وقد اشتمل القرآن على النوعين فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرا فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم وقد أشار إلى هذا القرآن بقوله ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) وقال ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ونحو هذا من محاجة أهل الكتاب . ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في الشفاء " ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك فيورده النبي A على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه كخبر موسى مع الخضر ويوسف وإخوته وأصحاب الكهف وذي القرنين ولقمان " الخ كلامه وإن كان هو قد ساقه في غير مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به A مع ثبوت الأمية ومن حيث محاجته إياهم بذلك . فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملا على التاريخ إلا بإرشادات نادرة كقولهم درع عادية ورمح يزنية وقول شاعرهم : .
" أحلام عاد وأجسام مطهرة وقول آخر : .
تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد ولكنهم لا يأبهون بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلا كقوله ( واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف ) وكقوله ( فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) ولهذا يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم وإنما ذكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود وقوم تبع كما أشرنا إليه في المقدمة السابعة في قصص القرآن .
وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين : قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمي في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم . وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص ( قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ) ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألفوه .
قال ابن عرفة عند قوله تعالى ( تولج الليل في النهار ) في سورة آل عمران : " كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام " أقول : وكذلك قوله تعالى ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) .
فمن طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال قال في الشفاء " ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد للعرب ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم فجمع فيه من بيان علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجة العقلية والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) وقوله : ( أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم )