فأعجاز القرآن من الجهتين الأولى والثانية متوجه إلى العرب إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم مباشرة ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم . ثم هو بذلك دليل على صدق المنزل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار ولمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ . فإعجازه للعرب الحاضرين دليل تفصيلي وإعجازه لغيرهم دليل إجمالي .
ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كل من تعلم لغتهم ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور وهذا معنى قول السكاكي في المفتاح مخاطبا للناظر في كتابه " متوسلا بذلك " أي بمعرفة الخصائص البلاغية التي هو بصدد الكلام عليها " إلى أن تتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل .
والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين : إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك .
وهو من الجهة الرابعة عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث معجز لأهل عصر نزوله إعجازا تفصيليا ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن وتعين صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها .
هذا ملاك الإعجاز بحسب ما انتهى إليه استقراؤنا إجمالا ولنأخذ في شيء من تفصيل ذلك وتمثيله .
فأما الجهة الأولى فمرجعها إلى ما يسمى بالطرف الأعلى من البلاغة والفصاحة وهو المصطلح على تسميته حد الإعجاز فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة والفصاحة وقد وصف أئمة البلاغة والأدب هذين الأمرين بما دون له علما المعاني والبيان وتصدوا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عد في أقصى درجاتها . وقد تصدى أمثال أبي بكر الباقلاني وأبي هلال العسكري وعبد القاهر والسكاكي وابن الأثير إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن وبين ما بلغ في بليغ كلام العرب من بعض فنون البلاغة بما فيه مقنع للمتأمل ومثل للمتمثل . وليس من حظ الواصف إعجاز القرآن وصفا جماليا كصنعنا ههنا أن يصف هذه الجهة وصفا مفصلا لكثرة أفانينها فحسبنا أن نحيل في تحصيل كلياتها وقواعدها على الكتب المجعولة لذلك مثل دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة والقسم الثالث فما بعده من المفتاح ونحو ذلك وأن نحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي القرآن على التفاسير المؤلفة في ذلك وعمدتها كتاب الكشاف للعلامة الزمخشري وما سنستنبطه ونبتكره في تفسيرنا هذا إن شاء الله غير أني ذاكر هنا أصولا لنواحي إعجازه من هذه الجهة وبخاصة ما لم يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره .
وحسبنا هنا الدليل الإجمالي وهو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته اعترافا بالحق وربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح مع أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا وترغيبا وزجرا قد خصوا من بين الأمم بقوة الذهن وشدة الحافظة وفصاحة اللسان وتبيان المعاني فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني ولا يجمح بهم عسير من المقامات .
A E