( قال - C - ) ( وإذا أقر الرجل أنه اقتضى من رجل ألف درهم كانت له عليه وقبضها فقال فلان أخذت مني هذا المال ولم يكن لك علي شيء فرده علي فإنه يجبر على أن يرد المال بعد أن يحلف أنه ما كان له عليه شيء ) وروى أبو يوسف - C - عن ابن أبي ليلى - C - أنه لا شيء على المقر ووجهه أنه ما أقر بشيء على نفسه لغيره وإنما أقر بوصول حقه إليه وذلك غير ملزم إياه شيئا .
وكنا نقول الإقتضاء عبارة عن قبض مال مضمون من ملك الغير لأن المقتضي يستوفى من مال المديون مثل ماله عليه فيصير قصاصا بدينه والقبض المضمون من ملك الغير سبب لوجوب الضمان عليه وقد أقر به ثم ادعى لنفسه دينا على صاحبه ولا يثبت الدين له على صاحبه بدعواه ولكن يتوجه اليمين فإذا حان لزمه رد المقبوض .
وكذلك لو أقر أنه قبض من فلان ألف درهم كانت وديعة له عنده أو هبة وهبها له فقال بل هي مالي قبضته مني فعليه أن يرده لإقراره بقبض المال من يد الغير وعلى اليد ما أخذت حتى ترد ولم يثبت ما ادعى من الحق فيه لنفسه فعليه أن يرده .
( ولو قال أسكنت بيتى فلانا هذا ثم أخرجته منه ودفعه إلى وادعى الساكن أنه له فالقول قول صاحب البيت استحسانا وعلى الساكن البينة وقول أبي حنيفة - C - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - القول قول الساكن ) وهو القياس ووجهه : هو أن الإقرار بوصول البيت إلى يده كان من جهة الساكن وادعى لنفسه فيه ملكا قديما ولم يثبت ما ادعاه فعليه رد ما أقر بقبضه كما في الفصل .
ولأبي حنيفة - C - طريقان : .
أحدهما : أنه ما أقر للساكن بيد أصلية في البيت إنما أخبر بأن يده كانت بناء عن يده لأن يد الساكن تبنى على المسكن والحكم لليد الأصلية لا لما هو بناء فلم يصر مقرا بما يوجب الاستحقاق له بخلاف مسألة الإقتضاء لأنه هنا أقر بيد أصلية كانت فيما استوفاه منه وبخلاف مسألة الوديعة لأنه هناك أقر بفعل نفسه وهو قبضه المال من فلان وذلك إقرار بيد أصلية كانت لفلان في هذا المال فبعد ذلك هو في قوله كانت لي عنده وديعة أراد أن يجعل يده بناء بعد ما أقر أنها كانت أصلية فلا يقبل قوله في ذلك .
ولأن الإعارة بين الناس معروفة وفي القول بالقياس هنا قطع هذه المنفعة عن الناس لأن المعير يتحرز عن الإعارة للسكنى إذا عرف أنه لا يعمل بقوله عند الاسترداد فترك القياس فيه لتوفير هذه المنفعة على الناس وعلى هذا الخلاف لو قال هذه الدابة أعرتها فلانا ثم قبضتها منه هذا الثوب لي أعرته فلانا ثم قبضتها منه .
أم هذا الثوب لي أعرفه فلانا ثن قبضته منه وإذا أقر الرجل أن فلانا الخياط خاط قميصه هذا بنصف درهم وقبض منه القميص وقال الخياط هو قميص أعرتكه فالقول فيه كالقول في الأولى وكذلك الثوب أسلم إلى الصباغ .
وإن قال رب الثوب خاط لي الخياط قميصي هذا بنصف درهم ولم يقل قبضته منه ففي قولهم جميعا لا يرجع على الخياط أما عند أبي حنيفة - C - فظاهر وأما عندهما فلأنه لم يقر بيد الخياط هنا في الثوب لأنه قد يخيط الثوب وهو في يد صاحبه بأن كان أجيرا وجد في بيته يعمل له بخلاف الأول فإن هناك قد أقر بالقبض منه وذلك إقرار بكونه في يده .
ولو كان الثوب معروفا أنه للمقر أو الدابة أو الدار فقال أعرته فلانا وقبضته منه كان القول قوله لأنه الملك فيه معروف للمقر فلا يكون مجرد اليد فيه لغيره سبب الاستحقاق عليه .
وقد قال في الباب المتقدم إذا أقر الخياط أن الثوب الذي في يده لفلان أسلمه إليه فلان ليخيطه فهو للذي أقر له أول مرة ولا يضمن للثاني مثله وهذا دليل لأبي حنيفة - C - في الخلافيات لإقراره أن يد الذي أسلمه إليه بناء لا ابتداء .
ولكن مشايخنا - رحمهما الله قالوا هو على الخلاف أيضا بناء على مسألة الإسكان أو مسألة أخرى وهو أن الأجير المشترك عند أبي حنيفة - C - مؤتمن فلا يصير ضامنا بمجرد إقراره للأول وعندهما الأجير المشترك ضامن فيضمن الثوب الذي أسلمه إليه إذا لم يرده عليه .
وهكذا ذكره ابن سماعة عن أبي يوسف - رحمهما الله - وذكر أيضا فيما إذا قال هذا المال لفلان أرسل به إلي مع فلان وديعة أن المال للأول ولا ضمان على المقر للرسول عند أبي حنيفة - C - لأنه إنما أقر له بيد هي بناء وذلك غير موجب للاستحقاق عنده بخلاف الدين وهو ما إذا قال لفلان علي ألف درهم أرسل بها إلي مع فلان لأن محل الدين الذمة وفي سعة فيكون مقرا بوجوب المال عليه للثاني لما أقر أن وصوله إلى يده من جهته .
وفي كتاب الإقرار أورد المسألة في موضعين : قال في أحدهما : لا شيء عليه للدافع وهو الأشبه بقول أبي حنيفة - C .
وفي الثاني : قال عليه مثله للدافع وهو الأشبه بقول أبي يوسف ومحمد - C - وقد بينا بعضه في الباب المتقدم .
وإذا أقر الرجل أن فلانا سكن هذا البيت فادعى فلان البيت فإنه يقضي به للساكن على المقر لأن السكنى تثبت اليد للساكن على المسكن وإقراره باليد للغير حجة عليه وما يثبت بإقراره كالمعاين في حقه .
وهذا بخلاف ما لو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذا الكرم أو البستان وذلك كله في يد المقر فقال كله لي واستعنت بك ففعلت ذلك أو فعلته بأجر وقال الآخر بل هو ملكي فالقول قول المقر لأن يده للحال ظاهرة ولم يقر أنه كان في يد غيره من قبل لأن فعل الزراعة والبناء والغرس لا يوجب اليد للفاعل في المفعول وقد يفعله المعين والأجير والمعين في يد صاحبه فهذا وقوله خاط لي القميص سواء ثم ذكر الخلاف الذي بينا فيما إذا قال لمعتقه أخذت منك مالا قبل العتق أو قطعت يدك قبل العتق وإنما أعادها لفروع فقال وكذلك لو باعه أو وهبه وسلمه ثم أقر أنه قطع يده قبل البيع والهبة وقال المشتري والموهوب له بل فعلته بعد البيع والهبة لأن البيع والهبة والتسليم يثبت الحق فيه للمتملك كما أن العتق يثبت الحق للمعتق في نفسه وأطرافه فيكون الخلاف في الفصلين واحدا .
( ولو قال قطعت يده ثم بعته أو وهبته فالقول قوله ) لأنه ما أقر بالفعل الموجب للضمان على نفسه فإنه أقر بالقطع قبل ظهور بيعه لأن ظهور البيع بإقراره وقد أقر بالقطع سابقا على الإقرار بالبيع فلهذا كان القول قوله إلا أن يقيم البينة على هبته أو بيعه قبل إقراره بهذا فيكون على الإختلاف المتقدم لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أعتق أمة ثم قال أخذت منك هذا الولد قبل العتق وقالت بل أخذته مني بعد العتق فإنه يرده عليها وهو حر لأن الولد قائم بعينه وقد بينا في المال القائم إذا أقر أنه أخذه قبل العتق يصدق وعليه رده في أنه أخذه قبل العتق فعليه رده عليها والقول في حريته قولها ولو لم يقل أخذته منك ولكنه قال أعتقتك بعدما ولدتيه وقالت بل اعتقتني قبل أن ألده فإن كان الولد في يد المولى فالقول قوله لأنه أقر بيد فيه لها من قبل ولادتها ولأنها تدعي سبق تاريخ في العتق حين ادعت أنه كان قبل الولادة والمولى ينكر ذلك والعتق فعل حادث من المولى فالقول قوله في إنكاره سبق التاريخ فيه ولأن عتقها ظهر في الحال والولد منفصل عنها وعتقها غير موجب العتق للمولد المنفصل وإن كان الولد في يدها فالقول قولها لأن يدها توجب الاستحقاق لها في الحال وقد أقرت بالحرية للولد فوجب الحكم بحريته .
( ولو أن رجلا أعتق عبدا فأقر رجل أنه أخذ منه ألفا وهو عبد وقال العبد أخذتها مني بعد العتق فالقول قوله ) لأن القابض يدعي سبق تاريخ في قبضه والتاريخ لا يثبت بمجرد قوله لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان عليه للعبد وهو أخذه منه وشهد عليه أن المال لغيره وهو المولى فلا تقبل شهادته ويبقى المال مستحقا عليه للعبد وكذلك لو كاتبه مولاه لأن الكتابة توجب استحقاق الكسب للمكاتب واعتبار يده فيه لحقه كالعتق .
وكذلك لو باعه ثم أقر رجل أنه غصب منه مائة درهم وهو عند مولاه الأول وقال المشتري بل غصبته وهو عندي فالمال للآخر لأن المشتري هو المستحق لكسبه بعد الشراء كما أن العبد هو المستحق لكسبه بعد الكتابة فكما لا يصدق المقر هناك وفيما يدعي من سبق التاريخ فكذلك هنا .
( ولو أقر بأنه فقأ عين فلان عمدا ثم ذهبت عين الفاقئ بعد ذلك وقال المفقوء عينه بل فقأت عيني وعينك ذاهبة فالقول قول المفقوء عينه ) لأنهما تصادقا على وجوب الضمان على الجاني فإن كانت عينه قائمة وقت الفقء فالواجب قصاص وهو فيها واجب باعتبار المماثلة وإن كانت عينه ذاهبة فالواجب الأرش فعرفنا أنهما تصادقا على وجوب الضمان وادعى الفاقئ ما يسقطه بفوات المحل بعد الوجوب فلا يقبل قوله في ذلك ولأنه يدعي تاريخا سابقا في الفقء والتاريخ لا يثبت إلا بحجة .
( ولو أن عبدا أعتق ثم أقر أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ وهو عبد وقال ذلك الرجل قتلته بعد العتق فليس على العبد في هذا شيء ) لأنه ما أقر على نفسه بوجوب الضمان فإن جنايته قبل العتق لاتوجب عليه الضمان في الحال ولا بعد العتق إنما هو على مولاه في الحال يخاطب بالدفع أوالفداء وإن أعتقه وهو يعلم بالجناية يصير مختارا للفداء وإن كان يعلم فعليه القيمة فعرفنا أنه إنما أقر به على الغير فلا يلزمه شيء .
