وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلا كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة فإن قراءتها في الصلاة تجري على إحكام النظر في الأدلة وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير فالقارئ يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء كما يوضح تسامح صاحب الكشاف في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء . وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالبا في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشايخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد مثل سبق نافع بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول مالك بعدم جزئيتها ؛ لأن مالكا تلقى أدلة نفي الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم . وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقا علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ) غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين .
واعلم أن متعلق المجرور في بسم الله محذوف تقديره هنا أقرأ وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فحذف متعلق المجرور فيها حذفا ملتزما إيجازا اعتمادا على القرينة وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله ( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون ) وذكر صاحب الكشاف أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم " باسم اللات باسم العزى " فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفا مستقرا مثل الظروف التي تقع أخبارا ودليل المتعلق ينبئ عنه العمل الذي شرع فيه فتعين أن يكون فعلا خاصا من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلق العام مثل : أبتدئ لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل ولا يجري في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسما نحو كائن أو مستقر أم فعلا نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخبارا أو أحوالا بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو والأصل فيه أن يعدي الأفعال ويتعلق بها ولأن مقصد المبتدئ بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارنا لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظا دالا على الفعل المشروع فيه وهو أنسب لتعميم التيمن لأجزاء الفعل فالابتداء من هذه الجهة أقل عموما فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به . وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمعرس " بالرفاء والبنين " وقول المسافر عند حلوله وترحاله " باسم الله والبركات " وقول نساء العرب عندما يزففن العروس " باليمن والبركة وعلى الطائر الميمون " ولذلك كان تقدير الفعل هاهنا واضحا . وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليبتدئ بها كل شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه والحذف هنا من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو : عندك خير فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون : خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله : " فإنك كالليل الذي هو مدركي " A E