قال - C تعالى - ( وإذا أقر أنه قبض من بيت فلان مائة درهم ثم قال هي لي أو قال هي لفلان آخر تلزمه لصاحب البيت ) لأن ما في بيت فلان في يده فإن أصل البيت في يده ويده الثابتة علي مكان تكون ثابتة على ما فيه .
( ألا تري ) أنه لو نازعه انسان في شيء من متاع بيته أو في زوجته وهي في بيته كان القول قوله باعتبار يده ويترجح بالبينة في الزوجة فإقراره بالقبض من بيته وهي بمنزلة الإقرار بالقبض من يده فعليه أن يرده مالم يثبت لنفسه حقا بالبينة ولا قول له فيما أقربه لغيره بعد أن صار مستحقا لصاحب البيت فإن زعم أنه لآخر وأنه قبضه منه ضمن له مثله لأن إقراره صحيح وقبضه مال الغير موجب للضمان عليه مالم يرده بمنزلة قوله غصبته منه أو أخذته .
وقال الشافعي - C تعالى - إقراره بالقبض من الغير لا يكون موجبا للضمان بخلاف إقراره بالأخذ والغصب لأن لفظ الأخذ يطلق على قبض بغير حق ولفظ القبض يطلق على قبض بحق كقبض المبيع ونحوه وهذا ليس بصحيح فإن لفظ الأخذ قد يطلق على ما يكون بحق قال الله تعالى { فخذهابقوة } ( الأعراف : 145 ) وقال الله تعالى { فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } ( الأعراف : 144 ) ومع ذلك كان الإقرار به موجبا للضمان عليه فكذلك في الفظة القبض .
وكذلك لو قبضت من صندوق فلان ألف درهم أو من كيس فلان أو من سفط فلان ثوبا أو من قرية فلان كر حنطة أو من نخل فلان كر تمر أو من زرع فلان كر حنطة فهذاكله إقرار بالقبض من يده أو جعل المقبوض جزءا من ملكه فيكون مقرا بالملك .
وكذلك لو قال قبضت من أرض فلان عدل زطي فإنه يقضي بالزطي لصاحب الأرض لأن ما في أرضه في يده ثم المقر بما بين يدعي لنفسه يدا في أرضه ولم يعرف سبب ذلك فلا يثبت بمجرد دعواه وإذا لم يثبت ما ادعى بقي إقراره بالقبض من يده فعليه رده وعلى هذا لو قال أخذت من دار فلان مائة درهم ثم قال كنت فيها ساكنا أو كانت معي بإجارة لم يصدق لأنه مدع فيما ذكره من سبب ثبوت يده في الدار فلا يصدق في ذلك إلا بحجة فإن ذلك إلا جاء بالبينة أنها كانت في يده بإجازة وأنه نزل أرض فلان أبرأته من ذلك لأنه أثبت سبب ثبوت يده في المكان بالحجة ولأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة فلو علم كون الدار في يده بإجارة أو كونه نازلا في أرض وعايناه أنه أخلاها متاعا كان ذلك القول قوله في أن هذا ملكه فكذلك إذا أثبت بالبينة دارا في يد رجل فأقر أنها لفلان إلا بيتا معلوما فإنه لي فهو على ما قال لأن الكلام إذا قرن به الاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثني فكأنه قال هذا الدار ما سوى هذا البيت من الدار لفلان وهذا لأن اسم الدار يتناول ما فيها من البيوت والمستثنى إذا كان مما يتناوله لفظه كان استثناء صحيحا لأن عمل الاستثناء في إخراج ما يتناوله لولاه لكان الكلام متناولا له وكذلك لو قال إلا ثلثها لي أو قال إلاتسعة أعشارها لما بينا أن الاستثناء صحيح إذا كان يبقى بعد المسثني شيء قل ذلك أو كثر .
( ولو قال الدار لفلان وهذا البيت لي كانت كلها لفلان ) لأن قوله وهذا البيت لي دعوى وليس باستثناء فان الواو للعطف ولا يعطف المستثنى علي المستثنى منه فصار جميع الدار مستحقا للمقر له بإقراره وكان المقر مدعيا بيتا في دار غيره فلا يصدق إلا بحجة وكذلك لو قال الدار لفلان ولكن هذا البيت لى أو قال الدار لفلان وبناؤها لي أو الأرض لفلان ونخلها لي أو النخل بأصولها لفلان والثمرة لي لا يصدق في شيء من ذلك إلا بحجة لأن البناء تبع للأصل والنخل تبع للأرض والثمر يملك بملك الأصل فكان هو في آخر كلامه مدعيا لنفسه شيئا من ملك الغير فلا يستحقه إلا بحجة .
