديث أقر مرتين فقطعه وليس فيه لو لم يكرر إقراره لم يقطعه والسكوت لا يكون حجة وذكر عن أبي مالك الأشجعي - C - قال ( أني عبد قد رأيته علي بن أبي طالب - Bه - فأقر عنده بالزنا فأمر به قنبرا وقال أضربه فإذا قال أتركني فاتركه فلما وفاه خمسين جلدة قال له العبد اتركني فتركه ) وهو دليل على إقرار صحة العبد بالحد على نفسه ولقوله فإذا قال اتركني فاتركه تأويلان : .
أحدهما : إنه إذا رجع عن إقراره فاقبل ذلك منه .
والثاني : أنه علم فقه العبد في أنه لا يقول له أتركني إلا بعد أن يتم عليه حد العبيد وقد ظهر ذلك حين قال له أتركني بعد خمسين جلدة وإذا أقر العبد المحجور بدم عمد وله وليان فعفا أحدهما لم يكن للآخر مال في عتقه لأن صحة إقراره يكون موجبا للعقوبة عليه وكون دمه خالص بحقه فإذا آل الأمر إلى أن يكون الواجب مالا بطل إقراره لأن ماليته حق مولاه وكان هو بمنزلة إقراره بالقتل الخطأ ولو أقر بسرقة لا يجب في مثلها القطع كان إقراره باطلا لأن كسبه ومالية رقبته حق لمولاه فلا يصدق في إقراره وإقراره بالمال بهذا السبب صحيح كإقراره بالغصب وإقرار الصبي المحجور عليه والمعتوه وامغمى عليه والنائم باطل بمنزلة سائر تصرفاتهم وإقرار السكران جائز كإقرار الصاحي بمنزلة سائر التصرفات ينفذ من السكران كما ينفذ من الصحيح ويستوي في ذلك إقراره بالمال أو بالحد أو بما يصح الرجوع عنه أو بما لا يصح إذا لم يرجع عنه لأن السكر عبارة عن غلبة السرور فلا يؤثر في عقله شيئا فينفذ إقراره كما ينفذ ممن هو صاح وكذلك الأصم والأعمى والمقعد والمفلوج فهذه الآفات لا تؤثر في عقله ولا في لسانه فهو في أقاريره كالصاحي وإقرار الأخرس إذا كان يكتب ويعقل جائز في القصاص وحقوق الناس لأن له إشارة مفهومة تنفذ تصرفاته بتلك الإشارة ويحتاج إلى المعاملة مع الناس فيصح إقراره بحقوق العباد ما خلا الحدود فإن الإقرار بها يستدعي التصريح بلفظ الزنا والسرقة وبإشارته إذ هو لا يقدر على إظهار كل شيء بإشارته لا يحصل هذا ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلعل في نفسه شبهة لا يتمكن من إظهارها بإشارته ولهذا لا تقام عليه الحدود بالبينة أيضا لأنا لو أقمناها كان إقامة للحد مع الشبهة ولا يجوز إقرار الأب على ابنه الصغير أو الكبير المعتوه بشيء من مال أو جناية لأنه شهادة منه على غيره وشهادة الواحد على غيره لا تكون ملزمة ولأن ولاية الأب على ولده مقيدة بشرط النظر في المصلحة له عاجلا وذلك لا يحصل بإقراره عليه وكان هو في الإقرار عليه كأجنبي آخر والله أعلم