( قال - C - ) ( وإذا أقر الرجل أنه لا حق له قبل فلان فهو جائز عليه ) لأنه أخرج الإقرار مخرج العموم وإجراؤه على العموم ممكن لجواز أن ينفي حقوقه عن فلان من كل وجه وأمكن العمل بموجب هذا الكلام من غير بيان من المقر بخلاف قوله جميع ما في يدي لفلان فإن العمل بموجب ذلك الكلام غير ممكن إلا ببيان المقر ولا يمكن إجراؤه الكلام هناك على العموم لأن زوجته وولده في يده ولا يكون ذلك للمقر له بهذا وجب الرجوع إلى بيانه هناك ثم يدخل في هذا اللفظ كل عين أو دين وكل كفالة أو جناية أو إجارة أو حد لأن قوله - A - يتناول ذلك كله وقد بيناه فيما سبق فكل هذا حق مالا كان أو غير مال وإن قال هو بريء مما لي عليه فهو مثل ذلك أيضا غير أنه لا تدخل الأمانة في هذا اللفظ كالوديعة والعارية لأن كلمة علي خاص لما هو واجب في الذمة فلا تدخل فيه الأمانة إذ لا وجوب في ذمة الأمين وإن قال هو بريء مما لي عنده فإنما يدخل في هذا اللفظ الأمانة خاصة فأما الغصوب والودائع التي خالف فيها فقد صار ضمانها مستحقا في ذمته بمنزلة الديون فلا يدخل في هذا اللفظ .
وإن قال هو بريء مما لي قبله بريء من الأمانة والغصوب جميعا وإن ادعى الطالب بعد ذلك حقا لم تقبل بينته عليه حتى يشهد شهوده بعد البراءة أو يوقتوا وقتا بعدها لأنه بهذا اللفظ استفاد البراءة على العموم ولا يسمع منه بعد ذلك الدعوى إلا أن يعلم خروج ما ادعاه العامة فإن العمل بالعام واجب حتى يقوم دليل الخصوص .
ولو أقر أن فلانا قد برئ من حقه قبله ثم قال أنا بريء من كل حق له علي فإن لفظ الجنس يعم جميع ذلك الجنس بمنزلة اللفظ العام وكذلك لو قال هو بريء من الدين الذي لي قبله أو مما لي قبله أو من ديني عليه أو من حقي عليه ولكن يدخل في البراءة من الحقوق الكفالة والجناية التي فيها قود أو أرش لأن ذلك من حقوقه ولو أقر أنه لا حق له قبل فلان ثم ادعى قبله حد قذف أو سرقة لم تقبل بينته على ذلك إلا أن يشهد الشهود أنه فعل ذلك بعد البراءة وهو ودعوى الدين عليه سواء .
( ولو قال أنه قد بريء من قذفه إياى ثم طالبه به بعد ذلك كان له ) لأن هذا بمنزلة العفو ومعناه أنه بريء من موجب قذفه إياى فإن البراءة عن عين القذف لا تتحقق وموجب القذف عندنا لا يسقط بالعفو بخلاف الأول فإنه نفي حقه من الأصل فكان منكرا للسبب في حد القذف لا مسقطا للحد ولو قال ما قذفني لم تسمع منه دعوى القذف بعد ذلك مطلقا فكذلك إذا قال لا حق لي قبله ولو قال هو بريء من السرقة التي ادعيتها لم يكن عليه ضمان ولا قطع لأن دعوى السرقة حق المسروق منه وهو مما يسقط بإسقاطه .
( ألا ترى ) أنه لو وهب المسروق من السارق سقطت خصومته وبدون خصومته لا تظهر السرقة في حق المال ولا في حق القطع ولو قال لست من فلان في شيء ثم أقام البينة على مال له عليه قبل هذا القول قبلت بينته وهذا القول باطل لأنه ما تعرض في كلامه للحق الذي عليه وإنما تعرض لنفسه والحق الذي عليه غير نفسه فلا يصير مذكورا بذكر نفسه .
وكذلك لو قال برئت من فلان أو قال أنا بريء من فلان لم يكن هذا القول براءة من حق لواحد منهما قبل صاحبه لأنه أضاف البراءة إلى نفسه دون الحق الذي عليه فلا يصير الحق مذكورا به .
( ألا ترى ) أن البراءة من نفس الغير تكون إظهارا للعداوة معه والبراءة من الحق الذي عليه إظهار للمحبة .
( ولو قال لست من هذه الدار التي في يد فلان في شيء ثم ادعى بعد ذلك حقا فيها لم تقبل دعواه ) لأنه أخرج نفسه من الدار على العموم وإتصاله بالدار من حيث ملكه أو حق له فيه فإخراجه نفسه منها على العموم يكون إقرارا بأنه لا حق له فيها ولا ملك بخلاف قوله لست من فلان في شيء فإن إتصاله من فلان من حيث المحبة والتناصر فإنما يكون هذا الكلام إقرارا منه بأنه لا محبة بينهما ولا تناصر .
وعلى هذا لو قال أنا بريء من هذه الدار كان هذا إقرارا منه بأنه لا حق له فيها لأن تبرؤه عن العين يكون إقرارا بانقطاع سبب إتصاله به وذلك بالملك أو الحق ولو قال خرجت من هذه الدار لم يكن إقرارا بشيء لأنه أخبر بفعله بالخروج من الدار ولو عاين ذلك لم يكن موجبا انتفاء حقه عنها فكذلك إذا قال خرجت منها .