( ولو قال هذه الدار لفلان إلا بناؤها فإنه لي لم يصدق أيضا على البناء ) والبناء تابع وليس هذا باستثناء ومعنى هذا الكلام أن اسم الدار لا يتناول البناء مفصولا فإن اسم الدار لما أدير عليه الحائط من البقعة والبناء يدخل فيه تبعا والاستثناء إنما يكون مما تناوله الكلام نصا لأنه اخراج ما لولاه لكان الكلام متناولا له فإن الاستثناء يصرف في جميع الكلام يجعله عبارة عما وراء المستثنى فما لم يتناوله الكلام نصا لا يتحقق فيه عمل الاستثناء فهذا معني قوله وليس هذا باستثناء وهذا لأن المعني الذي لأجله كان يدخل البناء لولا هذا الاستثناء لا ينعدم بهذا الاستثناء فإن معنى كونه تبعا للأصل أن هذه التبعية قائمة بعد الاستثناء .
وعلى قول الشافعي - C تعالى - هذا الاستثناء صحيح بناء على أصله في أن عمل الاستثناء في منع ثبوت الحكم في المستثنى فدليل المعارضة بمنزلة التخصيص في العموم وهذا يتحقق فيما يدخل في الحكم تبعا كما يتحقق فيما يتناوله اللفظ قصدا وبيانه يأتي في باب الاستثناء إن شاء الله تعالى .
وعلى هذا لوقال هذا البستان لفلان إلا نخلة بغير أصلها فإنها لي أو قال هذه الحلية لفلان إلا بطانتها فإنها لي أو قال هذا السيف لفلان إلا حليته فإنها لي أو هذا الخاتم لفلان إلا فصه فإنه لي هذه الحلقة لفلان إلافصها فإنه لي ففي هذا كله مستثنى لم يتناوله الكلام نصا وإنما كان دخوله تبعا فلا يعمل استثناؤه وإن كان موصولا بل هو والدعوى المبتدأة سواء فلا يستحقه إلا بحجة .
( ولو قال هذه الدار لفلان ثم قال بعد ذلك لا بل لفلان فهي للأول وليس للآخر شيء ) لأنه رجع عن الإقرار به للأول وأقام الثاني مقامه في الإقرار ورجوعه عن الإقرار باطل وكذلك لو قال الدار لفلان ثم قال بعد ذلك له ولفلان أو لي ولفلان فالدار كلها للأول ورجوعه عن بعض ما أقربه للأول باطل كما في جميعه وإن قال ابتداء أنها لفلان ولفلان فوصل المنطق فهو بينهما نصفين لأنه عطف الثاني على الأول والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في الخبر وفي آخر كلامه ما يغاير موجب أوله فيتوقف أوله على آخره وصار كقوله هي لهما .
فإن وصل ذلك فقال لفلان الثلثان ولفلان الثلث فهو كما قال لأن مقتضي أول كلامه المناصفة بينهما على احتمال التفاوت فكان آخر كلامه بيانا مغايرا وذلك صحيح منه موصولا وإذا ولدت الجارية في يد رجل ثم قال الجارية لفلان والولد لي فهو كما قال لأنه لو سكت عن ذكر الولد لم يستحقه المقر فكذلك إذا نص المقر على أن الولد له بخلاف ماسبق من البناء وهذا لان الولد بعد الانفصال ليس تبعا للأم بخلاف النخل والبناء فإنه تبع للأرض ثم فرق بين الإقرار والبينة بأنه لو أقام رجل البينة أن الجارية له به استحق ولدها معها والفرق أن الاستحقاق بالبينة يوجب الملك للمستحق من الأصل .
( ألا تري ) أن الباعة يرجع بعضهم على البعض باليمين فيتبين أن الولد انفصل من ملكه فكان مملوكا له فأما الاستحقاق بالإقرار فلا يوجب الملك للمقر له من الأصل حتى لا يرجع الباعة بعضهم على بعض باليمين ولكن استحقاق الملك له مقصور على الحال ولهذا جعل الإقرار كالإيجاب في بعض الأحكام فلا يتبين به انفصال الولد من الولد ملكه فلهذا لا يستحقه وللشافعي - C تعالى - في الفصلين قولان في قول يستحق الولد فيهما وفي قول لا يستحق الولد فيهما وعلى القولين لا يفصل بين البينة والإقرار وعلى هذا ولد سائر الحيوانات والثمار المجدودة من الأشجار .
ولو كان في يده صندوق فيه متاع فقال الصندوق لفلان والمتاع الذي فيه لي أو قال هذه الدار لفلان وما فيها من المتاع لى فالقول قوله لأنه لو لم يذكر فيه كان لا يستحقه المقر له فكذلك إذا ذكره لنفسه نصا وهذا لأن ما في الصندوق ليس بتبع للصندوق فالصندوق وعاء لما فيه والموعى لا يكون تبعا للوعاء وكذلك المتاع يكون في الدار ليس بتبع للدار ولو قال بناء هذه الدار لي وأرضها لفلان كانت الأرض والبناء لفلان لأن أول كلامه وهو قوله هذه الدار لي غير معتبر فإنه قد كان له ذلك قبل أن يذكره ففي قوله وأرضها لفلان إقرار بالأصل والإقرار بالأصل يوجب ثبوت حق المقر له في البيع كما لو قال أرض هذه الدار لفلان لاستحق الأرض لأن أول كلامه هنا اقرار معتبر بالبناء الأول والبناء جميعا ولو قال البناء لفلان والأرض للآخر كان البناء للأول والأرض للثاني كما أقر به لأن أول كلامه هنا اقرار معتبر بالبناء للأول فهب أن آخر كلامه اقرار بالأرض والبناء ولكن إقراره فيما صار مستحقا لغيره لا يصح فان للثاني الأرض خاصة فأما في الأول فآخر كلامه بالإقرار بالأرض والبناء وهما جميعا ملكه .
