انتهى كلام سيبويه باختصار . وإنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم وهو الذي أشار له صاحب الكشاف بقوله " وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكرا وكفرا وعجبا ينزلزنها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى " الخ .
ومن شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله والعدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم : الدلالة على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية ؛ والدلالة على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية والدلالة على الاهتمام المستفاد من التقديم . وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوبا إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام . ولأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع النصب كما قريء بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذ لا يكون دالا على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أحمد بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة ( اهدنا الصراط المستقيم ) وبقرينة ( إياك نعبد ) فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم كيف وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية . قال أمية بن أبي الصلت : .
الحمد لله حمدا لا انقطاع له ... فليس إحسانه عنا بمقطوع أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما سيأتي . فهذا معنى ما نقل عن سيبويه أنه قال : إن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى . واعلم أن قراءة النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور وأن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية المطلقة . فقد بان أن قوله الحمد لله أبلغ من الحمد لله بالنصب وأن الحمد لله بالنصب والتعريف أبلغ من حمدا لله بالتنكير . وإنما كان الحمد لله بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات .
قال في الكشاف " إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى ( قالوا سلاما قال سلام ) رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم " اه .
فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام قلت : قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أولى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكرا بما لمنزله تعالى من الصفات الجميلة وذلك يذكر بوجوب حمده وأن لا يغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام . ثم إن ذلك الاهتمام تأتى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضا على ذكر الله تعالى اعتدادا بأهمية الحمد العارضة في المقام وإن كان ذكر الله أهم في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقام ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره .
فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذنا بالاهتمام مع أنه الأصل وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير .
A E