وقال في آخر فن البيان من المفتاح : " لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه من علمي المعاني والبيان ولا أعون على تعاطي تأويل متشابهاته ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماءها ورونقها أن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم فأخذوا بها في مآخذ مردودة وحملوها على محامل غير مقصودة إلخ " .
وقال الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز . في آخر فصل المجاز الحكمي : " ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم أن يتوهموا ألباب الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها " أي على الحقيقة " فيفسدوا المعنى بذلك ويبطلوا الغرض ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة وبمكان الشرف وناهيك بهم إذا أخذوا في ذكر الوجوه وجعلوا يكثرون في غير طائل هنالك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه وزند ضلالة قد قدحوا به " .
وأما استعمال العرب فهو التملي من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وأمثالهم وعوائدهم ومحادثاتهم ليحصل بذلك لممارسة المولد ذوق يقوم عنده مقام السليقة والسجية عند العربي القح " والذوق كيفية للنفس بها تدرك الخواص والمزايا التي للكلام البليغ " قال شيخنا الجد الوزير " وهي ناشئة عن تتبع استعمال البلغاء فتحصل لغير العربي بتتبع موارد الاستعمال والتدبر في الكلام المقطوع ببلوغه غاية البلاغة فدعوى معرفة الذوق لا تقبل إلا من الخاصة وهو يضعف ويقوي بحسب مثافنة ذلك التدبر " اه .
ولله دره في قوله " المقطوع ببلوغه غاية البلاغة " المشير إلى وجوب اختيار الممارس لما يطالعه من كلامهم وهو الكلام المشهود له بالبلاغة بين أهل هذا الشأن نحو المعلقات والحماسة ونحو نهج البلاغة ومقامات الحريري ورسائل بديع الزمان .
قال صاحب المفتاح قبيل الكلام على اعتبارات الإسناد الخبري " ليس من الواجب في صناعته وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشئ عليها في استفادة الذوق منها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكيمات وضيعة واعتبارات إلفية فلا بأس على الدخيل في علم المعاني أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق اه " .
ولذلك " أي لإيجاد الذوق أو تكميله " لم يكن غنى للمفسر في بعض المواضع من الاستشهاد على المراد في الآية ببيت من الشعر أو بشيء من كلام العرب لتكميل ما عنده من الذوق عند خفاء المعنى ولإقناع السامع والمتعلم اللذين لم يكمل لهما الذوق في المشكلات .
وهذا " كما قلناه آنفا " شئ وراء قواعد علم العربية . وعلم البلاغة به يحصل انكشاف بعض المعاني واطمئنان النفس لها وبه يترجح أحد الاحتمالين على الآخر معاني القرآن ألا ترى أنه لو اطلع أحد على تفسير قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء ) وعرض لديه احتمال أن يكون عطف قوله ( ولا نساء ) على قوله ( قوم ) عطف مباين أو عطف خاص على عام فاستشهد المفسر في ذلك بقول زهير : .
وما أدرى وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء كيف تطمئن نفسه لاحتمال عطف المباين دون عطف الخاص على العام وكذلك إذا رأى تفسير قوله تعالى ( وامسحوا برؤوسكم ) وتردد عنده احتمال أن الباء فيه للتأكيد أو أنها للتبعيض أو للآلة وكانت نفسه غير مطمئنة لاحتمال التأكيد إذ كان مدخول الباء مفعولا فإذا استشهد له على ذلك بقول النابغة : .
لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا ... وأصبح جد الناس يظلع عاثرا وقول الأعشى : .
فكلنا مغرم يهوى بصاحبه ... قاص ودان ومحبول ومحتبل رجح عنده احتمال التأكيد وظهر له أن دخول الباء على المفعول للتأكيد طريقة مسلوكة في الاستعمال .
روى أئمة الأدب أن عمر بن الخطاب Bه قرأ على المنبر قوله تعالى ( أو يأخذهم على تخوف ) ثم قال ما تقولون فيها ؟ أي في معنى التخوف فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال عمر : وهل تعرف العرب ذلك في كلامها ؟ قال : نعم . قال : أبو كبير الهذلي :