( توضيح الفرق ) : أن البناء لما صار للمقر له الأول خرج من أن يكون تبعا للأرض فإقراره بالأرض للثاني بعد ذلك لا يتعدى إلى البناء وفي الأول البناء باق على ملكه فكان تبعا للأرض يثبت الحق للمقر له في البناء والأرض معا ولو قال غصبت هذا العبد من فلان لا بل من فلان فالعبد للأول لأن رجوعة عن الإقرار باطل والثاني قيمته لأنه أقام الإقرار للثاني بالغصب فيه مقام الإقرار للأول وذلك منه صحيح في حق نفسه فإذا صار مقرا بالغصب من الثاني وتعذر رده عليه ضمن له قيمته سواء دفعه إلى الأول بقضاء أو بغير قضاء قال وكذلك الوديعة والعارية وهو قول محمد C .
فأما عند أبي يوسف - C تعالى - في الوديعة والعارية إن دفع الى الأول بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا وإن دفع بغير قضاء فهو ضامن للثاني .
( وبيانه ) : إذا قال هذه الألف بعينها وديعة عندي لفلان ثم قال مفصولا أو موصولا لا بل هي وديعة لفلان أودعها فلان فالألف للأول وإن دفعها إليه بغير قضاء قاض ضمن للثاني مثلها لأن إقراره حجة عليه وقد أقر أنه صار متلفا لها على الثاني بالإقرار والدفع إلى الأول فهو والغصب سواء وإن دفعها بقضاء القاضي لم يضمن للثاني شيئا عند أبي يوسف - C تعالى - لأنه بمجرد إقراره لم يتلف على الثاني شيئا والدفع حصل بقضاء القاضي فلا يوجب الضمان عليه كما لو قال هذه الألف لفلان لا بل لفلان بقضاء ودفع إلى الأول بقضاء قاض لم يضمن للثاني شيئا وعند محمد - C تعالى - يقول المودع ملتزم حفظ الوديعة للمودع وقد صار بالإقرار للأول تاركا ما التزمه من الحفظ للثاني بزعمه فيكون ضامنا له كما لو دل سارقا على السرقة وهذا بخلاف الإقرار بالمال مطلقا لأن هناك لم يلتزم الحفظ للثاني ولكنه شاهد بالملك للثاني على الأول والشاهد إذا ردت شهادته لم يضمن شيئا ولو قال هذا العبد الذي في يدي وديعة لفلان إلا نصفه فإنه لفلان كان كما قال لأنه استثناه بعد ما تناوله الكلام نصا فبقي مقرا للأول بماوراء المستثنى وذلك لا يمنع إقراره بالمستثنى للثاني .
( توضيحه ) أنه قال إلا نصفه فإنه لي كان صحيحا فكذلك إذا قال فإنه لفلان وكذلك لو قال هذان العبدان لفلان إلا هذا فإنه لفلان لأن المستثنى بعض ما تناوله الكلام نصا .
( ولو قال هذا العبد لفلان المقر له الأول إلا الأول فإنه لي لم يقبل قوله ولا يصدق وكانا جميعا لفلان ) لأنه متكلم بكلامين أحدهما معطوف على الآخر بحرف الواو ثم استثنى جميع ما تناوله أحد الكلامين واستثناء الكل باطل لما بينا أن عمل الاستثناء في جعل عبارة عما وراء المستثنى فإن كان يبقى وراء المستثنى شيء لم هذا يكن استنثاء بل يكون رجوعا بخلاف الأول فإن الإقرار بالعبدين كلام واحد وكان استثناء إحدهما صحيحا ولو قال هذا العبد لفلان أو أنه لفلان عندي وديعة كان للأول يغرم للثاني قيمته وعلى هذا الخلاف الذي ذكرنا إذا دفعه إلى الأول بقضاء القاضي .
( ولو قال هذا العبد لفلان إلا نصفه فإنه لفلان وإلا نصف الآخر فإنه لفلان جاز على ما قال ) لأن الكلام موصول بعضه ببعض وقد استثني من كل كلام بعضه فكان صحيحا على أن يجعل عبارة وراء المستثنى وكذلك هذا في الحنطة والشعير والذهب والفضة والدار والأرض والله أعلم بالصواب