وأذا أقر أحد المتفاوضين أنه كفل عن صاحبه بمهر أو نفقة زوجته أو جنايته لزمه ولزم صاحبه أيضا في قول أبي حنيفة - رحمة الله - وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - يلزمه ولا يلزم صاحبه لأنه إنما أقر بوجوب المال على صاحبه بطريق غير التجارة ولا قول له على صاحبه في الإقرار بالمال لا بطريق التجارة لأن فيما يجب لا بطريق التجارة كل واحد منهما أجنبي عن صاحبه يبقى إقراره على نفسه بوجوب المال بطريق الكفالة وقد بينا في ما سبق أن كفالة أحد المتفاوضين أو إقراره بالكفالة يلزم شريكه عند أبي حنيفة - C - ولا يلزم عندهما فهذا بناء على ذلك .
ولو أقر أحدهما أن على صاحبه دينا قبل الشركة لفلان فأنكره صاحبه والطالب ادعى أن هذا الدين كان في الشركة لزمهما جميعا المال لأن الإقرار بمطلق الدين ينصرف إلى جهة التجارة ولهذا لو أقر أحدهما بدين مطلق يلزم شريكه وفيما هو واجب بطريق التجارة وإقرار أحد المتفاوضين على نفسه وعلى شريكه سواء .
ولو أقر به على نفسه وزعم أنه كان قبل الشركة لا يصدق في الإسناد إذا أكذبه الطالب فكذلك إذا أقر به عن صاحبه وإذا لم يصدق في الإسناد لزم المقر المال بإقراره ولزم شريكه بالكفالة عنه لأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يلزمه من المال ولو أقر أن ذلك عليه دون شريكه قبل الشركة وادعى الطالب أنه عليه من الشركة فالمال عليهما لما بينا أنه غير مصدق في الإسناد وإن تصادقا أن الدين كان قبل الشركة لم يؤخذ واحد منهما بدين صاحبه لأن حكم الكفالة بينهما إنما يثبت بالمفاوضة فيكون ثابتا فيما يجب بعد المفاوضة لا فيما كان واجبا قبلها .
وإذا أقر أحدهما أن لفلان عليه ألف درهم وقال الآخر لا بل لفلان لزمهما جميعا المال لأن المقر لو كان هو الذي قال لفلان لزمهما جميعا ولا أثر لاختلاف المقر لهما .
فكذلك إذا قال ذلك صاحبه لأن قول كل واحد منهما يلزم صاحبه وهما بعد المفاوضة كشخص واحد في أسباب التزام المال بالتجارة وإذا مات أحدهما أو تفرقا ثم أقر أحدهما بدين عليهما في الشركة لزمه خاصة لأنه في الإسناد غير مصدق في حق صاحبه فيبقى ملتزما المال في الحال وليس بينهما سبب يوجب كفالة صاحبه عنه فيما يلزمه من المال في الحال فلهذا كان المال عليه خاصة وعلى صاحبه اليمين أن ادعاه الطالب وإن ادعى رجل عليهما مالا ولم يكن له بينة فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف لزمهما جميعا المال لأن نكوله عن اليمين كإقراره وبأن حلف أحدهما لا يسقط اليمين عن الآخر بخلاف ما إذا كانت الدعوى لهما على إنسان فاستحلف أحدهما المطلوب فحلف لم يكن للآخر أن يستحلفه لأن النيابة في الاستحلاف تجزئ وفي الحلف لا تجزئ فلا يمكن أن يجعل الحالف منهما نائبا عن صاحبه في اليمين ولأنه بعد ما حلف أحدهما كان استحلاف الآخر مفيدا لأن الناس يتفاوتون في التحرز عن اليمين الكاذبة أما بعد ما استحلف أحدهما المطلوب كان استحلاف الآخر إياه غير مفيد لعلمنا أنه يحلف لا محالة .
( ولو أقر أحد المتفاوضين لأبنه أو لامرأته أو لمكاتبه بدين لم يصدق في قول أبي حنيفة - C - على شريكه ) لأنه متهم في حق هؤلاء فيما يوجب لهم على الغير وعند أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - يصدق على ذلك إلا في المكاتب وهو بناء على الخلاف المعروف في الوكيل بالبيع يبيع من أحد هؤلاء والله أعلم