( وإن قال قد خرجت منها على مائة درهم أو بمائة درهم وقبضتها كان إقرارا بأنه لا حق له فيها ) لأن الخروج بعوض لا يكون إخبارا بعين الفعل بل يكون إخبارا بإزالة ملكه عنها بعوض بطريق البيع أو بطريق الصلح فيكون إقرارا بأنه لا حق له فيها وعلى هذا الحيوان والعروض والدين .
فإن أنكر ذو اليد ذلك وقال هو لي وقد أخذت مائة درهم غصبا حلف على ذلك لأنه قد أقر بأخذ المائة منه وادعى لأخذه شيئا وهو الصلح فإذا أنكر صاحبه السبب كان القول قوله مع اليمين ويسترد المائة إذا حلف ويكون المقر على خصومته لأن ما أقر به من الصلح قد بطل بإنكار صاحبه واسترداده بدل الصلح وإذا قال الطالب قد برئت من ديني على فلان أو هو في حل مما لي عليه كانت هذه براءة للمطلوب لأنه أضاف البراءة إلى الحق الواجب على المطلوب فيكون مسقطا له .
وكذلك لو قال وهبت الذي لي عليه له فهو بريء من ذلك لأن هبة الدين ممن عليه يكون إسقاطا فإنه ليس بعين قابل للتمليك مقصود ولكنه محتمل للإسقاط فتصير الهبة فيه عبارة عن الإسقاط مجازا كهبة المرأة من نفسها يكون طلاقا وهبة العبد من نفسه يكون إعتاقا وهبة القصاص ممن هو عليه يكون عفوا .
فإن كان فلان حاضرا فلم يقبل الهبة أو كان غائبا فبلغه فقال لا أقبل فالمال عليه كما لو أبرأه فرد الإبراء وهذا لأن إبراء من عليه الدين وإن كان إسقاطا ففيه معنى التملك لأنه يجوز أن يملك ما في ذمته ويسقط عنه كما يكون عند قضاء الدين أو الشراء بالدين فلما كان فيه معنى التمليك احتمل الإرتداد برده ولكونه إسقاطا لا يتوقف على قبوله حتى لو مات قبل أن يرده فهو بريء لأن البراءة حصلت له بنفس الإسقاط على احتمال أن يعود برده فإذا مات قبل أن يرده تم الإسقاط بموته .
وكذلك لو قال هو في حل مما لي عليه فهذا اللفظ يستعمل في الإبراء عرفا فهو وقوله هو بريء مما لي عليه سواء ولو قال ليس لي مع فلان شيء لم يكن هذا إبراء من الدين وكان براءة من كل أمانة بمنزلة قوله ليس عند فلان لأن كلمة مع للضم وكلمة عند للقرب وذلك يتحقق في الأعيان دون الديون .
وإذا أقر الطالب أن فلانا قد برئ إليه مما له عليه فهذا إقرار بالقبض لأنه أقر ببراءته بفعل من المطلوب متصل بالطالب حين وصله بنفسه بحرف إلى وذلك إنما يكون بإيفاء الدين فإن ابتداءه من المطلوب وتمامه من الطالب بقبضه وإذا أقر أنه لا قصاص له قبل فلان فله أن يدعي الخطأ والحد لأن القصاص أسم خاص لعقوبة هي عوض حق العباد واجب بطريق المماثلة فلا يدخل فيه الخطأ والحد لأن موجب الخطأ والحد مال ومعظم الحق في الحد لله تعالى .
وإذا أقر أنه لا جراحة له خطأ قبل فلان فله أن يدعي العمد إن كان فيه قصاص أو لم يكن لأن الخطأ صفة للفعل لا لموجبه والعمد ضده فلا يكون نفيه بصفة نفيا منه فعلا بضد تلك الصفة فإن ما ليس بمعين يختلف باختلاف وصفه ولو أقر أنه لا جراحة له قبل فلان فليس له أن يدعي جراحة عمدا ولا خطأ لأنه نفى الفعل مطلقا فلا يتقيد بأحد الوصفين إذ المقيد غير المطلق ونفي الفعل نفي لموجبه ضرورة وله أن يدعي الدم لأن الجرح أسم خاص لما دون النفس فلا يتناول النفس لأن الفعل في النفس إزهاق الحياة وفيما دونها إماتة لجزء ما هو دونها في الجرح ولا مغايرة أو بين من مغايرة محل الفعل .
وإن أقر أنه لا حد له قبل فلان فادعى سرقة يجب فيها القطع فهو على دعواه لأنه إنما نفى حدا هو حقه وحد السرقة خالص حق الله تعالى حتى لا يعمل فيه الرجوع عن الإقرار ولا يعتبر خصومة المسروق منه في القطع وإنما حقه في دعوى المال وهو ما نفى ذلك بإقراره .
وإن أقر أنه لا دم له قبل فلان فليس له أن يدعي دما خطأ ولا عمدا لأنه نفي بإقراره الدم مطلقا وقد بينا أن نفي السبب نفي لموجبه والدية في الخطأ موجب الدم كالقصاص في العمد وله أن يدعي ما دون الدم والدم في عرف اللسان عبارة عن النفس خاصة وليس من ضرورة نفي النفس نفي ما دونها ولو أقر أنه لا إرش له قبل فلان لم يكن له أن يدعي دية خطأ ولا صلحا عن دم عمد ولا عن كفالة بدية نفس ولا عن قبل شيء من الجراحة لأن أسم الإرش يعم ذلك كله سواء كان ذلك واجبا بنفس الفعل أو بالصلح على الأصل أو على الكفيل بكفالته به فإقراره بنفي الإرش يتناول ذلك كله والله أعلم